أحدث المقالات

إشكاليات مشروع الوحدة وهامش التطبيق

إيمان شمس الدين

موضوع الوحدة من المواضيع التي أخذت أبعادا ودراسات وأبحاثا متعددة وعقد لأجلها الكثير من الندوات والمؤتمرات ورفعت الشعارات بل لم يكتف البعض بالشعارات وتعداها إلى التطبيق العملاني لبعض النظريات التي نهضت من رحم الواقع كما نشاهد ذلك جليا في لبنان وبعض الدول الاخرى.

ولكن لو قمنا بعمل مسح تاريخي لموضوعة الوحدة لوجدناها ذات جذور تاريخية ضاربة تعود إلى عهد الخلافة الراشدة وكان أول من نظر لها هو الإمام علي عليه السلام من جهة حيث سلم وأعلن تسليمه طالما أن أمور المسلمين سالمة ومن جهة أخرى لجوء الخلفاء إلى الإمام علي عليه والسلام ومشاورته بل الاخذ بالكثير من آرائه وتنفيذها وإمضائها حتى قيل لولا علي لهلك عمر.

هذه الأجواء الوحدوية التي كان مقصدها حفظ بيضة المسلمين كانت متوافقة ومتناغمة بين شعاراتها وواقعها المعاش العملي وترجمت بشكل تلقائي عاد بالنفع إلى حد كبير على واقع المسلمين.

وعندما نرى واقعنا الراهن ومقارنته مع الكم الهائل من النظريات والمؤتمرات والندوات التي عقدت لأجل الوحدة فإننا سنقف مدهوشين للفجوة القوية والعميقة بين هذا الكم الهائل تاريخيا وتنظيريا وبين واقع الامة الإسلامية الراهن الذي فتكت به الأمراض المذهبية والطائفية ونخرت عظمه حتى فتتته أو كادت تفعل.

إلا أننا من باب الإنصاف لا ننكر أبدا المحاولات الجريئة التي حققت نجاحا مهما على أرض الواقع رغم كل الظروف المحيطة بهذا المشروع الكبير.

ولعل الأسباب كثيرة في ذلك أهمها:

1.المصطلح ومدلولاته:فمصطلح الوحدة متلبس بمدلولات تصرف ذهن النخب وعامة الناس إلى الاندماج والذوبان لا التلاقي والتعدد والتقريب.وأعتقد أن إعادة بناء المصطلح ومدلولاته قد يعود بالنفع على تأثيرات المشروع في راهن الامة وذهنيتها ولعل بعض المصطلحات البديلة التي تم اقتراحها هي التعددية والتقريب وليس بالضرورة من وجهة نظري استبدال المصطلح بقدر ضرورية توضيح مدلولاته في ذهنية النخب والمثقفين وبالتالي الجماهير.

2.اقتصار النظريات والتفاعل في هذا المشروع على مستوى النخب والعلماء وعدم ترشحها من التركيز الأعلى إلى التركيز الأدني رغم أن النظرية الكيميائية تقتضي أن التبادل الاسموزي يكون عبرالخلية حينما يختلف تركيز الأملاح بين داخلها وخارجها فتنتقل الاملاح من التركيز الاعلى إلى التركيز الادني ليتساوى منسوب الاملاح بين جداري الخلية ويتم تبادل المنفعة وهي نوع من التفكر في خلق الله تعالى يدفعنا إلى الاستفادة منه في منظومتنا الحياتية والفكرية فتنتقل نتاجات هذه النظريات وهذه المؤتمرات من التركيز الاعلى إلى التركيز الادنى لأن فاعلية تلك النظريات وأهميتها تكمن في تركيزها في ذهنية الجماهير التي تعتبر الساحة العملانية لتطبيق هذه النظريات والرؤى الوحدوية أما بقاؤها في طبقة علمية معينة فإنه لن يجدي نفعا ولن نستطيع النهوض الحقيقي بالامة نحو مشروع الوحدة والتقريب الذي سيذلل عقبات كبيرة وسينهض بالكثير من واقعنا الراهن.

3.الخلط الواضح بين الوحدة والاندماج وعدم التمييز بين مراتب الوحدة وكيفية تطبيقاتها العملية.

فالوحدة لا تعني أن يصبح السني شيعي أو بالعكس بل هي تعني الوقوف على الأرضيات المشتركة الكثيرة بيننا وعدم التعصب في ما نختلف به على أساس حجج علمية واضحة تعتبر حجة ودليل قائم على صاحبها فقط إن لم تثبت للفريق الآخر فالهدف هو أن نتلاحم من خلال التقريب والتعدد الصحي لا أن يغير أحدنا الآخر وفهم هذا الهدف بشكل تفسي عميق وأخذه في الاعتبار في قبلياتنا الفكرية ودوافعنا نحو الوحدة يشكل عامل كبير في انفتاح الحوارات وتقبلها بين الأطراف كافة. إضافة إلى أن هناك مراتب متعددة للوحدة او مصاديق متنوعة يجب أن نفرق فيها بين الوحدة على المستوى السياسي والاقليمي والوحدة على المستوى المعرفي وأخرى الاقتصادي وغيرها,إضافة إلى اهمية تحديد الأولويات في مشروع الوحدة حيث يتم الخلط الحقيقي بين أولوية الوحدة بين المذاهب وأولوية الوحدة بين الأديان مع أن لكل مقام مقال,كما انه يتم الخلط بين الأولوية المذهبية والأولوية الطائفية,أو أولوية الامة الاسلامية على أولويات مذهبية وطائفية أخرى.

4.تصدي غير المتخصصين في النقاشات العلمية أدى إلى بروز كثير من مدعي العلم باسم مذاهبهم حيث ساهموا في تشويه كثير من المبتنيات العقائدية والفكرية للفريق الآخر وحيث أن الاعلام لعب دورا في إبرازهم وفتح لهم فضاءاته كلها ادى ذلك إلى إضعاف مشروع الوحدة الحقيقي وإحراج المنتمين لهذا المشروع من كافة الاطراف وهو ما لمسناه جليا في قضية الشيخ القرضاوي والمد الشيعي.

5.التبشير السني والشيعي على المستوى المذهبي والمسيحي والاسلامي على المستوى الطائفي والاستغلال المادي.

وهي عملية مخالفة تماما لمشروع الوحدة الذي يعتبر ويعتد بحرية الفرد في اعتناق ما يراه بالدليل طريقا للحق.تماشيا مع الآية الكريمة لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.

فمن العدالة بمكان أن يطرح صاحب الفكر التبشيري إن أراد أن يبشر بمذهبه أو ديانته أو يطلق العنان للمتلقي لكي يبحث بموضوعية تامة عن الحق دون تأثيرات مادية أو معنوية من الآخر أو حتى دون توجيه لان مسألة العقيدة هي من المسائل الدقيقة التي يجب أن يمتلكها العقل عن طريق البحث والتمحيص الدقيق بكل ما يتوفر من إمكانات ووسائل ضمن دائرة حدود وطاقات المكلف العقلية والمادية.وما يحدث من السنة والشيعة عكس ذلك في أغلب الاحيان حيث يتم التبشير بطريقة موجه ومدروسة دون إعطاء الآخر فرصة للتفكير في الفضاءات الحرة بل قد يكون في بعض الاحيان التبشير بالأموال حيث يتم استغلال فقر كثير من المناطق فيعمد المبشرون إلى بناء تلك المناطق ورفدها ماديا وفكريا وعقديا بشكل متوازي وبطريقة ذكية تؤثر بشكل مباشر على عواطف وإحساسات الناس مما يميل بهم إلى تبني تلك العقائد دون تمحيص بل على أساس العواطف والاحاسيس.علما أن إعمال العقل في هذه المسألة هو من الضروريات والبديهيات التي يجب أن يعمل بها كي يتم تحصيل العقيدة بطريقة عقلية تعمد إلى الدليل والحجة والبرهان لا إلى العاطفة والاستغلال.

4.سلطة العوام وهي سلطة الجماهير على النخب المثقفة وهي سلطة تمس بواقع النخب الاجتماعية وواقعهم السياسي ومستقبلهم العلمي.

فالقاعدة العامة الصحيحة هو أن يرتقي العالم والمثقف وترتقي النخب بالجماهير لأجل جلاء الحقيقة وارتقاء الوعي حيث أن أحد أهم وظيفة النخب هو أن “أعلمكم كي لا تجهلوا” إلا أن الواقع للأسف الشديد هو رضوخ النخب لثقافة العوام السطحية التي تميل إلى الشعارات العاطفية والتدين التقليدي المختلط بالتراث الذي مع تقادمه حمل هالة التقديس وأصبح دينيا بامتياز.ولأن العوام لهم سلطة اجتماعية مؤثرة فإن أي نخبة ستكون حريصة على الحفاظ على موقعها الاجتماعي الفاعل وعدم الدخول خوفا فيما يؤثر على هذه الموقعية.لأن ذلك سيمس واقعهم العلمي ويسقطه ويؤثر على وضعهم السياسي والاقتصادي وسيضر بمصالحهم الشخصية الذاتية.وبالطبع لسنا نبرر رضوخ النخب لذلك ولكننا بصدد العرض إذ أننا نؤمن أن النخبة عليها أن تضحي بمصلحتها لأجل جلاء الحقيقة ولكن عليها أيضا أن تكون حكيمة في طرح الحقائق حتى لا يضر اندفاعها الغير ممنهج بالحقيقة نفسها بحيث تراعي بين فاعلية الفاعل وقابلية القابل.

5.الاستبداد السياسي والديني:وللأسف آفة الاستبداد بمصداقيه هي آفة منتشرة ومتجذرة في تاريخ الأمة الإسلامية ولازالت تعاني منها الأمة باختلاف نسبة الاستبداد من جيل إلى جيل ومن زمن إلى زمن.

ولعل ارتباط كثير من النخب بالدولة والتي غالبا ما تحمل فكر استبدادي من جهة أو بالمؤسسات الدينية التي يغلب عليها الطابع التقليدي الديني من جهة أخرى يشكل عائقا حقيقيا في ترجمة مشاريع الوحدة إلى واقع عملي في الساحات الفكرية والتطبيقية للأمة الاسلامية ولعل هذه المعضلة يمكن حلها من خلال وجود مؤسسة قائمة بذاتها تحمل هم المشروع الوحدوي والتقريبي مستقلة ماديا ومعنويا عن المؤسسات الدينية والسياسية .

6. غياب مقاصدية مشروع الوحدة التي أعلنها أمير المؤمنين علي عليه السلام لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين أي حفظ بيضة المسلمين وحفظ الاسلام في قلوبهم حاضرا بشكل دائم وثوري.لذلك نجد إخفاقا كبيرا يحدث بين الفينة والاخرى لأن الأولويات تتبع الاهداف فإن كانت الاولويات متعارضة مع مقاصد العمل فإن الاهداف بالتالي ستختلف. فأولوية مشروع الوحدة والتقريب تبعا للآية القرآنية ” واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا ان الله مع الصابرين”الانفال – آية 46 يجب أن تتناسب مع مقاصد المشروع وهو حفظ بيضة المسلمين في وجه المؤامرات والتربصات الخارجية وهو ما يتطلب صبرا حقيقيا لصعوبة هذا الأمر كما صرحت به الآية الكريمة وأشارت بوضوح أن الله إن صبرتم على ذلك سيكون مع الصابرين منكم.ولكن حينما تتحول الأولوية إلى المذهب والطائفة والذات فإن ذلك سيضيع المقصد وستصبح الاهداف متناسبة مع الاولوية وستتحرك الدوافع نحو تحقيق الاهداف المتناسقة مع أولويات المتحرك.لذلك على النخب أن تجعل أولوياتها متناغمة مع مقاصدية مشروع الوحدة والتقريب.      

 7.غياب الإعلام الوحدوي والتقريبي حيث يعلو صوت الإعلام المذهبي والتقسيمي عليه نتيجة لضعف الإمكانات مع توفر الموارد المالية وسوء في تخطيط صرف الموارد حسب أولويات الامة وحاجاتها بل إن ضرورات الأنظمة المستبدة لها قدرات إعلامية فاقت إعلام خيارات الأمة وأهمها الوحدة والتقريب.

لأن الأنظمة المستبدة لكي تسود لا بد أن تلعب على وتر التفرقة وخاصة التي تتعلق بعقائد الناس وهويتهم الدينية ليعم الجهل فيسود الظلم والاستبداد.

فرغم توفر الموارد المالية وخاصة من الحقوق الشرعية لدى العلماء والمراجع إلا أن سوء التخطيط والإدارة والخلل في ترتيب الأولويات نتيجة سلطة العوام والخضوع لرغباتهم أدى إلى ضعف القدرات الإعلامية ونمو ظاهرة الإعلام الفضائي المذهبي التقسيمي والتراشقي الذي زاد من الانقسام وأضعف من قابلية الأمة على خيار الوحدة والتقريب.

8.التربية والتعليم في مختلف الدول وخاصة الخليجية حيث يلعب دورا بارزا في تنشئة الاجيال والقدرات العقلية على التكفير والمذهبة ويؤصل لثقافة الإرهاب الفكري ورفض الرأي الآخر ويقوقع العقول على ذاتها لتنمو في ظل أجواء موبوءة لا تستطيع في المستقبل أن تبدع وتفكر في فضاءات الفكر الحر.

9.المؤامرات التي تحاك على الامة والتي تسعى بكل ما تملك من قوة إلى إضعاف أي مشروع تقريبي وحدوي من خلال قاعدة فرق تسد,حيث أنها تسعى إلى السيطرة والهيمنةالكلية على ثرواتنا ومقدراتنا العقلية والمعنوية والجسدية والمادية,لذلك نرى أنه أينما كان لهذه الدول العظمى وجودا وحضورا فاعلا نجد أن أياديها ملطخة بدماء الفتنة والعبث المنهجي والفوضى الخلاقة.

10.الاضطهاد وسلب حقوق الأقليات الشيعية في الدول السنية والاقليات السنية في الدولة الشيعية وهو ما يعزز من النفس الطائفي ويضعف من النفس الوحدوي لأن سلب الحقوق داعية للعقوق.وللأسف نجد دولا تشارك في مؤتمرات الوحدة وتنظر لها وتدعم إلا أن ممارساتها بحق الأقليات المخالفة لمذهبها هي ممارسات لا تعكس أبدا أي تطبيق عملي لمشروع الوحدة وهو مما يضعف من قابلية هذه المشاريع لدى الجماهير نتيجة عدم فاعلية الفاعل في تطبيق ما تبناه في مشروع الوحدة.

11.غياب المنهجية العلمية في البحث العلمي نتيجة تداخل السياسي مع المعرفي والمصلحي مع الحقيقي والذاتي والقبليات الموروثة المؤصلة في النفس وتقديس الماضي التاريخي مما أدى إلى صعوبة إعادة النظر في التاريخ الإسلامي وعرض هذا التاريخ بما فيه من أحداث على واقع القرآن الكريم المحفوظ من التحريف والذي يحمل الخطوط والعناوين العامة والأصول الكلية والغايات الفعلية من الوجود الإنساني على الأرض وكيفية السير التاريخي عبر الزمن والسنن التي تحكم وتسود في كل المجتمعات.ولعل هذا العرض خاصة في الفترات الزمانية المختلف عليها تاريخيا من ناحية المحتوى والأحداث والمضمون حيث يمكن الحفر في أعماقها أكثر بموضوعية وإنصاف لإعادة النظر والحصول على أصل الحدث كأحفورة خالية من أي إضافات وأتربة وشوائب تكون قادرة على إعطائنا الحدث الأقرب إلى الحقيقة دون رتوش.

ولعل هناك أسباب كثيرة أخرى وقد تكون أهم مما ذكرناه إلا أن ما لا يدرك كله لا يترك جله,ومن الضرورة بمكان أن يتم العمل الحقيقي على دراسة الاشكاليات بشكل عميق والخروج بحلول عملانية واقعية تستطيع رأب الصدع بشكل واقعي حقيقي وليس ترقيعي لأن ما ينتظر هذه الامة قد يكون كبيرا يفوق قدرتها على الصمود والاستمرار خاصة مع هشاشتها وعدم قدرتها على الممانعة لغياب الجهاز المناعي المعرفي والواعي الذي يحصنها ضد كل الأجسام الفكرية والثقافية الغريبة على جسدها,فالحرب العسكرية لم تجد نفعا مما دفع أعداء هذه الأمة إلى ممارسة حرب كي الوعي وبلبلة المفاهيم والثوابت وخلط المصطلحات بمدلولات بعيدة عنها واللعب على التناقضات الكثيرة وإبرازها كمكون ثقافي وكقاعدة فكرية لكثير من المنطلقات الهشة التي تضعف من بنائها الفوقي وتجعله عرضة للانهيار أمام أضعف الرياح.             

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً