أحدث المقالات

لدينا اليوم في عالم الاقتصاد نظام نعرفه باسم ( البنك ) وهو عبارة عن مؤسسة تدير أموال المودعين فيها و تستثمرها في مختلف الأوجه من أجل تحصيل الأرباح ، و من ثم توزعها على أصحاب تلك الأموال ، بعد استخراج النفقات جميعها بالإضافة إلى أرباح المؤسسين و غيرها من الأموال ، وفق توافق معين .

و هنا يمكن أن نتصور أن مشروع البنك قائم على تلبية حاجتين أساسيتين للإنسان المدني :

1- حفظ أمواله .

2- تنمية أمواله .

ذلك أن الإنسان بطبعه يحب جمع المال و ادخاره {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ . الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ . يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ }(الهمزة1-3) و قد تتوفر لديه أموال زائدة عن حاجته المعيشية ، أو قد يخطط لحاجة مستقبلية له و لعياله ، فيعمد إلى ادخار تلك الأموال .

وهنا يحتاج إلى مكان آمن يحفظ فيه أمواله تلك ، خشية أن تتعرض للسرقة و النهب ، أو حتى الضياع و الفقدان .

وهذا ما يقوم به البنك ، إذ أنه يعرض على زبائنه خدمة حفظ أموالهم بكل احتراف و مهنية ، فلا ينقص منها شئ ، و تكون في متناول يد صاحبها ، متى شاء أخذها .

و من الطبيعي أن يطلب البنك في مقابل هذه الخدمة الجليلة أجرة من صاحب المال ، و لا شك في أن الآخر مستعد لدفع تلك الأجرة بكل سرور ، إذ لا يتوقع أحد أن تقدم له الخدمات مجانا .

إلا أن البنك لا يكتفي بتقديم هذه الخدمة ، بل إنه يضيف إليها خدمة أخرى تفوقها أهمية ، ألا و هي تنمية تلك الأموال ، من خلال توظيف رأس المال في مشاريع مثمرة ، تدر أرباحا جيدة .

وهنا أيضا من الطبيعي أن يستحق البنك أجرة مناسبة لهذه الخدمة الكبيرة ، و أيضا فإن صاحب المال يبدي سرورا عظيما و هو يدفع للبنك تلك الأجرة .

و بالإضافة إلى هاتين الخدمتين الهائلتين ، يقدم البنك سلسلة من الخدمات المهمة و الضرورية لزبائنه ، نعرفها جميعا .

و الذي يحصل في الواقع هو أن البنك لا يطالبنا بالأجرة على خدماته ، فهل يعقل أنه يقوم بكل ذلك مجانا و بلا مقابل ؟!

بالتأكيد إن هذا التصور خاطئ ، و لا يمكن أن يكون صحيحا في عالم الاقتصاد أبدا ، ولا أستثني أي نظام اقتصادي ، ناهيك عن النظام الرأسمالي ، الذي يؤمن بحق الإثراء كيفما كان . لأن الحركة الاقتصادية قائمة على تبادل المنافع ، فإذا لم تحقق ذلك تقوضت أركانها و انهار بناؤها و خر سقفها على قواعدها .

إذن فالذي يحصل هو أن البنك يستوفي أجوره مع عائد هائل من الأرباح ، و لكن من غير أن يشعر المودعون بذلك ، إذ أنها لا تخرج من عين أموالهم ، و إنما يقتطعها البنك من نمائها و أرباحها ، فيعطيهم شيئا يفرحون به و يملأ بالباقي خزائنه .

وهنا نتساءل ما هو الصيغة التي تحكم هذه المعاملة ، لنعرف بالتالي موقف الشرع الحنيف منها :

هل هي مضاربة بين صاحب المال و العامل ( المودع و البنك ) ؟

أم هي ائتمان من صاحب المال للبنك على أمواله ، مع الإذن بالتصرف ؟

أم هي قرض من صاحب المال للبنك ؟

أم هي صيغة شرعية أخرى ، فما هي ؟

أم أنها صيغة عرفية وضعية ، لا تندرج تحت أي من الصيغ الشرعية ، و لا يدعي أصحابها علاقة لها بالدين أصلا ؟

إن الإجابة الدقيقة لهذا التساؤل ، تجعل موضوع ( البنك ) في دائرة الضوء ، و تزيل عنه الغموض ، و عندها يمكن بسهولة الحصول على الحكم الشرعي الخاص بتعاملاته .

و في الجهة المقابلة نتساءل : هل اهتم الإسلام بهذه القضية ( حفظ الأموال و تشغيلها ) فإذا كانت الإجابة بالإثبات ، فما هو ذلك النظام الإسلامي ؟

وبعبارة أخرى : ما هو نظام البنك اللاربوي الإسلامي ؟

إننا بعد الجزم بأن أحكام الشريعة الإسلامية هي ما يدلنا عليه الفقهاء ، و التي يستنبطونها من مصادرها التشريعية ( القرآن و السنة والإجماع و العقل ) ، فإننا لا نملك إلا أن نسلم لهم القياد لنتبعهم كما أمرنا الله تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }(النساء/83) و بذلك نطمئن إلى أننا نسير على طريق الحق و الهدى .

و هنا نداءان ، أحدهما إلى فقهاء الأمة بكل مذاهبها ، و الآخر إلى المسلمين جميعا ، على اختلاف مذاهبهم .

فأما الذي هو للفقهاء ، فأقول و الله المسدد :

سادتي الفضلاء .. أسبغ الله علينا نعمة حفظكم . نقرأ في قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(آل عمران/64) توجيها ربانيا إلى نبينا الأكرم (ص) أن يدعو أهل الكتاب إلى الوحدة والتعاون ، من أجل إقامة دولة عبادة الله وحده ، مع الحفاظ على خصوصيات كل دين ، ليتحقق بالتالي قوله تعالى { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ..}(يوسف/40) .

فإذا كانت قضية إقامة حكم الله لتمكين الناس من عبادة الله بهذه الأهمية التي تتراجع في سبيل تحقيقها كل الخصوصيات و تتضاءل الاختلافات ، فإن الجدير بفقهاء المسلمين وعلمائها أن يبادروا إلى نفض غبار التفرق و التحزب ، و أن يجتمعوا على طاولة مستديرة ، ليتباحثوا في أحكام الشريعة ، ويقارعوا الحجة بالحجة ، و يستنبطوا حكم الله من مظانه التشريعية ، و يخرجوا إلى الأمة الإسلامية كلها ، بحكم واحد متفق عليه بينهم ، ليتعبد به المسلمون كلهم فيقيموا حكم الله تعالى و لا يقعوا في حبائل الشيطان الرجيم .

و لتكن من أولويات المسائل التي تطرح على طاولة بحثكم ، مسألةالمعاملات المالية في زماننا هذا ، إذ أنها باتت من موارد الابتلاء العام ، و لم تعد حكرا على التجار فحسب ، إذ ما من فرد في من المسلمين إلا و له صلة مباشرة أو غير مباشرة مع النظام البنكي القائم في عالم اليوم .

و أما الذي هو للمسلمين ، فأقول و الله الموفق :

إن من تعاسة المرء أن يكون قوته و قوت عياله من الحرام ، ربا أو أكل أموال الناس بالباطل وغيرها من مفردات الكسب الحرام .

وقد شنع القرآن الكريم على الذين يأكلون الربا فقال تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}(البقرة/276) .

أفهل نرضى لأنفسنا أن نقتات على الحرام ، و قد تكفل الله لنا برزق حلال من عنده {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(هود/6) .

إذن فالمسألة تحتاج إلى وقفة منا نحن المكلفين ، أن نقرر بصدق أن نسعى نحو ما أحل الله ونجتنب ما حرم الله سبحانه ، و كما يقول الإمام علي (ع) (من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق) ولا شك في أننا بذلك نصبح مصداقا لقوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}(آل عمران/185) .


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً