أحدث المقالات
إشارة
تهدف هذه المقالة إلى تقديم دراسةٍ نقديةٍ للأصول الفكرية والفلسفية للمذهب الليبرالي، ومن هنا سيجري البحث عن المباني المعرفية لليبرالية كالمذهب الإنساني والحرية والتسامح كأسسٍ مهمةٍ لهذه المدرسة الفكرية، وفي هذا المجال سيسلّط الضوء بصورةٍ أكبر على موضوعة الحرية، وستطرح مجموعةٌ من المباحث المرتبطة بها كتعريفها وأنواعها وضرورتها وحدودها، ومن ثم يُعمد إلى القيام بنقدٍ لها، وفي نهاية المطاف سيختتم البحث بدراسة موضوعة التساهل والتسامح.
تمهيد
تعد الليبرالية واحدةً من المدارس الأكثر نفوذاً في الفكر الفلسفي الغربي، ويعرض هذا المذهب أصوله ومبانيه في مجالاتٍ ثلاثة هي الفلسفة والسياسة والاقتصاد؛ إذ يناصر هذا المذهب الحريات الفردية والاجتماعية في الدائرة السياسية، كما يعتقد بضرورة تقليص نفوذ الدولة على الصعيد الاقتصادي، أمّا من الناحية الفكرية فهو يرى بأنّه لو خلّي العالم وسيره الطبيعي فإن المشكلات البشرية سوف تتجه تلقائياً نحو الحل، فما لم نمارس نوعاً من خلط النظام الطبيعي للمجتمع وتركنا الأفراد يعملون وفقاً لإراداتهم الخاصة فان ذلك سوف يحقق المساواة في المجتمع وكذلك الاخوة. إن تدخل الأفراد أو الدول في مسار الأمور سوف يؤدي إلى تشظّي النظم الاقتصادي والسياسي للمجتمع.
لقد تبلور هذا المذهب في القرن السابع عشر متزامناً وظهور الرأسمالية، وقد كان أنصاره من المؤيدين لحق تخزين وكنز الأموال الشخصية، كما آمن المفكّرون الليبراليون الأوائل بأنّ عامّة الناس يمكنهم اختيار الطريق المفضي لسعادتهم وراحتهم، وبالتالي فلا تحتاج المسألة إلى افتراض سلسلةٍ رتبٍ ومقاماتٍ من علماء الدين أو غيرهم للقيام بتعيين التكاليف على الناس أنفسهم.
لقد ناهضت الليبرالية على مرّ التاريخ العوائق والعقبات التي كانت توضع أمام الحريات الفردية من قبيل نفي الفردية، العصبيات الدينية، السلطة المطلقة، حرمان الأفراد من إبداء الرأي و…، فمن وجهة نظر هذا المذهب خلق البشر متساوين، كما أودعت جملةٌ من الحقوق الخاصّة في نفس وجودهم من قبيل حق الحياة، حق الحرية وحق اختيار نمط العيش.
ويناصر الليبراليون المجتمع المدني، أي ذلك المجتمع الذي يتمكّن الأفراد فيه من ممارسة فعالياتهم الاقتصادية والسياسية بشكلٍ حرٍّ، وبالتالي فان الدولة تمارس حدّاً أقل من التدخل في شؤونهم، كما أن كل إنسان حرٌّ في قضاياه الدينية ويمكنه أن يتبع ـ بكلّ حريةٍ ـ ما يمليه عليه وجدانه وضميره الخاص ولا يحقّ لأيٍّ كان ممارسة أي نوعٍ من أنواع الفرض على أي إنسان بغية الإيمان بعقيدةٍ معيّنةٍ.
لقد طرأت على المذهب الليبرالي مراحل متعدّدة بحيث فصلت وميزت بين الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الجديدة، فعلى حدّ قول الليبراليين الجدد وقعت الليبرالية القديمة في اشتباهٍ عندما ذهبت إلى القول بأنه لو خلّي الأفراد وأنفسهم فيما يتعلّق بنشاطاتهم الاقتصادية ولم تمارس الدولة أي تدخل في شؤونهم هذه فان التنافس الذي يحصل في المجتمع سوف يؤدي إلى خلق التوازن على هذا الصعيد، ذلك أن عدم المساواة الناشئ عن نموّ الرأسمالية كشف عن وقوف سلطة رأس المال ومعاداتها الحريات الفردية للأفراد المحرومين، فالرفاه الاقتصادي ـ وفق تصوّر بعض الليبراليين المعاصرين ـ هو بنفسه نوعٌ من الحرية، ولأجل إقامة العدالة يصبح لزاماً القيام بتحديد للحريات عند الضرورة.
كما كان الليبراليون الكلاسيكيون يعتبرون بأن وجود الدولة المستبدّة يمثل أكبر تهديدٍ للحريات الفردية، أمّا الليبراليون الجدد فانهم يرون بأن الدولة التي تمارس تدخلاتٍ أقل في مجال الاقتصاد والاجتماع تمنع من تحقق الحرية والحقوق الاجتماعية للأفراد، إذن فهناك اختلافٌ شديدٌ في بعض المفاهيم والمقولات التي يطرحها هذا المذهب الفلسفي، وعلى حدّ تعبير روبرت اكلشال Robert Eccleshall : "هل لكلمة الليبرالي اليوم مدلولٌ غير الاعتقاد بحرمة الحريات الفردية؟ إن الشيء الواضح هو أنّ الحرية من المفاهيم المبهمة التي وقع خلافٌ فيها سواءٌ على مستوى تعريفها أم على مستوى الشروط الاجتماعية المتكفلة بتأمينها، إذن فالادعاء القائل بأن الحرية إنّما هي نواة الليبرالية ـ وبذلك يمكن وضع خطوط تمييزٍ للمذهب الفكري الليبرالي ـ ليس كافياً، ومن ناحية تحليلية يمكن التأكيد على مسألةٍ معرفيةٍ ذات أهميةٍ أكبر ألا وهي أنّ الليبرالية ـ مع إذعانها بأولوية الحرية ـ تمثّل بشكلٍ ملحوظٍ مذهباً داعياً إلى المساواة"([1]).
ويمكن دراسة الليبرالية من جوانب متعدّدة، لكننا ارتأينا في هذه المقالة القيام بدراسة ونقد الأصول الفلسفية والمباني الفكرية لها.
النظريّة المعرفيّة الليبراليّة
من الضروري لدى دراسة المذهب الليبرالي التعرّف على موقفه من قضية المعرفة، فأوّل مسألةٍ من مسائل المعرفة هي وسائل المعرفة، إننا نطلع على واقعيات العالم من خلال الوسائل المعرفية التي نمتلكها، وكل مذهبٍ يحدّد النشاط المعرفي في نظرته من خلال تحديده لوسائل المعرفة نفسها، فالبعض من الفلاسفة الذين يمثلون البدايات الأولى لليبرالية من أمثال جون لوك كانوا يرون الحسّ الوسيلة الوحيدة للمعرفة، أي أنهم كانوا من المعتقدين بأصالة الحس Empirism .
لقد أثارت أصالة الحس القول بأن ما يمكننا معرفته إنما هو ما يقبل الإدراك من خلال حواسنا، وبالتالي فالشيء الذي يخرج عن إدراكاتنا الحسية لن يكون قابلاً للمعرفة أبداً، بل إن البعض من الفلاسفة الحسيين اتخذ إزاء موضوعة "ما وراء الطبيعة" موقفاً لاأدريّاً، أي أننا لا نثبت ذلك كما أننا لا ننفيه، وذلك لأن وسائل إثبات ذلك أو نفيه ليست في متناول أيدينا، وعلى سبيل المثال الروح المجرّدة، فإنه وفقاً لأصالة الحس لا يمكن إثباتها كما لا يمكن نفيها.
البعض الآخر من الفلاسفة يؤيدون أصالة العقل Ratiaonalism، أي أننا نقبل كل ما يدركه عقلنا، وكل ما لا يتقبّله هذا العقل فإننا نقوم بنفيه، وهذا يعني أننا نخوض غمار إثبات أو نفي حقائق العالم عندما تكون هذه الحقائق في دائرة نشاطاتنا العقلية، فأدواتنا المعرفية هي العقل، وعلى كل إنسان البحث عن أهدافه وعن طرق الوصول إليها من خلال عقله، وبالتالي فلابد من أن يكون عمله قائماً على أساس العقل نفسه، أي أن المعرفة العقلية هي التي تشكل ملاك الاعتراف بما ينبغي فعله وما ينبغي تركه، يعتقد جيريمي بنتام ـ أحد المفكرين الليبراليين ـ بأن أمنيات ورغبات الإنسان تشكل واحدةً من الدوافع والمحرّكات السلوكية له، وهذه الرغبات والأماني ـ وفقاً لنظرة بنتام للإنسان ـ نابعةٌ من حب الذات، فالإنسان في الحقيقة يملك من جهةٍ العقل والفكر اللذين يجب عليه العمل على وفقهما، فيما يملك من جهةٍ أخرى مجموعةً من التمنيات الذاتية، والبعض من المفكرين الليبراليين يذهب إلى أن العقل إنما هو مجرد خادم للرغبات الإنسانية، فدافيد هيوم Daivid Humme يعتقد بأن العقل عبدٌ للرغبات والميول البشرية، أي هو عقل أداتي تستولي عليه الميول والرغبات، وبالتالي فهذا العقل يمكنه أن يبني علاقةً بين رغباتنا وميولنا ويرشد بالتالي إلى سبل إرضائها جميعاً.
يشبه العقل القنديل الذي يرشد الإنسان في الظلام، بيد أن هذا القنديل لا يمكنه ممارسة النشاط والفعالية في كل الأحوال، فما ذكره المفكرون الليبراليون من أن العقل الإنساني أسير الهوى والرغبة النفسانيين أمرٌ صحيحٌ، أي أن هذا العقل يواجه مجموعةً من الموانع التي لا تسمح له بممارسة وظيفته، أفهل يكون أصحاب الجرائم مبتلين بمشكلات عقلانية؟! أي هل أن عقلهم ناقص؟! أو أنه بالرغم من سلامة عقولهم قد وقعوا تحت تأثير عوامل أخرى وأصبحوا بالتالي مجرمين وجناة؟ فإذا كان المطلوب أن يقوم العقل بأداء وظيفته فمن اللازم رفع كافّة الموانع التي تحول دون قيامه بذلك، والميول النفسانية تعدّ واحدةً من هذه الموانع.
لا تستطيع الليبرالية إزالة هذه العوائق عن طريق العقل، إذ إن الإنسان ـ وفقاً للرؤية الليبرالية ـ ملزم الإتباع لميوله ورغباته الذاتية، فالمذهب الذي لا يطرح الاستعدادات الإنسانية المتعالية والسامية ـ فكيف بالعمل على تفعيلها وتنجيزها ـ لا يمكنه أن يزيل الموانع التي تقف أمام العقل ودوره، إن المذهب الفكري الذي يريد الاستفادة من العقل البشري بشكلٍ دقيقٍ لابد له من القيام بتفسير الإنسان نفسه ليرشده هذا التفسير إلى الطريق والمسار الذي عليه أن يتحرّك في إطاره حتى ترتفع تلك الموانع من أمام العقل.
طبقاً للمنطق الليبرالي لابد من إخضاع أي شيء للتجربة، وهذا معناه انه لا يجوز الاعتراف بأي شيءٍ اعترافاً مسبقاً، فكل شيء قابلٌ للتجربة أو للتجزئة والتحليل العقلانيين، وكل نظريةٍ يمكن الموافقة عليها من خلال التجربة، بل إن التجارب نفسها لا ترشدنا إلى الحقيقة المطلقة والدائمة، فما كان يثيره "كانت" من أنه لابد من ممارسة النقد إزاء أي شيء إنما كان يريد به نقد الدين نفسه أيضاً كما فعله هو نفسه حين عمد إلى إقصاء الدين ـ وبشكل مؤدّب ـ عن دائرة العقل النظري ليرفقه بمجال العقل العملي، وأقفل نتيجة ذلك باب الاستدلال والبرهنة في المسائل الدينية، وهو ما أدّى في النهاية إلى تجريد الدين من البنية العقلانية.
إن هذا الإشكال يتوجّه أيضاً على الليبرالية على مستوى نظريتها المعرفية؛ فقد غضّت الليبرالية الطرف عن الوحي الذي يعدّ أهم وسيلة من وسائل المعرفة.
إننا نعتقد بثلاث أدوات معرفية هي 1ـ الحواس 2 ـ العقل 3 ـ الوحي، فالبشر لا يمكنهم إدراك مجموعةٍ من الحقائق عن طريق العقل وحده، فهم ـ أولاً ـ غير قادرين على تحديد هدف الخلقة من خلال عقولهم، كما أنهم عاجزون ـ ثانياً ـ عن تحديد الطريق الذي يوصلهم إلى تحقيق هذا الهدف، فبالرغم من أن بعض الفلاسفة يمكنه إدراك هدف الخلقة من خلال الجهود العقلية بيد أن ذلك غير ممكن بالنسبة لعامّة الناس، بل قد كان هناك خلافٌ بين الفلاسفة أنفسهم في تحديد ذلك، وبالتالي فإذا ما كان من المفترض بالناس الرجوع إلى الفلاسفة لتحديد ذلك يطرح التساؤل التالي نفسه وهو أي فكر من أفكار الفلاسفة يمكن جعله نموذجاً لهم؟ إنّ بعضاً من هؤلاء الفلاسفة يرون الحياة غير هادفة، ويدّعون العدمية الغائية في الوجود كله!.
يواجه البشر مشكلاتٍ كثيرةٍ فيما يتعلّق بالتساؤلات التالية: من أين؟ وإلى أين؟ وما الذي يجب فعله؟ ذلك أن العقل البشري عرضةٌ للخطأ والاشتباه كما هو الحال في الاختلافات الكثيرة جدّاً والتي وقعت بين الفلاسفة ـ على اثر الخطأ العقلي ـ على امتداد تاريخ الفكر البشري، فإذا سألنا أفلاطون ـ على سبيل المثال ـ ما هي الوسائل التي طرحت وفقها نظرية المُثُل فإنه سوف يجيبنا بأنها العقل، وهكذا إذا وجّهنا نفس السؤال لأرسطو حول الوسائل التي استخدمها لنقد نظرية المثل الأفلاطونية فإنه سوف يجيبنا بنفس الجواب أي العقل، وذات الجواب أيضاً سوف يقدّمه الفارابي فيما إذا سألناه عن الأدوات التي وظّفها للجمع بين أفلاطون وأرسطو… نعم، من الممكن أن يكتشف العقل هذا الخطأ الذي وقع فيه، بيد أن ذلك قد يحتاج إلى زمنٍ طويلٍ، بل إن المسألة فيما يتعلّق بالخلقة الإنسانية سوف تصبح أكثر صعوبةً إذ لا يمكن تجميد أعمال الناس كلها بانتظار فراغ الفلاسفة وتوافقهم على جوابٍ موحّدٍ حول هذا الموضوع ليقدموا لهم البرنامج العملي والتكاليف الميدانية التي ينالون بها سعادتهم، إن الإنسان الذي يعيش في هذه الدنيا زهاء سبعين أو ثمانين سنةً عليه في هذه المدّة أن يسعى للوصول إلى قمّة الكمال، فإذا لم يعرف طريق الكمال هذا فإنه من المسلّم به عدم تمكنه من الوصول إليه، وهذا هو ما يدفعنا إلى القول بأن الله تعالى ـ وانطلاقاً من لطفه بالعباد ـ يبين لهم طرق الوصول إلى الكمال من خلال الوحي حتى يتمكّنوا طبقاً للالتزام بذلك من الوصول إليه فعلاً، إذن فالخطأ العقلي هو الذي دفعنا إلى اللجوء إلى الوحي والاعتقاد بأداتيّته المعرفية، وليس فقط الخطأ العقلي بل محدودية العقل توجب هي الأخرى أيضاً افتراض وسيلةٍ إضافيةٍ للمعرفة، فبعد إثباتنا استمرار الحياة الإنسانية بعد الموت وأن هذا الإنسان يعيش بعد القيامة أيضاً وأن كل ما فعله الإنسان في هذا العالم سوف يرى نتيجته في العالم الآخر، بعد كلّ ذلك يلزم على كل إنسان العمل في هذه الدنيا بما يردّ عليه نتائج إيجابية في تلك الآخرة، وهنا نسأل مادام الإنسان غير متمكّنٍ بعقله من إدراك الحياة الآخرة فكيف يتمكّن من التوصّل إلى درك الأعمال التي تدرّ عليه في ذاك العالم آثاراً إيجابيةً؟
بالعقل الإنساني يتمكّن البشر فقط من إثبات أصل الحياة الآخرة، بيد أنهم لا يستطيعون درك كيفية هذه الحياة فكيف يتمكنون من الوصول إلى معرفة طبيعة الأعمال التي يجب عليهم فعلها لحياةٍ أخرى سعيدة؟ وهذا ما جعلنا نقول بأن الله تعالى يضع ـ ومن خلال الوحي ـ مجموعةً من القوانين والأنظمة للإنسان تنفعه ـ فيما لو التزم بها ـ في دنياه وأخراه معاً.
وخلاصة القول إن عدم اعتراف المذهب الليبرالي بالوحي والالتزام به يعدّ واحداً من الاشكالات الهامّة التي ترد عليه، هذا بالإضافة إلى أن المذهب النموذجي هو المذهب الذي يمكنه القيام بإجراءٍ يدفع البشر إلى العمل وفق الأمور التي يدركونها، فمن الممكن توصل البشر بعقولهم للكشف عن حقيقةٍ ما بيد انهم لا يلتزمون بها، والمذهب الليبرالي متورّط في هذه المشكلة؛ إذ إنه لا يحتوي على ضماناتٍ إجرائيةٍ تساهم في اندفاع البشر لتحقيق الأمور التي أدركوها بعقولهم.
لقد واجهت الليبرالية الكثير من المشكلات نتيجة عدم اعترافها بالوحي وتنحيته جانباً، وتعدّ النزعة العلمية واحدةً من هذه المشكلات، يرى فرانسيس بيكون العلم مساوٍ للقدرة، وكذلك أوغست كونت يعتقد بأن العلم هو دين الأجيال القادمة، فعندما يجري إقصاء الوحي جانباً يضطرّ البشر لوضع بديلٍ عنه، وهذا ما فعله الكثير من مناصري الاتجاه الليبرالي عندما وضعوا العلم مكان الوحي، ففي الغرب هناك أشخاصٌ من أمثال فرويد ممن يرون ضرورة جعل العلم بديلاً عن الله والدين، أي أن العلم لابد أن يخلف الوحي نفسه، ومن وجهة نظر فرويد لا تمثّل المعتقدات الدينية سوى مجموعةٍ من الأوهام والخيالات غير القابلة للإثبات العلمي وبالتالي لابد من تنحيتها جانباً، وبدلاً من طرح فكرة عبادة الله علينا طرح مقولة عبادة العلم، إن تصور فرويد عن الله والدين إنما هو تصوّر خاطئ وهو بنفسه مجرّد وهمٍ من الأوهام.
ويعد برتراند رسل من المفكرين الليبراليين الذين طرحوا موضوع عبادة العلم في كتابه الرؤية الكونية العلمية، وهو حينما يتحدّث عن المدينة الفاضلة يعبّر عنها بالمجتمع العلمي، ففي هذه المدينة الفاضلة يقوم كلّ شيءٍ على أساس العلم نفسه؛ فالحكومة والتربية والتعليم والتناسل وتنظيم النسل والعلاقات الاجتماعية كلّها تنتظم وتتشكّل على أساس العلم، ومن وجهة نظر رسل يمكن إيجاد النباتات والحيوانات الجديدة بمعونة قوانين "مندل" وعلم الأجنّة التجريبي، كما يمكن بمساعدة العلوم التكنيكية وعلومٍ أخرى ـ من قبيل علم النفس والاقتصاد ـ بلورة مجتمعات مختلقة ومصطنعة أيضاً.
إننا بمعونة العلم قادرون على فهم ومعرفة الطبيعة كما على تسخيرها لنا، والعلم يمكنه مساعدة الإنسان لجبر الخسارات الواردة من قبله على الطبيعة، بل ويمكنه أيضاً الإرشاد إلى سبل المواجهة مع الكثير من المشكلات والمصائب التي يعاني منها البشر، أما سعي الإنسان للسير نحو الكمال فهو من الوظائف الخارجة عن مسؤولية العلم نفسه، فالعلم غير قادرٍ على جعل البشر صامدين ومواجهين للميول الذاتية، ومن هذه النقطة بالذات انطلقت الفكرة التي أشرنا إليها من أن المذهب الليبرالي ـ حيث يواجه مشكلةً في نظريته المعرفية أو في نظرته للإنسان ـ غير قادرٍ على حلّ المشكلات البشرية.
إن مقولة "فلتكن عندك أيها الإنسان جرأة المعرفة" من الشعارات الليبرالية المعروفة على الصعيد الإيبستمولوجي، فبالرغم من أن هذه العبارة تعود إلى عصر التنوير بيد أن الليبراليين قد عملوا على الاستفادة منها على نطاقٍ كبيرٍ، فمسألة أن البشرية مطالبة بالسعي لتحصيل العلم والمعرفة من المسائل التي لا إشكال فيها، لكن القضيّة بالنسبة لليبراليين تتجاوز هذا المقدار لتعبّر عن حصر مرجعية المعرفة البشرية بالعقل، وبالتالي فلا يجوز للبشر القبول والاعتراف بأية مرجعية أخرى.
من الطبيعي أن الليبرالية ـ بإثارتها هذا الأمر ـ تحاول أن تجيب عن تلك الإشكاليات التي مرّ بها تاريخ الفكر الغربي، فمن المعروف لدينا جميعاً أن التاريخ الغربي متمازجٌ والديانة المسيحية، وهذا التمازج لم يكن مع المسيحية الواقعية التي تعبّر عن الوحي غير المحرّف، بل ـ وعلى طول القرون المتمادية ـ تسلّطت المعرفة التي أنتجها القساوسة كمعرفةٍ حقيقيةٍ عن الوحي، فالمرجعية الوحيدة التي تتحدّث عن الشريعة وفهمها هي معرفة أرباب الكنيسة، وإلى جانب القساوسة كان لأرسطو نوعٌ من الحاكمية الفكرية على مدى قرونٍ أيضاً، وبعبارةٍ أخرى عُرف الكتاب المقدس المحرّف وأفكار أرسطو كأهم مرجعيةٍ للفكر والمعرفة، ولأجل المزيد من المعرفة عن المجريات الفكرية لتلك الحقبة الزمنية ننقل نصّاً عن فرانسيس بيكون يحدثنا فيه عن ذلك: "وقع بحث ونقاش سنة 1432م في واحدةٍ من المجامع العلمية حول عدد أسنان الحصان، لقد جرى التفتيش عن الإجابة على هذا الموضوع في آثار العلماء السابقين بيد أنّ ذلك لم يقدّم أي نتيجة، وبعد أربع عشر يوماً من التحقيق أبدى أحد الطلاّب رأيه بالنظر إلى فم الحصان وعدّ أسنانه، لكن هذا الاقتراح تمّ التعاطي معه على أنه كفرٌ، وأن قائله مستوجبٌ للتأديب الشديد، وفي نهاية المطاف وبعد عدّة أيامٍ من البحث والجدال أعلن المركز العلمي عدم قابلية هذه المسألة للحل نظراً لعدم ورودها في كتب القدماء"([2]).
وفي هذا الجوّ الفكري بالذات طرح المفكّرون الغربيون المرجعية الحصرية للعقل في مجال الفكر والمعرفة، فلولا وجود مجموعةٍ من الإفراطيين في الغرب لم يكن ليطرح المفكرون الغربيون مسألة حصر المرجعية بعقل الإنسان وحكمه الخاصّين، فلو لم يتصادم هؤلاء المفكرون مع الوحي المحرّف (أي الكتاب المقدّس) وإنما واجهوا أصل الوحي الواقعي لم تكن لتتبلور أرضياتٌ لمثل هذا النوع من الأفكار، وفي هذه الصورة فقط كان بإمكان المفكرين فهم عدم التقابل والتعارض بين الوحي والعقل وأنهما مكمّلان لبعضهما البعض، ولكل واحدٍ منهما رسالته الخاصة لهداية البشرية.
 
المذهب الإنساني
تعدّ النزعة الإنسانية Humanism من أهم الأسس الفكرية للمذهب الليبرالي، وقد فسّرها البعض ـ مخطئاً ـ بأصالة الإنسان، إلا أن الصحيح والأفضل تفسيرُها بمداريّة الإنسان أو محوريّته أو مركزيته، فالإنسان هو محور كافّة الأمور في المذهب الإنساني فيما الله تعالى هو محورها في الأديان الإلهية، فمنشأ وغاية الوجود هو الله تعالى "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"، فكلّنا منه كما أن جميعنا سائرٌ وصائرٌ إليه، وعلى حدّ تعبير الشهيد مطهري يشتمل الإنسان والعالم خصلة "الإنّا له" كما يحتويان خصوصية الرجوع إليه، فالله ـ في الأديان ـ ليس فقط منشأ ومبدأ وغاية كل الأمور والموجودات بل إنه مركزها ومحورها جميعاً، فهو مبدأ كل ما يجب فعله وكل ما يجب تركه، وكل تكليف وأمر إنما هو من الله تعالى، "إن الحكم إلا لله"، فعلى الإنسان العمل وفق الأوامر الإلهية، وطاعة الله تعالى لابد أن تكون محور كافّة الأنشطة الإنسانية، كما أن الهداية الإلهية شاملةٌ لكل الناس، والبرامج التكاملية قد وضعت بين أيديهم أيضاً.
لا يدرج الإنسان في الأديان الإلهية في مصاف الأمور التي لا يُعتنى بها، فلم تتجاهل هذه الأديان قيمته ومقامه، بل لا يمكن الاعتراف بقيمة وأصالة الإنسان إلا في ظل الرؤية الإلهية، ذلك أنه في المذاهب الإلهية فقط يفسّر الإنسان تفسيراً صحيحاً، كما تبيّن طرق وصوله إلى الكمال ونيله إياه، ومن حيث الأساس يمكن فقط للمذهب الذي يتحدث عن كمال الإنسان وتعاليه أن يتكلّم عن أصالته، فالمذهب الذي لا يستطيع تقديم تفسيرٍ صحيحٍ للإنسان وعلاقاته بذاته وبالله تعالى وبالعالم أيضاً لا يمكنه أن يتكلم عن أصالة الإنسان.
إن ذاك التصوّر المحرّف في المسيحية عن الإنسان أوجب تجاهل وتغاضي الليبراليين عن الأديان الإلهية ومن ثم طرحهم المذهب الإنساني، فالإنسان في المسيحية المحرّفة إنما هو من حيث الأصالة مذنب، والأنبياء الكبار من أمثال عيسى (ع) تحوّلوا إلى آلهةٍٍ لرفع ذنوب البشر، كما أن المسيحية تعتبر آدم مخطئاً، أي أنه ارتكب ذنباً انتقل إلى أولاده من بعده إلى أن صار صلب المسيح (ع) موجباً لرفع ذنوب العباد الذاتية، فمثل هذه التصوّرات عن الإنسان كانت من عوامل ظهور الاتجاه الإنساني، فالإنسيّون كانوا يلاحظون فقط وفقط الكتاب السماوي المحرّف للمسيحية لا كتاباً سماوياً غير محرّفٍ ككتاب المسلمين أي القرآن الكريم، إن إطلالةً على القرآن الكريم تدلل على مدى النظرة العميقة التي يحوزها هذا الكتاب السماوي عن الإنسان، كما تبيّن مجموعة المسائل التي طرحها حوله مما لم تطرحه أيٌّ من المذاهب حتى الآن.
لقد فسّر الفلاسفة المسيحيّون في القرون الوسطى ظاهرة الإنسان بحيث جعلوا الله تعالى هو المدار والمحور والمركز، بيد أن الأمر قد اختلف بعد عصر النهضة إذ جعل الإنسان نفسه مركز كل الأمور ومبنى كافة التكاليف والنواهي، أي أنه قد جرى اعتبار الإنسان مقنّناً بحيث صار يضع القوانين والتكاليف لنفسه وللآخرين.
لقد تمّ تنحية الوحي جانباً مع ظهور الإنسيّة، وطبعاً فليس منظورنا هنا هو أن كافة الليبراليين ماديون ومنكرون لله تعالى ـ فإن الكثير منهم مؤمنون ومعتقدون بالله عز وجل ـ بيد أن ذاك الإله الذي يطرحونه لا يشكّل مركز ومحور كافّة الأمور في الحياة الإنسانية، فليس مصدراً لما ينبغي فعله وما ينبغي تركه كما أنه لا يعد مقنّناً، بل وحده عقل الإنسان هو الملاك وبالتالي فكل ما يراه هذا العقل فهو صحيحٌ وصائبٌ، بل بلغ الحد ببعض المفكرين الليبراليين إلى القول بأن العقل الجمعي هو الملاك والمعيار، فعقل الفرد جائز الخطأ بخلاف العقل الجمعي حيث لا يقبل الخطأ والاشتباه، وفي الواقع فإن العقل الجمعي قائمٌ مقام الوحي بمعنى إقصاء أصالة الوحي واستبدالها بأصالة الرأي، فرأي البشر هو الملاك لا الوحي، إذن القضية ليست قضية الاعتقاد بالله تعالى من طرف الليبراليين وإنما هي هل أن الإيمان والطاعة لله عز وجل أمران ملحوظان أم لا؟
من وجهة نظر المفكّرين الليبراليين يعدّ الإيمان مسألةً شخصيةً وقلبيةً، فهو من مقولة العواطف الإنسانية، وبالتالي فكل إنسانٍ يمكنه أن يمتلك في أعماقه اعتقاداً بالله تعالى، وعليه فالإيمان رابطةٌ خاصّةٌ بين الإنسان وربّه وليس هناك أية ضرورةٍ للحضور الاجتماعي لهذا الإيمان، ومن هذا الفكر الإنساني بالذات انطلقت النزعة العلمانية، أي فصل الدين عن القضايا الاجتماعية، فبالنسبة للإنسان العلماني يمثل الدين جنبةً فرديةً وقلبيةً، فهو لا ينفي الدين بل إنه يرى عدم ارتباطه بالاقتصاد والسياسة والثقافة والحكومة والعلاقات الدولية بل وحتى المسائل العائلية والأسرية، وبالتالي فالعقل الجمعي هو صاحب القرار في مثل هذه الأمور.
ربما من غير الممكن تسجيل الملاحظات على مثل هذا الادعاء فيما لو أطلق في الوسط المسيحي، ذلك لأننا لو لاحظنا الكتاب المقدّس فلن نرى فيه مسائل من قبيل الاقتصاد والسياسة والثقافة والحكومة، لكن السؤال هو هل يتمكن مسلمٌ من المسلمين من ادعاء مثل ذلك؟ أي هل يتمكّن من علمنة الدين وهو معتقد بالقرآن الكريم والسنتين النبوية والعلوية بمعنى ادعاء أن المسائل الاجتماعية للبشر لابد من حلّها والفصل فيها عن طريق العقل الجمعي؟!
لقد اعتبر الليبراليون الله تعالى مجرّد أمرٍ شخصيٍّ وفرديٍّ نظراً لابتلائهم بوحيٍ محرّف، بيد أن الحديث عن الليبرالية ولوازمها غير ممكنٍ في الإسلام، وبالتالي عن العلمانية التي تعدّ من لوازم ومستتبعات المذهب الليبرالي، ذلك أنّ الفكر الإسلامي المبني على وحيٍ غير محرّفٍ يشتمل على الكثير من الأصول والأحكام المتعلقة بالحياة الفردية والاجتماعية والتي لا يمكن إخراج الدين عن ساحة الحياة الاجتماعية للبشر بمجرّد ملاحظتها، وحصره بالتالي في الجانب الفردي فقط.
وبعيداً عن ذلك ـ ومع الأخذ بعين الاعتبار المباني الليبرالية ـ لا يمكن الحديث عن أصالة الإنسان، فإن المذهب الذي يقصر نظره على الأبعاد الذاتية والنفعية للإنسان ولا يلاحظ غيرها من الأبعاد فضلاً عن ملاحظته الجوانب المتعالية له لا يمكنه الحديث عن أصالة وقيمة الإنسان، ومن هذا المنطلق نذهب إلى أن الليبرالية تستبطن تناقضاً داخلياً وهي غير قادرةٍ على التصدي لأصالة الإنسان بمعزلٍ عن الوحي.
 
القراءة الليبرالية للإنسان
لابد لدى البحث عن قراءة المذهب الليبرالي لظاهرة الإنسان من التأكيد على أمرين أحدهما البحث حول أصالة الفرد وثانيهما حول ماهية الإنسان نفسه، ففي المذهب الليبرالي هناك اعتقادٌ بمبدأ الفردانية.
كلّنا مطّلعٌ على التساؤل الذي يطرح دائماً حول هل أن الأصالة للفرد أو للمجتمع؟ إن الليبرالية هنا تؤكّد على الفردية، أي أن للفرد تأثيراً جوهريّاً ومحورياً في كافة الأمور والمجريات، وهذا يعني أنه لابد أولاً من الالتفات إلى حقوق الفرد نفسه ومن ثمّ الشروع بدراسة حقوق المجتمع، وبعبارة أخرى هناك تقدمٌ للفرد على المجتمع.
أمّا المناصرون لأصالة المجتمع فإنهم يعتقدون بأن الأفراد حينما يجتمعون مع بعضهم البعض فإنهم يشكلون هويةً خاصةً، أي أن للمجتمع ماهيةً مغايرةً لماهية الأفراد أنفسهم، والأصالة لا تتبع كلّ فردٍ فرد وإنما تلاحق الهوية الجمعية.
تعتقد الليبرالية بأن الأصالة من نصيب كل فردٍ فرد لا من نصيب ذاك الجمع المسمى بالمجتمع والاجتماع، فإذا اجتمع الأفراد حول بعضهم البعض مشكلين بذلك كياناً اجتماعياً فإنه لابد لهذا الكيان الجديد من العمل على تأمين المقاصد والأهداف التي يتوخّاها الأفراد أنفسهم، وهكذا الدولة ملزمةٌ هي الأخرى بتأمين حقوق ومصالح الأفراد أيضاً، ففي الرؤية الليبرالية يتمّ لحاظ الإنسان كموجودٍ مقتطعٍٍ عن العالم والأفراد الآخرين وبالتالي فالاجتماع والعالم إنما ينظر إليهما كمجرّد ظروف لتحقق الفرد الإنساني، كما ويتم التركيز في الليبرالية على مميزات الفرد نفسه أولاً وبعد ذلك تلاحظ وجوه اشتراكه مع الآخرين، وكأن الإنسانية ذات تمظهراتٍ خاصّةٍ في كل فردٍ، أي أنه يتم ملاحظة كل فرد ككيانٍ متمايزٍ عن العالم الطبيعي بل وحتى عن سائر الأفراد، فكل إنسان مالك لحياته الخاصّة.
أمّا الأديان الإلهية فإنها ـ في المقابل ـ تعتقد بأن حياة وممات الإنسان هما بيد الله تعالى وهو المالك للبشر جميعاً وبالتالي فليس لأي إنسان حق اختيار نفي حياته، لكن الليبرالية ترى أنه حيث كان الفرد غير مرتبطٍ بالله عز وجل لذا فإنه مختارٌ في حياته ويمكنه حيث أراد تخليص نفسه من شرّ هذه الحياة.
لقد بلغ الحال بهذه النزعة الفردية لليبرالية إلى القول بعدم وجود صلاحية لأي فردٍ آخر في تحديد منافع ورغبات الفرد نفسه، فلا يمكنه أن يقول للأفراد الآخرين ما هي ميولهم الواقعية وبالتالي تعيين التكليف لهم، ذلك أن كلّ إنسان قادرٌ أكثر من غيره على معرفة وتشخيص طريقه الخاص، فمن وجهة نظر جون ستيورات مِل إذا وافق الناس على أن يعمل كل إنسان وفق رغباته وميوله فإن الحياة سوف تكون أكثر نفعاً لهم مما لو جرى إجبار الأفراد على العيش طبقاً لما يراه الآخرون صلاحاً، وكذلك لا يجوز للمجتمع فرض نموذجٍٍ معينٍ وإلزام الأفراد به.
أمّا على خط ماهية الإنسان فلليبرالية رؤيةٌ خاصّةٌ هنا، فالبعض من مفكّريها من أمثال بنتام يرون بأن الإنسان موجود فعّال لا منفعل، فيما تغلب عليه الجنبة الانفعالية في تصوّر البعض من أنصار أصالة المجتمع كما هو الحال عند إميل دوركهايم حيث كان يرى بأن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان، فمن وجهة نظره عندما يجتمع الأفراد مشكّلين الحياة الاجتماعية فسوف يحكمهم نوعٌ من الروح أو الوجدان على أثر العلاقات الحاصلة فيما بينهم، وهذا الوجدان الجمعي يضفي على أعمالهم وسلوكياتهم نمطاً وشكلاً مناسباً. لقد اعتقد دوركهايم بأن الكثير من أبعاد الإنسان تعدّ جزءاً من الكيفيات الاجتماعية، فعلى سبيل المثال تصنف أمورٌ من قبيل الدقة، التعلم، الحكم والاستدلال، الأمور الأخلاقية، المشاعر الدينية والميول الجمالية الإنسانية تصنّف مثل هذه الأمور على أنها معلولةٌ لظاهرة الاجتماع.
أمّا من وجهة نظر الليبرالية فالإنسان موجودٌ فعّال لا منفعل، أي أنه موجود ذو تمنياتٍ وميولٍ خاصة، وهذه الميول والرغبات تشكّل طاقته الطبيعية، كما أنها تعدّ من العوامل المحرّكة له.
توماس هوبز ـ أحد أنصار هذا الاتجاه ـ لا يرى الحياة الإنسانية شيئاً غير الحركة، فالإنسان من وجهة نظره موجودٌ ذو آمالٍ وأمنياتٍ وإذا لم يكن له ذلك فانه سوف يموت حينئذٍ.
ديلهلم فون هومبولت (1767 ـ 1835م) المناصـر لليبراليـة يتحدّث حول رؤية المذهب الإنساني للإنسان نفسه فيقول: "إن العقل لا يريد أية وضعية أخرى للبشر غير هذه الوضعية التي يتنعم كل فرد فيها بالحرية المطلقة لبناء ذاته في كامل فرديته، تلك الوضعية التي ما تزال الطبيعة فيها بكراً، وفقط الأعمال التي يقوم فيها الفرد عن إرادته الحرّة وتكون متناسبةً مع مجال احتياجاته وغرائزه هي التي تقبل التأثير، تلك الوضعية التي يحد فيها الفرد في نطاق حدود اختياراته وحقوقه"([3]).
إن مسالة امتلاك الإنسان ميولاً ورغبات هي من المسائل التي كانت مورداً لاهتمام كافّة المذاهب التي عُنيت بقراءة الإنسان، والشيء الذي كان مورداً للاختلاف إنما هو تفسير هذه الميول، فمن وجهة نظر بنتام وبعضٍ من المفكرين الليبراليين الآخرين تعدّ الميول الإنسانية ميولاً ذاتيةً.
لكن ذلك على إطلاقه مرفوض من جانب بعض المدارس الفكرية الأخرى، بل للإنسان ميولٌ للآخر أو ميولٌ نوعية أيضاً، ومن وجهة نظر المذاهب الإلهية للإنسان ميول أخرى غير الميول الذاتية تمثّل الإرادات السامية له نظير ميله للعبادة، والدافع الفطري للبحث عن الله تعالى، ودافع الكمال أيضاً وغير ذلك. فالليبرالية لم تعر الدوافع غير الذاتية للإنسان أيّة أهمية، وإذا ما حصل ذلك فإنه يصار إلى عملية تأطيرها بالميول الذاتية.
ومن وجهة نظر بنتام فإن علّة عدم جواز تسبّب الإنسان أثناء إرضائه لميوله بأذية أو مزاحمة الآخرين هي أن مزاحمته لهم سوف تفضي في النهاية إلى عدم نيله لرغباته الخاصّة وميوله الشخصية، وفي الواقع فإذا ما أثيرت مسألة "الآخر" أمام بعض المفكرين الليبراليين فإن هذا الآخر سيكون عنده في خطّ الفرد نفسه، فالتوجه للآخرين بالنسبة للإنسان الذي لا يرى غير ميوله الخاصة إنما هو اهتمام بنفس هذه الميول لا بالآخرين والتزاماً بحقوقهم، فهو يريد الآخر لميوله الخاصة، إذ إنه يتصور أن عدم نيل هذا الآخر لميوله الخاصة سيؤدي إلى عدم قدرة الفرد نفسه على نيل ميوله هو أيضاً.
أمّا المناصرين لأصالة الجماعة فإنهم يعتقدون بضرورة رفع الرغبات الخاصّة في سبيل هذه الجماعة، أي أنه قد يلزم في بعض الأحيان التضحية بالرغبات الذاتية لصالح الرغبات العامّة، أما بالنسبة إلى المذهب الذي لا يرى إلا المصالح والرغبات الفردية ـ والتي هي بالطبع رغبات ذاتية لا نوعية ـ فإنه لا مكان للآخرين هنا عنده، بل لا يمثّل الآخر سوى أداةٍ للوصول إلى الميول الخاصّة الفردية، وبالتالي فالمشكلة لا حلّ لها في الروابط الاجتماعية المرتكزة على عدم التزاحم، فما دمنا لا نحسن تفسير الظاهرة الإنسانية ولا نعير اهتماماتنا للأبعاد النوعية المطلوبة لها والأهم للجوانب السامية والمتعالية التي تكمن في الإنسان فلن نتمكن أبداً من بناء العلاقات البشرية على أساس التعاون والتعاضد لا التعارض والتزاحم.
لقد تركت الرؤية الليبرالية للإنسان آثاراً عدّةً نلحظها اليوم في الغرب نفسه، فاهتمام الإنسان بالآخر ضعيف جداً، فهو لا يعيش همّه وإذا ما كان فإنه يكون انفعالياً، أي أنه على أثر التفاعل والتأثر بساحةٍ وجوٍّ مقرحين للقلوب يحصل نوعٌ من الانفعال وتظهر ردّة فعل لذلك، أما بعد ذهاب آثار هذه الأفعال عقيب مرور مدّةٍ من الزمن فإن الإنسان سيعود من جديدٍ أسيراً للغفلة، فإذا لم يكن هناك نظرةٌ عميقةٌ ودقيقةٌ للإنسان فإن الحالات الانفعالية سوف تكون مؤقتةً وغير ثابتةٍ ومن ثمّ غير مرتكزةٍ على أساس، أما لو كانت هناك رؤيةٌ صحيحةٌ لهذا الإنسان فإنه سوف ينشغل لدى مواجهته حادثةً ما بتحليلها ودراستها ويقوم بسؤال نفسه عن علّة حدوث هذه الحادثة، فهل له دور أيضاً في وقوعها أو لا؟ ما هي مسؤوليته كإنسان؟ وما هي وظائفه أمام أفراد البشر الآخرين؟
إذا لم تكن نظرة الإنسان لغيره نظرةً أداتيةً ونفعيّةً، أي أنه لا يرى غيره مجرّد وسيلةٍ لذاته، فإن الحياة على وجه الأرض سوف تأخذ مظهراً آخر، أي أنه لو حكمت النظرة غير الأداتية فلن يقوم الإنسان باستغلال أخيه الإنسان، ومع هذه النظرة لن يكون هناك ظلمٌ على الآخرين، إن تحليلنا لظاهرة الظلم سوف يفضي بنا إلى القناعة بأنّ أهم العوامل المساعدة على تولّده هو النظرة الأداتية للآخر، فالمذهب الذي يرى أن على الإنسان العمل وفق رغباته وميوله إنّما يقوم بتأمين الأرضية للظلم والجور، حتى لو بذل جهده لوضع سلسلةٍ من النظم الاجتماعية والقانونية التي تحول دون حدوث الظلم والعدوان.
من جهةٍ أخرى ليست هناك أية دخالة لعقيدة الإنسان في إنسانيته وفق النظرة الليبرالية، فلا يمكن اعتبار أي إنسان أعلى وأسمى من الإنسان الآخر، أي لا يمكن اعتبار الإنسان الذي يملك عقيدةً معينةً أعلى وأرفع من ذاك الذي لا يحوزها، ذلك أننا لا نملك شيئاً اسمه العقيدة الحقّة أو الباطلة حتى نحكم بأفضلية شخصٍ يؤمن بهذه العقيدة على ذاك الذي لا يؤمن بها وإنما يرى العقيدة الباطلة، وهذا المبدأ منبثقٌ في الواقع عن النظرية المعرفية لليبرالية، فعندما نبني على إقصاء الوحي عن موقعه وجعل العقل والحس أساسين وحيدين للمعرفة ـ بل العقل نفسه غير قادر على الوصول إلى الحقائق وبالتالي فنحن في معرفة الحقيقة نعيش في أجواءٍ من النسبية ـ فإنه لا مفرّ من إعلان العجز عن العثور على أية حقيقةٍ مطلقةٍ، وهذا معناه عدم إمكانية لوم أي إنسان على أية عقيدةٍ يعتنقها وبالتالي فلابد من الاعتراف بقيمة أي إنسان مهما كانت عقيدته كما لابد من تكريمه واحترامه بقطع النظر عن هذه العقيدة.
لا تسعى الليبرالية خلف الإنسان المثالي أيضاً، أي أنه لا يمكن أخذ إنسانٍ معينٍ مشتملٍ على خصوصياتٍ محدّدةٍ على أنه النموذج والأمثولة ومن ثم دفع الجميع لاتباعه والاقتداء به، بل لابد من الاعتراف بالإنسان بكافّة نقاط قوته وضعفه.
أمّا على صعيد التربية الإنسانية فلابد أيضاً من السعي لبناء أفرادٍ منسجمين والمجتمع بحيث لا يتسببون بإيجاد أية مزاحمةٍ أو أذيّةٍ للآخرين، وحتّى المجرمين لا يجوز التعاطي معهم على أنهم أفرادٌ مذنبون بل لا بد من النظر إليهم على أنهم مرضى، فأي إنسان جائز الخطأ بل إن بعض هؤلاء الجائزي الخطأ إنما هم مرضى، وعليه فعلينا أن لا نتوقع صيرورة البشر أفراداً نموذجيين، فالأخطاء التي يرتكبها الآخرون يجب غض الطرف عنها ما دامت لا تؤدّي إلى الإضرار بالآخرين، وبالتالي فليس لنا أية علاقةٍ بالأفراد الذين يقعون في الخطأ غير الموجب لأذية الناس.
 
الحريّة
تعدّ مسألة الحرية واحدةً من أهم أصول المذهب الليبرالي، فهذا الأصل يمثل محور كافة الأفكار التي يحملها الليبراليون، وإذا كان لليبرالية ـ كمذهبٍ ومدرسةٍ ـ تأثيرٌ في القرون الأخيرة فإن مرجع ذلك إلى هذا الأصل أي الحرية، فالانطباع الذي يحمله الليبراليون عن الحرية يحكي عن اعتبارها أهمّ قيمةٍ في الحياة الفردية والاجتماعية للبشر.
يؤكّد الليبراليون بشكل مكثّف على الحريات الفردية للإنسان، وإذا ما اندفعوا إلى البحث عن الحريات السياسية والاقتصادية فإن ذلك في أغلبه يؤول إلى الحرية الفرديّة، فعلى سبيل المثال يرى الليبراليون ـ على مستوى الحريات الاقتصادية ـ عدم مشروعية تدخّل الدولة في الأنشطة الاقتصادية للناس.
ويؤكّد الكثيرون منهم على الحقوق الطبيعية والفطرية للبشر، ومن وجهة نظرهم لابد من البحث عن سلسلةٍ من الحقوق في نفس الفطرة والتركيبة البشرية، فهناك في الذات الإنسانية تمايلاتٌ لمجموعة أمورٍ من قبيل الحرية وطلب العدالة وحقّ الملكية والوفاء بالعهد، وعليه فمن الضروري التفكير بتدابير تحفظ حقوق البشر هذه في المجتمع، ففي الأديان الإلهية يعتبر الإيمان بالله تعالى ضامناً لهذه الحقوق، فيما البعض من المدارس ـ كالمدرسة الرواقية التي تطرح السعادة في انسجام وتناغم الإنسان مع الطبيعة ـ لم تلحظ أية ضمانة إجرائية لهما، أمّا بالنسبة لليبرالية فتعدّ الحرية حقاً طبيعياً مقدّماً على المجتمع وبالتالي فلابد من احترامه، وحفظ حريات الناس إنما يتحقق في إطار الكيانات الاجتماعية، فالسلطة السياسية المنبثقة من الشعب نفسه هي الضامن لحقوق الأفراد، وبعبارة أخرى يتحوّل الأفراد من خلال عقدٍ أو توافقٍ ضمنيٍّ إلى منشأ للسلطة في المجتمع السياسي مشكّلين بذلك المجتمع المدني، فالمجتمع المدني يقع على هذا الأساس في قبال الحالة الطبيعية للبشر، وتعني هذه الحالة الطبيعية ـ في نظر مفكرين من أمثال هوبز ـ مرحلة الهرج والمرج وسحق الحقوق الفردية، ويلتفت الأفراد على مرّ الأيام إلى قدرتهم في الحصول على حقوقهم الطبيعية من خلال القيام بتعاقدٍ اجتماعي وإيجاد سلطةٍ سياسيةٍ، فمن وجهة نظره لابد أن تمتلك الدولة سلطةً غير محدودةٍ حتى تتمكّن من القيام بالإجراءات المناسبة واللازمة بغية حفظ أرواح وأموال وحريات الناس.
وفي مقابل نظرية هوبز هذه تقف نظرية جون لوك وجان جاك روسو حيث لا تعتبر المرحلة الطبيعية للبشر مرحلةً فوضوية غير منتظمة يعمّها الهرج والمرج وهي لذلك غير قابلة للتحمل حتى يصبح البشر مضطرين ـ وبسبب الفرار منها ـ لتقديم حقوقهم وحرياتهم الطبيعية للمجتمع السياسي، فمن وجهة نظر جون لوك كان البشر في المرحلة الطبيعية منعمين بالحرية والمساواة الطبيعيين بحيث كان الناس يعيشون حياتهم بالانسجام مع القوانين الطبيعية، فالحالة الطبيعية للبشر من وجهة نظر لوك هي حالة الصلح والتعاون على خلاف نظرة هوبز التي كانت ترى فيها حالةً من النزاع والتخاصم والحرب.
والإشكالية الحاصلة في الحالة الطبيعية هي فقدان الضمانات التنفيذية، فكل إنسانٍ يسعى بنفسه لحفظ حقوقه الطبيعية الخاصّة، أمّا في الحالة الاجتماعية فيتولّى هذا الكيان الاجتماعي مسؤولية ضمان الإجراء لحقوق الأفراد، وبحسب رأيه من الضروري القبول بعقد اجتماعي لأجل حفظ حقوق الناس، بيد أن ذلك لا يعني السلطة المطلقة للدولة، إذ لو كانت قدرة الدولة غير محدودةٍ فهذا يعني إفناءً لحريات الأفراد، فإن البشر عندما يمنحون المجتمع بعضاً من حرياتهم لا يريدون بذلك الوصول إلى الحقوق وإلى الحريات الفردية وإنما يطلبون حفظ هذه الحقوق لأنفسهم.
جان جاك روسو بحث هو الآخر مسألة الحرية وبقية الحقوق الطبيعية كواحدٍ من المفكرين الليبراليين، يقول روسو في بداية رسالته "العقد الاجتماعي": "إن الإنسان الذي ولد حراً يعيش أسيراً في كافة أنحاء الدنيا"([4])، فروسو يرى بأن العقد الاجتماعي يجب أن يصاغ بحيث يكفل وبصورة دائمة الحريات البشرية وهو أمر غير قابل للتحقّق إلا عن طريق استقرار حكومة القانون المطلقة، فعندما يتبع الأفراد الإرادة العامة للمجتمع فإن حرياتهم سوف تصبح مصونةً حينئذٍ.
لقد أثيرت مجموعةٌ من القضايا لدى البحث عن مسألة الحرية، من قبيل تعريف الحرية، أنواعها، ضرورتها ولزومها، حدودها، صلاحيات الدولة، الحرية والديمقراطية، الحرية والأخلاق و… مما سنشير إلى بعضه في هذه المقالة فيما نحيل تفصيلاته إلى كتاب "الإنسان والحريّة".
 
تعريف الحريّة
ذكرت للحريّة تعاريف كثيرة، وعلى حدّ تعبير آيزايا برلين فإن هناك حوالي مائتي تعريفٍ لها حتى الآن، ووجه الاشتراك بين هذه التعاريف هو إزالة العوائق من طريق اختيار الإنسان، يقول آيزايا برلين في تعريفه للحرية: "إنّني أعتبر الحرية فقدان الموانع من طريق تحقق آمال الإنسان وتمنياته"([5]).
ويرى في موضعٍ آخر أنّ الحرية تعني عدم تدخل الآخرين في أنشطة وأعمال الفرد: "الحرية الشخصية عبارةٌ عن السعي للحيلولة دون تدخّل الآخرين في دائرة الفرد واستحمارهم وتقييدهم إياه، هؤلاء الذين يسعون وراء أهدافهم الخاصة"([6]).
إنّ عجز الإنسان ليس منافياً لحريته، فعدم قدرة شخصٍ ما على القفز إلى الأعلى أو عجزه بسبب العمى عن القراءة وكذلك عدم استطاعة الجميع فهم فلسفة هيغل ليس مؤشّراً على عدم الحرية، فعندما نقول بأن إنساناً ليس حرّاً فهذا معناه أن شخصاً آخر قد حال بينه وبين رغباته وآماله.
يهدف الليبراليون من الحرية تمكّنَ الفرد من العيش وفق أية طريقةٍ يختارها ويحبها، ولا يحق لأي شخصٍ تهديد رغباته هذه، وعلى حدّ تعبير آيزايا برلين: "إن الدفاع عن الحرية عبارةٌ عن هذا الهدف السلبي ألا وهو الحيلولة دون تدخّلات الآخرين، وهذا التهديد الذي تمثّله تدخّلات الآخرين يهدف إلى تمكين الفرد من حياةٍ لم يخترها عن رغبة قلبية، أي أنه قد أقفلت بوجهه كافّة الطرق عدا طريقٍ واحدٍ، وهو أمرٌ مرفوضٌ حتى لو منحه ذلك مستقبلاً مشرقاً بل وحتّى لو كانت لدى الأفراد الذين يمارسون هذا الأمر نيةٌ حسنةٌ وقصدٌ خيّر، والذنب الذي يقع قبال هذه الحقيقة هو في كونه إنساناً يحقّ لـه العيش على الطريقة التي يريدها، وهذه هي الحرية التي يقصدها الليبراليون في العصر الجديد منذ زمن ايراسمس (بل على حدّ قول البعض منذ أوكام) وحتى يومنا هذا"([7]).
لا شك في صحة مبدأ ثبوت الحق للإنسان في اختيار نمط حياته وعيشه، لكن هناك فرق بين حق الاختيار للإنسان في طريق كماله وبين فعله كل ما يحب فعله، فمن وجهة نظر الليبراليين إذا سار الإنسان نحو هدف معين من طرف المصلحين الاجتماعيين فإنه سوف يصبح كالشيء المعدوم الإرادة، فبالنسبة لليبراليين لا فرق بين أن يسير الإنسان في طريق الكمال أو غيره إذ لا طريق محدّد للجميع، فعلى كل فردٍ اختيار طريقه الخاص، أما في الأديان الإلهية فإن البشر يمكنهم الوصول إلى الكمال عن طريق صراطٍ مستقيمٍ واحدٍ، لكن لا يجوز إجبارهم على السير في هذا الصراط المستقيم، أي أن انتخاب الأمر الكمالي هو مسألة اختيارية بحتة، بيد أنه لابد من تأمين الأرضيات التي تجعل البشر يقدمون على اختيار هذا الطريق الذي فيه كمالهم.
أنواع الحرية
ذكرت للحرية أنواع مختلفة أهمها:
1 ـ الحرية الفلسفية: والمراد من هذا النوع من الحرية هو حرية الإرادة والاختيار، أي أن الإنسان غير مجبور على القيام بعمله الخاص، وبعبارة أخرى فإن إتيانه بالفعل كتركه له هو أمرٌ إرادي، وكون الإنسان فاعلاً إختيارياً يمثل أساس الاعتراف بالأنواع الأخرى للحرية.
2 ـ الحرية الاجتماعية: وهذا النوع من الحرية يعني إمكانية استفادة الإنسان من حقوقه الطبيعية والفطرية بلا أي تدخلٍ من جانب الآخرين.
3 ـ الحرية الأخلاقية: إن التحرر من الهوى والميل النفساني يعبّر عن حريةٍ أخلاقيةٍ، والغاية من هذه الحرية هو تعلّق إرادة الإنسان بأمور الخير، أي أنه لو تسنى له الوصول إلى مرتبةٍ لا يقوم فيها إلا بالأعمال الخيرة وبدافعٍ إلهي فإنه يكون بذلك قد حاز على أعلى مراتب الحرية الأخلاقية.
هذا ويمكن تقسيم الحريات الفردية والاجتماعية إلى الأقسام التالية:
أ ـ الحريات الفكرية الشاملة لحرية الاعتقاد، وحرية نشر هذا الاعتقاد، حرية القلم والمطبوعات وحرية التربية والتعليم.
ب ـ الحريات الفردية والشخصية الشاملة لحق الحياة، حق الدفاع، حق الأمن الشخصي، الحرية في اختيار المسكن، حرية المرور والتنقل وحرية المراسلات والمكالمات.
ج ـ الحريات الاقتصادية الشاملة لحرية اختيار العمل، حق الملكية الشخصية والفردية وحرية العمل والاكتساب.
د ـ الحريات السياسية وحق المشاركة في الأمور الاجتماعية والسياسية وحرية التجمعات واللقاءات.
بيد أن بعضاً من المفكّرين الليبراليين يرون للحرية تقسيماً آخر، ومن هؤلاء آيزايا برلين حيث يرى بأن هناك نوعين من الحريات أحدهما الحرية الإيجابية والأخرى الحريّة السلبيّة.
والمقصود من الحرّية الإيجابية كون قرارات الإنسان بيده دون الارتهان والارتباط بأيّ عاملٍ خارجيٍّ، أي أن لا يكون الإنسان آلةً لفعل الآخرين، أو فلنقل بعبارةٍ أخرى أن يكون فاعلاً لا مفعولاً.
نواجه في هذه الحرية الإيجابية التساؤل التالي: ما هو منشأ الرقابة أو ضبط الأفراد وبيد من؟ أي أنّه من هو الشخص الذي يمكنه إجبار الأفراد على السير على طرزٍ معين في عملهم؟ وبعبارةٍ أخرى من هو ذاك الشخص الذي يملك الحاكمية عليّ؟ وعلى حد تعبير آيزايا برلين في تفسير هذا النوع من الحرية: "من هو الذي يجري أوامره عليّ؟ من هو ذاك الذي يصمّم ويكون قراره معيّناً لي كيف أكون أو كيف أعمل؟"([8]).
أمّا في الحرية السلبية فإن التركيز بالدرجة الأولى يقع على اختيار الفرد نفسه، أي أنّه ما هي المساحة التي يملك فيها الأفراد مجالاً حرّاً؟ وبعبارةٍ أخرى تقع الحرية السلبية في إطار الجواب عن التساؤل التالي: إلى أي حد يمكنهم التسلط علي؟
"لأجل تعيين دائرة الحرية السلبية لشخصٍ ما لابد في البداية من تحديد الأبواب المفتوحة في وجهه؟ وإلى أية حدود؟ وإلى أين تفضي هذه الأبواب؟"([9]).
ضرورة الحريّة
لقد ذكر الليبراليون مجموعةً من الأدلة على ضرورة ولزوم الحرية، وهي أدلةٌ كانت محطّاً للأنظار ومورداً للاهتمام منذ زمن جون ستيورات مِل وحتى آيزايا برلين، وهي عبارة عن:
1 ـ الحرية جزءٌ من الذات البشرية: أي أن طبيعة الإنسان تنزع نحو الحرية، وعلى حدّ تعبير آيزايا برلين الحرية جوهر الإنسان، وهو ـ أي الإنسان ـ موجودٌ ساعٍ نحوها، وهذا معناه أنها من لوازم إنسانيته.
يقول آيزايا برلين: "أما بالنسبة للإنسان، وفقط في مورده هو ندعي بأن طبيعته تطلب الحرية، وذلك بالرغم من أننا نعلم أنه وعلى امتداد الحياة البشرية كان هناك قلةٌ قليلة من الذين ثاروا من أجل الحرية فيما الأغلبية الساحقة لم تبد أية إندفاعةٍ نحو ذلك."([10]).
2 ـ الارتباط ما بين الحرية وكشف الحقيقة، يعتقد جون استيوات مِل بأن الحقيقة تتبلور عن طريق البحث الحرّ، فإذا ما كانت هناك وجهات نظرٍ مختلفةٍ وكان فيما بينها نوعٌ من التعارض والتصادم فإن الوصول إلى الحقيقة يكون بشكلٍ أفضل، فالحقيقة قابلةٌ للكشف في الأجواء التي تتواجه فيها الأفكار والنظريات ويمكن للأفراد البحث والتباحث فيما بينهم في فضاءٍ حرّ، أما في المحيط الاستبدادي فإن التعرّف على كثيرٍ من الحقائق سوف يواجه الكثير من المشكلات والعقبات.
3 ـ إنّ الإبداع والابتكار البشري يتبلوران في ظل الحرية، وبعبارةٍ أخرى فإذا لم تكن هناك حريةٌ فإن الشخصية المبدعة لن يكون لها ظهور، فالعلم والمعرفة ينموان في ظل المحيط الحرّ، نعم إنّ بعض الباحثين الغربيين لا يرون علاقة مباشرة فيما بين الحرية والإبداع، فهم يذكرون عصر روسية القيصرية كمثالٍ معزّز لمقولتهم حيث تطوّر الأدب ونمت الموسيقى في هذا الجو بشكلٍ ملفتٍ وبرزت في الساحة شخصياتٌ كبيرةٌ ومرموقةٌ، وطبعاً فليس مراد هؤلاء المحققين نفي الحرية، وإنما الإشارة إلى أن الإبداع مرتهنٌ بمجموعةٍ من العوامل تعدّ الحرية واحداً منها، فإن الكثير من القابليات والطاقات تبقى محتبسةً دون نموّ أو بروزٍ في المحيط المختنق، فيما تنمو وتتنامى الأفكار والابتكارات في أجواء الحرية والمحيط الحرّ.
4 ـ يتحقّق في ظل الحرية شرف الإنسان وكرامته، ففي المحيط الذي يتمكّن فيه الأفراد من العمل والنشاط بحريّةٍ دون أن يمنعها أحدٌ تظهر كرامة الإنسان وشرفه، أمّا في الجو المختنق الذي تُسلب فيه حرية الإنسان فإن الأفراد يشعرون بالحقارة والخسّة، فالشرف الإنساني يصبح عرضةً للضرر في مجتمعٍ لا وجود فيه للحريات السياسية والاجتماعية، وبالضبط في المحيط الاستبدادي ـ الذي يرى فيه الأفراد أنّ القوة بيد جهاز السلطة الحاكمة وكل العوامل الأخرى وأنشطتها تقع تحت الرقابة والضبط ـ تنعدم فيه هويتهم ويصبحون أذلاء، إذ الأفراد في المجتمع الحرّ يشعرون بالأمن والكيان الذاتي حيث لا يعبّرون عن مجرّد آلات لتحقيق أهداف الدولة، كما يشاركون في الكثير من الأنشطة والفعاليات الاجتماعية، ومن وجهة نظر جون ستيورات مِل هناك نوعٌ من المنافاة بين أي شكلٍ من أشكال السلطوية وبين الشرف والكرامة الإنسانيين.
 
حدود الحريّة
الحريّة الفردية ليست مطلقةً، أي أنه لا يمكن القول بوجود حريةٍ غير محدودةٍ لأي فردٍ من الأفراد، إذ تتعارض حريّات الأفراد حينئذٍ لتصبح ـ جميعها أو بعضها ـ مهدّدة بالخطر، فحيث هناك ترابطٌ بين البشر يصبح التفكيك بين الحريات الفردية ومصالح الآخرين غير سهلٍ أبداً، ففي بعض الموارد تتساوى الحرية الفئوية ونفي الحرية بل حتى نفي حياة الآخرين.
في بعض الأحيان تفرض حريّة بعض الأشخاص تحجيم حريّة أشخاصٍ آخرين، ومن وجهة نظر الليبراليين فإن حدّ الحرية يكمن في عدم مزاحمة الآخرين، وطبقاً لرؤية جون ستيورات مِل فإن العدالة تتطلّب تنعّم الأفراد بالحدّ الأقل من الحريّة، ومن هنا يجب في بعض الأحيان ـ ولو عن طريق الإجبار ـ منع صيرورة حريّة بعض الأفراد مخلةً بالحريات الأخرى للآخرين.
حدّ الحرية ليس مانعاً عنها، وببيانٍ أكثر دقّةً لا يجوز النظر إلى أي حدّ للحرية على أنه مانع عنها، فحيث لا يمكن القبول بالحرية المطلقة ولابد من القول بوجود حدّ وحدود لحرية أي شخصٍ لا يمكننا اعتبار حدّ هذه الحرية مانعاً عنها، فإذا لم نعترف بوجود حدٍّ للحرية فإن هذا سوف يفسح المجال ويهيّئ الأرضية لسوء الاستفادة منها، بل إن عدم القول بوجود حدّ ونهاية للحرية يفضي بنفسه إلى الحدّ من حريّة الآخرين، ومن هنا يكون إيجاد المحدودية للحرية أمراً محكوماً بحكم العقل نفسه كما هو الحال في رفع الموانع عن طريق حرية الأفراد، آيزايا برلين يتحدّث حول ضرورة تحديد الحرية فيقول: "تنقلب الحريّة السلبية أحياناً إلى القول بتساوي حرية الشاة والذئب، فإذا لم تتدخل القوّة القاهرة فإن الذئاب سوف تقوم بافتراس الأغنام، ومع ذلك لا يجوز أن يصنّف هذا كمانعٍ للحرية، نعم إن الحرية اللامحدودة للرأسماليين تفضي إلى إفناء حريّة العمّال، والحرية اللامحدودة لأصحاب المصانع أو الآباء والأمهات تؤدي إلى استخدام الأولاد في العمل في مناجم الفحم الحجري، لا شك في أنه لابد من حماية الضعفاء أمام الأقوياء والحد من حرية هؤلاء الأقوياء على هذا الشكل، ففي كل حالةٍ يتحقق فيها القدر الكافي من الحرية الإيجابية لابد من الإنقاص من الحرية السلبية، أي أنه لابد أن يكون هناك نوعٌ من التعادل بين هذين الأمرين حتّى لا يجري أي تحريفٍ للأصول المبرهنة"([11]).
والإشكال الأساسي على آيزايا برلين هو ذهابه من جهةٍ إلى عدم جواز منع الحرية فيما يقول من ناحيةٍ أخرى بلزوم حماية الضعفاء أمام الأقوياء وبالتالي التقليص من حريّة هؤلاء الأقوياء.
تتحدّد الحرية بارتباطها بالأصول والقيم الأخرى، فالعدالة الاجتماعية والأمن والنظام العام من الأصول التي لا تبتعد أو تتباعد عن الحريّة نفسها، ولابد من تحديد الحريّة عندما تتعارض وهذه الأمور، كما لابد من السعي ـ في جوّ نظامٍ اجتماعيٍّ سالمٍ ـ إلى إيقاع التناغم والانسجام بين هذه الأصول وبين الحرية لا تنحية أحدها لصالح الآخر، وعلى حدّ قول برلين: "لابد من تحديد بعض صور الحرية حتى يفسح المجال للبعض الآخر من الأهداف الإنسانية"([12]).
إن خلافنا مع الليبراليين إنما يدور حول هذه الأهداف النهائية؛ فهم يرون بأن الهدف يكمن في الرغبات والميول الإنسانية وعلى أبعد حدٍّ النظم والأمن الاجتماعي فيما نرى نحن أن الهدف النهائي للحياة هو الملاك ونعتقد بأن على الحرية أن تتخذ معناها ومفهومها في إطار ذلك.
سعى البعض من الليبراليين لدراسة الدوافع التي تعمل على منع حرية الآخرين، فجون ستيورات مِل يرى بأن هناك عوامل ثلاثة توجب تحديد الأفراد لحريّات الآخرين هي:
1 ـ فرض الإرادة الخاصّة على الآخرين.
2 ـ إيجاد نوعٍ من الاتحاد والتوافق إلى حدّ صيرورة المجتمع لوناً واحداً ويداً واحدةً.
3 ـ التصوّر بأن على الجميع أن يعيشوا حياةً متماثلةً ومتشابهةً أي حياةً واحدةً.
ويرى مِل بأن العامل الثالث هو الوحيد الذي تجب معارضته بدرجةٍ من الدرجات، فمن وجهة نظره حيث إنه لا يمكن العثور على الهدف والغاية الحقيقية للحياة فلا يجوز أن نطالب الأفراد بالعيش ضمن صيغةٍ وشكلٍ واحدٍ، إذ حيث إن الإنسان خطّاءٌ ولا يمكنه تعرّف الحقيقة فلا يصحّ توقع اتباع الأفراد كافةً قانوناً واحداً.
 
الحريّة الليبرالية نقدٌ ودراسة
1 ـ إننا لا نعتبر الحريّة هدفاً، وإنما هي وسيلةٌ لتهيئة الأرضية لنمو الأفراد وتفتّح طاقاتهم، فالحرية إنما تحكي عن قيمةٍ من القيم إلى جانب القيم الأخرى الموجودة، فنحن نعتقد بأنه لو جرى تأمين الحريات السياسية والاجتماعية فإن البشر سوف يظهرون رشداً ونمواً أكبر حينئذٍ.
وفي الواقع فنحن نريد الحرية بهدف تنمية الإبداعات العلمية من جهة كما نطلبها لنيل البشر الكمالات السامية الإنسانية.
أمّا المفكّرون الليبراليون فإنهم يطرحون مسألة الحريّة على أساس تأمينها للمنافع الذاتية الخاصّة للأفراد، أي أنه ـ وحتى يحصل الأفراد على منافعهم الخاصة ـ لابد أن يكونوا أحراراً، أمّا نحن فلا نرى الحرية تأميناً للمصالح الشخصية للأفراد فقط، بل إننا نرى بأنه لو جرى ضبط المصالح الشخصية الذاتية للأفراد والتحكّم فيها فإن البشر سوف يصلون بذلك إلى الرشد والكمال، وهذا معناه أنه كما نرى الحرية قيمةً من القيم كذلك نرى الكمال الإنساني قيمةً من هذه القيم التي تشكّل الحرية أرضية تأمينها أيضاً، وعليه فما تقوله الليبرالية حول ضرورة الحرية لكي يتمكن الإنسان من الوصول إلى منافعه الخاصة الذاتية يعبّر عن تقزيم وتقليل من قيمة الإنسان نفسه ومقامه، ففي المذهب الليبرالي تُربط الحرية بقضية الشرف والكرامة الإنسانية فيما يفسّر الإنسان نفسه على أساسٍ يفقده الكرامة الذاتية… ما هي تلك الكرامة التي ستبقى للإنسان حينما نحصره في إطار إرضاء ميوله ورغباته الذاتية الخاصة؟!
إذا كانت الحرية أساساً وصانعاً للكمال الإنساني فلابد لها أن ترتبط بالكرامة الإنسانية، فإذا لم نقدّم تفسيراً سليماً للإنسان وحريته فإن كرامته حينئذٍ سوف تصبح بلا معنى.
2 ـ إن إثارة مسألة كرامة الإنسان وكماله هنا يضطرنا إلى طرح التساؤل التالي: هل تعني الحرية ـ وفق الرؤية الليبرالية لها ـ التفلّت والإطلاق؟ أي أن نرى الحرّية في الخلاص من أيّ قيدٍ من القيود مما يعني الاعتقاد بقابلية أي شيءٍ لأن يكون قيداً ورباطاً للإنسان؟ هل يمكن للإنسان الحصول على حريةٍ مطلقةٍ؟ عندما يطرح الليبراليون تفسير الحرية على أنها التحرّر من القيود ماذا يقصدون بالقيود هنا؟ فهل الموانع السياسية والاجتماعية التي تقفل باب الحياة الإنسانية هي وحدها التي تعبّر عن قيدٍ أو لا؟
لا يحصر الليبراليون القيود بالموانع الاجتماعية بل إنهم أحياناً يأتون على ذكر الدين أيضاً كقيدٍ من القيود، فمن وجهة نظرهم تمثّل الاعتقادات الدينية للإنسان واحداً من تلك القيود.
هنا نقف أمام مجموعة من القضايا، هل يمكن أن ينعم الإنسان بالحرية المطلقة؟ وهل من صلاحه عدم وجود أي قيدٍ أمامه أو أية محدودية؟ لقد انتبهت الليبرالية ـ أثناء طرحها التحرر الإنساني من كافّة القيود والتحديدات ـ إلى أنه إذا أردنا رفع كافة القيود فمن الممكن أن يقع هناك نوعٌ من التعارض بين الميول والرغبات البشرية الأمر الذي يؤدّي في النهاية إلى وقوع التزاحم والتنافي بين الأفراد أنفسهم، ومن هنا قالت بأننا أحرار إلى الحد الذي لا تتسبب فيه حريتنا بالضرر على مصالح الآخرين، أي أنه لو كان من المقرّر أن نملك حريةً غير محدودةٍ فإن هذا سوف يفضي إلى التزاحم والمعارضة.
وعلى هذا فالليبراليون يوافقون على مبدأ لزوم تحديد الحرية عند نقطةٍ معينة بيد أن القضية تكمن في ملاك التحديد هذا، فما هو هذا الملاك؟ ويجيب الليبراليون بأنه التزاحم بين الأفراد، فأولئك الذين يثيرون مسألة عدم التزاحم ليسوا بصدد الحديث عن ضبط وتنظيم الرغبات الإنسانية الذاتية، والحال أنه ما لم ترتفع هذه الرغبات فإن التعارض بين الأفراد لن يزول حتماً.
3 ـ لا توجب الحرية والتحرّر من أي شيء الرشد والكمال؛ فالتحرر من القيم ليس في صالح الإنسان كما أن التحرّر من الاعتقادات الصحيحة سوف يسدّ طريق التعالي والتسامي أمامه أيضاً، فإذا كانت الحرية وسيلةً لنيل الرشد والكمال الإنساني فلابد أن يتركّز البحث حول الأمور التي تساهم في إيصال الإنسان إلى ذلك، فإذا ما اقتنع الإنسان بأن أموراً معينةً توصله إلى رشده وكماله فلن يحقّ له بعد ذلك التحرّر منها وذلك لنفس الأسباب التي يطالب بالحرية من أجلها.
قلنا بأن الليبراليين يرون الحرية ممتدةً إلى حيث لا تزاحم بين الأفراد فإذا ما أوجب شيءٌ ما التزاحم المذكور فلابد من تنحيته جانباً، وهذا معناه أن حدّ الحرية مختزنٌ في عدم التزاحم والتعارض، أمّا بالنسبة لنا فإننا نطرح الحرية على مستوى أعمق وأرفع بحيث لا نقيدها بالتزاحم فحسب، إذ المجتمع المثالي من وجهة نظرنا ليس خصوص ذاك المجتمع الذي لا تعارض ولا تزاحم فيه، فعدم التزاحم شرطٌ لازمٌ بيد أن الحياة الإنسانية تنطوي على قيمةٍ أكبر من ذلك.
إننا نرى الملاك مرتبطاً بمسألة تعالي الإنسان، بمعنى أن أي شيء يسدّ طريق الكمال الإنساني فإننا ننظر إليه كعائقٍ وبالتالي فعلى الإنسان تجنّبه، وذلك على العكس من الأمور التي تساعد الإنسان للوصول إلى كماله فلا يجوز اعتبارها قيداً من القيود ومن ثَمّ تنحيتها جانباً.
وعلى سبيل المثال لو رأى الإنسان أن ما عنده من اعتقاداتٍ صحيحٌ فلا يحق له التخلّي عنه، نعم من وجهة نظر الليبراليين لا ضرورة تلزم بالاعتقاد بمعتقداتٍ خاصّةٍ حتّى يصل الإنسان إلى مرحلة الحريّة، ومن هنا ستبقى مسألة الحرية في الفكر الليبرالي قائمةً على مفهوم التحرّر والإطلاق ما لم تجر عملية تفسير صحيح للإنسان من جهة ولم يُخترق الصمت الذي يلفّ مسألة هدف الخلقة وطريق الوصول إليه من جهة أخرى، كما ولم يتمّ كسر الحصار القائم على الإنسان بواسطة رغباته الذاتية الخاصّة.
قلنا بأن السقف الأعلى للقيود التي تراها الليبرالية للحرية الإنسانية هو مزاحمة الآخرين، وهو أمرٌ منظورٌ إليه في النطاق الداخلي لمجتمعٍ من المجتمعات، فعندما يجري الحديث عن تقييد الحرية في مجتمع خاص فإن أفراد هذا المجتمع لن يفكّروا إلا في منافعهم الخاصّة، لقد شاهدنا على امتداد التاريخ عدم مبالاة الشعوب التي يقوم زعماؤها بظلم الشعوب الأخرى، فلنأخذ مثالاً الثورة الفرنسية؛ ألم يطلق المفكّرون الليبراليون صرخة الحريّة هناك فيما أطاح زعماء نفس هذه الأمة الثورية بحريات أمّةٍ مسلمةٍ وقاموا باستغلال الملايين من أبناء الشعب الجزائري دون حراكٍ من الأمّة الفرنسية؟
في الحقيقة عندما تطرح مسألة المصالح الشخصية والذاتية فلن يكون لمصالح الآخرين أي حضورٍ في الفكر حينئذٍ، بل يمكن في بعض الأحيان القيام بأذية للطرف الآخر دون أن يشعر بها، ففقط عندما تكون الأذية بارزةً وظاهرةً وتكون لدى الطرف الآخر قدرةٌ وسلطةٌ تبرز للوجود المقاومة والرفض والمناهضة.
إذن فأصالة عدم التزاحم ليست بذاك الأصل المحكم، وهو ما يدفعنا إلى إدراج هذا الأصل في ذيل مسألة الكمال، ففي هذه الصورة فقط يدرك ويتوجّه الإنسان لحقوق الآخرين ويمتنع بالتالي من إيقاع الظلم والجور عليهم، فالإنسان الذي يرى طلب الكمال بالنسبة إليه أصلاً وأساساً سوف يلحظ بشكلٍ مستمرٍ مسألة ما ينبغي عليه فعله وما ينبغي عليه تجنبه مما تعدّ مسألة عدم أذية ومزاحمة الآخرين واحدةً منها، إذن لا يهدف من مبدأ عدم مزاحمة الآخرين تحصيل المصالح الخاصة الذاتية بل ينظر إليه كحلقةٍ من حلقات المسير التكاملي البشري.
عندما تطرح الليبرالية قضية مزاحمة الآخرين فإنها تحاول إيجاد نوعٍ من النظم الميكانيكي في المجتمع، وهذا ما تختلف فيه عنها الأديان الإلهية حيث تسعى دائماً إلى تحقيق نظام حيوي وإنساني في المجتمع، إذ لا ترى هذه الأديان العالَم الإنساني ـ كالعالم الحيواني ـ منحصراً في دائرة التفكير في استمراريّة حياته الطبيعية.
إن قيمة الحياة الإنسانية ليست حقيرةً وذليلةً إلى هذا الحدّ ولذلك فالقضية تتمركز حول الكمال الإنساني بالدرجة الأولى، فالإنسان الذي يسعى لتحصيل كمالاته قد يفرض الأمر عليه في بعض الأحيان طرح مصالحه الشخصية تحت قدميه.
ووفقاً للقراءة الليبرالية للإنسان قد يكون من المشكل تفسير ظاهرة الإيثار بصورةٍ عقلانية، إذ في هذا المذهب الفلسفي ينحصر الإنسان في حدود تمنياته ورغباته الذاتية فقط.
4 ـ للحرية فرعان:
أ ـ الحرية من الموانع الخارجية.
ب ـ الحرية من الموانع الداخلية.
لقد ركزت الليبرالية نظرها على الحريات السياسية والاجتماعية ذات الجنبة الخارجية، وذلك على العكس من المذاهب العرفانية كالبوذية واليوغا حيث جرى التركيز على الموانع الداخلية للحرية، وهو ما حصل على صعيد العرفان الإسلامي حيث تمّ تسليط الضوء على الأصنام الداخلية بصورةٍ دائمةٍ.
كـن حـرّاً أيـها الصــبي فإلى متى تبقى عبداً للذهب والفضة
لم يكن لدى المذاهب والاتجاهات العرفانية اعتناءٌ معتدٌّ به بالحريات الخارجية كما هو الحال بالنسبة لليبرالية فيما يتعلّق بالحريات الداخلية، فليست الحريّة وفق هذا المذهب غير التفلّت والتحرّر من القيود الاجتماعية.
إذا أردنا وضع اليد على المعنى الواقعي للحرية فلابد من طرحها على الصعيدين الداخلي والخارجي، فالوقائع الخارجية تؤكّد أنه إذا لم يجرِ الاعتناء إلا بالحريات الخارجية وتمّ تجاهل الحريات الداخلية فإن هذا من شأنه أن يفضي إلى عدم تحقق الحريات الخارجية نفسها أيضاً.
لقد سجّل الكثير من المفكرين والباحثين هذا الملاحظة على المذهب الليبرالي حيث اعتبروه مخفقاً في الوصول إلى أهدافه، بل لقد وفّق الكثير منهم لتحليل هذه الحقيقة، فإذا لم تتحقّق أفكار جون ستيورات مِل ولوك وبنتام وروسو وولتر و… فإن مرجع ذلك إلى عدم أخذ الحريات الداخلية بعين الاعتبار، بل إن الكثير من مفكّري هذه المدرسة لم يتمكّنوا أصلاً من طرح الحرية الداخلية؛ ذلك أن مبانيهم فيما يتعلّق بقراءة الظاهرة الإنسانية لا تنسجم مع هذا النوع من الحريّة، فنظراً لاقتصار الطرح الليبرالي على التمنيات الذاتية للإنسان واعتماده في فلسفته الأخلاقية على النفعية والربح إلى درجة صيرورة ملاك الحسن والقبح في الأفعال الأخلاقية عنده هو المصلحة والربح لدى الأفراد من حيث ذلك كله لن يبقى في هذا المذهب مجالٌ للتحرّر من الأصنام الباطنية.
لابد من الانتباه إلى أن مقصودنا من الحرية الداخلية هو ضبط النفس والتحكّم فيها لا إنكارها، فالإشكالية الأساسية التي تعاني منها الاتجاهات العرفانية تكمن في قتل النفس وسحقها لا ضبطها والتحكّم فيها، فعدم إطلاق العنان للفرد يمثّل المسألة الأكثر أهميةً في الحرية الباطنية.
تكمّل الحرية الداخلية الحريات الاجتماعية، ومع الأسف الشديد فإن المذاهب العرفانية طرحت الحرية الباطنية بصورةٍ قابلةٍ للجمع حتى مع أكثر أنواع الاستبداد السياسي بشاعةً وقبحاً، وكذلك الحال في المذهب النفساني فبالرغم من أنه عرفاني يتكّلم عن الحريات الباطنية لكنه يطرحها بحيث لا تعارض بينها وبين الحريات الخارجية.
5 ـ قلنا بأن الليبرالية لم تقتصر في طرحها على العقبات الاجتماعية بل إنها تعدت ذلك إلى الحديث عن الحرية قبال أيّ شيء، بحيث يمكن على ضوء ذلك تحصيل انطباع عن قيدية أي شيء للإنسان، فالاعتقاد بالدين يمكن أن يكون كذلك ومن هنا لزم تحرير الذات حتى من المعتقدات الدينية، ومن وجهة نظر هؤلاء يمكن القبول بضرورة الدين في نطاق الحدود الفردية والشخصية للإنسان، فبالنسبة لهم هناك الحرية من الوحي نفسه، وهم عندما يبحثون عن مسألة الحقوق يسلّطون كامل نظرهم على الحقوق الطبيعية لا الحقوق الإلهية، فعلى الإنسان نفسه أخذ التكاليف وتشخيصها ولا ضرورة للالتزام بشيءٍ اسمه الوحي، فتلك الحقوق الطبيعية التي ينعم بها الإنسان هي منشأ الواجبات والتكاليف عنده، وعندما يثار تساؤلٌ حول كيفية معرفة هذه الحقوق فإنهم يجيبون بأن العقل الجمعي هو الذي يقوم بذلك، فبإمكان البشر ـ ومن خلال عقولهم ـ التعرف على مجموعة الحقوق التي تتعلق بالحياة الإنسانية ومن ثم العمل على وفقها، وعليه فالعقل الجمعي لا يقع في طول الاعتقاد بالوحي عند هؤلاء وإنما كبديلٍ عنه، بل لم يقصر الليبراليون مخالفتهم على الوحي فقط وإنّما تعدّته إلى معارضة كل أمرٍ مقدّسٍ، فعبارة "فليكن عندك جرأة المعرفة" تحمل معنى نفي وإقصاء القداسة عن أي شيء واقعي بمعنى عدم تلقّي البشر أي شيء على أنه أمرٌ مقدسٌ، وبالتالي عدم منحهم الاعتبار لما هو فوق عقولهم وتفكيرهم، فنفي القداسة ليس منحصراً بأفكار أرسطو وزعماء الكنيسة بل إنه يعمّ أيضاً كل نوعٍ من أنواع المعتقدات الدينية.
أمّا من وجهة نظرنا فلابد من حمل منظار القداسة لقراءة أية حقيقةٍ تأخذ بالإنسان نحو الكمال، فأيّ شيءٍ يوصل الإنسان إلى كماله الواقعي لابد من منحه القيمة في المنظار البشري وبالتالي السعي للدفاع عنه، إننا نسأل ألا ترى الليبرالية الحريّة ـ بالصورة التي تحملها عنها ـ قيمةً من القيم؟ أليس لها قداسةٌ بنظر أنصار هذا المذهب الفلسفي والفكري؟ أليست مقولة ولتر "إنني حاضر لتقديم نفسي لكي يتمكّن الآخر من الكلام والتعبير بحرية" دليلاً واضحاً على تلقّيه الحرية كأمرٍ مقدسٍ؟ إنه بالتأكيد كذلك! إذن فلماذا ننظر إلى الحرية على أنها أمرٌ مقدسٌ فيما نزدري القداسة للحقائق الأخرى؟! وهو ما يحصل في المذهب الليبرالي حيث القداسة للحرية من جهةٍ والمناهضة والمحاربة لقداسة سلسلةٍ من الحقائق الإلهية من جهةٍ أخرى.
يرى كارل بوبر ـ أحد المفكّرين الليبراليين ـ بأنّ على الإنسان القبول بمعتقداته وقناعاته بعيداً عن النزعة الجزمية والدوغمائية في الفكر وبصورة قابلةٍ للاختبار، أي أن عليه القبول بهذه المعتقدات عن طريق الاستدلال والبرهان، بيد أننا نسأل ما هي المشكلة في نظرته إلى هذه المعتقدات نظرةً قداسيةً بعد قبوله بها ومن ثم الالتزام بها؟ من وجهة نظر بوبر يمكن أن يأتي يوم تبطل فيه معتقدات الإنسان كما هو الحال في النظريات العلمية التي يثبت بطلانها على اثر شواهد جديدة مما يؤدّي إلى عدم تلقّي أي نظرية بشكل قاطع، فإذا بنينا على أن الإنسان ملزمٌ بالتعامل مع قناعاته على هذا الشكل فإن نتائج سيئة سوف تبرز على هذا الصعيد، ذلك أن الشك سوف يسري إلى الاعتقادات البشرية، وحيث إن هناك فارقاً بين المعتقدات الإنسانية والنظريات العلمية ـ إذ يعيش الأفراد بواسطة هذه المعتقدات ـ فلن يوافق الإنسان على معتقداتٍ قابلةٍ للبطلان، إن الإنسان نازعٌ لمعرفة من أين جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وماذا عليه أن يفعل؟ وهل لعالم الوجود معنى أو لا؟ والجواب عن هذه التساؤلات لابد أن يكون قطعياً لا قابلاً للبطلان بالنسبة إليه، وإذا ما وافق ـ عن دليلٍ وبرهانٍ ـ على أجوبة هذه الأسئلة وكلّ ما هو مرتبط برؤيته الكونية فإنه لا محالة سوف يمنحها القداسة حينئذٍ.
6 ـ يعتقد عامّة الليبراليين بضرورة ضبط السلوك الفردي في إطار الصالح الاجتماعي العام؛ أي أن الفرد يبقى حرّاً إلى حدّ عدم إضراره بالآخرين أو بالمصالح العامّة للمجتمع، وهذا معناه بعبارةٍ أخرى القول بوجود تمايزٍ بين السلوك الخاص للفرد وبين السلوك المرتبط بالآخرين، والسؤال الهامّ هنا يتمحور حول الحدّ الفاصل بين هذين النوعين في حياة الفرد؟ وهنا يرى المفكّرون الليبراليون بأنه من غير السهل وضع الحدود الفاصلة بين السلوك الخاص والعام للأفراد، ويطرح جون ستيورات مِل ـ أثناء بحثه حول الحرّية ـ وجهة نظر جماعةٍ تقول بأن كافة أعمال وتصرفات الإنسان وسلوكياته يمكنها بشكلٍ أو بآخر أن تترك تأثيراً على الآخرين، ويذكر هؤلاء مجموعةً من الأدلة على ذلك:
أ ـ بالرغم من أن أموال الفرد وممتلكاته متعلقةٌ به وحده إلا أن أي تلف أو ضرر يرد عليها من قبله يعدّ إضراراً بكافّة الأفراد الذين يمكنهم الاستفادة من هذه الأموال بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ لا به وحده فقط، وكذلك الحال لو أضرّ شخصٌ ما بقواه الجسمانية أو العقلانية فإن هذا يعد إضراراً بأولئك الذين كان بإمكانهم الانتفاع بهذه الطاقات منه في سبيل سعادتهم كما هو الحال بالنسبة إليه حيث يؤدي عمله هذا إلى حرمان نفسه من أدوات خدمة أبناء نوعه، وكذلك يتسبّب بإشغال الآخرين به وتحميلهم مسؤولية مساعدته من حيث يضطّرون إلى ذلك.
ب ـ يُنمذج الأفراد أنفسهم للآخرين من خلال المخالفات التي يقومون بها وبالتالي يوجّهون أضراراً على المجتمع نفسه، وهو ما يدفع في نهاية المطاف إلى ضرورة إصلاح هؤلاء الأفراد الخاطئين نظراً لما يتسبّبه فعلهم هذا من إفساد وإضلال للآخرين حين مشاهدته.
ج ـ ليس من الجدير بالمجتمع ترك وتجاهل الأفراد الذين لا يليقون بالاستقلال الفردي، فإذا قبلنا بمبدأ رعاية الأطفال الصغار ـ نظراً لعدم رشدهم ـ فلماذا لا نوافق على ثبوت هذا المبدأ للمجتمع في حقّ أولئك الذين لا يقدرون على إدارة أمور حياتهم بصورةٍ صحيحةٍ؟!
ويقتنع جون ستيورات مِل وفقاً لهذه الأدلة المتقدّمة بأن الكثير من أعمال الأفراد الشخصية تترك أثراً لا في مشاعر ومنافع أقربائهم والمقربين منهم فحسب بل في المجتمع كله ومصالحه العامّة؛ وكمثالٍ على ذلك المدمن على تناول الكحول ـ والذي هو أمرٌ شخصي ـ إذ من الممكن أن لا يكون قادراً على قضاء ديونه أو تأمين مصاريف حياة أفراد أسرته أو وسائل التربية والتعليم لأبنائه، فمن وجهة نظر "مِل" لابد من إجراء العقوبات العادلة بحقّ هذا الفرد، وهذه العقوبات منبعثةٌ ـ لا محالة ـ من نقضه لتعهّداته أمام الغرماء أو أفراد عائلته لا من حيث التبذير والإسراف.
"وبشكلٍ عام فكلما حصل هناك قصورٌ من ذاك الشخص في أداء وظيفته أمام مشاعر ومنافع الآخرين من دون أن يكون الباعث على ذلك تقدم وظيفةٍ مهمّةٍ على هذه الوظيفة فلابد من القيام بتأديب أخلاقي له لا مقابل السبب الذي دفعه إلى هذا التقصير وإنما مقابل نفس هذا التقصير وعدم أداء الوظيفة… ليس لنا الحق في معاقبة ذاك الشخص على مجرّد إسكاره لنفسه لكننا نعاقبه إذا ما كان شرطياً يتناول الكحول من حيث تقصيره في أداء وظيفته ولابد من ذلك، وبعبارةٍ مختصرةٍ في كل حالة يكون فيها الفرد أو المجتمع في معرض الضرر الواضح الظاهر أو في معرض خطر احتمالي لهذا الضرر فإن المسألة حينئذٍ تخرج عن دائرة الحرية الفردية وتندرج في دائرة سلطة القانون أو الأصول الأخلاقية"([13]).
إن المبنى الفكري لجون ستيورات مِل هو ـ وفق رأي كارل بوبر ـ ذاك الأصل الكانتي القائل بأن الفرد يعمل وفق منهجه وطريقته الخاصين سواء كانا موجبين لسعادته أو لا، بمعنى أنه لا يحق لأحدٍ التدخل في الأمور الشخصية للأفراد ما لم تعرّض مصالح الآخرين للخطر.
ومن وجهة نظر بوبر لا يحق لأحدٍ ممارسة الإجبار للأفراد بحجة إرادة الخير لهم، وكمثالٍ على ذلك الحكومة فهل يحقّ لها ـ وبهدف حفظ أرواح السائقين ـ إلزام المواطنين باستخدام حزام الأمان؟ هل يمكن الحديث عن منع تناول السجائر؟ هل يمكن منع أولئك الذين يتناولون المخدرات؟ إنّ الجواب عن هذه التساؤلات وفق المباني الليبرالية هو جواب سلبي، فالدولة يمكنها فقط التدخل لمنع هذه الأمور بهدف توفير الحماية لشخصٍ ثالثٍ لا بغية تأمين الخير للأفراد أنفسهم، وحتى المطالبة بالضرائب المالية المتعلقة بالضمان الاجتماعي لابد أن يوافق عليها في إطار تأمين الحماية لشخصٍ ثالثٍ لا على أساس ضمان الفرد نفسه.
يطرح بوبر رؤيته على الشكل التالي: "إنني أوافق على مبدأ "مِل" ضمن الصيغة التالية وهي أن كل إنسانٍ حرٌّ في أن يعيش وفق الطريقة التي يراها سواءٌ كان ذلك موجباً لسروره وسعادته أو لا وذلك إلى الحد الذي لا يفضي إلى توجّه الضرر على شخصٍ ثالثٍ، بيد أن وظيفة الدولة تكمن في إيجاد حالةٍ من الاطمئنان على هذا الصعيد بحيث لا يتعرّض المواطنون غير المطلعين لأي خطرٍ لا يستطيعون تقييمه والحكم عليه"([14]).
لقد اكتسبت أصالة الفرد قداسةً خاصةً في المذهب الليبرالي إلى حدّ عدم قبول الليبراليين مطلقاً بأي تدخّلٍ من جانب الآخرين في شؤون الفرد حتّى لو كان ذلك متصلاً بمصلحته، وهنا ـ كما في الموارد المتقدّمة ـ يواجه الليبراليون مشكلاتٍ جدّيةٍ يسعون للتفلت من قبضتها والفرار منها.
لا يمكن تشخيص الحدّ المائز بين السلوك الخاص للفرد والسلوك الذي يترك أثراً على الآخرين من خلال القانون فقط، إن الالتزام بالأوامر الإلهية والأخلاق الإنسانية السامية يملك تأثيراً بالغاً أكثر من القوانين البشرية، فالإنسان الملتزم بالوحي وهو ـ لذلك ـ لا يتناول الكحول والمسكرات ولا يلعب القمار كما ويتجنّب الدّعة المفرطة وخيانة الأمانات حيث لا يجوز التعرّض لحريم الحياة الخاصّة للأفراد الآخرين… إنما يحذر هذه الأعمال بغية الوصول إلى كماله من خلال ذلك، وفي هذه الحالة سيكون عدم إيقاع الضرر على الآخرين من نتائج وآثار أعماله هذه، وهنا تكمن أيضاً إشكاليةٌ أساسيةٌ في نظريات الليبراليين في مجال معرفة الإنسان.
7 ـ إن العقل والوعي يمثلان أرضية الحرية، فالإنسان الأكثر علماً ووعياً هو بالطبع أكثر قدرةً على الاختيار، كما أن الإنسان الذي يملك معرفةً أكثر يكون أقدر على الانتخاب الصحيح، ذلك أن اختيار العمل ليس أمراً سهلاً، وعلى حدّ تعبير آيزايا برلين: "كلّما ازدادت معرفتنا أكثر كلّما تمكنا من الخلاص من عبء الاختيار الأفضل، كما أننا سنعذر الآخرين نظراً لعدم قدرتهم على أن يكونوا غير ذلك، بل إننا بذلك سوف نمنح أنفسنا العذر أيضاً، ففي العصور التي كانت الاختيارات فيها مؤسفةً وغريبةً لم يكن الالتزام بالعقيدة ليبقي مجالاً للسلم والتصالح مما جعل التصادم أمراً غير قابلٍ للاحتراز، وتعاليمٌ من هذا القبيل كانت تمنح الإنسان الراحة بشكلٍ كبيرٍ جدّاً"([15]).
لقد أطلق أبيقور مقولة العلم موجب للحرية، ومراده منها أن الحرية تؤدّي إلى رفع المخاوف والآمال الفارغة للإنسان، وقد ذهب بعض المفكرين الليبراليين إلى أنه لو تمّت إدارة المجتمع بطريقةٍ عقلانيةٍ فإن الأفراد ذوي الميول والمصالح لن يتمكّنوا من إبداء التسلّط والسيطرة على الآخرين، وإذا ما تمّت للعقل الحاكمية والسلطة على العالم فإنه لن تكون هناك حاجةٌ للممارسات القهرية والظالمة وبالتالي لن يقوم الأفراد بتجاوز حريات بعضهم البعض، والمشكلة التي وقعت فيها الليبرالية هي في اتكائها على العقل وحده، لقد بيّنا فيما سبق بأنه بالرغم من كون العقل مرشداً وهادياً لكن البشر لا يقومون دائماً بتوظيفاتٍ صحيحةٍ له، وبعبارةٍ أخرى ليس العقل وحده هو الذي يقوم بدور تعيين نوع الاختيارات الإنسانية، فالاختيار مرتبطٌ بالذات فمن يملك ذاتاً عاديّةً فسوف يستفيد من الحرية بدرجةٍ معينةٍ بيد أن من يملك ذاتاً أرقى سوف يقوم بتوظيفها بشكلٍ آخر، وفقط في الحالة التي يحرز فيها الماهية الحقيقية سوف يلتزم بذلك من خلال تشخيص الخير والشر، وزمام الاختيارات الإنسانية هو بيد النفس البشرية أكثر منه بيد العقل نفسه؛ فكلّما أبدت هذه النفس رشداً ونموّاً أكبر كلّما نجحت في التوصل إلى الاختيار الأنجع.
 
التسامح والتساهل
الأصل والمبنى الثاني من أصول ومباني الليبرالية هو التسامح والتساهل، فمن وجهة نظر الفلاسفة الليبراليين لابد للإنسان أن يبدي تسامحاً وتساهلاً إزاء آراء ومعتقدات الآخرين.
يعني التسامح تحمّل العقيدة أو الفكر أو السلوك الغلط والخاطئ غير المستساغ، فإذا ما حمل الإنسان انطباعاً سلبياً عن عقيدةٍ ما أو سلوكٍ فرديٍّ ما وكان يملك اتجاهه نوعاً من النفرة والاشمئزاز لكنه في نفس الوقت يبدي إزاءه تحمّلاً وصبراً فإن فعله هذا تعبيرٌ عن تساهلٍ وتسامحٍ من قبله، ولا يعني التسامح أمام عقيدةٍ معينةٍ أو سلوكٍ ما نوعاً من اللأبالية إزاءه وإنما يقوم بتحمّله مضطراً بالرغم من اعتراضه عليه، فمن الممكن أن تكون لدى الإنسان المتساهل والمتسامح قدرة قمع وسحق العقائد والسلوكيات المخالفة له لكنه مع ذلك يمارس نوعاً من المداراة معها.
يعني التسامح في بعض الأحيان تحمّل سماع عقائد الآخرين ودراستها، فيما يعني في بعض الأحيان الأخرى اللأبالية إزاء النشر والتعبير عن العقائد المتنوعة، وبالتالي إعطاء الحق لأيّ شخصٍ للعمل وفق ما يراه ويعتقده وعدم مزاحمة أحدٍ له.
 
أدلّة التسامح والتساهل
لقد أبان المناصرون للتساهل والتسامح ـ ومن منطلقاتٍ متنوّعةٍ ـ ضرورة هذا المبدأ، ففيما طرحه البعض من منظارٍ فلسفيٍّ أثاره آخرون من منطلقٍ دينيٍّ وأطل عليه فريقٌ ثالثٌ من زاويةٍ سياسيةٍ.
1 ـ يدّعي أولئك الذين قرءوا مبدأ التسامح والتساهل من منظارٍ فلسفي وابستمولوجي معرفي بأن الحقيقة غير قابلةٍ للعثور عليها؛ ذلك أن العقل البشري يقع في الخطأ وبالتالي لا يقين مطلق أبداً، ومن هنا لابد من إبداء نوعٍ من التسامح مع أفكار ومعتقدات الآخرين، وهذا ما يجعل من الصالح منح الأفكار المختلفة حقّ البيان والتعبير وإبداء الرأي إذ إن البحث والحوار الذين يسبقان ممارسات الإجبار والقهر والفرض يؤديان إلى كشف الحقيقة.
2 ـ من ناحيةٍ دينيةٍ يؤدي فرض العقيدة إلى بروز ظاهرة النفاق بين الأفراد وهو ما يخالف الأهداف السامية للدين، ففي الدين تقوم الأمور على عدم الرياء والنفاق لا على التظاهر والخداع للناس، فالإيمان ذو جذورٍ قلبيةٍ فيما التظاهر بعقيدةٍ معينةٍ يفضي إلى شيوع الرياء وظاهرة النفاق، والغاية والهدف الديني ـ والذي هو عبارةٌ عن الإيمان الحقيقي الواقعي ـ إنما يحصل عن طريق رفع العنف وإبداء التسامح.
3 ـ من المنظار السياسي يعد فرض عقيدةٍ واحدةٍ على المجتمع ذا تكلفةٍ أكبر، فإذا ما قررنا إجبار الأفراد على الأخذ بعقيدةٍ معينةٍ فإن هذا سوف يضع المجتمع أمام مشكلاتٍ كثيرةٍ جداً، فأفراد المجتمع ذوو مصالح متنوّعة ينبغي أن تتقاطع على أساس نوعٍ من الانسجام لا على أساس غلبة طرفٍ على آخر، فأساس التسامح مبنيّ على مبدأ مشروعية كافّة مصالح عموم الأفراد.
هناك بعض المفكرين الغربيين يمكن اعتبار آرائه في مجال التسامح والتساهل جديرةً بالبحث والمطالعة([16]).
فاسبينوزا مثلاً يرى بأن القانون الطبيعي قاضٍ بثبوت الحق لكل إنسان في القيام بما يراه على أساس عقله صلاحاً، فللعقل قدرةٌ على تشخيص مصالح الأفراد ولا يمكن ضبط تفكير أي فرد منهم، فلكل إنسان الحق في التفكير والتعقّل وعلى الآخرين الاعتراف بهذا الحق له، إذ إن فرض العقيدة أمرٌ غير معقول ومن هنا يكون عدم التساهل مخالفاً للعقل.
ويدافع "جان بدن" عن التسامح والتساهل في دائرة الاعتقادات الدينية، فمن وجهة نظره يمثّل الدين الوسيلة لحفظ النظام السياسي، وعلى مناصري المذاهب المختلفة اتباع منهج المداراة في علاقاتهم فيما بينهم، وإذا ما أراد شخصٌ ما جذب الآخرين إلى مذهبه فإنّ عليه اتباع منهج عرض النماذج الأخلاقية عملياً والقيام بالأعمال المنسجمة والحسنة.
أمّا جون لوك فيذهب إلى أن الإيمان القلبي بالله تعالى هو أساس الدين، وهو يؤكّد على أن مثل هذا الإيمان غير قابلٍ للفرض على الآخرين، فهدف الدين هو استقامة أرواح البشر وهو هدفٌ لابد أن يقوم على أساسٍ من الإقناع لا على أساس الإلزام لأن فرض عقيدةٍ على شخصٍ ما سوف يساهم في نشر ظاهرة الرياء والنفاق في المجتمع.
ومن وجهة نظر لوك أيضاً لا يجوز للدولة التدخل في أي أمر يتعلق بإيمان وعقيدة الناس، فلا يحقّ لأيّ شخصٍ ـ بادعاء معرفة الحقيقة ـ فرض العقائد على الآخرين، بيد أن لوك لا يعترف بالتسامح والتساهل إزاء نشر الإلحاد والترويج للأمور غير الأخلاقية أو المساهمة في نشر العقائد المهدّدة للأمن وبقاء المجتمع، ويرى البعض من المحقّقين بأن تساهل لوك الديني نابعٌ من عدم يقينيّته فيما يخصّ الحقيقة المطلقة.
يعتقد "بير بيل" ـ أحد الكتّاب البروتستانتيي المذهب والذي دوّن سنة 1686م رسالةً تحت عنوان "حول التساهل العام" ـ بأنه لا يمكن إجبار الأفراد على اعتناق عقيدةٍ معينةٍ، ذلك أن هذا الفعل مضادٌّ لحكم العقل كما يؤدّي إلى دفع الأفراد أنفسهم لممارسة الرياء والنفاق.
لكن العقل عند "بيل" غير قادرٍ على التوصّل إلى اليقين بالرغم من كونه ـ في مجال معرفة الحقيقة ـ أسمى وأفضل من الإيمان، ومن هنا لابد من إبداء التساهل فيما يرتبط بآراء ومعتقدات الآخرين، وفي الواقع فالنقص الذاتي للعقل البشري وعدم قدرته على التوصل إلى القطع واليقين يفرضان الأخذ بمبدأ التساهل والتسامح، ووفق نظرته لا يحقّ لأية فرقةٍ من الفرق المسيحية ادعاء اليقين المطلق المتعلق بحقانية معتقداتها بل لابد لها من احترام الاعتقادات الدينية لأيّ شخصٍ من الأشخاص واعتباره باحثاً وسائراً نحو الحقيقة المطلقة، لكن "بيل" لا يبدي تساهلاً أو تسامحاً فيما يرتبط بظاهرة الإلحاد.
وهكذا الحال لدى جون ستيورات مِل حيث كان يعتقد هو الآخر بمبدأ التساهل والتسامح، فمن وجهة نظره تفرض نفس الأدلة التي عرضها لإثبات مبدأ الحرية ـ من قبيل الكرامة الإنسانية والإبداع الفكري والأساليب المختلفة للحياة والعيش ـ القبول بمبدأ التساهل أيضاً، لكن "مِل" يرفض التساهل أمام الأعمال الموجبة لأذية الآخرين، وهو يرى أن بإمكان الدين والدولة القيام بتحديد نطاق التساهل والتسامح، أمّا فيما يتعلّق بالتصرفات غير الأخلاقية التي تلحق الضرر بفاعلها فقط لا بالآخرين فإن "مِل" يرى ضرورة استخدام أسلوب ترغيب الفاعل في تركها لا ممارسة منعٍ له من الإقدام عليها عن طريق الإجبار، وهو على قناعة بعدم جواز بناء الأفراد على أساس مفهوم الجبر لكي ينتخبوا في حياتهم نمطاً واحداً للعيش.
 
عدم التساهل
بدورهم المعارضون لمبدأ التسامح قدّموا أدلّةً على كلامهم هذا يمكن عرضها على الشكل التالي:
أ ـ من الناحية السياسية يؤدّي عدم التساهل إلى وحدة وتساوي المعتقدات التي يحملها الأفراد وهو ما يدفع إلى حفظ الأمن في المجتمع.
ب ـ أمّا من الناحية الدينية فإن محق وقمع العقائد السيئة والمضرّة يفضي إلى الحيلولة دون نموّها وانتشارها، وما لم يتم تنحية العقائد السيئة هذه فإن السطحيين من المتدينين سوف يقعون فريسة الخداع وعدم الإيمان، وبعبارةٍ أخرى لا يصحّ لنا ممارسة التساهل إذا ما أردنا حفظ عقائد الأفراد.
ج ـ لا يملك كل الأفراد قدرة التعرف على الحقيقة من وجهة نظرٍ معرفيةٍ، ومن هنا لابد لجبر ضعفهم الاستدلالي هذا من إعمال القوّة والإجبار، وترك المخالفين المتورّطين بالذنوب إنما هو ظلم لهم أنفسهم.
فيتز جيمز استفان المعارض لجون استيورات مِل يرى في عدم التساهل عاملاً ضرورياً لحفظ الفرد والجماعة، فمن وجهة نظره تترك كافّة الأعمال الفردية تأثيراً على حياة الأفراد في المجتمع بشكلٍ من الأشكال، ومن هنا لا يمكن التساهل إزاء أي عمل يقوم به أي فردٍ من الأفراد، ولذا فهو يرى بأن الأفراد غير مؤهّلين لتحكيم الأصول الأخلاقية في سلوكياتهم لذلك كان لزاماً فرض هذه الأصول عليهم، بل إن التنوّع في أنماط الحياة المختلفة ليس شيئاً مناسباً دائماً بل لابد في بعض الأحيان من إلغاء بعض أنماط العيش كطريقة العصاة والمذنبين، وعلى حد زعم استفان فإن احترام المعتقدات المختلفة يفضي دائماً إلى إضعاف المجتمع ومن هنا كان عدم التساهل أمام سلوك الأفراد أمراً مساعداً على رشدهم وهدايتهم.
 
هل التساهل مطلقٌ؟
يرى أكثر المفكّرين بأن التساهل نسبيٌّ لا مطلقٌ، فهم لا يقبلون من ناحية معرفية وقيمية بالتساهل المطلق، فإذا ما صدقت نظريةٌ ما فإنها لا تبدي تسامحاً أمام نقيضها، وعلى سبيل المثال لا نرى شخصاً يتساهل ويتسامح اليوم بالنسبة لنظريات بطليموس ونيوتن فيما يتعلّق بعالم الخلقة، وهكذا الحال على صعيد القيم والمثل لا نجد من يتساهل مع الجهل والظلم وعدم الرحمة، بل حتّى المناصرون للتساهل والتسامح يعتقدون بأنه إذا ما أراد أشخاص أن يقوموا بعملٍ ما أو يظهروا عقيدةً ما تؤدّي إلى أذية الآخرين فلا يجوز التساهل والتسامح معهم.
جون لوك المؤيّد لمبدأ التسامح يدافع عن عدم التسامح في مجموعة حالات هي:
أ ـ الترويج لمعتقداتٍ وأصولٍ تهدّد بنسف المجتمع نفسه.
ب ـ الترويج للإلحاد.
ج ـ التصرفات التي تهدف إلى تدمير الدولة أو التصرّف في أموال الآخرين.
د ـ إطاعة أفرادٍ من أمّةٍ ما للحكام الخارجيين([17]).
"بير ميل" يرى بأنه لا تسامح مع الإلحاد، وهكذا الحال لدى جون ستيورات مِل فقد كان يذهب إلى رفض التسامح والتساهل مع الأشخاص الذين يهدّدون حريات الآخرين، كما آمن بقدرة الدين والدولة على إيجاد نوعٍ من المحدوديات للتساهل.
 
هل التساهل هدف؟
هنا يطرح السؤال التالي نفسه هل التساهل هدفٌ أو وسيلةٌ؟ إذا كان المفكّرون يرون في التسامح والتساهل وسيلةً لنيل الحقيقة والحرية والمساواة والعدالة فإن الشخص الوحيد الذي كان يراه هدفاً هو هيربرت ماركوزه، فقد كان يرى بأن التسامح هدفٌ تماماً كما هو الحال في القيم الأخرى نظير الحرية والعدالة، وهو ما يعني صيرورته مطلقاً لا نسبياً، أي أنه لابد من إبداء التساهل والتسامح قبال أي شيء من الأشياء، فيجب ـ مثلاً ـ أن يكون تعاملنا مع نظريةٍ علميةٍ خاطئةٍ تعاملاً قائماً على التساهل وعدم نفيها بشكلٍ إطلاقيٍّ وهو أمر لا يمكن القبول به عندما نهدف إلى السير في طريق كشف الحقيقة، وهكذا الحال على هذا الأساس بالنسبة للقيم وما يناقضها حيث يجب أن يكون موقفنا من الاثنين واحداً وبالتالي فلا يجوز أن تكون لدينا أية حساسيةٍ مما يناقض القيم ويعارضها.
 
مباني التساهل والتسامح
تكمن أسس ومباني التساهل في الليبرالية المعرفية ونظرياتها عن الإنسان أيضاً، فمن ناحيةٍ معرفيةٍ تعد محدودية العقل وقابليته للخطأ أساس التسامح والتساهل، فحيث لا يمكن للعقل الوصول إلى الحقيقة أي لا يستطيع تحديد صحة وصوابية أفكاره وعقائده فلن يمكن له إظهار أية حساسيةٍ تجاهها وإنما يُطالب بسلوك منهج التساهل إزاء عقائد وأفكار الآخرين.
تقضي الحالة الطبيعية أن يرى الإنسان بطلان معتقدات الآخرين ومن ثمّ نفيها إذا ما حاز على يقين بحقانية معتقداته، لكن الليبرالي ـ حيث لا يؤمن بصحّة معتقداته على نحو اليقين والجزم ويرى عقائد الآخرين كعقائده نسبيةً ـ ملزمٌ بإبداء التساهل إزاء كافة العقائد والأفكار المتنوّعة الأخرى.
وفي الواقع فإن هذا الأصل يعدّ واحداً من مباني التساهل والتسامح في الغرب، أي أنه لا مجال لإصدار الحكم في الأمور العقلانية وكذلك الأخلاقية، بمعنى عدم إمكانية الحديث عن يقين لا في عالم الحقيقة ولا في عالم القيم، فنحن لا نملك لمعرفة الحق والباطل أي ملاكٍ ومعيارٍ لا في دائرة الواقعيات ولا في مجال القيم والأخلاقيات، وهذا معناه عدم إمكانية العمل في نطاق محاكمة الأمور المختلفة لا سيما ما يتعلق منها بالقيم حيث لا يمكن تحديد ما هي القيمة وما هي الأمور المناقضة لها، وهكذا الحال في دائرة المعتقدات حيث لا يوجد أي معيار كلّيٍّ ومطلقٍ يمكن الاعتماد عليه، ومن هنا اتسمت الاعتقادات بسمة الفردية والشخصية، ولذلك كان لابد من النظر إلى معتقدات الأفراد على أساسٍ نفسيٍّ سيكولوجيٍّ لا على أساسٍ معرفيٍّ ايبستمولوجيٍّ، فهذه الاعتقادات مجرّد أمور فردية باطنية بحيث لا ضرورة لوجود دعامة عقلانيةٍ لها، وعلى أساس المباني الفكرية الليبرالية لابد من الحديث عن التعدد والتنوع الحر في عالم النظريات لا عن صحيح هذه النظريات وباطلها.
وحيث لا يعترف الليبراليون بالوحي تتساوى عندهم قضية التساهل والتسامح بين دائرة العقل والوحي ولا يرون بينهما فرقاً، فالتساهل نظريةٌ مرتبطةٌ بدائرة المسائل العلمية والفلسفية، فالأشخاص الذين يطرحون التساهل فيما يتعلق بالنظريات المختلفة بغية الوصول إلى الحقيقة إنما يتكلمون عن أمرٍ حقّ، بيد أن الحديث عن التسامح فيما يرتبط بالأمور الآتية من قبل الوحي لا معنى له، لنفرض أننا نملك مقداراً ضئيلاً من المسائل اليقينية في العلوم والفلسفة لكن هذا لا ربط لـه باليقينيات الوحيانية، لقد دفع تحريف الكتاب المقدّس والاختلافات العديدة المتصلة بالديانة المسيحية العلماء الغربيين إلى القول بعدم وجود أمورٍ يقينية، كما أن المواجهات التي نشأت نتيجة التفتيش عن المعتقدات لم تكن بعيدةً عن التأثير في مبدأ التساهل والتسامح أيضاً.
عندما نقول بأنه لا مجال للتساهل والتسامح فيما يرتبط بالحقائق المستمدّة من الوحي فإننا لا نعني فرض الحقيقة على الآخرين بالقوّة، فليس ثمّة تعارض بين الحقانية والقبول الاختياري بالحقيقة، ومن هنا كان لابد من تهيئة الأرضية المناسبة لاعتراف الآخر بالحقيقة عن طريق الأدلة العقلية والوسائل الإقناعية وذلك نظراً لاتصال العقيدة بالعقل والقلب.
المبنى الآخر لمبدأ المداراة والتسامح عند الليبرالية هو منظومتها النظرية الأنثروبولوجية، فالرؤية الليبرالية حول الإنسان تستبعد مسألة الكمال الإنساني بحيث أن لكل إنسان الحق في العمل وفق ما يرغب به وبالتالي فمسألة العقيدة ليست من لوازم إنسانيته، وهذا ما يؤدي إلى القول بأنه لا ينبغي أن يكون هناك نوعٌ من الحساسية إزاء أي معتقدٍ خاصٍّ أو فكرةٍ معينة، لقد آمنت الليبرالية بأن الهوية الإنسانية تكمن في الحرية والميول الفردية لا في الفكر والعقيدة.
إذا عنى التساهل مجرّد تحمّل آراء الآخرين أو القيام بحوارٍ معها فإنه سيصبح ممكن القبول حينئذٍ، أما إذا اعتبرناه الحرية في إبراز أية عقيدة واللأبالية إزاء عقيدة معينة فلا يمكننا الموافقة عليه حينئذٍ، كما هو الحال لدى بعض المفكرين الغربيين اللذين يؤكدون على أن التساهل والمداراة ليسا مطلقين ولا يمكن القبول بهما كذلك، فعندما تتعارض الأصول سوف تصبح المداراة ليس فقط صعبةً بل غير مطلوبة أيضاً، وإذا أراد فريق إبادة اليهود فيما عارض الآخر المناهضة لهم فإن هذين الفريقين لا يمكنهما أبداً التوافق فيما بينهما، يكتب بلاشر فيقول: "هل إن تحمّل العقيدة وإبرازها جائز في كافة الحالات؟ إن الكثير من الخطابات يعقبها نوعٌ من الهجوم على رجال الحرس ومنازلهم، فهل يجب على الدولة أو المجتمع ممارسة المداراة إزاء الأعمال (والمقولات) التي تنجر إلى حركات غير قابلة للتحمل أو أسوأ؟"([18])، "من الناحية العملية أكثر المجتمعات مداراةً أكثرها لا هادفية، وأكثر الأفراد مداراةً هو ذاك الذي لا يملك اعتقاداً بشيءٍ أصلاً ولديه نوعٌ من النزعة التشكيكية"([19]).
وخلاصة القول ليس من الجائز عدّ تحمّل العقائد أو إبرازها مداراةً وتساهلاً، كما أن معرفة الحدّ الفاصل بين إبراز عقيدةٍ ما والعمل على وفقها ليس أمراً سهلاً دائماً، "إن محاضرةً أو خطاباً عرقياً ليس مجرّد بيانٍ للعقيدة بل هو مبادرة سياسية قوية"([20]).
يرى جون ستيورات مِل بأن الأعمال لا يصح أن تكون حرّةً بدرجة المعتقدات، وإبراز المعتقدات قد يؤدّي ضمن ظروفٍ معينةٍ إلى إيجاد سلسلةٍ من الأعمال الموجبة للتحريك والهيجان، أي أن إبراز عقيدةٍ ما قد يفضي إلى عملٍ معين.
 
أنواع التساهل
يعتبر البعض التساهل ذا أنواع أربعة هي:
أ ـ التساهل العقائدي أي التساهل فيما يتعلق بالاعتقاد بعقيدةٍ ما أو إبلاغها ونشرها.
ب ـ التساهل بالتجمّعات التي يقوم بها أصحاب العقائد المخالفة.
ج ـ التساهل في الهوية، أي التسامح فيما يرتبط بالخصوصيات غير الأخلاقية للبشر كالوطنية والجنسية والعرقية والطبقية.
د ـ التساهل السلوكي في العلاقات الاجتماعية([21]).
إذا أردنا طرح مسألة التساهل والتسامح بشكلٍ أكثر دقةً فلابد من تحليل علاقاتها بمسألة الحرية وأنواعها:
1 ـ التسامح المطلق في الفكر والمعرفة: إن الأفراد أحرارٌ فيما يتعلق بالمسائل الفكرية، ولا يمكن لأيّ شخصٍ سدّ طريق الفكر والتفكير على الإنسان، وبعبارة أخرى لا يمكن على الصعيد الفكري الحيلولة دون ممارسة الآخر للتفكير ذلك أن التفكير أمرٌ شخصيٌّ ولا يمكن النفوذ إلى الحرم الشخصي للأفراد.
إن حرية الفكر لازمة للرشد والكمال الإنساني، وهذا النوع من الحرية ليس خاصاً بالمفكّرين بل يحتاجه أي إنسانٍ بغية تحقيق الرشد والنمو لطاقاته وإمكاناته، إن ما قيل وحده من ضرورة تأمين التفكير الحر للأفراد ليس كافياً، فعلاوة على إزالة العوائق الاجتماعية لابد من تأمين الظروف التربوية والتعليمية التي تدفع الأفراد أولاً للعناية بضرورة التفكير؛ أي أن ينظروا إلى التفكير على أنه أمرٌ حياتي بالنسبة إليهم، وثانياً لإزالة كافة العقبات التي تحول دون سلوكهم طريق الرشد والنمو الفكري من قبيل الميول والأهواء النفسانية للفرد، وثالثاً للسعي للاستفادة من العوامل المهيّئة لتسامي التفكير في مسير تكامله.
من الطبيعي وجود حدودٍ وأطرٍ للحرية الفكرية وهي حدودٌ تفرض من قبل العقل والقواعد الفكرية نفسها لا من طرف الآخرين وإجبارهم، وكمثال على ذلك عدم تمكّن الإنسان من البحث حول حقيقة وجود الذات الإلهية أو حقيقة الروح ذلك أنه لا إحاطة للعقل والذهن البشري بمثل هذه الأمور، بل قد يجرّ التفكير فيها إلى الانحراف وليس فقط إلى عدم النتيجة.
2 ـ التسامح المطلق على صعيد قبول الاعتقادات: إن قبول الاعتقادات ذو جنبةٍ فرديةٍ أيضاً ولا يمكن لأي شخصٍ إجبار الآخرين على الاعتراف بعقيدة معينة، فالاعتراف بالعقيدة مرتبطٌ من جهةٍ بالعقل والتفكير الفردي كما يتصّل من جهة أخرى بالمشاعر والأحاسيس التي عنده، فما لم يستجب العقل والقلب فلن يستجيب صاحبهما لأية عقيدةٍ، إن أكثر العلماء الذين عرضنا مواقفهم من مسألة التسامح والتساهل كانوا يرون هذا المبدأ جارياً في هاتين الدائرتين، كما أننا بدورنا نعتقد بأن للأفراد حق التفكير والتأمّل ولا يمكن لأي إنسان فرض عقيدةٍ ما عليهم.
إن الشخص الذي يمارس فرض المعتقدات على الآخرين يمنح نفسه ـ من وجهة نظر مِل ـ حق اتخاذ القرارات والتدابير بالنيابة عنهم دون أن يسمح لهم بالبحث عن الأدلة المخالفة لهذه المعتقدات، وهو يكتب في هذا المجال فيقول: "عندما أقول بأن أصحاب العقيدة الفلانية يرون أنفسهم غير قابلين للخطأ فليس مقصودي أن اطمئنانهم متعلّق بصحّة العقيدة التي آمنوا بها كائنةً ما كانت، بل إنهم يمنحون أنفسهم الحقّ بفرض هذه العقيدة على الآخرين دون أن يسمحوا لهم حتى بالاستماع إلى الأدلة والوجوه التي تخالف هذه العقيدة، إنني أخطّئ هذا العمل حتى لو كان لمصلحة أقدس المعتقدات التي أراها"([22]).
3 ـ التسامح المطلق على صعيد البحث والحوار: لابد من وجود الحرية على مستوى البحث والمحاورة والمناظرة، ذلك أنه من دون ذلك سوف يتضرّر المستوى والنمو الفكري لأفراد المجتمع، كما يمكن بغية إصلاح أفكار الآخرين الدخول في حوارٍ معهم، ومن هنا لابد من التساهل والتسامح في هذه الدائرة أيضاً.
من الطبيعي أنه يلزم رعاية قواعد البحث والمحاورة مع الآخرين، فعلى سبيل المثال لابد من الأخذ بعين الاعتبار المستوى الفكري للأشخاص الذين يجري الحوار معهم، وفي الحقيقة ليس كل ذهنٍ بقادرٍ على أخذ أية حقيقةٍ من الحقائق، فهناك الكثير من المسائل غير المتناسبة والمستوى الفكري للمخاطب واستعداداته يمكنها أن تحرف مسير تفكيره عن الطريق القويم فلكل حديثٍ موضعٌ ولكل فكرةٍ مقام.
وهكذا يستدعي العقل السليم والفطرة الصافية الدخول في حوار مع الآخر بغية تنضيجه وتساميه لا الإيقاع به في الشبهات، فما أكثر أولئك الذين يقومون بإلقاء الشبهات بهدف إبراز أنفسهم وكسب الشهرة ويسمّون ذلك حريّةً للفكر والبحث والحوار في طريق الوصول إلى الحقيقة.
إنك تـرغب أن يقـال عنـك
لكـن هـدفك تضليل الخلـق
 
أيـها المضـحّي بنفسـه
لأنك في الحقيقة طامع بالألوهيّة
ما أكثر البسطاء الذين جرّوا إلى الانحراف نتيجة طلب الشهرة من جانب بعض محبّي البروز والتفاخر! وهو ما لا تملك الليبرالية علاجاً له، وهنا بالضبط تبرز أهمية الحرية الداخلية وهو ما يؤكّد أن عدم الالتزام بالأصول الثابتة للحياة الإنسانية والحرية الباطنية يجعل مما يسمّى بالحرية عدوّا لها.
4 ـ التسامح النسبي في إبراز ونشر العقيدة: وهنا لابد من الاعتراف بمحدودية حرية الأفراد، أي أنه لا يمكن القبول بالتسامح المطلق في إبراز ونشر وتبليغ العقيدة التي يعتقد بها الأفراد، بل إن المفكّرين الغربيين هم أيضاً لم يمارسوا الدفاع المطلق هنا، والاختلاف فقط ينحصر على صعيد المصاديق، أي أنه ما هي الموارد التي يجري فيها التسامح وما هي تلك التي لا يمكن الدفاع عن هذا المبدأ فيها؟
يرى جون ستيورات مِل بأنه لا يحقّ إخماد عقيدة أي شخص عن طريق القوّة والقهر، بل لا يجوز إعطاء الحرية للرأي العام لكي يخالف ظاهرة إبراز العقيدة، فإذا ما عُمد إلى إخماد عقيدة من العقائد فإن ضرر ذلك سوف يشمل كافّة الأفراد الإنسانية بما في ذلك الأجيال اللاحقة؛ ذلك أن العقيدة التي يُعمد إلى إخمادها لا تخرج عن حالةٍ من ثلاث:
أ ـ أن تكون صحيحةً وهو ما يعني حرمان الأفراد من كشف الحقيقة حينئذٍ، فما هو المبرّر الذي يقدّمه أولئك الذين يحولون دون إظهار الآخرين لمعتقداتهم على اتخاذهم قراراً من هذا القبيل بالنيابة عن كافّة أفراد البشر؟! إنّ العقيدة الصحيحة ما لم تخضع للتساؤل والاستجواب فلن يكون القبول بها حيادياً حينئذٍ.
ب ـ أن تكون هذه العقيدة خاطئةً، وهنا يكون مجرّد خنق معتقدٍ ما أمراً قبيحاً إذ بالتصادم الذي يقع بين العقائد المختلفة في المجتمع ستصبح الحقيقة أكثر حياةً ووضوحاً.
ج ـ أن تكون هذه العقيدة خليطاً من الصحة والبطلان وهنا أيضاً تكون معارضة إظهارها خطيرةً ومضرّةً، ويركّز ستيورات مِل بصورة أكبر هنا على الأفكار والعقائد التي كانت شائعةً في زمانه وأن الحقيقة لا تأتي إلى الأفراد كاملةً مكتملةً.
ما لم تقع عقيدةٌ ما في دائرة النقد والدراسة فإنها ستكون ـ من وجهة نظر مِل ـ عرضةً للاضمحلال، وبالتالي سيزول أثرها في الحياة الإنسانية على سلوك وصفات البشر، ولا يميز مِل أحياناً بين إظهار العقيدة ونشرها في المجتمع وبين الحوار والجدال معها فضرورة الدخول في حوار مع العقيدة ـ أي عقيدةٍ ـ لا مجال للنقاش فيه، وحتى المرتد يمكنه أن يخوض جدالاً مع أصحاب النظر والتخصّص، والشيء الذي لا نراه صحيحاً إنما هو نشر الكفر في المجتمع، وهو ما يؤكّد عليه جون ستيورات مِل نفسه بالرغم من كل دفاعاته عن حرية البيان والتعبير وإبداء الرأي، فهو يرى بأن إظهار العقيدة ـ ضمن ظروفٍ وأوضاعٍ اجتماعيةٍ معينةٍ ـ يمكنه أن يستدعي نوعاً من التحريك الذي يدفع إلى القيام بمجموعة أنشطةٍ تخل بالمصالح المشروعة للآخرين وفي هذه الحالة تصبح حرية إبراز العقيدة محدودةً ومقيّدةً، "إذا اقتصرت هذه المعتقدات على الانتشار في أعمدة الصحف فإن المنع عنها ليس سليماً، أمّا لو خرجت هذه العقيدة من متكلمٍ يستدعي كلامه نوعاً من التحريك أو كان نشرها عن طريق توزيع المنشورات في المجتمع فإنه لابد من تنبيه ناشر هذه العقيدة على حفظ أصول العدالة"([23]).
إن خلافنا مع جون ستيورات مِل وبقية الليبراليين إنما يختزن في المباني المعرفية والإنسانية؛ فانطلاقاً من اعتقادنا ـ على مستوى النظرية المعرفية ـ بالوحي إلى جانب كلٍّ من العقل والحسّ واعتبارنا إياه أوامر إلهية نؤكّد على هذه المسألة وهي أنه لا يجوز للبشر ردّ الوحي أو تضعيفه إذا ما كان عارياً عن التحريف، لكن البحث والحوار فيما يرتبط بالأوامر الإلهية النازلة وحياً على الأنبياء ليس أمراً محظوراً ويمكن لأولئك الذين يعتقدون بالوحي الجلوس للتحاور مع الآخرين بغية إقناعهم به عن طريق الفكر والتأمل لا القهر والإجبار، وإذا لم يوافق شخصٌ ما ولم يقتنع بهذه الأوامر الإلهية فلا يحق في أي حالٍ من الأحوال إجباره على الاعتقاد بها، لكن القضية تكمن في عدم حقٍّ للطرف المخالف للعقيدة الصحيحة في نشر معتقداته في المجتمع الديني بحيث يفضي ذلك إلى رد أو تضعيف المعتقدات السليمة.
ونختلف أيضاً مع الليبراليين في الرؤية الإنسانية؛ فلا تركيز من الجانب الليبرالي على رشد وكمال الإنسان، ويا ليت الليبراليين يقلقون على الكمال الإنساني والتسامي البشري كما يقلقون على الحرية الإنسانية، إذا وافقنا على أن الإنسان موجود ذو مبدأ ومقصد وأنّ ربّه الذي خلقه قد قدّم له طرق الوصول إلى كماله فليس من المنطقي عندئذٍ اتخاذ موقفٍ ما قبال الصراط المستقيم والعمل على الدعاية ضدّه.
نعم إن حرية التعبير وإبداء الرأي في المسائل الاجتماعية أمرٌ آخر، فليس ثمّة تحديدٍ معيّنٍ كما هو الحال على صعيد الأوامر الإلهية، فالقانون هو الذي يضع ويعين المحدّدات اللازمة هنا.
5 ـ التسامح النسبي في ممارسة العقيدة والسلوك: يرى الليبراليون بأنه لا يمكن منح الأفراد الرخصة في ممارسة وإجراء أي نوعٍ من الاعتقادات، ذلك أنه لو قبلنا بإجراء الفرد ـ أي فرد ـ عقيدته الخاصة في المجتمع فإن هذا سيفضي إلى إلحاق الضرر بحريات الآخرين، والأمثلة التي نقلناها عن بلاشر تشير إلى عدم إمكانية التسامح المطلق في دائرة الحرية في ممارسة المعتقد والسلوك، بل إن زعماء الليبرالية أنفسهم لا يتسامحون فيما يرتبط بالمصالح التي ترجع إلى مجتمعاتهم، فهم يدعون التساهل في نطاق المسائل الفكرية والنظرية فحسب، وفي الواقع فالليبراليون قائلون بالتمايز بين السلوك الشخصي والاجتماعي؛ فهم يبدون التسامح إزاء السلوك الشخصي للأفراد بما لا يفضي إلى أية آثار اجتماعية محسوسة، لكنهم لا يرون التسامح قبال سلسلة السلوكيات الاجتماعية التي تخالف القانون.
من وجهة نظر جون ستيورات مِل يُبنى سلوك الفرد في المجتمع على ركنين هما:
أ ـ أن لا يصيب الأفراد بعضهم بعضاً بأي ضرر في مصالحهم، ومصالح الأفراد إما أن يعينها القانون أو أن يتم تحديدها عن طريق التفاهم الضمني بينهم.
ب ـ يلزم على كل فرد الالتزام بتعهداته أمام المجتمع وعدم التأسّف على أي تصرّف يُعنى بحراسة حقوق الآخرين.
"يحقّ للمجتمع فرض هذه الشروط جبراً بأي ثمن على أولئك الذين يريدون رفعها عن كاهلهم"([24]).
كما أنه في الموارد التي لا تضيع الحقوق المسلّمة للأفراد فيها لكن بعض الأشخاص يقومون بعدم مراعاة الشروط اللازمة للعيش المشترك مما يؤدي إلى إلحاق الأذية برفاه وسعادة الآخرين في هذه الموارد لابد من تأديب وتنبيه هذا الشخص المخطئ لكن من خلال الرأي العام لا بحراب القانون.
ويرى "مِل" بأن العقوبات لا تنحصر بمرحلة ما بعد ارتكاب الجريمة بل "ليس المسؤول الحكومي أو الشخصي مجبراً على السكوت ووضع كفه على الأخرى إذا ما رأى وبوضوحٍ أن بعض الأشخاص يهمون بارتكاب الجريمة، وبالتالي فليس عليهم الصبر حتى تتحقّق الخيانة في الخارج بل يحقّ لهم التدخل للحيلولة دون وقوع الجريمة نفسها"([25]).
وفي الواقع يلزم على المجتمع اتخاذ التدابير الاحتياطية بغية الحيلولة دون ظهور الجريمة والجناية والمخالفة في المجتمع.
نحن نعرف بأن الليبراليين لا يؤمنون بالرقابة والضبط العقائدي، بيد أن بعضهم من أمثال كارل بوبر يؤكّد على ضرورة إعمال الرقابة والضبط في حالات الضرورة كما يصرّح بذلك فيما يرتبط بوسيلة اتصالٍ كالتلفزيون: "لقد شرعنا بتعليم أطفالنا العنف من خلال التلفزيون والأدوات الشبيهة به، لكننا بحاجةٍ مع الأسف إلى القيام بعملية رقابةٍ وضبطٍ في هذا المجال"([26]).
6 ـ التسامح النسبي في هداية الآخرين: وثمّة اختلاف في وجهات النظر بين الليبرالية والأديان الإلهية على هذا الصعيد أيضاً؛ فلا يمكن من وجهة النظر الدينية إبداء عدم المبالاة إزاء هداية وضلال الآخرين، لكن القضية عند الليبرالية مختلفةٌ فبإمكان أي شخص اختيار أي مسير يرغب فيه ولا علاقة للآخرين بالأمر فيما لو اختار طريقاً يؤدي به إلى الرشد والكمال أو لا، أمّا في الفكر الإلهي ـ وانطلاقاً من كون بني آدم أعضاءً لبعضهم البعض بحيث لو اعتلّ عضوٌ فلا يجوز لبقية الأعضاء السكون وعدم الحراك إزاء ذلك ـ فالأفراد ملزمون بتأمين الأرضيات المساعدة لكمال ورشد بعضهم البعض.
فالاختلافات بين الليبرالية والأديان الإلهية تنبع في الواقع من المنظومة المعرفية والإنسانية التي يملكانها، فلا يحقّ لأي شخصٍ ـ في المذهب الليبرالي ـ أن يشخص الرغبات والإرادات الواقعية للآخرين، فكل إنسان هو الذي يقوم بتحديد مصالحه ومنافعه بنفسه وكل فردٍ بحد ذاته هو أفضل حاكم يمكنه الحكم والقضاء في مجال معرفة حقوقه وتكاليفه، أمّا على مستوى الأديان الإلهية فلا يمكن للأفراد من دون الاستعانة بالوحي معرفة مصالحهم الواقعية ومن هنا لا يحق لهم الاعتماد على عقولهم الخاصة لاختيار طريقهم، وتعتقد الأديان بأن للعقيدة دخلٌ في إنسانية الإنسان نفسه كما تميز بين الحق والباطل وتحذر الأفراد من عدم المبالاة بهداية وضلالة أفراد البشر الآخرين، فعندما نقول بأن التسامح نسبيٌّ كما أن عدم التساهل ليس مطلقاً فهذا يعني بأن هداية الآخرين ليست أمراً فرضياً إجبارياً، فلابد من تأمين الأرضيات المساعدة على رشد وتكامل الأفراد كما يلزم التسلح بالصبر والتحمل في مسير هداية وإرشاد الآخرين.
يعتقد جون ستيورات مِل أيضاً بأنه لا يجوز أن يكون الأفراد لاأباليين إزاء سعادة بعضهم بعضاً بل لابد من السعي لكي يصبح اهتمام الناس بسعادة بعضهم البعض ـ اهتماماً غير مغرضٍ ـ أكبر وأكثر، فالشخص الذي يملك إرادة الخير للآخرين ويريد أن يجبرهم على تأمين الخير والمصلحة لهم عليه أن يستعين بالتشجيع والحث لا بالسوط والزنجير، "إن الموجودات البشرية مديونةٌ لبعضها البعض إلى الحد الذي يجب على كلٍّ منها مساعدة الآخر في تشخيص الأمر الحسن من السيئ، كما أن هذه الموجودات محتاجةٌ إلى الحث والتشجيع حتى تتمكن من اختيار الأحسن والابتعاد عن السيئ، فعلى كل منها حث الآخر على توظيف القوى الإنسانية السامية أكثر فأكثر، وسوقه نحو الأهداف العقلانية والنظم الراقية لا تضييعه في متاهات المقاصد الفارغة وغير الهادفة"([27]).
 
الأخلاق
ينظر المفكرون الليبراليون إلى الأخلاق من زاويةٍ خاصةٍ، فمع الأخذ بعين الاعتبار أصالة الفرد في هذا المذهب ولحاظه منفصلاً عن بقية الأفراد الأخرى وعن المجتمع بل التأكيد على انفصاله عن العالم أيضاً لابد وفقاً لذلك من أن يكون النظام الأخلاقي مرتكزاً هو الآخر على الفرد أيضاً، فهناك فاصلة بين الواقعية والقيمة في المذهب الليبرالي بمعنى عدم انبثاق الواجبات عن الواقعيات وعدم إمكان تكوين شبكة اتصال منطقي بين عالمي التكوين والتشريع؛ فالعلوم مرتبطةٌ بمجالٍ معينٍ فيما القيم متصلةٌ بمجالٍ آخر، ومن هنا فالعلم شيء أمّا الأخلاق فهي شيءٌ أخر أي أن القيم لا ترتبط أبداً بالواقعيات، كما أنه ليس ثمة عالم أرفع من هذا العالم حتى تُستمد القيم منه وتصدر عنه، وبعبارةٍ أخرى لا مكان في الليبرالية للإله الذي يضع القيم كما أن الحسن والسيئ ليسا مطلقين وكلّيين فالخير والشر والحسن والقبيح يملكان معنى خاصاً لدى كل فرد من الأفراد ومن هنا كانت الأخلاق ذات جوانب فردية وشخصية لا عامّة وكلّية، فالفرد نفسه هو السانّ للقيم والمعيّن للتكاليف والواجبات، ولا يحقّ لأي كيانٍ أو دينٍ أن يضع نفسه في موقع المعيّن للتكاليف والقيم، بل حتى لو كان الفرد دينياً لابد له من الرجوع إلى وجدانه الخاص واعتباره مصدراً لقيمه، وهذه التبعية لأوامر الوجدان تبقى ساريةً ما لم يكن حكمه معارضاً للاجتماع أي مانعاً من حرية الآخرين ومتعارضاً وإراداتهم، ولا تحكي الواقعيات عن الأشياء التي لابد للإنسان من فعلها أو تركها، وإذا ما اعتقد شخصٌ ما بأن الواقعيات هي التي ترشد الإنسان إلى الطريق فإنه يكون قد تورط في عملية خلطٍ بين الواقع والقيمة.
انطلاقاً من اعتقاد الليبرالية بتمظهر السلوك الإنساني من خلال الرغبات والميول البشرية يصبح الأمر الحسن هو ذاك الشيء الذي يحبه ويرغب فيه الفرد نفسه، والعكس هو الصحيح فما يتعارض مع الرغبات الإنسانية يصنّف في عداد المخالفات والقبائح، وهذا معناه أن ميول ورغبات الفرد تمثّل المعيار للحسن والقبح بالنسبة إليه، وما ذكره بعض الفلاسفة من أمثال بنتام من أن ملاك الفعل الأخلاقي هو في كونه يجرّ أكبر مقدارٍ من النفع على أكبر عددٍ من الأفراد لا يحل المشكلة ذلك أن الفرد هنا هو الذي يتخذ القرار في تحديد ما هو الأمر الجميل أولاً ومن هم الأكثرية! إذ لا يمكن لا بالقراءة النظرية ولا بالطرق العملية تعيين مقدار وحجم السعادة والحسن، فالفرد الذي يقع أسيراً لرغباته الذاتية لن يرى غير لذته ومنافعه الشخصية بل إنه في الحقيقة يطلب الآخرين من أجل نفسه إذ تشكّل ذاته بالنسبة إليه الهدف فيما الآخرون الوسيلة والأداة، كما أن الآخرين يطلبون اللذات التي يطلبها هو والحال أنه لا يسمح بتعارض سعادتهم مع منافعه ولذاته الخاصّة، هذا النظام الأخلاقي يفصل الإنسان عن بقية أبناء نوعه عندما يؤكد على الفرد ورغباته الشخصية وهو ما يفضي في نهاية المطاف إلى نوعٍ من إحساس الوحدة عند الفرد نفسه.
لكن المنطلق الآخر هو كون الإنسان مسؤولاً عن سلوكه وتصرفاته وهو ما لا يلزمه فقط بالاعتراف بالواجبات والمحرمات الدينية بل يفرض عليه عدم رمي المسؤولية عن كتفه وإحالتها إلى ذمّة الطبيعة أو التاريخ أو الآخرين.
إن كون كلّ إنسان مسؤولاً عن أعماله ولا يحق له بهدف الفرار من تحمّل هذه المسؤولية إلقاءها على الطبيعة أو المجتمع أو التاريخ أو المشيئة الإلهية كل هذا أمرٌ صحيح، لكن المسألة هنا هي أنه لو لم يكن منشأ القيم عاملاً أرفع من البشر أنفسهم أو لم تكن هناك علاقةٌ تكوينيةٌ بين القيم وإنسانية الإنسان المشتركة بين كافة الأفراد، ومن ثم ليس هناك تفسير سليم لحقيقة الإنسان فكيف يمكن تحصيل الاطمئنان بأن كلّ فرد يعمل بشكل صحيح هذا أولاً وثانياً كيف يمكن أن يعتبر نفسه مسؤولاً عن أعماله؟ هل يمكن أن يكون هناك معنى لإثارة مسألة الالتزام وتحمّل المسؤولية بالنسبة إلى شخص لا يعرف غير اللذة والميول التي تجرّ له الربح والمنافع؟

أمّا في النظام الأخلاقي الإلهي فإن الإنسان له مبدأ ومقصدٌ شخصيٌّ عليه السعي طوال حياته للوصول إلى تلك الغاية القصوى، وبعبارةٍ أخرى خلق الإنسان ـ وفق المنظور الديني ـ بهدف نيله الكمال وعليه طيّ مسيرٍ خاصٍّ طبقاً للأوامر الإلهية حتى يمكنه الوصول إلى كماله الوجودي، وسعادة الإنسان ليست سوى إيصال طاقاته الوجودية إلى مرحلة الفعلية، وهذا الأمر على خلاف التصور الليبرالي الذي لا يرى غايةً محدّدةً للإنسان ليصل إلى السعادة عندما يحصل عليها، وهذا معناه أنه ليس ثمّة معنى واضح ومحدد للسعادة في المذهب الليبرالي وإنما ترتبط سعادة كل فرد بما يريده هو نفسه، فكل فرد يمكنه أن يكون وفق ما يريد هو كما أن كل ما يريده يمكن اعتباره سعادةً له، بل يمكن لكلّ فرد أن يعين حدّه الوجودي بإرادته الحرّة ذلك أن الإنسان وفق التصور الليبرالي يمثل مركز العالم من دون أن يكون هناك حدّ معين له مسبقاً.

 

الهوامش
 


[1] – يان مكنزي وديكران، مقدمه بر ايدئولوجيهاى سياسي، ترجمه م، قائد، ص 59.
[2] – أصول روان شناسى مان، نرمان، أصول روان شناسى، ترجمة الدكتور محمد ضاعي، ص 4.
[3] – نوربرتوبوبيو، ليبراليسم ودموكراسى، ترجمة: بابك كلستان، ص 33.
[4]– روسو، جان جاك، قرار داد اجتماعي، ترجمة زيرك زاده، ص 36.
[5] – برلين، آيزايا، جهار مقاله درباره آزادى، ترجمة الدكتور محمد على موحد، ص.
[6] – م، ن، ص 71 و 239.
[7] – جهار مقاله درباره آزادى، ص 5 و 244.
[8] – جهار مقاله درباره آزادى، ص 249.
[9] – م، ن، ص 61، در جستجوى آزادى، ص 181.
[10] – جهار مقاله درباره آزادى، ص 36.
[11] – جهانبكلو، رامين، در جستجوى آزادى، ترجمة: خجسته كيا، ص 62.
[12] – م، ن، ص 182.
[13] رساله درباره آزادى، ترجمة: الدكتور جواد شيخ الإسلامي، ص 8 ـ 207.
[14] – درس اين قرن، ص 130.
[15] – جهار مقاله درباره آزادى، ص 184.
[16] – يراجع تفصيل هذه الآراء في كتاب دولت عقل، الدكتور حسين بشيريه، ص 74 – 85.
[17] – م، ن، ص 79.
[18] – ظهور وسقوط ليبراليسم، ص 101.
[19] – م، ن، ص 102.
[20] – م، ن، ص 101.
[21] – دولت عقل، ص 67 نقلاً عن P.King poloration P 74-5.
[22] – رساله درباره آزادى، ص 75.
[23] – م، ن، ص147.
[24] – رساله درباره آزادى، ص 75.
[25] – م، ن، ص 4 – 243.
[26] – كارل بوبر، درس اين قرن، ترجمة الدكتور علي بايا، ص 74.
[27] – رساله درباره آزادى، ص 173 – 194.
 
 
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً