أحدث المقالات

د. حسين خاكپور(*)

أ. طيّبة أكران(**)

المقدّمة

 يمكن الإشارة إلى أسلوب التفسير الباطني بأسماء وعناوين، مثل: التلميحي، الحدسي، الرمزي، الصوفي…، وقد رافق هذا الأسلوب ـ باستمرار ـ الكثير من الموافقين والمخالفين.

مجموعة من المفسّرين لم تقبل تفسير القرآن بعيداً عن هذا الأسلوب؛ ومجموعة أخرى لم تعتبر هذا الطريق تفسيراً للقرآن مطلقاً([1]).

إنّ الذي يوجب إيجاد اختلاف في وجهات النظر، واختلاف الرؤى والمواقف، هو تنوّع الأبعاد ووسعة التفسير الباطني واختلاف استنتاجاته، ومن جملتها:

1ـ وجهة نظر الباطنية والصوفية (الروحانيّات المتطرّفة)

 هذه المجموعة تعتقد أنّه مع الحصول والوصول إلى الباطن فليس هناك ضرورة للعمل بالظاهر. وبوجهٍ عامّ تركوا ظاهر القرآن والشريعة([2]).

استفاد الصوفية من طريقين للأسلوب الباطني:

أـ أسلوب التفسير التلميحي الحَدْسي (الإفاضي).

ب ـ أسلوب التفسير التلميحي النظري في تفسير القرآن([3]).

وقد قوبلت هذه الفرقة ـ يعني الصوفية ـ من أوّل زمن ظهورها في زمن الإمام الصادق× بالرفض والإنكار والإبعاد من قِبَله×، ومن قِبَل علماء الإسلام([4]).

2ـ الشكليّون (الشكليّة المتطرِّفة)

 تشكّلت من الصوفية الشكليّة المتطرِّفة في مقابل الروحانية المتطرِّفة. وقد أقدم القاضي عبد الجبار وابن الجوزي بالردّ على الباطنية، واعتبرا أنّ كلّ شكلٍ من أشكال تأويل الظواهر بالبواطن جُرْمٌ([5]).

3ـ وجهة نظر أهل البيت (عليهم السلام) (الجمع بين الظاهر والباطن للقرآن)

 إنّ طريقة أهل البيت^ هي طريقة الجمع بين ظاهر وباطن القرآن الكريم([6]).

قال الإمام الصادق×: (لا يتحقق الإيمان بالظاهر والباطن إلاّ بالقبول والعمل على طبق الظاهر)([7]).

وبذلك فإنّ ظواهر القرآن تعتبر حجّةً بناءً على أساس المبنى العقلي، وغير قابلة للإنكار.

وإنّ إثبات وجود البطون للقرآن قائمٌ على أساس أدلّة (القرآن، السنّة، العقل، العقلاء، وإجماع المفسِّرين).

وعلى هذا فطريقة الجمع بين ظاهر القرآن وباطنه ـ وكونهما معاً على نحوٍ طوليّ ـ من أصحّ وجهات النظر([8]).

فالعلاّمة الطباطبائي يعتبر أنّ تنزيل القرآن الكريم أسلوبُ تجلٍّ، لا أسلوب تجافٍ. لذا فهو يعتبر أنّ معارفه طولية، فيعطي الأصالة في أثناء التفسير للتفسير بالظاهر، ولا يعتبر الأصالة للباطن بتاتاً حتى يتمّ الحمل عليه، بل مع الحفاظ على حجّية ظاهر الآية يتوصّل إلى باطن الآية من خلاله([9]).

 العلاّمة الطباطبائي هو أحد المفسِّرين الذين لم يقبلوا بعض التفاسير الباطنية الموجودة، وردّها، ولكنّه قد اهتمّ بالنظرية التلفيقية في تفسير الآيات.

لذا فنحن في هذه المقالة أوردنا تحليل ونقد التفاسير الباطنية من وجهة نظر العلاّمة الطباطبائي، وبحسب المضمون التالي: ماذا سيواجه مفسِّر باطني ـ من خلال رؤية العلاّمة الطباطبائي ـ في تفسيره للقرآن الكريم من الأضرار؟ و…، من الأسئلة التي ستوضَّح من خلال عرض مقالتنا.

ولا يخفى على حضرات القرّاء الأعزّاء أنّ كلّ تفسيرٍ له أثرٌ مفيد بدوره في فتح الآفاق الواسعة للآيات القرآنية. والتفسير الباطني ليس بعيداً عن هذه الخدمة، لكنّ اهتمام بعض المفسّرين أكثر من اللازم بهذا النوع من التفسير أدّى إلى بروز ثغرات وأضرار جدّية في مجال التفسير. وهذا ما سيتمّ بيانه في طيّات مقالتنا.

نبذةٌ تاريخية

 لقد تمّ طرح مسألة البطن في مجال القرآن منذ القِدَم. وإنّ أوائل نماذج روايات البطن وجدناها في الأحاديث النبوية. وقد نقلها لنا أهل الشيعة وأهل السنّة. ثمّ بعدها جاءت هذه المسألة وبصورةٍ موسَّعة في كلمات الصحابة والتابعين، ومنهم: الكليني، والطبري، والمجلسي([10]).

 وأمّا المفسِّرون الشيعة الذين أكّدوا مسألة البطن للقرآن فمن جملتهم: العيّاشي في تفسيره([11])؛ والمفسِّرون وأصحاب الرأي في علوم القرآن، أمثال: البحراني، مجتهد شبستري، الشيخ الطوسي، مكارم الشيرازي، الطباطبائي([12]).

تشخيص أضرار التفسير الباطني

 التفسيرُ الباطني، كغيره من أساليب التفسير الأخرى، مع تمتُّعه بنقاط مثبتة فيه، وفتحه لكثيرٍ من الآفاق الجديدة في فهم القرآن، سيق إلى مخمصة الإفراط والتفريط، وكثيراً ما لقي أضراراً في فهم وتفسير الآيات المباركة.

ويمكن تصنيف هذه الأضرار إلى ثلاث فئات، هي:

 1ـ الأضرار الأساسية

 هذه الأضرار ينصبّ عملها على نقاط الضعف والنواقص الموجودة في هذا النطاق، والتي يمكن مشاهدتها في الموارد التالية: نفي الأحكام الشرعية؛ عدم وجود الضابطة؛ التأويل الذي يخدم الأصول الفكرية والمعتقدات الإسماعيلية؛ التلقّي التجريبي من الوحي ومشاكل معرفة اللغة؛ قبول تعدُّدية الفهم والمشاكل الهرمونيطيقية؛ الجنوح عن العقل في المبادئ أو الأسس التفسيرية([13]).

وقد كان للعلاّمة نظرة نقدية في بعض هذه الموارد، وعلى أساس تلفيق النظريات الباطنية على آيات القرآن الكريم. وقد أشار إلى تفسير بعضها، وسيتمّ بحث نماذج من الآيات إنْ شاء الله تعالى.

أـ إنكار ظاهر القرآن الكريم

 لقد وصلت إلينا تقارير من بعض الفرق الإسماعيلية ـ أمثال: القرامطة، النزارية، الغياثية، والخالصية أيضاً ـ عن الإباحية والتفاهية والإهمال للظواهر الدينية([14]).

ويعتقد العلاّمة بأنّ التفكير والتدبّر في هذه المسألة يدلّ عليه الحديث: (إنّ للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطنٌ، إلى سبعة أبطن). وعلى هذا فإنّ للقرآن الكريم ظاهراً وباطناً، وكلاهما مرادٌ في الكلام. بالإضافة إلى أنّ ذينك المعنيين مرادان في طول بعضهما، لا في عرضهما، وكمثالٍ نقول: ليس إرادة ظاهر اللفظ ينفي إرادة باطنه، وليس إرادة باطن اللفظ يزاحم إرادة ظاهره([15]).

علماً أنّه في آية: ﴿فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24)، ومضافاً إلى التأكيد على المعنى الظاهري للآية، أوضحت الروايات المراد من (الطعام) في الآية، وأنّه المأخذ والمرجع العلمي والمعرفي. فالإنسان يجب عليه أن يرى الذي اكتسبه من أين أخذه؟ وهذا المعنى ناظرٌ إلى ما هو أعمق من معنى الآية.

 والعلاّمة الطباطبائي يبيِّن في كلامه، ومرّةً أخرى، أنّ الإحاطة بجميع المباحث والمطالب القرآنية ورموزه وأسراره العديدة لا تتأتّى ولا تتيسَّر إلاّ للنادر من الناس، الذين يتدبّرون في المعارف والعلوم الدينية، ويتفكَّرون فيها([16]).

 

ب ـ عدم وجود الضابطة

 التأويل والبطن هوّةٌ عميقة وكامنة من مرادات ومقاصد الآيات الإلهية التي لديها نسبة من المعنى المعرفي مع الآيات؛ والتوصّل إلى هذه المعاني لا تكون ميسَّرة إلاّ لأصحاب الرؤى الناصعة الخالصة والإلهية، نظير الذين توصَّلوا إلى ذلك من روايات أهل البيت^ في نطاق الباطن([17]).

لكنْ في قضية الباطنية أو الموضوع الباطني لا يحقّ لأحدٍ، سواء كانوا دعاةً ومأذونين أو لا، الدخول في نطاق التأويل والباطن، إلاّ الإمام والوصيّ، وماهية هذين الشخصيتين كانت من الأسرار الخفية.

فيعرض لنا من خلال هذه التفاسير قاعدة إيجاد المهرب من الآيات الموجبة في بعض الأحيان إلى جنبة التلوُّث بالوَهْن لتلك التفاسير([18]).

 أمّا وجوه ـ جوانب ـ ما وراء العقل الموجودة فهي مختصّةٌ بأهلها أيضاً.

والتأويل والبطن يمكن أن يحسبا، من أحد الجوانب في البُعْد الدلالي المعرفي، ممّا وراء العُرْف، وممّا وراء العقل. فمن وجهة نظر العلاّمة إنّ التفسير حقيقة عينية موضوعية وخارجية، وما وراء اللفظ، موجودةٌ في اللوح المحفوظ، وهذه الحقيقة موجودةٌ في الآيات المحكمة والمتشابهة؛ وهي في الأساس لم تكن من قبيل: المفاهيم المشتقّة من الألفاظ، لتكون موجبة لتشريع حكمٍ ما وبيان معرفةٍ وعلّةٍ لحادثة، وتعبيرٍ لرؤيا، كما في قصّة موسى والخضر’ في سورة الكهف، فهي ناظرةٌ إلى هذا الوجه ـ أي ما وراء العقل ـ من المعنى، فإنّ تفسير أعمال الخضر× كانت أوسع وأعلى من إدراك عقل نبيٍّ مثل: موسى×، طبعاً الخضر× فتح أبواب التفسيرات الثلاثة بنفسه أمام موسى×، ووضّحها له([19]).

فمنذ أن كان هذا المعنى ـ يعني تفسير القرآن ـ له ارتباطٌ وثيق مع بطن القرآن، وإنّ البطن منشأ الظهر، والذي يظهر شعاع من الحقائق الكامنة، فالبطن وتفسير القرآن حقيقة تشكِّل ظاهر القرآن، باعتبار أنّ ظواهر الألفاظ والعبارات نشأت منه.

يرى العلاّمة أنّ تفسير الآيات هو إرجاع كلّ شيء إلى شكله الواقعي وعنوانه الأصلي. وقد جاء بمثالٍ على ذلك، وهو: رجوع الضرب إلى التأديب([20]).

 ويختصّ أهل البيت^ بهذه الأوجه من القرآن، وهي بعيدةٌ عن متناول الآخرين([21]).

وإنّ يد كلّ مفكِّر وحكيم آدمي قصيرةٌ ـ وبكلّ شكلٍ ونحوٍ من الأنحاء ـ عن الوصول إلى وجه وسعة الآية.

وإنّ تحليل تلك الوجوه أو البطون لا تصدر إلاّ من الأشخاص الذين يكونون على ارتباطٍ دائم مع حقيقة القرآن([22]).

ج ـ الجنوح من العقل في المباني التفسيرية

 إنّ الصوفيين لا يقدّرون الفكر والتفكّر الإنساني إلاّ قليلاً، ودائماً ما يظهرون ضعف وهشاشة الفكر في مقابل الحقائق والواقعيّات، ويفخرون بذلك.

يقول ميبدي، في تفسير الآية 31 من سورة آل عمران: لا تربط قلبك بالعقل، فإنّ العقل حامٍ، وليس العقل معبراً حتّى تطلق له العنان، كما أنّه ليس طريقاً حتّى تقف بوجهه.

ويضيف: كلّ ما تريد أن تطلب فلا تطلب من العقل، واطلب من النبوّة([23]).

 بينما يرى العلاّمة خلاف ما يراه ميبدي؛ فهناك موارد يكون العقل فيها مفسّراً ومبيّناً، ومن خلال الاتّكاء على العقل يمكن أن ندفع بشكلٍ أنصع وأوضح ـ على أساس توسعة الأدلّة المذكورة ـ بتوسيع المعنى.

 ويرى العلاّمة الطباطبائي&، في تهميشه على الآية الشريفة: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾ (النساء: 36) أنّها آيةٌ قابلة للتوسيع.

ويكتب حول الطبقات الباطنية لها: من الملاحظ أنّه قد تبيّن من هذه الآية الشريفة أنّ ما يفهم منها هو ترتُّب هذه المعاني:

1ـ نفي عبادة الأصنام.

2ـ نفي عبادة الآخرين.

3ـ نفي عبادة ما يشاءه الإنسان ويرغب فيه.

4ـ عدم الغفلة عن ذكر الله سبحانه وتعالى.

يعني يجب أن لا نغفل عن الله جلَّ وعلا، ونلتفت إلى غيره.

لذلك على أساس هذه النظرية يمكن للعقل أن يكون حلاّلاً للمشاكل([24]).

2ـ الأضرار الأسلوبية

 إنّ مراعاة الأصول والقواعد التفسيرية لازمةٌ لفهم الكلام الإلهي، فإنّ عدم الاعتناء بذلك الشاهد هو ما جعل العرفاء والباطنيين يُدْخلون أضراراً في تفاسيرهم.

وهذه الأضرار نحو: عدم وجود الضابطة في معرفة معاني الكلمات؛ عدم مراعاة أصل إرجاع المتشابهات في التعاليم إلى المحكمات؛ الاعتماد على الكشف والشهود غير المصون عن الخطأ في التفسير؛ الاستناد بلا ضابطةٍ إلى الروايات في التفسير؛ الاستفادة من الرأي في التفسير الباطني.

وسنقدم تالياً على معالجة عددٍ من الآيات من وجهة نظر العلاّمة.

أـ عدم وجود ضابطة في معرفة معنى الكلمات

 هذا الفكر الخاطئ اتّسق وتشكّل عند بعض الصوفية، وهو أنّ الإنسان يستطيع أن يصل في السير والسلوك إلى مكانٍ لا يرى فيه سوى الله، ولا يوجد لديه أيّ تكاليف مقابل تعاليم الأنبياء.

أراد ابن العربي أن ينسب هذه الفكرة الخاطئة وبأسلوبٍ خاطئ إلى القرآن الكريم، مستنداً إلى المعاني اللغوية لكلمات القرآن الكريم، ومتخلِّياً عن السياق.

وهذا المعنى الباطني لا يستطيع أن يوصل الحقيقة([25])، فيمكن أن يكون لبعض مفردات القرآن، أمثال: بعض المعارف المحورية، أن تؤدّي الدور الأساس والمحوري.

فكلّ واحدة من المفردات، مثل: (النبي، الرسول، الصراط، السبل) نائبةٌ عن المفاهيم الأساسية للقرآن، ولها مكانةٌ خاصّة في عالم القرآن، وهـي التي تنبع من المفاهيـم الأكثر أساسيةً، مثل: (الله، والتوحيد).

لقد كان الارتباط الدلالي الخاصّ من بين المفاهيم المحورية للقرآن، والكلمات النائبة عنها أصبحت مطمح رؤية بعض اللغويّين([26]).

وكمثالٍ: يمكن تسليط الضوء على هذا الارتباط الدلالي العميق والراسخ في تفسير الميزان عند دراسة المعنى المعرفي لمفهوم كلمة (الصراط) الأكثر استعمالاً في القرآن.

فالعلاّمة الطباطبائي ـ وبالنسبة لهذه الكلمة، ومن خلال ما عدّه القرآن من الخصائص لهذه العبارة ـ صوَّر لنا بحثه كما يلي: هذه الكلمة لها ارتباطٌ من جهةٍ مع المفهوم الأساس لكلمة (التوحيد)، التي هي ـ بحَسَب اعتقاده ـ من أهمّ محاور المفهوم القرآني([27]).

ومن جهةٍ أخرى لها ارتباطٌ وثيق مع مفهوم الهداية، وكذلك (السبل إلى الله تعالى).

وفي اعتقاده إنّ هناك مجموعة من الكلمات تكون بإزاء تلك الكلمات، مثل: (الشرك، الكفر، الضلالة)، وهي ليست ببعيدة عن ذلك الارتباط. فتلك الكلمات في عالم القرآن أضدادٌ لمعنى الصراط المستقيم.

لذا لأجل الفهم الدقيق لمفهوم (الصراط المستقيم) يجب الاهتمام وفهم تلك الكلمات بشكلٍ جيّد.

فيستنتج العلاّمة، من خلال المقارنة بين (الصراط) و(السبل إلى الله) ـ وبالاستناد إلى آياتٍ متعدِّدة ـ أنّ نسبة (الصراط) إلى (السبل إلى الله) تكون مثل نسبة الروح إلى الوطن.

فـ (الصراط المستقيم) هو تبلور نفس الفيض ـ يعني (الهداية) الخالصة والناصعة ـ النازل من قِبَل الله تبارك وتعالى، وكلُّ إنسان مؤمن يكتسب منها بحَسَب استعداد نفسه.

وأشار إلى عين هذه الحقيقة من خلال تحليله التمثيلي للآية 17 من سورة الرعد([28]).

ب ـ الاستفادة من الرأي في التفسير الباطني

 من الأضرار الجدّية في تفسير الباطنية وجود علاقة ورابطة وثيقة وواسعة نسبياً بين المباني والافتراضات الفلسفية ووجهات النظر الدينية والتفسيرية عندهم.

إنّ المعتقدات الإسماعيلية في جميع مواردها قابلةٌ للنقد والمناقشة، فهي غير مطابقة للتعاليم الدينية القرآنية، وتُعَدّ من التفسير بالرأي.

يقول القرآن الكريم: ـ إنّ الله متَّصفٌ بجميع صفات الكمال ـ ﴿لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (الحشر: 24)، و﴿للهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى﴾ (النحل: 60).

والعلاّمة الطباطبائي لا يعتبر ـ نظراً لمناشئ ظهور هذه الوجوه المعرفية الخاطئة ـ التفسير بالرأي شيئاً، إلاّ إذا اعتمد على أسس وأصول صحيحة لفهم كلام الله بصورةٍ منهجية.

ويكتب في هذا الصدد: إنّ التفسير بالرأي الذي نهى عنه رسول الله| عبارةٌ عن الطريقة والأسلوب الذي يريدون من خلاله كشف رموز القرآن وخفاياه، يعني النهي عن طريقة الكشف، لا المكشوف.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ النبي| قال في هذا النهي: (يريدون أن يفهموا كلام الله كما يفهمون كلام غيره).

بالرغم من أنّ فهم هذا القسم يمكن أن يكون صحيحاً، لكن هناك روايةٌ ثانية شاهدة على هذا البحث وهذا المطلب، وفيها يقول×: (إنّ الشخص إذا فسَّر القرآن برأيه، وخرج رأيُه صحيحاً، فقد أخطأ أيضاً).

يعني لا تفسِّروا كلام الله بالأسلوب الذي تفسِّرون فيه كلام الخلق([29]).

 فبناءً على رأي العلاّمة التفسيرُ بالرأي وإرادة الوجوه المعرفية غير الصائبة وغير الصحيحة من الآيات سببُه ونتيجته عدم تطبيق أساسيّات الطرق والقواعد التفسيرية الصحيحة.

ويمكن أن يكون عدم تطبيق أساسيّات الطرق والقواعد في نطاق التفسير جهلاً أو عملاً مغرضاً منحازاً أيضاً.

ففي قسم الجهل يعني تطبيق المباني من غير علم؛ لكنْ في قسم المغرض والمنحاز يعني عدم التطبيق التطبيق مع وجود العلم([30]).

ففي الجهل لو كان للشخص علمٌ بقوانين وقواعد فهم المراد الإلهي في القرآن لعمل به، ولا يضحّي بالمراد الإلهي لأجل أغراضه الدنيوية والنفسية.

ويمكنك أن تشاهد بعض النماذج لذلك في مؤلَّفات وآراء بعض المفسّرين والكتّاب.

مثاله: ما أورده العلاّمة الطباطبائي في تذييله للآية: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: نقلت معاني وتفسيرات متعدّدة ومتنوّعة في سبب تسمية (كتاب) بـ (كريم)، وجميعها من مقولة التفسير بالرأي، وتُعَدّ من الوجوه المعرفية غير الصحيحة.

ويرى سماحته أنّ الوجوه المذكورة ونظائرها لا أساس لها. ويكتب في هذا المجال: إنّ القارئ الجيِّد يعلم أنّ هذه الوجوه من قبيل: التفسير بالرأي. فإظهار هذه الوجوه غير الصحيحة من جهة كونهم يبحثون عن الحقّ؛ لكنّهم وقعوا في الخطأ، لا أنّهم وصلوا إلى الحقّ، ثمّ أعرضوا عنه عامدين([31]).

3ـ الأضرار النهائية

 إنّ أضراراً وآثاراً سلبية وجدت بسبب التيّار الصوفي العرفاني والباطني. وإنّ أهمّ هذه الأضرار تكون شاملة لـ: فكرة الجبر؛ التسامح العقائدي في مسألة انتشار الأديان؛ التسامح العملي في مراعاة الأحكام الشرعية؛ تغيّر ماهية المؤلّفات التفسيرية؛ الآثار الاجتماعية السيّئة.

وسنستعرض في هذا القسم تحليل نماذج من هذه الأضرار على أساس المصاديق المتقدّمة، بناءً على رؤية العلاّمة الطباطبائي.

أـ الجبرية وفكرة الجبر

 إنّ إحدى تبعات التفسيرات الصوفية هو شيوع وانتشار الاعتقاد بالجَبْر، والذي صار سبباً للأضرار الاعتقادية والاجتماعية، وساق المسلمين إلى التسامح الاجتماعي، حتّى وصلت بهم إلى حدّ الخنوع والخضوع وعدم الاعتراض، وصار هذا العمل سبباً لفساد المجتمع([32]).

إنّ المتصوّفة كانوا بصدد إظهار أنّ القرآن هو رمزٌ ومثل، ويشير إلى حقيقة أخرى، وأنّ مراد الله ليس هو ظاهر القرآن، بل إنّ مراده صرف الحقيقة الثانية، فهم متَّحدون بالعقيدة مع الغلاة.

تعتقد الصوفية أنّ باطن القرآن كالنفس الآدمية، لذا فهم يؤوِّلون جميع ظاهر ألفاظ القرآن بالنفس وحالاتها.

وبعض المتصوِّفة يعتبرون أنّ فهم باطن القرآن خاصٌّ بهم. ومن الموارد التي عدّها المتصوّفة من باطن القرآن ما يلي:

قال سهل التستري (الشوشتري) حول آية: ﴿وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا…﴾ (الأنعام: 92): التفسير الظاهري لـ (أمّ القرى) مكّة المكرّمة، والمقصود الباطني لها: القلب؛ والمراد لـ (مَنْ حولها): الجوارح والأعضاء؛ ومرادُ الآية هو تحذير الناس من أن لا يحفظوا قلوبهم وأعضاء أبدانهم عن المعاصي والمنكرات([33]).

وحاصل وجهة نظر العلاّمة الطباطبائي في خصوص ظاهر القرآن وباطنه هو كما يلي: إنّ كلّ تعبير لفظي قرآني ناجمٌ عن معرفةٍ كلّية، وكلّ معرفةٍ كلّية برزت من معرفة كلّية أشمل، إلى أن تصل إلى أصل القرآن في اللوح المحفوظ، وإنّ جميع المعارف القرآنية مصدرها اللوح المحفوظ.

لذلك فالقرآن هو ذلك المعنى الذي يقع في مراتب معاني القرآن وبطون القرآن، وهو جميع المعاني التي تقع في طول ذلك المعنى([34]).

مثلاً: في الآية: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ﴾ (الحجّ: 30) نهى الله سبحانه وتعالى عن عبادة الأصنام. وهذا النهي مثالٌ لنهيٍ أوسع، أي إنّ عبادة غير الله عبادة شمولية، فهي تشمل النهي عن عبادة الأصنام، وكذا النهي عن عبادة غيرها، مثل: عبادة الشيطان، بل وحتّى النهي عن عبادة النفس، باتِّباع شهواتها([35]).

 وقد فسّر العلاّمة الطباطبائي هذا المثال بعبارةٍ أخرى، وهي: يقول المتعال: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾ (النساء: 36). ظاهرُ الكلام هو النهي عن العبادة العادية للأصنام، كما يقول: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ﴾ (الحجّ: 30). لكنْ مع التأمّل والدراسة يُعْلَم أنّ العلّة من منع عبادة الأصنام هو لكون الخضوع والخشوع لغير الله تعالى، وهذا لا يختصّ بعبادة الأصنام، بل عبَّر عزَّ شأنُه عن إطاعة الشيطان بالعبادة، حيث قال: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يس: 60)([36]).

ب ـ الآثار الاجتماعية السيّئة

إنّ خلوّ التفاسير العرفانية من البحوث السياسية والاجتماعية هو إحدى الأرضيات الجارحة في تلك التفاسير، وهم يؤوِّلون الآيات الخاصّة التي خاضت في هذا المجال، أو التي لم تتحدَّث عنها أصلاً، أو التي تتحدَّث عن القضايا المعنوية والأخروية.

وكنموذجٍ لما ذكرنا: في تفسير الآية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران: 110) إنّ روزبهان قائلٌ بالتأويل الميتافيزيقي فقط، ولم يقدِّر البحوث الاجتماعية سوى عُرفاء القرون الأخيرة، أمثال: العلاّمة السيّد الطباطبائي&، وعلى رأسهم الإمام الخميني&، فقد أحدث أكبر التغييرات في مجتمعه، وكشف أنّه ليس بين العرفان وبين السياسة منافاة، بل إنّ العرفان الذي لا يعتني بالناس والمجتمع والحكومة عرفانٌ ناقص ومنوّم([37]).

فالخطاب في هذه الآية متوجّه للمؤمنين، وهذه قرينةٌ على أنّ المراد من كلمة (الناس) عموم البشر، وبما أنّ الفعل (كنتم) في خصوص هذه الآية منسلخٌ عن الزمان كما قيل، والظاهر ـ والله العالم ـ أنّه غير منسلخ عنه، فيريد أن يقول: أنتم هكذا أمّة، وكلمة (أمّة) تطلق على الجماعة، كما تطلق على الفرد، لذا فهذه الأمّة التي بمعنى الجماعة أو الفرد لها هدفٌ تقصده.

وذكر (الإيمان بالله) بعد ذكر (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من قبيل: ذكر الكلّ بعد الجزء، أو من قبيل: ذكر الأصل بعد الفرع.

فالآية المباركة تمدح حال المؤمنين في صدر الإسلام، الذين آمنوا في بداية ظهور الإسلام وفي أوّل البعثة.

قال بعض المفسِّرين في هذا المجال: من المعلوم أنّ انبساط هذا التشريف على جميع الأمّة؛ لكون بعضهم متَّصفين بحقيقة الإيمان، والقيام بحقّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([38]).

النتيجة

 من مجموع ما قيل نتحصَّل على:

 إنّ التفسير الباطني لو كان بالمعنى الذي ورد في روايات النبيّ| وأهل البيت^ فهو منظّم ومنهجي ومعتبر وسيكون مؤيّداً بالأدلّة العقلية والنقلية.

ولكنْ ممّا يؤسَف له أنّ هذا الأسلوب، كبقية الأساليب الأخرى، استتبعته أمور إفراطية وتفريطية؛ لأنّه إذا كان التفسير الباطني يقوم بإظهار الرموز والأسرار الكامنة للقواعد، كما هو ملاحَظٌ في مؤلَّفات الباطنيين والصوفيين، فلا اعتبار له؛ لكونهم نظروا إليها بنظرةٍ إفراطية متطرّفة، ساعين لاستخراج جميع البطون من آيات القرآن. وهذا الأمر يبعث على تحميل النظريات الباطنية على القرآن الكريم.

وقد أقدم مجموعةٌ من المفسِّرين على نقد تلك التفاسير، ومنهم: العلاّمة الطباطبائي في تفسيره الميزان. فقد أقدم سماحته على نقد وجهات نظر المفسِّرين الباطنيين المتطرّفة، وأبدى أنّه يمكن طرح الآراء والمسائل الباطنية المستخرجة من الآيات من خلال رؤيةٍ تلفيقية.

ويعتقد أنّه لأجل إثبات مسألة باطنية من القرآن الكريم يجب أن لا تُفرض وتُحمّل هذه الفكرة على القرآن، بل لا بُدَّ من التلفيق بين ظاهر الآيات مع باطنها، وإبداء كلّ ما يوافق القرآن.

 ونحن في هذه المقالة التي بين أيديكم أثرنا نماذج من تلك التفاسير من خلال وجهة نظر العلاّمة.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعد في جامعة سيستان وبلوشستان، كلِّية الإلهيّات.

(**) طالبة ماجستير، قسم علوم القرآن والحديث.

([1]) محمد علي رضائي الإصفهاني، مراجعة الأساليب والاتّجاهات التفسيرية للقرآن: 303؛ انظر: عميد الزنجاني، مباني الأساليب التفسيرية للقرآن: 328.

([2]) ابن عربي، تفسير القرآن الكريم 1: 425 ـ 430؛ القشيري، لطائف الإشارات 1: 136؛ انظر: الصدوق، معاني الأخبار 2: 402.

([3]) محمد علي رضائي الإصفهاني، منطق تفسير القرآن؛ والأساليب والاتّجاهات التفسيرية للقرآن: 255.

([4]) الصفّار، بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد: 546 ـ 556؛ جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2: 235 ـ 236؛ الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 4؛ مرتضى مطهّري، فهم القرآن: 26 ـ 27.

([5]) رشـاد، الإعجاز العددي في القرآن: 364 (مترجم إلى الفارسية من قبل: السيد محمد تقي آية اللهي)؛ انظر: عبد العظيم عبد السلام، ابن قيّم الجوزية، عصره ومنهجه وآراؤه في الفقه والعقائد والتصوّف: 392 ـ 481.

([6]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 7.

([7]) محمد بن حسين سليمي، مجموعة مؤلَّفات 6: 1، جمع: نصر الله پور جوادي؛ الصفّار، بصائر الدرجات الكبرى في فضائل آل محمد: 556 ـ 557.

([8]) السيد رضا مؤدّب، مباني تفسير القرآن 1: 181 ـ 183؛ محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 40؛ الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 28.

([9]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 24 ـ 66.

([10]) الطبري 1: 25؛ الكليني، الكافي 1: 374؛ المجلسي، بحار الأنوار 89: 90.

([11]) تفسير العيّاشي 1: 23 ـ 24.

([12]) البحراني، البرهان في تفسير القرآن 1: 29 ـ 30؛ مجتهد شبستري، هرمونطيقيا القرآن والسنّة: 132 ـ 133؛ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 1: 9؛ مكارم الشيرازي، التفسير الأمثل 1: 164 ـ 167؛ الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 74.

([13]) انظر: محمد أسعدي، تشخيص أضرار التيّارات التفسيرية: 277 ـ 329.

([14]) النوبختي، فرق الشيعة: 108.

([15]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 28.

([16]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 563.

([17]) انظر: علي أكبري بابائي، المذاهب التفسيرية 2: 16 ـ 20.

([18]) القاضي النعماني، تأويل دعائم الإسلام 2: 108.

([19]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 49.

([20]) المصدر السابق 3: 23 ـ 24.

([21]) المصدر السابق 3: 47.

([22]) انظر: المصدر السابق 3 27 ـ 43.

([23]) ميبدي، كشف الأسرار وعدّة الأبرار 2: 92.

([24]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 28.

([25]) محمد أسعدي، تشخيص أضرار التيّارات التفسيرية: 337.

([26]) انظر: إيزوتسو، الله والإنسان في القرآن: 5 ـ 6 (ترجمه إلى الفارسية: أحمد آرام).

([27]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 10: 135.

([28]) انظر: المصدر السابق 1: 30 ـ 32.

([29]) المصدر السابق 3: 118 ـ 121.

([30]) قواعد التفسير 1: 30.

([31]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 510 ـ 511.

([32]) محمد حسين بن سلمي، حقائق التفسير (تفسير السلمي) 2: 223.

([33]) الحسـيني، التـصوّف والتـشيّع: 182 ـ 183 (ترجمه إلى الفارسية: السيد صادق عارف).

([34]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 27 ـ 28؛ الطباطبائي، الشيعة في الإسلام: 47 ـ 50.

([35]) انظر: الطباطبائي، الشيعة في الإسلام: 49.

([36]) الطباطبائي، القرآن في الإسلام: 27.

([37]) محمد أسعدي، تشخيص أضرار التيّارات التفسيرية: 352.

([38]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 583.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً