أحدث المقالات

(من الشهيد الأوّل إلى الشهيد الثاني)

د. محمد كاظم رحمتي(*)

ترجمة: وسيم حيدر

توطئة

نقد ترجمة كتاب: جبل عامل بين الشهيدين، للشيخ جعفر المهاجر، حيث يستعرض فيه المؤلِّف الحركة العلمية في جبل عامل على مدى قرنين، أي منذ عصر الشهيد الأول العاملي إلى عصر الشهيد الثاني العاملي (من أواسط القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي، إلى أواسط القرن العاشر الهجري / السابع عشر الميلادي).

المدخل

إن البحث في تاريخ التشيُّع ـ ولا سيَّما في مرحلة ما قبل العهد الصفوي ومنذ القرن السابع الهجري إلى القرن العاشر الهجري ـ يواجه مشكلةً رئيسة تكمن في شحّ المصادر، بمعنى أن المحقِّق لا تتوفَّر بين يدَيْه مصادر لكتابة التاريخ أو كتب التراجم المكتوبة بأقلام الشيعة، وبذلك يجد نفسه مضطراً عند بحثه في تاريخ التشيّع في المرحلة الأخيرة إلى الاستفادة من نوعٍ آخر من المصادر.

إن وجود مراكز ومجتمعات شيعية في المرحلة مورد البحث، وقيام واستمرار الحياة العلمية فيها ضمن تدوين التراث وقراءته على شيخٍ وأخذ الإجازات على روايتها، كلّها تمثِّل مصادر هامّة يمكنها أن تزيل مشكلة عدم توفُّر المصادر إلى حدٍّ ما.

بَيْدَ أن المشكلة الرئيسة تكمن في أن هذه المصادر نفسها هي بشكلٍ عام عبارة عن مخطوطات متناثرة في مختلف المكتبات.

بَيْدَ أن جزءاً من الإجازات المشار إليها ـ أو الإجازات الأصلية في الحدّ الأدنى ـ مجموعة في نهاية كتاب بحار الأنوار، للعلامة محمد باقر المجلسي(1110هـ)؛ فإن الإجازات الواردة في نهاية كتاب بحار الأنوار تشتمل على الكثير من المسائل حول المراكز العلمية وأسماء الشخصيات العلمية الشهيرة منذ القرن السابع الهجري إلى القرن العاشر الهجري، الأمر الذي يساعدنا في الاستفادة منها بوصفها مصادر هامة للبحث في تاريخ التشيُّع وتحليله، مع الأخذ بنظر الاعتبار سائر الأمور الواردة في الكتب الأخرى؛ إذ شأن هذه الإجازات أن تساعدنا على فهم تاريخ التشيُّع وبعض الحالات العلمية لعلماء الشيعة في القرون مورد البحث.

كما ويوجد جانبٌ هامّ من الإجازات الأخرى المشتملة على إنهاء أو إبلاغ القراءات والإجازات المختصرة في مصادر من قبيل: (رياض العلماء)، و(الذريعة إلى تصانيف الشيعة)، و(طبقات أعلام الشيعة) المبثوثة بشكلٍ متفرِّق؛ إذ يمكن للرجوع إليها أن يساعد على تكميل المباحث، بل وتقديم صورة كاملة لها أحياناً([1]).

من خلال هذا الاتجاه سعى الشيخ جعفر المهاجر في كتابه جبل عامل بين الشهيدين (المطبوع في دمشق، سنة 2005م) إلى دراسة الحالة الثقافية للتشيُّع في جبل عامل منذ الشهيد الأول حتّى الشهيد الثاني(965هـ).

وقد خرجت إلى الأسواق مؤخَّراً ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية، من قِبَل السيد موسى دانش. وما هذه المقالة إلاّ إطلالةٌ على هذا الكتاب.

لقد عمد الشيخ جعفر المهاجر إلى تنظيم كتابه ضمن مقدّمة مقتضبة، وخمسة فصول. وبعد التعريف في مقدمته بمصادره، عمد في الفصل الأول قبل كلّ شيءٍ إلى دراسة جبل عامل من الناحية التاريخية، والمعلومات الواردة بخصوصها في الكتب الجغرافية([2]).

ومن المصادر الهامة التي أشار لها الشيخ المهاجر في مقدّمته المقتضبة كتاب أمل الآمل([3]).

بَيْدَ أن الملفت للانتباه في هذا الشأن هو عدم تقييم محتوى الكتاب، ونسخه المختلفة، أو حتّى الإشارة إليها في الحدّ الأدنى، وكيفية جمع الحُرّ العاملي(1104هـ) للمعلومات.

لقد قام الحُرّ العاملي بجمع الكثير من مطالب كتابه من الإجازات الروائية المتداولة، وأحياناً بعض الحكايات والقصص الشعبية المتداولة في مسقط رأسه بجبل عامل([4]). إن اتّخاذ المكتوبات والاستناد إلى الإجازات وذكر أسماء الأشخاص بأشكال وصيَغ مختلفة في الإجازات وتأليف كتاب أمل الآمل في إيران أدّى إلى تسلل بعض الأخطاء إلى هذا الكتاب.

والذي يدعو إلى العَجَب في البين عدم إشارة الشيخ المهاجر إلى أهمّية كتاب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة)، و(طبقات أعلام الشيعة)، للآغا بزرگ الطهراني، من حيث جمع الإجازات المختلفة في الموروث الشيعي، واكتفى بجعل الإجازات الواردة في كتاب (بحار الأنوار) هي الأساس في مشروعه، ولم يرجِعْ إلى هذين المصدرين حتّى في الموارد المتعلِّقة ببحثه، والمشتملة على مطالب تكميلية في خصوص المسائل التي يستعرضها في كتابه.

ومن الأمور الملفتة للانتباه في الفصل الأخير فطنة الشيخ المهاجر إلى تداول لقب العاملي في أسماء جملةٍ من العلماء الذين ظهروا في منطقة جبل عامل، وأشار إلى أنه قد عثر على أوّل استعمال لهذا اللقب في الإشارة إلى زين الدين بن عليّ، المعروف بـ (الشهيد الثاني)، والذي يشير إلى نفسه أحياناً بـ (الشامي العاملي) أيضاً([5]). وفي معرض بيان السبب الذي دعا الشهيد الثاني إلى تعريف نفسه بالشامي العاملي يذهب سماحة الشيخ المهاجر إلى إرجاع ذلك إلى أسباب مذهبية؛ إذ يقول: ربما كان السبب الكامن وراء ذلك رغبة الشهيد في إخفاء هويّته الشيعية. مع أن ذكر مكان وبلد الإقامة بوصفه جزءاً من لقب الأشخاص على ما هو سائدٌ في الأزمنة السابقة يأتي أولاً ذكر اسم البلدة الأشهر، ومن هنا يأتي ذكر انتساب الشخص لاسم المنطقة الأشهر، ومن هنا لا يكون ذكر الشامي بالضرورة قد جاء بداعي إخفاء التشيُّع. ومن ناحية أخرى فإن الشهيد الثاني قد ولد في جباع، فكان من المتوقَّع أن يلقِّب نفسه بالجباعي، بَيْدَ أنه يعرف عن نفسه في الإجازات المتوفِّرة عادةً بصيَغ أخرى، من قبيل: «زين الدين بن علي بن أحمد، الشهير بابن حاجة»، أو «زين الدين بن عليّ بن الحاجة»، أو «زين الدين بن عليّ بن أحمد الشامي العاملي»، أو «زين الدين بن عليّ بن أحمد الشامي». وبطبيعة الحال فإن تعريف الشهيد الثاني عن نفسه من خلال الإشارة إلى مسقط رأسه (جبل عامل)، واستعمال لقب العاملي، بدلاً من التصريح بلقب (الجباعي)، قد يعود سببه إلى التقليد السائد في استعمال الاسم المشهور، بدلاً من استعمال الاسم الأقلّ شهرةً؛ وقد يكون بسبب الرغبة في إخفاء هويته المذهبية([6]).

وهكذا خلافاً لما ذكره الشيخ المهاجر فإنّ لقب العاملي قد سبق أن ورد من قِبَل قطب الدين اليونيني(726هـ) في الإشارة إلى جمال الدين إبراهيم بن حسام أبي الغيث العاملي. وبطبيعة الحال يمكن العثور على نماذج أخرى لهذه النسبة، حتّى من خلال البحث في المصادر أيضاً([7]).

أما الفصل الثاني (ص 45 ـ 84) فيحتوي على دراسة لأوضاع جبل عامل إبان الاحتلال الصليبي، ومعلومات علماء الجغرافيا، من أمثال: ابن جبير. إن جُلّ المعلومات التي نعرفها بشأن تبلور الحياة العلمية في جبل عامل تعود إلى القرن السابع الهجري، وفي الفصل الثالث تمّ تناول سيرة حياة هؤلاء العلماء([8]). ومن فقهاء هذه المرحلة في هذا الفصل جمالُ الدين إبراهيم بن أبي الغيث حسام البخاري (حيٌّ حتّى عام 736هـ)، ويبدو أنه وشقيقه يمثِّلان المؤسِّسين لأسرة آل حسام، وهو فقيهٌ تحدّث عنه الشيخ جعفر المهاجر بشكلٍ تفصيليّ إلى حدٍّ ما([9]).

والذي يدعو إلى التأمُّل في خصوص اشتهاره بـ (البخاري)، ويبدو أنه ناشئ من تصحيف الذين قاموا بتصحيح الآثار التي تحدَّثت عن بيان سيرته الذاتية، وأرى أن قراءة (النجاري) ـ كلقبٍ له ـ هي الأصحّ.

وقد ورد أقدم ذكر له من قِبَل قطب الدين اليونيني(726هـ)، وشمس الدين الذهبي(747هـ)، في ذيل البحث عن نجيب الدين أبي القاسم بن حسين بن عود الأسدي الحلي(679هـ). وقد كان اليونيني نفسه صديقاً لنجيب الدين. وإنّ ما ذكره عنه إنما نقله عن أحد أصدقائه وعن مشاهداته الخاصة بشأن نجيب الدين. والذهبي لا يشير إلى مصدره في خصوص هذين الفقيهين الإماميين، إلاّ أنه ذكر في آخر كلامه تاريخاً مختلفاً لوفاة نجيب الدين، نقلاً عن اليونيني. ولكنْ يبدو من سياق العبارات الواردة في بيان سيرته بوضوحٍ تام أنه قد استفاد في نقل مسائله من كتاب (ذيل مرآة الزمان)، وهو تقريرٌ مقتضب جدّاً لعبارات اليونيني([10]).

أما المسائل الواردة في الفصل الأخير فهي تشير إلى أن المجموعة الأولى من فقهاء جبل عامل كانوا بأجمعهم قد شدّوا الرحال إلى مدينة الحِلّة بالعراق؛ لدراسة الفقه، الأمر الذي يعكس أهمّية الحِلّة ومدرستها الفقهية.

وفي حقيقة الأمر فإن فقهاء جبل عامل كانوا يدرِّسون مؤلَّفات علماء الحِلّة في مناطقهم من جبل عامل، ولا سيَّما مؤلَّفات المحقّق الحلّي والعلاّمة الحلّي، وإن عدد المخطوطات الموجودة في تلك المناطق تثبت هذه الحقيقة بوضوحٍ.

وأما النقلة العلمية التي تحقّقت في جبل عامل في فترة حياة الشهيد الأول محمد بن مكي(786هـ) فقد تم بحثها في الفصل الرابع بالتفصيل. وقد كان الشهيد الأول هو أول فقيه عاملي يترك لمَنْ خلفه تراثاً قيِّماً؛ حيث ألَّف الكثير من الكتب التي صارت مداراً للبحث والتدريس في جبل عامل وسائر المناطق الأخرى. ومن الأمور الملفتة للانتباه بشأن البحث عن الشهيد الأول هو ما أشار إليه الشيخ المهاجر من أن الشهيد الأول عندما سافر من جبل عامل إلى العراق لطلب العلم كان فقيهاً بارزاً([11]). ثم أشار الشيخ المهاجر([12]) إلى مختلف الإجازات التي حصل عليها الشهيد الأول من علماء السنّة، وعرّف الشهيد الأول بوصفه أول شخص يقرّ هذا التقليد الحَسَن، وينشره بين علماء جبل عامل، وهو التقليد الذي لم يتمّ التخلّي عنه ـ بحَسَب تعبير الشيخ المهاجر ـ إلاّ بعد استشهاد الشهيد الثاني سنة 965هـ.

ولكنْ يبدو أن الشيخ المهاجر لم يكن دقيقاً في كلامه هذا؛ إذ إن أخذ الإجازة من علماء أهل السنّة كان تقليداً سائداً بين الشيعة ـ ولا سيَّما في مناطق الشام ـ حتّى منتصف العصر الصفوي([13]). إن الشيعة الذين كانوا يسكنون في المناطق ذات الغالبية السنّية لم يكن لهم مندوحة من دخول المدارس والاستفادة من عائداتها وكسب معاشهم إلاّ من خلال الحصول على إجازة من علماء أهل السنّة، ولم يكن الشهيد الأول يمتاز في هذه الناحية من سائر فقهاء الإمامية القاطنين في الشام إلاّ بكثرة مشايخه من شيوخ أهل السنّة([14]).

الأمر الآخر هو أن أخذ الإجازة من علماء أهل السنّة لم يتمّ تركه بعد استشهاد الشهيد الثاني سنة 965هـ؛ إذ إننا نعلم في الحدّ الأدنى أن الشيخ البهائي في سفرته الشهيرة إلى الحجّ ما بين عامي 991 ـ 993هـ قد تفقَّد المراكز العلمية الهامة في كلٍّ من الشام ومصر، وحصل خلال ذلك على إجازات في الرواية من العلماء السنّة البارزين هناك. لقد كان علماء الإمامية يأخذون الإجازات المشار إليها من أقرانهم من علماء أهل السنّة من خلال التظاهر بأنهم من الشوافع. من باب المثال: أشار ابن الجزري(833هـ) ـ في كلامه عن الشهيد الأوّل ـ إلى أن الشهيد عند مطالبته بكتاب لأخذ الإجازة (كتب بخطّه في استدعائه) يعرِّف نفسه بأنه: محمد بن مكي بن محمد بن حامد أبو عبد الله الجزّيني الشافعي.

والحقيقة أن الالتفات إلى هذه المسألة، وهي أن أخذ الإجازات من علماء أهل السنة؛ وصولاً إلى سعة العيش في المراكز العلمية الهامة من الشام، مثل: دمشق أو غيرها من الحواضر، والحصول في بعض الموارد على إمكانية الاستفادة من الأرباح المتعلِّقة بالمدارس، والتي أخذت تأتي في المرحلة المتأخِّرة من عائدات الموقوفات على المدارس، كان العلماء من الإمامية يلجأون إلى التقيّة في تعريف أنفسهم بأنهم من علماء الشافعية، ويأخذون لذلك إجازات في الرواية من أقرانهم من أهل السنّة، وكانوا أحياناً يدرِّسون في تلك المدارس، وفي الحالة الأخيرة كانوا يدرِّسون الفقه الشافعي بطبيعة الحال.

وبالالتفات إلى هذا التقليد العملي الذي كان سائداً بين الشيعة، ولا سيَّما الذين يسكنون المناطق الشامية منهم، يبدو أن الشيخ المهاجر لم يأخذ هذا الأمر بنظر الاعتبار. وعليه لا يمكن لنا أن نوافقه في ما ذهب إليه من الرأي، إذ يقول: (من البيِّن أن الشهيد كان يتطلَّع إلى أمرٍ جلل، وإلاّ لماذا يخوض تلك المخاطرة غير مأمونة العواقب، خصوصاً أنه أول فقيه شيعي يركبها، بعد أن وصلت الحالة المذهبية إلى مستقرّها. ترى هل كان يصدر بذلك عن توقٍ شخصي، ونحن نعرف أيّ طلعةٍ كان؟ أم عن منهجٍ آمن به، كما فعل خَلَفه الشهيد الثاني بعده بما يقلّ عن قرنين؟…)([15]).

من هنا يتبيّن أن تجاهل الشيخ المهاجر لتقليد أخذ الإجازات من علماء أهل السنة في القرون الوسيطة بوصفه تقليداً متداولاً بين علماء الشيعة ـ سواء في الشام وغيرها ـ قد أدّى به إلى العجز عن تحليل هذا التقليد في بحثه. كما أنه ارتكب ذات هذا الخطأ في معرض البحث بشأن المحقِّق الكركي والشهيد الثاني أيضاً، حيث قدَّم لأخذهما الإجازات من أقرانهما من علماء أهل السنّة أدلّةً أخرى.

في بعض الإجازات الواصلة إلينا من العصر المتقدم على الشهيد الأول إشارة إلى أخذ علماء الإمامية لإجازات من علماء أهل السنّة، بل قاموا برواية الآثار الأصيلة والهامة لأهل السنّة عن علماء أهل السنة أيضاً، مع فارق أن تلك الإجازات تخلو من التصريح بتظاهر علماء الإمامية بأنهم من الشوافع عند أخذ الإجازة.

ولكنْ طبقاً للشواهد المتأخِّرة، من قبيل: ذات الطلب المكتوب من قِبَل الشهيد الأول من ابن الجزري ـ حيث كانت هناك علاقة صداقة وصحبة بينهما، بتصريح ابن الجزري ـ تمّ تعريف الشهيد لنفسه بأنه شافعي.

كما أن تحليل الشيخ جعفر المهاجر لسبب استشهاد الشهيد الأول، طبقاً لرواية متأخِّرة في الحد الأدنى ـ إذا اعتبرنا صحّتها ـ يختلف عن الشيء الذي ذكره، وتحدَّثنا عنه بالتفصيل في موضعٍ آخر([16]).

لقد كانت القوّة والمتانة العلمية لمؤلَّفات الشهيد الأول بحيث أضحت بعد استشهاده ـ إلى جانب المؤلَّفات الأصلية لعلماء الحِلّة ـ موضع اهتمام علماء جبل عامل من حيث استنساخها وتدريسها.

وقد أشار الشيخ المهاجر([17]) ـ مصيباً ـ إلى الازدهار العلمي في جبل عامل بعد الشهيد الأول، منوِّهاً في ذلك إلى الأهمّية والدور المؤثِّر الذي لعبه تلامذة الشهيد الأول في هذا الشأن.

أما الفصل الأخير ـ وهو الأكثر تفصيلاً ـ من هذا الكتاب([18]) فيبحث في المراكز العلمية والشخصيات البارزة في مختلف مناطق جبل عامل بعد استشهاد الشهيد الأول إلى استشهاد الشهيد الثاني. وقد تمكَّن الشيخ المهاجر من التعريف بالشخصيات والمراكز العلمية في جبل عامل في تلك الفترة من خلال الإجازات المنقولة في قسم كتاب الإجازات من بحار الأنوار على نحوٍ جيّد.

ومع ذلك لم يَخْلُ هذا الفصل الأخير من بعض الأخطاء. ومن ذلك ـ مثلاً ـ: ما نراه في الصفحة رقم 256، حيث يتم التعريف بابن أبي جمهور الأحسائي بوصفه أخبارياً؛ أو يعزى تاريخ وفاة السيد حسن بن جعفر الكركي الأطراوي إلى العام 939هـ خطأً؛ إذ إن تاريخ وفاته الصحيح يعود إلى السادس من رمضان سنة 936هـ؛ وهكذا الأمر بالنسبة إلى تاريخ وفاة عليّ بن هلال الكركي، المعروف بـ (المنشار)، حيث ورد أن وفاته كانت سنة 983هـ، والصحيح أنها كانت في عام 984هـ([19]).

وقد ذكر الشيخ المهاجر ـ في معرض بحثه حول المراكز العلمية في جبل عامل ـ بحثاً تفصيلياً حول جُباع أو جُبَع، بوصفها مسقط رأس الشهيد الثاني وعددٍ آخر من الفقهاء البارزين في جبل عامل([20]). ومن العلماء المذكورين في هذا البحث هو زين الدين بن عليّ بن أحمد، المعروف بـ (ابن حاجة)، والذي اشتهر بعد استشهاده على يد السلطات العثمانية في الثامن من شعبان سنة 965هـ بـ (الشهيد الثاني)، وكان فذّاً في مقامه ومنزلته.

وفي ما يتعلق ببيان وتحليل السبب الذي حمل الشهيد الثاني على السفر إلى (إسطنبول) سنة 952هـ ذهب الشيخ المهاجر([21]) ـ بسبب غفلته عن التقليد العلمي الذي كان شائعاً بين علماء الشام في التصدّي للتدريس والاستفادة من موقوفات المدارس ـ إلى القول في بيان سبب سفر الشهيد الثاني إلى إسطنبول: «كل شيء يدلّ على أنه سعى ـ من هذا السبيل ـ إلى تأسيس نَمَطٍ من العلاقات بفقهاء السلطة ورجالها؛ عسى أن يصل إلى تحرير موقف الدولة من عقدتها التاريخية منه بوصفه أعلى فقهاء الشيعة في الشام شأناً في زمانه، ومن جُباع بوصفها المركز العلميّ الرئيس»([22]).

وفي الحقيقة، وطبقاً للقرائن الأخرى، علينا أن نعلم بأن الشهيد الثاني من خلال العمل بمبدأ التقيّة، وتعريف نفسه بوصفه فقيهاً شافعياً، قد تمكَّن في إسطنبول من الحصول على منصب التدريس في المدرسة النورية. وإنه في الرسالة التي كتبها هناك في عشرة علوم قد أشار ـ على القاعدة ـ إلى أساتذته من أهل السنّة، ولا سيَّما الفقهاء البارزين من الشافعية في القاهرة، ويجب أن يكون قد عرّف عن نفسه بوصفه فقيهاً شافعياً.

ويبدو أن الذي دعا الشهيد الثاني إلى السفر إلى القسطنطينية ـ الذي هو على حدِّ تعبيره مخالفٌ لمقتضى العقل السليم ـ، ومطالبته بالحصول على منصب التدريس في إحدى مدارس الشام، يجب أن يكمن في الحاجة إلى نفقات الحياة له ولتلاميذه([23]). لقد كانت المدارس بشكلٍ عام تعتمد على أوقاف حدَّد فيها الواقفون المؤسسون للمدارس شروط التدريس والأملاك الموقوفة على تلك المدرسة؛ من أجل توفير ما يحتاجه المدرسون([24]).

لقد منحتنا الترجمة الفارسية السلسة لهذا الكتاب نصّاً جديراً بالقراءة، وعلينا لذلك أن نتقدَّم بالشكر الجزيل لشخص المترجم المحترم؛ إذ تمكَّن من نقل النصّ من اللغة العربية إلى اللغة الفارسية بشكلٍ دقيق، رغم وجود بعض الهَنَات البسيطة في ما يتعلَّق بإرجاع بعض الضمائر، كما في الصفحتين 260، 266؛ حيث أرجع الضمير في الحالة الثانية إلى الحسين بن محمد الحُرّ العاملي، والصحيح أنه يرجع إلى المحقِّق الكركي.

الهوامش

(*) باحثٌ متخصِّص في التراث والدراسات القرآنيّة والحديثيّة والتاريخيّة.

([1]) على سبيل المثال: لم يتم البحث عن عالمٍ من جبل عامل، وهو محمد الشمسطاري، نسبةً إلى قرية شمسطار الواقعة في البقاع بين بعلبك وزحلة؛ إذ لم يَرِدْ الحديث عنه في قسم الإجازات من بحار الأنوار أو كتب التراجم. وهو سبط شمس الدين محمد بن عبد العالي، المعروف بـ (ابن نجدة الكركي)، تلميذ الشهيد الأول. وجدّه ابن نجدة المتوفّى في شعبان من سنة 808هـ. والشمسطاري نفسه قد توفّي في آخر ليلة (سرار) من صفر سنة 874هـ. وكان يمارس التدريس في قرية شمسطار، وقد قصده بعض علماء إيران من أسترآباد لقراءة بعض النصوص الفقهية عنده، وحصلوا منه على إجازاتٍ في الرواية، ومع ذلك لم يَرِدْ اسمه في كتب التراجم الشيعية، وإن الشكل الصحيح للقبه المشتهر به، أعني (الشمسطاري)، بسبب عدم التعرُّف عليه قد ورد في مصدر أو مصدرين بشكلٍ مصحّف (انظر: بحار الأنوار 104: 28، نقلاً عن: مجموعة الجباعي. فقد أخطأ الذين صحَّحوا كتاب بحار الأنوار عند تصحيحهم لاسمه، وقرأوا لقب الشمسطاري خطأ (السميطاري)، ونوَّهوا في الهامش إلى أنهم لم يعثروا على اسمه في المصادر). تكمن أهمية الشمسطاري في إثبات الأهمية العلمية لجبل عامل قبل العصر الصفوي، وسفر العلماء من المناطق الأخرى للاستفادة من مجالس درسه. ولم تَرِدْ المسائل الأخيرة إلاّ في هوامش بعض المخطوطات.

([2]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 27 ـ 44.

([3]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 13 ـ 14.

([4]) تكمن أهمية القصص والحكايات الشعبية في كونها تؤلِّف جانباً من الهوية الجماعية، والتي يقوم الشيخ الحُرّ العاملي أحياناً بإدراجها ضمن كتاب (أمل الآمل)، دون الالتفات إلى أهمّيتها من هذه الناحية، والاستناد إليها أحياناً. (انظر للوقوف على هذه الموارد: بعض المسائل الواردة في مقدّمة أمل الآمل 1: 15 ـ 16). إن التقرير الذي أورده الشيخ الحُرّ العاملي في خصوص استشهاد الشهيد الثاني (أمل الآمل 1: 90 ـ 91) يعتبر نموذجاً هامّاً لتلفيق الحقيقة بالخيال القصصي، فهو يشتمل على جميع العناصر المكوِّنة للقصة من الثابت والمتحوِّل والمتغيِّر التي يذكرها سعيد يقطين في معرض بحثه حول القصص في الموروث الإسلامي بوصفها من أركان القصة، وعليه فإن هذه الظاهرة تحتاج إلى تحليل مستقل. انظر: سعيد يقطين، الكلام والخبر، مقدّمة للسرد العربي: 179 فما بعد، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1997م.

([5]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 38 ـ 39.

([6]) لقد أورد الشهيد الثاني نفسه في كتاب الرعاية في علم الدراية: 402 ـ تحقيق: عبد الحسين محمد علي البقال، قم، 1433 ـ 1390هـ.ش ـ بحثاً في خصوص كيفية بيان الانتساب إلى الأمكنة، وقال في الإشارة إلى ذكر الانتساب إلى القرى: (والساكن بقرية بلد ناحية إقليم يُنسب إلى أيّها شاء: القرية والبلد والناحية والإقليم. فمَنْ هو من أهل جبع ـ مثلاً ـ له أن يقول في نسبته: الجبعي أو الصيداوي أو الشامي، ولو أراد الجمع بينهما، فليبدأ بالأعمّ، فيقول: الشامي الصيداوي الجبعي).

([7]) انظر: قطب الدين موسى بن محمد اليونيني، ذيل مرآة الزمان المجلد الثالث: 435 (حيدر آباد دكن، 1380 ـ 1960). إن عدم اشتهار جبل عامل بوصفها ناحية من نواحي الشام، وشيوع تعابير أخرى في الإشارة إلى مناطق لبنان، من قبيل: جبل لبنان، يمكن أن يكون من أسباب عدم استعمال العاملي في الإشارة إلى جبل عامل. فقد تحدّث اليونيني ـ على سبيل المثال ـ في ذيل وفيات سنة 658هـ عن أبي الخير مخلص الدين مبارك بن يحيى بن مبارك بن مقبل الغساني الحمصي، وهو من العلماء الشيعة الذين يسكنون في حمص، وأشار إلى أنه بعد سماعه خبر اقتراب الجيش المغولي في ربيع الأول من سنة 658 غادر حمص، والتجأ إلى جبل لبنان، وأقام في بعض قراها، حيث توفّي هناك. (ذيل مرآة الزمان 2: 36 ـ 37).

([8]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 85 ـ 143.

([9]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 107 ـ 122.

([10]) انظر: محمد بن أحمد الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام 15: 381 ـ 381، تحقيق: بشّار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1424هـ ـ 2003م. وانظر أيضاً بشأن نجيب الدين الأسدي: صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، كتاب الوافي بالوفيات 24: 121، باعتناء: محمد عدنان البخيت ومصطفى الحياري، بيروت، 1413هـ ـ 1993م. وقد نقل الصفدي البيت الأول من الشعر الشهير لإبراهيم بن حسام أبي الغيث في رثاء نجيب الدين. وفي ما يتعلق بابن حسام والهجوم على مكتبته والاستيلاء عليها يبدي الشيخ المهاجر عدم علمه بذلك. ويحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى الشعر الذي أنشده بعد إعلان تشيُّع السلطان محمد خدا بنده سنة 710هـ. وربما كان الصفدي قال نقلاً عن ذيل مرآة الزمان أنه بعد إعلان السلطان محمد خدا بنده تشيُّعه نظم جمال الدين إبراهيم بن حسام ـ الذي كان يقطن في قرية مجدل سليم من ضواحي صفد ـ شعراً في مدحه، وقد ذكر الصفدي نصّه بنفسه. انظر: الصفدي، كتاب الوافي بالوفيات 2: 185 ـ 186. لا نمتلك الكثير من المعلومات بشأن تأثير الإعلان عن تشيُّع السلطان محمد خدا بنده على المجتمعات التي كانت تستوطن الشام، ومع ذلك يبدو أن اشتهار هذه القصيدة الأخيرة، وموت السلطان خدا بنده سنة 716هـ، قد أدّى إلى هجوم جماعة على دار ابن حسام تحت ذريعة تشيُّعه، ونهبها والاستيلاء على كتبه، ولا سيَّما أنه قد صرّح في قصيدةٍ له ـ أشار فيها إلى نهب كتبه ـ بأن ذنبه يعود إلى التشيّع والتفقّه في فقه الشيعة. انظر: خليل بن أيبك الصفدي، أعيان العصر وأعوان النصر 1: 109 ـ 110، حقَّقه: علي أبو زيد، ونبيل أبو عمشة، ومحمد موعد، ومحمود سالم محمد، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1997م. ثم إنه قد تكون لقصيدة ابن حسام في مدح السلطان محمد خدا بنده أهمية أخرى، من حيث إنه ربما كان أحد الأسباب التي دعَتْ بعض العلماء العامليين إلى أن التردُّد في السفر إلى إيران هو المصير الأليم الذي آل له السلطان محمد خدا بنده، والذي يجب أن تكون خاطرته المريرة قد ترسّخت في ذاكرة الشيعة في الشام، وكانوا يترقَّبون ما سيؤول إليه وضع سلاطين الصفوية في مواجهة الإمبراطورية العثمانية، قبل أن يتَّخذوا قراراً بالهجرة إلى إيران.

([11]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 151.

([12]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 151 ـ 152.

([13]) لقد كان علماء الإمامية من الذين يستوطنون الشام يعرِّفون أنفسهم ـ بشكلٍ عامّ ـ على أنهم من الشوافع، وكانوا يدرسون عند مشاهير فقهاء الشافعية في عصرهم، وأخذوا عنهم الكثير من إجازات الرواية والاجتهاد. فقد كان علماء الشيعة الإمامية بحاجةٍ إلى امتلاك إجازة في التدريس من أجل كسب معاشهم، والحضور في المدارس والتدريس ـ أي تدريس الفقه الشافعي طبعاً ـ، والانتفاع بأوقاف المدارس. وقد أورد القلقشندي في كتابه (صبح الأعشى 14: 322 ـ 335) بحثاً في خصوص الشكل الأدبي للإجازات المتأخِّرة، بعنوان: (الإجازات بالفتيا، والتدريس، والروايات، وعراضات الكتب ونحوها). كما كان بإمكان الإجازات الأخيرة أن تكون دليلاً دامغاً يمكن للشخص أن يحقن بواسطته دمه وينجو من القتل عند اتهامه بالتشيُّع. فعلى سبيل المثال: نجد نجم الدين أبا العباس أحمد بن محسّن بن ملي، المعروف بـ (الأنصاري البعلبكي الشافعي)، الذي كان في الأصل عالماً إمامياً، قد تسنّم الكثير من المناصب في الشام وحلب ومصر، والتي يجب أن تكون بعد حصوله على الإجازات من علماء الشافعية في عصره من الذين ذكرت أسماؤهم عند التطرُّق إلى سيرته الذاتية. انظر للوقوف على سيرته الذاتية: قطب الدين موسى بن محمد اليونيني، ذيل مرآة الزمان 1: 434 ـ 437، دراسة وتحقيق: حمزة عباس، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2007م. وبطبيعة الحال قد يعمد علماء الإمامية أحيانا إلى التعريف بأنفسهم على أنهم حنابلة أو أحناف تبعاً للظروف والمناسبات. ومن ذلك مثلاً: العالم الإمامي أبو محمد قريش بن سُبيع العلوي، الذي قدم إلى بغداد وأقام فيها إلى حين وفاته سنة 620هـ، وقد عرَّف نفسه مدّة إقامته فيها على أنه من الحنابلة (كان يُظهر التسنُّن وأنه على مذهب أصحاب الحديث)، وربما كان هذا هو السبب وراء تمكُّنه من الحصول على منصب الإشراف على مكتبة جبانة السلاجقة لفترةٍ من الزمن. انظر سيرته الذاتية في: الصفدي، الوافي بالوفيات 24: 238 ـ 239.

([14]) انظر على سبيل المثال: كتاب الوزير المغربي أبي القاسم الحسين بن عليّ(418هـ) إلى الخليفة العباسي القادر بالله، والذي دافع فيه الوزير المغربي عن نفسه في دفع تهمة التشيُّع، وساق لذلك أدلة وشواهد من اتّباعه لأهل السنّة، بعد أن أشار إلى خدمة بعض أقربائه للخلافة، وذكر من جملة ما ذكر في هذا الشأن مجالسته لعلماء أهل السنّة ورواية كتبهم، من قبيل: موطأ مالك، وصحيح مسلم، وصحيح البخاري، وغير ذلك من الكتب، وأنه أخذها سماعاً من علماء أهل السنّة في روايته، متَّخذاً من ذلك دليلاً على بطلان اتهامه بالتشيُّع. انظر: ابن عديم الحلبي، بغية الطالب 5: 16 ـ 17؛ إحسان عباس، الوزير المغربي أبو القاسم الحسين بن علي العالم الشاعر الناثر الثائر، دراسة في سيرته وأوجه ما تبقى من آثاره: 198 ـ 200، دار الشروق، بيروت، 1988م.

وللوقوف على سنة التظاهر بالشافعية بين علماء الإمامية، انظر:

  1. J. Stewart, “Taqiyyah as Parformance: the Travels of Baha’ al-Din al-Amili in the Ottoman Empire (991 – 93 / 1583 – 85), “Princeton Papers in Near Eastern Studies 4 (1996): 1 – 70, reprinted in Stewart, et al. Law and Society in Islam (Princeton, New Jersey: Markus Wiener Publishers, 1996), pp. 1 – 70, idem, “Husayn b. Abd al-Samad al-Amili’s Treatise for Sultan Suleiman and the Shi’I Shafi’I Legal Tradition, Islamic Law and Society 4 (1997), pp. 156 – 99; idem, Islamic Legal Orthodoxy: Twelver Shiite Responses to the Sunni Legal System (Salt Lake City: Utah University Press, 1998), pp. 61 – 109.

([15]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 152.

([16]) انظر: محمد كاظم رحمتي، شهيد أول ومسأله شهادت أو، فصلية مطالعات تاريخ إسلام، العدد 7: 111 ـ 132، السنة الثانية، شتاء 1389هـ.ش (مصدر فارسي).

([17]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 170 ـ 171.

([18]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 201 ـ 348.

([19]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 260.

([20]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 280 ـ 305.

([21]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 296.

([22]) جعفر المهاجر، جبل عامل بين الشهيدين: 222.

([23]) إن الغفلة عن التقليد المتداول في الحقبة مورد البحث، والملحوظة في جميع مواضع كتاب الشيخ المهاجر، تمثِّل واحدة من الآفات الرئيسة في هذا الكتاب. وإن عجزه عن الوصول إلى نتائج مقنعة يعود في الحقيقة إلى هذا السبب. لقد كان الأشخاص في عصر الشهيد الثاني بحاجةٍ إلى شهادة تزكية وتعريف للتصدي إلى التدريس، وكان يطلق على تلك الشهادة مصطلح (العرض)، ويتم الحصول على تلك الشهادات من القضاة المنصوبين في المناطق التي يقطنها العلماء، حيث يعمل القضاة على تأييد هوية الأفراد، وتأكيد صلاحياتهم العلمية، ثم يحمل العلماء تلك التزكيات إلى قاضي العسكر في إسطنبول؛ كي يتسنى لكلّ واحدٍ منهم الحصول على منصب للتدريس في منطقةٍ ما، تبعاً لاعتباره ومكانته العلمية والاجتماعية التي يتمتَّع بها. أما الطريقة الأخرى للحصول على منصب التدريس فهي الرجوع مباشرةً إلى قاضي العسكر والعلماء في إسطنبول، وفي مثل هذه الحالة يتعيَّن على الشخص العالم أن يثبت جدارته العلمية؛ ليتمكن بعد ذلك من الحصول على موافقة قاضي العسكر ليتولّى منصب التدريس في منطقةٍ ما. وفي هذه الحالة يجب على الأشخاص بشكلٍ عامّ أن يكتبوا رسائل لإثبات كفاءتهم العلمية. وفي تلك الحقبة كان يتمّ تدوين تلك الرسائل تحت عنوان: (أنموذج العلوم)، وهي طريقة أدبية كانت شائعة في حينها لكتابة مثل هذه الرسائل؛ من أجل الحصول على المناصب. وإن الرسالة التي تحدّث عنها ابن العودي، وقال: إنها في عشرة موضوعات من المسائل العلمية، وإن الشهيد الثاني كان قد ألَّفها للتصدي لمنصب التدريس في إسطنبول، إنما هي في الحقيقة أثرٌ أدبي من نوع (أنموذج العلوم). وفي هذا النوع من الرسائل يعمل العلماء قبل كل شيء على التعريف بأنفسهم وأساتذتهم، وبعد ذلك يكتبون في عشرة موضوعات علمية، انظر:

Reza Pourjavady, “Muslih al-Din al-Lari and His Samples of the Sciences 43 3 – 4 (2014), 292 – 322.

([24]) من ذلك ـ على سبيل المثال ـ: ما ذكره اليونيني (ذيل مرآة الزمان 1: 16) في أحداث سنة 654، عند الحديث عن السيرة الذاتية لمظفَّر الدين إبراهيم بن أيبك حاكم صرخند، الذي أوصى أن يدفن في المدرسة المطلة على ميدان الظاهر في دمشق (والتي كان وقفها على أصحاب أبي حنيفة). وربما حدث تنافس محموم من أجل التصدي لرئاسة هذه المدارس، وكان البعض يعمد أحياناً إلى إخفاء عقد وقف المدارس، ويمنعون حضور علماء سائر المذاهب السنّية الأخرى. ومن ذلك: ما حدث بالنسبة إلى المدرسة النورية في مدينة بعلبك في فترة سيطرة الشوافع من أسرة بني عصرون على المدينة، فمنعوا الحنابلة من التدريس والاستفادة من موارد أوقاف المدرسة، بحجّة أن المدرسة موقوفة على الشافعية حَصْراً. وكانوا قد أخفوا وثيقة وَقْف المدرسة أيضاً. وحتّى بعد العثور على وثيقة وقف المدرسة سنة 664هـ لم يتمكَّن الحنابلة من الدخول إلى هذه المدرسة، إلاّ بعد الكثير من النـزاعات، والاستعانة بغير واحدٍ من العلماء والأمراء. (اليونيني، ذيل مرآة الزمان 2: 337). وعليه من خلال الالتفات إلى وثيقة وَقْف المدرسة النورية يجب أن يكون الشهيد الثاني قد تمكَّن من الحصول على إذن بالتدريس فيها بوصفه عالماً شافعياً.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً