أحدث المقالات

مقدّمة
التطرّف في حدّ نفسه ظاهرة أو حالة غير صحيّة، إنّها حالة تعيق تواصل أبناء المجتمع الواحد، وتحدث التفكّك فيه، وتهدّد السلم الأهلي. وقد ابتُليت الأمّة العربيّة والإسلاميّة عموماً بهذه الظاهرة التي نشهد لها تنامياً مطّرداً بوتائر سريعة خلال العقود الأخيرة، تنذر بالكثير من العواقب الوخيمة التي تنتظرنا في المستقبل القريب إن لم يتمّ تدارك هذا الوضع المُقلق.
وقد اتخذ التطرّف والتعصّب أوجهاً متعدّدة في عصرنا الحاضر، فمن التطرّف الديني وحالة الأصوليّة المتنامية بين الأديان، إلى التطرّف المذهبي الذي يشعل المنطقة برمّتها، إلى التطرّف السياسي الذي يعيق تواصل الجماعات السياسية ويعزّز من حالة الاستبداد والقمع، إلى التطرّف الفكري الذي يُلغي الآخر ويتعامل معه من موقع النفي والإبعاد.
وتعدّ العلاقة بين ما يسمّى بـ (التيار الديني) و (التيار العلمانيّ)، إذا صحّ التعبيران، أحد أوجه تأزّم العلاقات بين الجماعات في العالم العربي والإسلامي، تماماً كما هي العلاقة المأزومة بين العديد من المذاهب والطوائف الإسلاميّة أيضاً، فقد ظهر التطرّف على هذا الصعيد أيضاً، وشهد تنامياً كبيراً في فترةٍ قياسيّة، إلى أن بلغ في العقدين الأخيرين حدّ التصادم في أكثر من موقع وعلى أكثر من صعيد.
لا نعاني في المنطقة من أزمة علاقات بين الديانات فحسب، ولا بين المذاهب فحسب، ولا بين التيارات والقوى السياسية فحسب، بل نحن نعاني أيضاً من أزمة علاقة بين الأفكار أيضاً.
بدرونا، سوف نحاول استجلاء معالم هذه الأزمة في العلاقة بين الديني والعلماني في عالمنا العربي والإسلامي، ثم نمارس نقداً على هذه الصورة القائمة، لنخرج بمجموعة من التوصيات التي نقترحها لفضّ هذا اللون من الاشتباك في بلداننا، بغية تحقيق السلم الأهلي الراسخ، والتواصل الدائم بين شرائح المجتمع ومكوّناته الدينية والثقافية والسياسية أيضاً.
ويهمّني جداً أن أوضح منذ البداية أنّني لا أتكلّم هنا عن الدين والعلمانيّة أو عن هذا المذهب في الدين أو ذاك، من الشيعة أو السنّة أو الصوفية أو الإباضيّة أو.. بل مركز اشتغالي هنا إنّما هو العقل أو التيارات أو الجماعات المتطرّفة في الحياة الدينيّة، وفي الحياة العلمانيّة، وفي الحياة السنيّة، وفي الحياة الشيعيّة وهكذا، فاقتضى التوضيح.

مفاتيح ضروريّة
عندما نفكّر في معالم الأزمة القائمة بين الديني والعلماني، وفقاً للثنائية المطروحة اليوم، فقد لا نجد فروقاً كبيرة في الجوهر بين هذه الأزمة وسائر الأزمات التي تتجلّى فيها ظاهرة التطرّف والتعصّب في المنطقة، بمعنى أنّ جوهر المشكلة القائمة في التطرّف الديني وفي التطرّف المذهبي وفي التطرّف السياسي، هو بعينه يظهر مرّةً أخرى في التطرّف القائم في العلاقة بين الديني والعلماني، ولسنا أمام ظاهرة مختلفة في جوهرها وروحها، بل نحن أمام تجلٍّ آخر للظاهرة نفسها، وهو ما سأحاول أن أكتشف بعض معالمه في هذه الوريقات المتواضعة.
ولا أريد هنا أن أغرق في نحت أو اختيار المصطلحات، من حيث إنّ التطرّف لا يعبّر ـ في وجهة نظر ـ عن حالة سلبيّة، إنّما الحالة السلبيّة تكمن عندما يتحوّل التطرّف أو غيره إلى نوعٍ من التعصّب؛ لأنّ التطرّف هو أخذ طرف واختيار جانب من الجوانب، بينما التعصّب يأتي من العصابة التي قد توضع على العينين، فإذا اخترنا هذا التحليل اللغوي فنحن أمام مفهوم سلبي يقوم عليه أو يتخذه التعصّب، بينما لا نجد بالضرورة هذا المفهوم في التطرّف؛ لأنّ اختيار طرف من الأطراف ليس عنصراً سلبيّاً، ففي الفكر والعلوم لا يعني الاعتدال ولا الوسطية أن تختار وسطاً بين الاتجاهات وتتخلّى عمّا تراه حقّاً وصواباً، بل من حقّك ـ حيث يقودك العقل والتفكير ـ أن تختار أيَّ اتجاه، ولو كان لو قارنّاه بسائر الاتجاهات القائمة في الساحة يمثل أقصى اليمين أو أقصى اليسار، ففي قضايا العقل النظري والبحث عن الحقيقة لا توجد عمليات تفاوض بهذا المعنى، لكي يتمّ التنازل عن شيء هنا مقابل شيء هناك، بغية الوصول إلى حلول، إنّما جوهر الاعتدال والتعدّدية هو أن يسمح لكلّ طرف باختيار أفكاره مهما كانت بعيدةً عن الطرف الآخر، شرط أن تخضع العلاقة مع الآخر على أسس وسطيّة معتدلة، تؤمّن سلاماً وطنيّاً واستقراراً اجتماعيّاً وإنصافاً أخلاقيّاً وحفظاً للحقوق.
إنّما يصبح التطرّف عنصراً سلبيّاً حينما يساوي الانفصال عن المجتمع، فعندما يقوم الفكر المتطرّف بفصل ذاته عن المجتمع، محدثاً قطيعة وعزلة، فهو يبدأ بالانغلاق على ذاته، وتضعف عنده مهارة الحوار وفنّ التواصل، ليصاب في النهاية بأمراض ذهنيّة مزمنة.

التطرّف والدوغمة
ينمو التطرّف الانغلاقي في بيئة حاضنة تمثل الدوغمائية أبرز مظاهرها. تقوم الدوغمائية على مفهوم ينتج بدوره مفهوماً آخر، فالإطلاق الذي يتسم به العقل الدوغمائي لا يسمح بوجود طرف آخر في الميدان، ومن ثم فإنّ الإطلاق يساوي الوحدة. وتتجه العقلية الدوغمائيّة إلى اعتبار منظومتها الفكرية منظومة مطلقة ليست فيها نسبيّات، فالحقيقة التي تصل إليها تتسم بالإطلاق.
هذا الإطلاق يبدو واضحاً جداً في الفكر الديني؛ لأنّ حجر الزاوية في هذا الفكر يقوم على مفهوم (الله) بوصفه المطلق المتعالي، ويقوم الفكر الديني أحياناً بتنزيل سمة الإطلاق المخلوعة على الله تعالى، إلى البنى التحتية التي تشكّل أجزاء منظومته المتبقيّة، وبهذا يتمّ تأليه كلّ شيء، ويتجلّى الله في صورة البشر، حيث يصبحون آلهةً صغاراً يملكون بعض صفات الإله الكبير، وقد يقع الغلوّ في هذا الأمر عندما يعبد البشر من دون الله عبادة حقيقيّة، بينما تظهر عمليات تأليه أخرى بشكل أخفّ لتصل إلى الزعماء الدينيّين والسياسيين وغيرهم، بوصفهم أنموذج الله في الأرض. وبالتالي فإنّ العقل الديني المتطرّف يصنع مجموعة من الآلهة التي يقوم بعبادتها من دون الله بمعنى من المعاني؛ لأنّه يخلع صفة الإطلاق عليها، وهي الصفة التي لا تحمل مصداقاً حقيقيّاً شمولياً سوى في الله وحده فقط؛ لأنّه المطلق الحقيقي من جميع الجهات.
المفاهيم في العقل المتطرّف الديني أو المذهبي مطلقة، والحلول مطلقة، والأفكار دوماً مطلقة، وهذا الإطلاق قد يكون عرضيّاً يستوعب مختلف وقائع الحياة والفكر والإنسان، وقد يكون اشتداديّاً، بمعنى أنّ الفكرة نفسها تغدو مطلقة، أيّ تصل في قدرة الحقّانية التي تملكها إلى حدّ الإطلاق، فتسلب أيّ فكرةٍ مختلفة معها أدنى مراتب الصحّة والمقبوليّة والشرعيّة، وهذا هو ما ينتج مفهوم الوحدة؛ إذ ليس في البين سوى شيء واحد، هو الأنا الكبيرة المتطرّفة الحاملة لمفاهيمها ومقولاتها المطلقة.
وإذا كانت الحقيقة المطلقة موجودة في الفكر الديني والمذهبي بوصفها الأساس الذي يقوم عليه، وأنّ خطأ التطرّف الديني ـ وكذا المذهبي ـ هو في تسرية سمة الإطلاق من الله إلى ما سواه، فإنّ الفكر البشري العلماني المتطرّف يبدو لي أنّه لم يتخلّص أيضاً من هذا النهج في التفكير، رغم أنّه من الناحية النظريّة ينادي دوماً بالمرونة والنسبية والحركيّة والمتغيّر والمؤقّت وغير ذلك.
فعندما نذهب في رحلة سريعة في كتابات العديد من العلمانيين العرب المتشدّدين نجد لغةً واضحة في احتكار الحقيقة، وفي إطلاق العقل الإنساني بدل ممارسة عقلانيّةٍ نقديّة معه، والتعاطي بنَفَسٍ استعلائي مع الأفكار الأخرى. إنّ اللغة الاستعلائية ليست إلا تعبيراً عن ظاهرة الطبقيّة في الفكر، فهناك الفكر السيّد، وهناك الفكر العبد، واللغة الاستعلائية تقدّم لي صاحبها على أنّه يعتقد بأنّه يحمل فكر سادةٍ وسيادة وليس فكر عبيد، فمن النزعة الإطلاقيّة الماركسيّة إلى نهاية التاريخ، إلى كلمات المثقّف العربي عن القدر والحتميات، ذلك كلّه يشي بما نحن بصدده.
التطرّف وأزمة الحماية والهويّة
يبدو لأيّ متابع للوضع في العالم العربي والإسلامي أنّ هذا العالم يبحث عن هويّة في عصر العولمة وما بعد الحداثة. يبدو لي واضحاً جداً أنّ الشباب العربي أشبه بمن فقد ذاكرته ويسير في الطرقات تائهاً يبحث عن هويّة ليعرف نفسه من خلالها.. كذاك الذي فقد ذاكرته بحادث سَير وأضاع في الوقت عينه بطاقته الشخصيّة، فهو يجول الطرقات يبحث عنها ليعرف ذاته، وإذا لم يحصل على هويّته الأصليّة أو الحقيقيّة فإنّه سيكون مضطرّاً ـ للخلاص من العذاب ـ أن يتقمّص أيّ هوية أخرى حدّ التفاني بها والفناء، كي تلبّي حاجته للإحساس بالذات والوجود.
عندما يكون الإنسان خائفاً من المصير القادم المجهول، ويجد أنّ سفينته تسير دون إرادته، ولا يعرف أين تحطّ رحاله، فهو محتاجٌ للأمن والحماية؛ ليبثّ في نفسه الطمأنينة والراحة والسكينة، وهذا التوصيف يمكن أن ينطبق على قطاع واسع من الشباب العربي والمسلم اليوم، من أنا؟ وما هي الحلقات الاجتماعية الأقرب لي؟ ولمن أنتمي؟
في عالم لا يمكن للفرد فيه أن يحمي نفسه لوحده، لابدّ لك أن تنضوي تحت جماعة تنتمي إليها؛ فتجد الأمن والأمان معها، وتسكن نفسك وتهدأ روحك، في وضع من هذا النوع تجد نفسك مضطرّاً لأن تنتمي بطريقة حادّة وشرسة؛ إذ كلّما تعمّق الانتماء ازداد إحساس الفرد بأنّه أصبح قويّاً بالجماعة؛ لأنّ الأنا الفردية تذوب في الأنا الجماعيّة القويّة.
فعندما ينتمي المتديّن فهو ينتمي بقوّة، ويبالغ في الانتماء، ويشعر بجروح عميقة عندما تتعرّض البيئة التي انتمى إليها للنقد أو الخسارة؛ لأنّ ذلك يوهن من قوّته ويفقده الأمن والسكينة، ومعنى الانتماء بقوّة هو المبالغة في هذا الانتماء، والتشويه فيه، ووقوف النقد والمراجعة دون تقدّم، وعدم السماح بالآخر؛ لأنّه سوف يتمّ الشعور بأنّ الآخر يريد القضاء عليّ، فعندما تتشابك هذه الأمور مع بعضها يظهر التطرّف الحادّ، ويكون الهروب إلى الأمام أيضاً. ويتمّ تصوير كلّ الخلافات على أنّها معارك وجود، ومن ثم فمن الطبيعي أنّ الأنا المدافعة عن نفسها سوف تفني الآخرين لتبقى في عالم يقوم على صراع البقاء. وإفناء الآخرين يكون في هذه الحالة مادياً أو معنويّاً، ومن أكبر وسائل التصفية المعنوية في الثقافة الدينية والمذهبيّة هو سياسة التكفير والإخراج من الدين؛ لأنّ التكفير والتبديع و.. يدمّران الحماية الاجتماعيّة للطرف الآخر ويفتتان كلّ عناصر حصانته، ويقومان بتعريته تماماً؛ ليفرّ إلى مكان آخر يركن إليه، وبالتالي تخلو الساحة للفكر المتطرّف بهذه الطريقة.
الأمر عينه نجده في الوسط العلماني في العالم العربي؛ فكلّما تعمّق الانتماء ازداد الهروب إلى الأمام، وبالتالي يصبح العلماني مضطرّاً لتصفية حسابه مع كلّ القيم القائمة في المجتمع، بما فيها القيم الدينية المجمع عليها أو تلك التي لا ضرر فيها حتى من وجهة نظره؛ لأنّ الطرف الآخر يعتاش ويعيش على هذه القيم؛ فلكي أتمكّن من إلغائه يلزمني أن أصفّي حسابي مع القيم نفسها التي بنى عرشه عليها، وبذلك يورّط العلماني المتطرّف نفسه في صراع مع الدين يتسم بالعنف والحدّة والتعالي؛ وربما يكون في حقيقة أمره إنّما يصارع التطرّف الديني القائم الذي يتخذ من الموروث الديني مصدره الأساس للتغذية المتواصلة.
إنّ انتماء المتطرّف العلماني لعلمانيّته يُشعره بالنزعة الإطلاقيّة التي تفقده قدرة التنسيق والتواصل مع الآخرين، ولهذا قد يصل به الحال أن يحمي نفسه بالارتماء في أحضان الأمم الأخرى التي تمثل ملاذ العلمانيّة في العالم.

التطرّف والتغذية المتبادلة
قد لا يشعر بعضنا بأنّ التطرّف الديني يعتاش وينتشي بالتطرّف العلماني في العالم العربي، كما أنّ التطرّف العلماني يزداد إحساسه بالنشوة كلّما تنامى التطرّف الديني وازداد إفراطاً، وأعني بذلك أنّ المتطرّفين عادةً يهمّهم دوماً تظهير المتطرّفين في الطرف الآخر، ولا يشعرون بأيّ ارتياح لتعويم معتدلي الفريق الآخر، فرغم عداوة متطرّفي الطرفين لبعضهما، إلا أنّهم يجدون وجود الآخر المتطرّف ذريعة قويّة لتبرير وجودهم في مجتمعاتهم ومحيطهم.
هذا الأمر نفسه وجدناه في صراع المذاهب مع بعضها في العالم الإسلامي، ونجده أيضاً في صراع العلمانيّة والدين في العالم العربي على بعض الصعد، فكلّما ازداد العلماني المتطرّف نقداً للدين وسخريةً به واستهزاء وتعالياً ليمسّ المقدّسات الدينية الأشدّ حرمةً، عزّز المتطرّف الديني موقعه في الوسط الديني عموماً، متخذاً التطرّف العلماني ذريعة، والعكس هو الصحيح؛ فكلّما ازداد التطرف الديني والإرهاب المنتسب للدين، عزّز العلماني المتطرّف موقعه، وبرّر مواقفه المتشدّدة من الدين كلّه.
وما يلفت النظر في هذا السياق أنّ كلّ فريق من الطرفين المتعصّبين يسعى دوماً لإقناع جمهوره بأنّه لا يوجد في الفريق الآخر تيار معتدل أساساً، فحقيقة التديّن هي ما نراه من تديّن إرهابي عنفي هنا أو هناك، وأمّا التديّن الإنساني المعتدل فلا وجود له، وإنّما هو صورة قناع مزيّف لذاك التديّن العنفي عينه، هذا شيء رأيناه مراراً في الخطاب العلماني المتطرّف اليوم. والأمر عينه نجده في صراع المذاهب مع بعضها، فالشيعي المتطرّف قد يشعر بحرج كلّما رأى حبّ أهل البيت النبوي شائعاً في أهل السنّة؛ فيما يشعر بارتياح عندما يجد العكس في بعضهم، وهكذا لا يُبدي السنّي المتطرّف ارتياحاً أحياناً لوجود تشيّع معتدل يتخذ موقفاً مقبولاً من الصحابة؛ لأنّه يرغب في تقديم التشيّع لوحةً واحدة متطرّفة من وجهة نظره.. هذه الظاهرة خطيرة جدّاً، وتبدّد أيّ إمكانية في التواصل، وفي الوصول إلى تفاهم مشترك بين التيارات أو المذاهب القائمة.

صراع السلطة ودوره في تغذية التطرّف
لا يغيب عنّا أنّ أحد الأسباب الرئيسة لانتشار التعصّب بشكلَيه: الديني والعلماني، هو الصراع على السلطة بينهما في العالم العربي والإسلامي، وهو ما رأيناه بشكل واضح بعد عام 2010م، إنّ الصراع على السلطة يغذّي ـ عندما لا يكون ضمن حالة صحيّة وديمقراطية سليمة ـ ثقافة التعصّب والتشدّد والعنف، لاسيما عندما يؤمن الفريقان بأنّ مفتاح الخلاص هو في وصول كلّ واحد منهما إلى السلطة وتمكّنه من نشر قناعاته وإنفاذها في المجتمع.
وفي مجتمعاتٍ لا تعرف النسبيّة في التمثيل، يغدو من البديهي أن يتمّ احتكار السلطة؛ فالديني المتعصّب يسعى بكل ما اُوتي من قوّة لحذف الطرف الآخر من الوجود بأيّ طريقةٍ كان، فيما يسعى العلماني المتطرّف لفعل ذلك أيضاً. ويقدّم كلّ فريق من الطرفين الفريق الآخر على أنّه السبب الحصري والوحيد لتراجع أحوال الأمّة العربيّة والإسلامية، الأمر الذي يبرّر له إلغاءه من الوجود، وتحويله من صديق إلى عدوّ، أو إلى ما يشبه الغدّة السرطانية التي يجب استئصالها تماماً. فهذا النوع من التفكير ـ في ظلّ صراع على السلطة ـ لا يُنتج سوى غياب الروح الديمقراطيّة في مختلف مرافق الحياة، ومنها المجال السياسي.
إنّ السلطة هنا لا تقف عند السلطة السياسيّة، بل تمتدّ للسلطة الثقافية والإعلاميّة والاجتماعية، بل حتى لمفهوم السلطة على العالم الإسلامي وتزعّمه أيضاً؛ فكلّ متطرّف ديني أو علماني أو مذهبي يسعى للإمساك بقلوب الجماهير وعقولها بأيّ طريقة حصل له ذلك، ويعتبر أنّ الصراع مع الطرف الآخر غير شريف ولا تحكمه قواعد الأخلاق الديمقراطيّة في الخلاف؛ لأنّ الآخر قد تمّ سلب الصفات الاعتباريّة عنه، بمعنى أنّه لم يعد يحظى ـ من وجهة نظر المتعصّب المتطرّف ـ بأيّ شرعيّة، فالعلماني هو ملحد فاسق مبتدع مارق عند المتطرّف الديني، وهذا لوحده كافٍ في سلبه حقّ الوجود في الحياة تماماً على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، والمتديّن إرهابي متخلّف رجعي نكوصي ماضويّ تعطيلي عند المتعصّب العلماني، وهذه التوصيفات كفيلة لوحدها في سلبه حقّ الإمساك بالسلطة السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الثقافية أو غير ذلك، وهكذا الحال في التعصّب المذهبي حيث يصبح الآخر المذهبي مبتدعاً مخالفاً للسنّة الشريفة منكراً لصريح الكتاب متعسّفاً في فهم الدين.. فما دامت هذه الرؤية موجودة، في ظلّ صراع سلطوي، فإنّها سوف تشتدّ لتبلغ أعنف مراحلها في لحظةٍ ما، وستنتج العنف بأشكاله المتعدّدة.
قد لا نجد فرقاً في هذه الحال بين التعصّب العلماني والتعصّب الديني والتعصّب المذهبي سوى في أنّ هذا التعصّب له لحية أو يرتدي حجاباً أو عباءة، فيما الآخر تعصّب يكشف الجسد أو يكون من دون لحية، وتغيّر مفردات النبذ والإقصاء وغياب الديمقراطيّة لا يضرّ في أصل وجود حالة التعصّب، بمعنى أنّ غياب مفردة التكفير لا يعني أنّ العلماني المتطرّف لم يعد ظاهرة سلبيّة في المجتمع العربي وحالة مضرّة بتنمية هذا المجتمع ورقيّه؛ لأنّ المفردة البديلة جاهزة ما دام المفهوم واحداً وما دامت الروح واحدةً وما دام نهج التفكير واحداً. فليس للتعصب مفردات خاصّة، وإنّما يبتكر مفرداته ومفاهيمه تبعاً للفضاء الذي يحيا فيه، فيستغلّ الفضاء المعرفي والثقافي الذي يحيا فيه ليُنتج منه مفرداته تبعاً له، مثل التكفير في مقابل الرجعيّة والظلامية، وغير ذلك.
المطلوب منّا ليس توحيد مفردات التعصّب وحصرها، بل اكتشاف الحالة القائمة في التعصّب، للبحث عنها في هذه المفردات هنا أو هناك.
وما يلفت النظر أنّ الصراع المذهبي، والصراع العلماني الديني، ثمّة ما يثير فيهما ليطرح علينا هذا التساؤل: من هو المستفيد من حالة الصراع المذهبي أو الفكري في العالم العربي والإسلامي اليوم؟ هل يمكن أن يكون قد اُريد لنا جميعاً أن نشتغل ببعضنا، فيشتغل العلماني بالديني، والسنّي بالشيعي، والعكس، كي تتحقّق مصالح فريق ثالث مختلف عن الجميع، فيما يحسِب المتصارعون ويظنّون أنّهم يمارسون نضالاً مقدّساً من أجل الحقيقة، ومن أجل الإنسان، وفي سبيل الله؟! ماذا جنت هذه الصراعات (وليس الحوارات والاختلافات الفكريّة) اليوم سوى تمزيق اللحمة الوطنية في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، وتفتيت الدول القطريّة، وانكشاف مجتمعاتنا وأوطاننا للخارج انكشافاً جليّاً حتى بلغ في بعض المواقع حدّ الانكشاف الأمني الفاحش؟! أظنّ أنّ الأمر يستحقّ أن نفكّر في المستفيد الأكبر قبل أن نغرق في وهم المستفيد الأصغر.

هل يمكن الإيمان بوجود الله والإنسان معاً؟ (حقّ الله وحقّ الناس)
تعاني حياتنا المعرفيّة من ثنائيّة تفرض علينا قهراً اختيار أحد السبيلين، رغم أنّه بالإمكان اختيارهما معاً، ففي العلمانيّة المتطرّفة يتراجع حضور الله بوصفه مرجعاً روحيّاً أو عقديّاً أو تشريعيّاً، فيما في التعصّب الديني يتراجع حضور الإنسان! لماذا يجب تغييب أحد الطرفين كي ننتمي إلى الآخر؟ الأمر عينه نجده في الانتماءات المذهبيّة، فإذا انتميت لمذهبٍ ما فأنت لا تستطيع أن توافق المذهب الآخر في مبدأ فكري معيّن؛ لأنّ هذا الأمر يصيّرك التقاطيّاً أو فاقداً للهويّة!
دعوني أتوقّف قليلاً عند الشقّ المتصل بالقضيّة الدينية والعلمانيّة، فهنا يكمن سؤال ضروري: هل أنا مضطرّ لتغييب الإنسان كي اُحضر الله سبحانه في الحياة؟ وهل حقّاً أنا مضطرّ لتغييب الله كي اُعيد للإنسان اعتباره؟
إنّ الثقافة المتعصّبة للحالة الدينية والحالة العلمانيّة تضعنا أمام مفترق طرق، وكأنّها تُلزمنا بتغييب أحد الطرفين، وهنا تكمن المشكلة، فيما المطلوب هو الجمع بينهما، أو الإقرار بإمكان الجمع على الأقلّ، فالله حقّ والإنسان حقّ أيضاً، والله قيمة مقدّسة والإنسان كذلك، هل حقّاً لا يمكن إنتاج فهم ديني يحترم الطرفين معاً؟ وهل حقّاً لا تستطيع العلمانيّة أن تعيش إلا بغياب الله تماماً؟ وهل من الصواب أن نفهم الانتماء لله تنكّراً للإنسان وكفراً به وجحوداً؟!
تكمن مشكلة العقليّة المتعصّبة في أنّها تحدّد بصرامة هويّة الإنسان المتعصّب، لتجعلها ذات لون واحد تماماً، وهذا ما يعني أنّك مضطرّ دوماً للتمايز، وبهذه الطريقة تهدر القيم المشتركة مع الآخرين أو تضمر أو تتراجع لصالح القيم المميِّزة، ولهذا تفضّل التيارات المتعصّبة في المذاهب الدينيّة هويّتها المذهبية أحياناً على هويّتها الإسلاميّة؛ لأنّ الهويّة المذهبيّة تبدي الخصوصيّة فيما الهويّة الإسلاميّة تبدي المشتركات، ولعلّ في ذلك نوعاً من الأنانيّة بحسب المنظور الأخلاقي.
إنّنا نعتقد بأنّه من الممكن جداً أن يعيش الإنسان مع الله، دون افتعال مشكلة بينهما، تضطرّنا لتغييب أحدهما لصالح الآخر؛ والتراث الديني مع التراث العلماني غنيّان بالتجارب التي تحمل ثقافة الجمع والتوفيق، فالإنسان يحيا بالله، بعد أن يذوب فيه، ويصحو به بعد أن يفنى فيه، ويصبح إنساناً كاملاً بعد أن يعبده، إنّه المخلوق المكرّم.. هذه أصول النزعة الروحيّة في التراث الديني للديانات عامّة، وعلينا الاشتغال على إحلال هذه القيم الروحيّة بدل تحويل الدين إلى مجموعة طقوس جافّة مكرورة تضحّي بمضمونها الأخلاقي والبنائي، لتتخذ مضموناً أقرب إلى العادة منه إلى العبادة. إنّ هذه القيم الدينية الروحية العالية تسمح لنا حتى بولادة الدين العالمي ـ على حدّ تعبير كانط ـ القادر على تخطّي الهويات المختلفة في بعض امتداداته.
وأيضاً الله قيمة مقدّسة يمكنها أن تساعد على إحلال وترسيخ القيم الأخلاقيّة في المجتمع، لاسيما تلك المجتمعات التي تمثل قضيّة الله جوهر هويّتها الوطنية والثقافية والاجتماعيّة، فلسنا بحاجة لافتعال مشكلة، وإن كانت تنحية الصورة الإشكاليّة المفتعلة بين الله والإنسان في العقل الديني والعلماني المتعصّبَين، أمرٌ يحتاج لجهد تنظيري كبير وقراءات اجتهاديّة جريئة وعميقة، يمكنها أن تحرّرنا من رواسب العلاقة المأزومة المفتعلة بين الله والإنسان في بعض الفهوم الدينية والعلمانيّة.
عندما تنتهي الأهداف عند هدف واحد!
يدعو التعصّب عامّة إلى التعامي عن أيّ مشكلة أخرى في الحياة، ومحاولة حصر المشاكل في الطرف المنافس المختلف معه، لاسيما المنافس السلطوي بالمعنى العام للكلمة، وهذا ما يعزّز بالتدريج في عقل المتعصّبين ثقافة تحميل كلّ سلبيات الواقع القائم في المجتمع العربي والإسلامي لفريقٍ بعينه، ومحاولة التطهّر من أيّ من هذه السلبيات؛ فعند المتعصّب العلماني تتحمّل الحالة الدينية مسؤوليّة الفشل الاقتصادي والتردّي الاجتماعي والهزائم العسكريّة والتراجع الحضاري وانتشار الأميّة والجهل، ومن ثمّ فوظيفة العلمانية اليوم هي ـ فقط وفقط ـ معاداة الدين وتصفية الحالة الدينيّة المسؤولة عن كلّ الفشل القائم، فيما يعتبر المتعصّب الديني أنّ هذا كلّه إنما جاء نتيجة التوجّه نحو العلمانيّة واتّباع الغرب واللهث خلف المصالح الدنيويّة وغير ذلك.
يميل التفكير المتعصّب عامّةً لتطهير نفسه من أيّ مسؤوليّة أو إدانة، وتحميل الطرف الآخر كلّ الإدانات، وهذه الآليّة وجدناها واضحة في الخلاف العلماني الديني بمظاهره المتعصّبة في العالم العربي والإسلامي، فلأنّ المتعصّب لا يقبل النقد، ولأنّ ثقافة التعصّب ترى في فكر الذات عصمةً وتعالياً وتسامياً ونوراً وهدى وبصيرة، لهذا من الصعب أن يُعيد المتعصّب نظره نحو ذاته لتحميلها ولو بعض المسؤوليّات أو توجيه العتاب أو اللوم لها، فضلاً عن إدانتها، فيضع كلّ الأزمات في الفريق الآخر، ولهذا عندما ينجح أحد الفريقين في تصفية حسابه مع الآخر أو يقوم بإلغائه تماماً من الساحة الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، يفترض تلقائيّاً أنّ الامور سوف تتحسّن، وأنّ الأمّة ستأكل من فوقها ومن تحت أرجلها، وإذ به يتفاجأ أنّ شيئاً أساسيّاً لم يتغيّر؛ ليس ذلك لأنّ الآخر لم يكن شريكاً في تخلّف الأمور والأوضاع، بل لأنّ الذات كانت شريكةً أيضاً، وثقافة التعصّب تلغي دائماً ـ بحصرها مشاكل العصر بالآخر ـ إمكانية تحمّل الذات أيّ مسؤوليّة، وعندما لا يتمّ اكتشاف تمام منابع المشكلة فإنّ سدّ منبع واحد مفترض لن يؤدّي إلى تلاشيها بالضرورة.

خطوات أوّليّة في طريق الحلّ
توجد سبل كثيرة لفضّ الاشتباك القائم بين العلمانية والدينية في العالم العربي والإسلامي، وربما يمكنني الحديث عن بعضها بنحو الإشارة فقط:
1 ـ البدء بحوار منتج وبنّاء وشفاف وواضح، يقوم على مبادرة الوسطيّين من الطرفين للتلاقي، بُغية تبادل الأفكار، والتفاوض على قواسم مشتركة، وعلى مساحات حريّة محدّدة، ويكون هذا الحوار مستعدّاً للخضوع لقوانين التفاوض، من التنازل عن بعض الأمور هنا وهناك؛ لفضّ الاشتباك القائم المعيق لنهوض الأمّة العربيّة والإسلاميّة.
وأصل أصول هذا الحوار هو تعرّف الأطراف المذهبيّة، وكذا الطرف العلماني والديني، على بعضها بعضاً، بشكل واضح وصحيح؛ فالجهل بالآخر أحد أركان التعصّب تجاهه في بعض الأحيان، تماماً كما هو الجهل عامّة سببٌ رئيس لظهور التعصّب في المجتمع، وكلّما تمكّنّا من فهم الآخر ووعيه عن قرب وضمن حالة تماس إيجابي مباشر كان ذلك أفعل في خلق حياة حواريّة صحيّة معه.
2 ـ يسبق هذا الحوار اعترافٌ حقيقي بالطرف الآخر، بوصفه حالة قائمة فعليّة وحقيقيّة في الوطن العربي والإسلامي، ذات تجربة يمكن الاستفادة من بعض جوانبها وأفكارها، ومن ثمّ فالحوار ليس وسيلة لتضييع الوقت أو كسبه، ولا هو بالتكتيك المرحلي الذي يُراد الحصول من ورائه على شيء آخر غيره، وإنّما هو مشروع استراتيجي حقيقي جادّ للإمساك بكلّ التيارات القادرة على التأثير بغية خلق مرحلة جديدة.
3 ـ إنّ اعتراف كلّ فريق بالآخر وخوضه حواراً معه، يستدعي قيام المعتدلين من الطرفين بممارسة نقد ذاتي، بل وتعميم ثقافة النقد الذاتي، فكلّما سعينا لممارسة نقد ذاتي ونشرنا ثقافة النقد الذاتي بين الدينيّين والعلمانيّين أنفسهم، تراجعت حالة التعصّب تجاه الآخر؛ لأنّ رواج روح النقد الذاتي سيفضي إلى اقتلاع روح التعصّب التي تبدو في الأحادية والإطلاق، ورفضّ الشك، والاستعلاء، وبناء الحواجز، والشعور بالنرجسيّة وغير ذلك. بل قد تفضي حالات النقد الذاتي إلى مشاريع مراجعة أو إعادة نظر، بل إلى مؤتمرات مراجعة حقيقيّة، تضيّق الفرصة أمام المتعصّبين داخل الفريقين.
ومن رحم النقد الذاتي، تأتي دعوتنا لتجديد الخطاب الديني، والخطاب المذهبي، وهي دعوة قديمة معروفة، لكنّ دعوتنا الأخرى التي نرفقها بهذه الدعوة هي لتجديد الخطاب العلماني في العالم العربي والإسلامي، فهذا الخطاب مطالبٌ أيضاً بنقد ذاته وتجديدها ومراجعتها، وبتجديد الخطابات وبُنياتها التحتيّة يمكن أن ننفتح على مستوى آخر، ونتطلّع نحو اُفقٍ جديد إن شاء الله.
4 ـ يعني هذا الأمر ـ ببنوده الثلاثة المتقدّمة ـ أنّ على كلّ فريق أن يروّج داخل جماعته لثقافة تفهّم هواجس الآخرين تجاهنا، وليس فقط ثقافة تعميق هواجسنا تجاه الآخرين، ففي هذه الحال تعمّ روح حُسن الظنّ بدل روح سوء الظنّ بالآخرين.
5 ـ القيام بمؤتمرات وملتقيات (وألوان تواصل أخرى) تتناول أهمّ قضايا العصر في العالم العربي والإسلامي، وتعمل على مشاركة الفريقين معاً فيها، ففي قضايا التنمية والاقتصاد والتربية والتعليم والطبقية والفساد والاستبداد وقضايا الأمّة الكبرى وغير ذلك يلزم أن يشارك العلمانيون والمتدينون معاً ـ وكذا أبناء المذاهب الدينيّة المختلفة في أوطانهم ـ في التفكير لمعالجة هذه القضايا في ملتقيات أو مؤتمرات مشتركة أو.. وتأثير هذه القضيّة مهم جداً؛ لأنّه يخلق شعوراً عميقاً بأنّ الآخر شريك في الإصلاح، ويحمل همّ الأمّة، بدل الشعور بأنّه أحد أركان الفساد نفسه فيها.
6 ـ إطلاق مشاريع المصالحة في أكثر من بلد عربي ومسلم بين العلمانية والدينيّة، كما بين المذاهب، ولا نقصد من المصالحة اعتراف الديني بالفكر العلماني قهراً، ولا العكس، بل بمعنى اعترافه بالعلمانيّين ضرورةً، بوصفهم بشرٌ لهم الحقّ في الحياة والتفكير والمشاركة والقرار، ويحملون في تجربتهم عناصر نافعة ومنتجة وصالحة، والعكس صحيح تماماً.
ومن بنود أو الفضاءات الحاضنة لمشاريع المصالحة، السعيُ لوقف الحملات الإعلامية المتبادلة ـ وليس الحوارات الفكريّة في القضايا الخلافيّة ـ وتخفيف حدّة الاحتقان بين الطرفين، وتجفيف منابع التطرّف داخل كلّ فريق.
إنّنا نتطلّع لليوم الذي ندير فيه اختلافاتنا بجدارة، ولا نلغيها؛ لأنّ مشكلتنا ـ كما قلنا مراراً ـ ليست في أنّنا نختلف، بل هذه قوّتنا، إنّما مشكلتنا في أنّنا لا نعرف أو لا نجيد إدارة اختلافنا في الحياة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً