أحدث المقالات

نحو فهمٍ معمَّق للرؤية القرآنية للأديان وتحريف كتبها

حوارٌ مع: الشيخ محمد هادي معرفت(*)

ترجمة: سرمد علي

وُلد الشيخ محمد هادي معرفت سنة 1309هـ.ش، في مدينة كربلاء المقدسة، في أسرة من علماء الدين. والده الشيخ علي معرفت الإصفهاني، حيث كان يُعَدّ من مشاهير خطباء مدينة كربلاء. وبعد إكمال دراسة المراحل الابتدائية انخرط الشيخ معرفت في الحوزة العلمية، وكان له من العمر في حينها اثنتا عشرة سنة، وبعد إكمال الدروس في مرحلة المقدّمات درس السطوح العالية عند أساتذة ومشايخ مثل: الشيخ يوسف الخراساني، والسيد حسن القزويني (في كربلاء)، والمراجع العظام: السيد محسن الحكيم، والسيد علي الفاني، والشيخ حسين الحلّي، والميرزا باقر الزنجاني، وكان أكثر حضوره عند السيد أبي القاسم الخوئي (في مدينة النجف الأشرف). وبعد حضور الإمام الخميني في النجف الأشرف واظب الشيخ معرفت على حضور درسه بشكلٍ متواصل، وفي عام 1350هـ.ش انتقل إلى الحوزة العلمية في قم.

وبالإضافة إلى جهوده العلمية في مجال التدريس والتحقيق في مجال الفقه والأصول، خصَّص جزءاً كبيراً من وقته في البحث والتحقيق في الشأن القرآني. تشهد له بذلك مقالاته وكتبه المتعدِّدة، ولا سيَّما منها سلسلة مجلّدات «التمهيد في علوم القرآن». وقد عقدنا معه هذا الحوار في موضوع «الأديان في القرآن»، وهو من الأبحاث التي لا تزال بحاجةٍ إلى المزيد من الدراسة والتحقيق العميق.

_ بسم الله الرحمن الرحيم. نتقدَّم بالشكر الجزيل لسماحة الأستاذ الكبير معرفت على إتاحة هذه الفرصة لنا. والسؤال الأول الذي نودّ أن نطرحه عليكم هو: لماذا يشير القرآن الكريم إلى أديان بعينها، ولا يشير إلى الأديان الأخرى التي كان لها في حينها حضورٌ واسع وكبير في المناطق البعيدة عن الجزيرة العربية، وفي الوقت نفسه يشير إلى بعض الأديان التي لم يكن لها في تلك الفترة إلاّ النزر القليل من الأتباع، مثل: الصابئة أو المندائية؟

^ هذا أحد الإشكالات التي أثارها المستشرقون أيضاً. وقد سبق لنا أن ذكرنا الإجابة عنه في الجزء السابع من كتاب التمهيد. إن المستشرقين إنما أثاروا هذا الإشكال بهدف إثبات قلّة معلومات النبي الأكرم| في هذا الشأن؛ لأنهم على كل حال بصدد إثبات أن القرآن إنما هو من تأليف شخص النبي الأكرم، وأنه لا صلة له بالوحي والسماء، وإن من بين الأدلة على ذلك المستوى المتدنّي من المعلومات التي يمتلكها في هذا الخصوص! وبطبيعة الحال فقد أثاروا إشكالات أخرى أيضاً، من قبيل: إن بعض المعلومات التي يقدِّمها النبي لا تطابق الحقائق، ولا يمكن لها أن تكون من الوحي في شيءٍ! وقد أجبنا عنها بأجمعها. وحتى في مورد قولهم: إن القرآن يحتوي على أخطاء تاريخية أثبتنا أن الذي وقع في الخطأ التاريخي هم أنفسهم، بمعنى أن الوثائق التي قدَّموها لإثبات وقوع القرآن في الخطأ التاريخي تثبت أنهم هم المخطئون، وليس القرآن.

وأما بالنسبة إلى خصوص سؤالكم فيجب القول: إن القرآن الكريم قد خاطب العرب، وعليه يجب أن يتكلَّم بلغةٍ يفهمونها، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4)، بمعنى أن كل نبيٍّ يجب أن يكون على معرفة كاملة ودقيقة بجميع تقاليد وعادات القوم الذين يُرْسَل إليهم، بل ويجب أن يكون مُلِمّاً بجميع أساليبهم اللغوية وحواراتهم اليومية؛ لأنه يعتزم التفاهم معهم، فلو عجز النبيّ عن إثبات وترسيخ أهدافه بين القوم الذين بعث فيهم سيكون عن هداية غيرهم أكثر عجزاً؛ إذ يتعين على قومه وأبناء منطقته إعانته ومساعدته في نشر رسالته، وعليهم أن يشهدوا له بالصدق والصحّة. ومن هنا كان المخالفون يبذلون كل جهدهم من أجل إثبات كفر أبي طالب وعبد الله([1]) وحمزة بن عبد المطّلب وغيرهم من القرابة القريبة من النبيّ الأكرم؛ ليخلصوا إلى نتيجة مفادها أن النبيّ لم يكن مرسلاً من الله؛ بدليل أن المقربين من أهل بيته لم يصدِّقوا به ولم يؤمنوا له! ومن هنا كان الأئمة من أهل البيت^ يُصرُّون منذ البداية على تكذيب هذا الادّعاء، والقول بأن أبا طالب لم يكن مؤمناً فحَسْب، بل كان من أوّل الناس إيماناً بنبوّة ابن أخيه. إن هذه المسألة لا يخفى تأثيرها من ناحية علم الاجتماع، ولا من ناحية علم النفس، في التبليغ والدعوة. إذن يجب أن يفهم الناس كلامه، وأن لا ينطوي بيانه على أيّ غموض وإبهام، ومن هنا فإنهم كانوا يفهمون القرآن جيداً؛ لأنه كان يستخدم لغتهم وأساليبهم الكلامية. وبطبيعة الحال فإن هذا لا ينافي أن يكون القرآن قد نزل بشكلٍ أجمل وأقوى وأمتن وأرفع من المستوى الأدبي الذي كانوا عليه، حتّى أنه كان معجزةً من هذه الناحية، ولكنه في الوقت نفسه لم يخرج عن حدود معرفتهم.

عندما يتكلَّم النبيّ فمن الواضح أنه يأتي بشواهد تاريخية على إثبات دعوته، بمعنى أنه يأتي بشواهد من تاريخ الأمم والأديان السابقة والأنبياء السابقين. ومن الطبيعي أن الشاهد إنما يكون مقبولاً إذا كان المخاطب يعرفه، بمعنى أنه إذا ذكر اسم أمّةٍ ما يجب أن يكون المخاطبون على معرفة بتلك الأمة، وإذا ذكر اسم نبيٍّ يجب أن يكونوا على معرفة به؛ إذ لا تأثير لمجرد الادّعاء بوجود نبيٍّ في قرية لا نعرف مكانها من الكرة الأرضية، وأنه قام بهذا الإنجاز لقومه، وترك هذا التأثير على أمته وأبناء شعبه؟ فحتّى قصّة عاد، التي تُعَدّ اليوم مثار بحثٍ وجدل؛ حيث لا يزال هناك غموضٌ حولها، وإن البلدة التي كانوا يقطنونها لا تزال إلى اليوم من بين الأماكن التي لم يتمّ اكتشافها، ولكنها في عصر النبيّ ونزول القرآن كانت معروفةً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأحقاف، حيث تقع بين اليمن وحضرموت، ومكانُهم معروفٌ، إلاّ أن السكان هناك معروفون بشدّة البأس والقتال، وإنهم لذلك لا يسمحون بإجراء حفريات في مناطقهم، وقد حاول حتّى بعض تجار حضرموت القيام بهذه الحفريات والتنقيب عن آثار في الأحقاف، وأنفقوا أموالاً طائلة، وحصلوا على بعض الأشياء، بَيْدَ أن سكان تلك المنطقة حالوا دون إتمام المشروع. هناك في الأحقاف الكثير من الرمال التي لا تحتاج إلاّ لقليلٍ من الريح كي تغيِّر معالم المنطقة بلمح البصر.

إن القرآن الكريم يذكر مسألة عادٍ للمخاطبين من العرب وكأنّهم يعرفونهم بداهةً، حيث يقول لهم: إنكم قد رأيتموهم وخبرتموهم. وقال تعالى بشأن قوم لوط×: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (الصافّات: 137 ـ 138). فقد كان موضع سكناهم قريباً من الأردن، وكان سكّان شبه الجزيرة العربية في أسفارهم إلى الشام يمرّون بهم عند الصباح، وعند عودتهم كان كلّ شيء على مدى رؤيتهم، بمعنى أن العرب لم ينكروا شيئاً من هذه الأمور التي عرضها القرآن عليهم، والقرآن بدوره إنما أراد بذلك منهم أن يشهدوا له بالأحقّية.

ثم إن القرآن الكريم يقول: ﴿وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ (النساء: 164)، بمعنى أن هناك أنبياء لم يَرِدْ ذكرُ أسمائهم في القرآن؛ إذ لا توجد فائدةٌ ترجى من ذكر أسمائهم؛ لأن المخاطبين لم يكونوا يعرفونهم. فعلى سبيل المثال: لو مسّت الحاجة إلى ذكر بعض سلاطين الجور من الذين تمّ إسقاطهم، والاستشهاد بهم لداعي الاعتبار، يكفي بطبيعة الحال أن نذكر أسماء ثلاثة منهم؛ إذ من غير المعقول أن نأتي على ذكر أسماء جميع سلاطين وملوك الجور الذين شهدهم العالم، وتمّت الإطاحة بهم جميعاً. يقول علماء البلاغة: إن عدم رعاية أدنى النكات البلاغية من شأنه أن يسقط الكلام من الاعتبار والتأثير، ومن هنا فإننا إذا أردنا الاستشهاد بوجود أممٍ تمرَّدت على الأوامر والأحكام الإلهية، وأنها تعرَّضت للعذاب، وأنه كان هناك أنبياءٌ نجحوا في هداية أقوامهم أو لم ينجحوا في ذلك، يكفي أن نذكر بعض المصاديق والأمثلة القليلة على ذلك. ومن الطبيعة أن تقتصر هذه الأمثلة على الأنبياء الذين يعرفهم المخاطب، دون أن تكون هناك حاجةٌ إلى ذكر جميع الأنبياء. وعليه فإن عدم ذكر سائر الأنبياء لا ينهض دليلاً على أن المتكلِّم لم يكن يعرفهم، أو أنه لا يعترف لهم بالنبوّة، بل لأنه لم يجِدْ حاجةً أو ضرورة إلى ذكرهم بعد اكتفائه بمَنْ ذكرهم، ومعه يكون ذكرهم زائداً على الحاجة، وغير مُجْدٍ؛ لأنه لا ينطوي على ثمرة بالنسبة إلى المخاطبين.

_ إن هذا الكلام الذي ذكرتموه يثبت أن القرآن كانت له ملاحظاتٌ في بيان المسائل، بَيْدَ أنه لا يثبت علم النبيّ بغير ما ذُكر في القرآن. يضاف إلى ذلك أنه بالالتفات إلى أن أغلب المخاطبين للنبيّ كانوا من العرب، وأن أكثر العرب كانوا من المشركين، أي حتّى اليهود والنصارى كانوا أقلّية، في حين أن المشركين لم يكونوا على علمٍ بتلك الأمور التي من شأنها أن تنفعهم في مقام المحاججة مع النبيّ. ثم إنه يبدو أن استشهاد القرآن لا ينطوي على ناحيةٍ تاريخية أو احتجاجية، وإنما غاية ما هنالك أن القرآن ذكر كلاماً، ورتَّب عليه نتيجة أخلاقية أو أخروية.

^ في الأساس نحن لا نريد إثبات ما إذا كان القرآن يعلم أو لا يعلم؛ إذ لا دخل لهذا الأمر في الهدف الذي اختطّه القرآن لنفسه. إنما الكلام يكمن في أن هؤلاء يريدون ـ من خلال عدم ذكر هذه الأسماء ـ الوصول إلى نتيجة مفادها أن القرآن لم يكن يعلم. ونحن نقول: إن عدم ذكر الموارد الأخرى لا يشكِّل دليلاً على أن القرآن لم يكن يعلم. وبعبارةٍ أخرى: إن عدم الذكر لا يدلّ من الناحية المنطقية على عدم العلم. وبطبيعة الحال فإن علم أو عدم علم صاحب القرآن بحثٌ آخر، يجب إثباته بطرق أخرى.

الأمر الآخر: إنه لا يمكن القول: إن الله لم يأخذ اليهود بنظر الاعتبار، بل إن المشركين في الأساس كانوا يعتبرونهم من العلماء. يقول ابن خلدون: إن السبب في انتشار الإسرائيليات في التفسير والتاريخ على نطاقٍ واسع هو أن العرب لم يكونوا متعلِّمين، صحيحٌ أنهم كانوا يتواصلون مع الشرق والغرب بواسطة التجارة، حيث كانوا يتَّجهون إلى حضرموت شرقاً؛ لغرض التجارة، ولا يذهبون إلى الهند عبر البحر والمحيط، ولكنّ السفن التجارية كانت تأتي من الهند، وترسو في خليج عدن، وتنزل شحنتها من البضائع، ويتمّ تسليمها إلى العرب؛ لأن شبه الجزيرة العربية كانت تشكِّل مناطق غير آمنة بالنسبة إلى غير العرب، ولم يكُنْ بإمكان التاجر الأجنبي والغريب أن يتنقَّل ببضاعته في العمق البرّي لهذه المنطقة. ومن بين العرب كانت قريش وحدها هي التي تستطيع القيام بهذه المهمة؛ وذلك بسبب هيمنتهم على الكعبة المشرّفة، فكانوا يحظون باحترام القبائل الأخرى؛ بوصفهم أبناء قبيلةٍ مقدَّسة، وإلاّ فإن القبائل العربية الأخرى لم تكن تمارس هذه التجارة، الأمر الذي أدّى إلى انتعاش الاقتصاد في مكّة المكرّمة. وكان العرب ينقلون هذه البضائع إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط لنقلها عبر السفن إلى أوروبا. وهذه هي رحلة الشتاء والصيف الوارد ذكرها في القرآن الكريم. ولذلك كان تواصلهم مع الهنود قليلاً جدّاً. وكذلك إذا كان لهم تواصلٌ مع الرومان فإنه لم يتجاوز حدود تسليم البضائع لهم، والتعاطي معهم بالبيع والشراء، دون أن يطَّلعوا على ثقافتهم.

ولذلك كان ابن خلدون يقول: إن العرب إذا أرادوا معرفة المسائل الفلسفية من قبيل: المبدأ والوجود، وفلسفة الوجود، والمعارف الأخرى، توجَّهوا إلى اليهود؛ باعتبارهم إيّاهم من العلماء، وليسوا أمّيين مثلهم. يقول ابن خلدون: إن اليهود الذين كانوا يقطنون شبه الجزيرة العربية لم يكن مستواهم العلمي والثقافي يفوق المستوى المعرفي للسكان العرب في هذه المنطقة كثيراً، وإنما كلّ ما يعلمونه هو شيء من تاريخ الأنبياء فقط، وكانوا يضيفون إلى ذلك أشياء من نسج خيالهم. وكان العرب يتصوَّرون أن كلّ ما يقوله اليهود هو من وحي السماء. وقد تمّ الوقوف بوجه هذه العادة في عصر النبيّ الأكرم|، ولكنها عادَتْ ثانيةً بعد رحيل رسول الله، وبذلك وجدت الإسرائيليات طريقها إلى دائرة الإسلام. بَيْدَ أن ما كان الإسرائيليون ينقلونه إلى العرب لم يكن هناك مستندٌ تاريخي يدعمه في كتابٍ. وبذلك فإنه ليس هناك رَيْبٌ في أن العرب كانوا جاهلين. وعليه لو أراد القرآن أن يتحدَّث عن بوذا فإنهم لم يكونوا ليفهموا شيئاً من ذلك، ولا يَسَعهم الرجوع إلى مصدرٍ قريب منهم للتعرُّف عليه. بخلاف الحديث عن موسى×، حيث المرجعية للتعرُّف عليه متمثِّلة باليهود المقيمين بين العرب، ولذلك كانوا يرجعون إليهم إذا أرادوا معرفة ما إذا كان يمكن للنبيّ أن يكون بشراً أم لا؟ وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ (يوسف: 109)، بمعنى أن الأنبياء كانوا من البشر، ويقول تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ﴾ (النحل: 43 ـ 44)، الأمر الذي يثبت أنهم كانوا من الجهل بحيث لا يعلمون ما إذا كان يمكن للنبيّ أن يكون من البشر، ولذلك كانوا يسألون اليهود: هل كان أنبياؤكم من البشر؟! هذا ما كان عليه المستوى المعرفي بين هذه الأمة، فهل تتوقَّعون بعد ذلك من القرآن أن يذكر لهم أموراً أبعد من ذلك؟! ويحدِّثهم عن أمور لا طريق لهم إلى معرفتها، وتحديد صحيحها من سقيمها. نقول أحياناً: إن القرآن الكريم لا يحتوي على الكثير من الأدلة الإعجازية التي تثبت أنه معجزة، وعليه كان من المناسب لو أنه جاء على ذكر هذا النوع من المغيّبات؛ ليثبت إعجازه بواسطتها. وبذلك سيطرح القرآن مسائل هي من قبيل: لقلقة اللسان التي لا يمكن أن يترتَّب عليها أيّ أثر عملي في مرحلة نزوله، هذا في حين أن القرآن يشتمل على ما يكفي من الأدلة التي تثبت إعجازه للأجيال القادمة؛ حيث هناك الكثير من الإشارات العلمية في هذا الشأن. ثم حتّى لو ذكر النبي اسم بوذا في القرآن الكريم لن يعدم المتذرِّعون وسيلةً لاتهام النبي بأنه قد تعلَّم هذه الأسماء من الهنود عندما كانت سفنهم ترسو على ساحل بحر العرب ممّا يلي شبه الجزيرة العربية.

_ إن ما ذكرتموه من أن العرب في شبه الجزيرة العربية كانوا هم المخاطبون الأوائل للنبيّ الأكرم يحتوي على نكتةٍ بلاغية جيِّدة، ولكنّ كلامنا يكمن في أن الدين الإسلامي يُعتبر هو الدين الخاتم والشامل الذي يخاطب جميع سكّان المعمورة، ولا يقتصر في دعوته على قومه من العرب فقط، وإنما هو رسالة لجميع الأمم في مختلف الأعصار والأمصار، وحتّى الأجيال القادمة.

^ عليكم أن تدركوا أن الإسلام قد أوقد قَبَساً وأعطاه للعرب، حيث قال لهم الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: 143). ومن بين الوصايا التي قالها النبيّ في آخر حياته: إن شبه الجزيرة العربية يجب أن تكون خاليةً من المشركين، وأن لا يستوطنها غير المسلمين؛ لأن قبس الهداية هذا يجب أن ينطلق من هذه النقطة ليشعّ على العالم بأسره. بَيْدَ أن نقل رسالة الإسلام إلى خارج شبه الجزيرة العربية يتطلَّب أسلوباً آخر مختلفاً عن الأسلوب المتَّبع في مخاطبة العرب. فهل تتوقَّعون من الله أن يخاطب الفرس بنفس الأسلوب الذي خاطب به العرب؟ يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء: 198 ـ 199)، وقال في آيةٍ أخرى: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ (الأنعام: 89)، بمعنى أن هناك أمماً تؤمن فور سماعها للحقّ، أي إن النبي الأكرم| كان قد أخذ بنظر اعتباره أمماً سريعة الإيمان والقبول بالحقّ. وعندما نزلت هذه الآية وضع النبيّ يده على كتف سلمان وقال: «هذا وقومه»، أي إن القرآن كان يفاخر بالأمم التي لا تُبْدي عِناداً في مواجهة الدعوة الإسلامية. ومن هنا عليكم أن لا تتوقَّعوا من القرآن أن يخاطب الأمم الأخرى بنفس أسلوب الخطاب الذي خاطب به العرب.

كما نشاهد اليوم أمثلةً حيّة من الشعوب المتحضِّرة والواعية في أوروبا وأميركا وغيرهما من البلدان الأخرى، لا يتوقَّف إيمانهم بالإسلام على مثل هذه الأمور الجزئية التي طرحها الإسلام على العرب، وإنما هم يؤمنون بالإسلام فَوْر سماعهم لتعاليمه، النابضة بالحياة، والزاخرة بمكارم الأخلاق، دون أن يرَوْا حاجةً إلى الاستدلال؛ وذلك بسبب نقاء فطرتهم.

ولا بُدَّ هنا من إضافة هذه النكتة، وهي أن أحد أسباب تأخُّر ظهور الإمام الحجّة المهديّ المنتظر# يعود إلى هذه الحقيقة؛ وذلك لأن الإمام المنتظر عندما يظهر إلى الناس يعلن الحقّ بوضوحٍ، وعليه يجب أن يكون المستوى الفكري للبشر قد بلغ مرحلةً متقدِّمة من النضج، بحيث يتقبَّل الحق فور سماعه.

وها نحن اليوم نرى كيف ينتشر الإسلام بين الأمم الأخرى. فما هو المنطق الذي تستعملونه الآن لإثبات أحقّية الإسلام للناس؟ إن الناس اليوم بمجرّد أن يستمعوا إلى تعاليم الإسلام، ويدركوا انسجام هذه التعاليم مع الفطرة، فإنهم يؤمنون بها، كما آمن بها قبلهم سلمان الفارسي؛ حيث كان يبحث عن ضالّته، وعندما عثر على تلك الضالة آمن بها دون المطالبة بدليلٍ خاصّ. وقد تعرّضنا إلى هذا البحث في موضعه في الجزء الرابع من كتاب التمهيد، حيث قلنا هناك: «إن الإعجاز ضرورةٌ دفاعية، وليس ضرورة دعائية»، بمعنى أن النبيّ لم يجترح المعجزة لقبول الدعوة وتبليغ الرسالة، وإنما للدفاع عن نفسه وعدم تكذيبه. وبذلك يكون للإعجاز موضعه الخاصّ، كما للسيف موضعه الخاصّ. فالمعجزة يتمّ اللجوء إليها عند عرض الشبهات والشكوك، ولذلك فإن النبيّ في السنوات الثلاث الأولى من دعوته السرّية لم يكن لديه قرآنٌ، ولم يكن لديه إعجازٌ آخر، ومع ذلك تركت كلمته تأثيرها على شباب قريش والعرب، والكثير من أصحاب الفطنة والضمائر الحيّة، وبعد ذلك بثلاث سنوات انتقل إلى الجهر بالدعوة. وحيث بدأ العرب بإثارة الشبهات حول دعوة الرسول مسّت الحاجة إلى اجتراح المعجزات. وعليه لم تكن المعجزة لإثبات أصل الدعوة وإبلاغها، وإنما لكسر العزلة والحصار الذي فرضه المشركون على رسول الله| وصحبه، من خلال إثارة الشبهات حوله.

_ هل يُعَدّ مصطلح أهل الكتاب مصطلحاً توقيفياً أو هو ناظرٌ إلى حقيقة؟ بمعنى أنه لو ثبت من الناحية العلمية والتاريخية أن البوذيّين مثلاً كان لهم كتاب أيضاً هل يمكن لذلك اعتبارهم من أهل الكتاب، حتّى وإنْ لم يَرِدْ وصفهم في القرآن بذلك؟

^ إن الزرادشتيين والهندوس من أهل الكتاب. وقد قيل للنبيّ: لماذا أخذت الجزية من المجوس، مع أنهم مشركون؟! فقال: إنهم أهل كتاب. ولذلك فإنّ فقهنا قد أخذ هذه المسألة أخذ المسلَّمات. وأما أهل السنّة فقد وقع الخلاف بينهم في هذا الشأن، والرأي الأرجح عندهم هو أن المجوس من أهل الكتاب. وعليه فإن مسألة أهل الكتاب كانت مطروحةً منذ القِدَم. والمسألة تذهب إلى أبعد من ذلك، وإن الاختلاف الذي يحاول البعض إثارته بين أهل الكتاب وغيرهم لا أساس له من الصحّة. إن ما يحاول البعض إثباته من الحكم على أهل الكتاب بالطهارة، والقول بنجاسة غير أهل الكتاب، لا يقوم على دليلٍ صحيح، بل ليس هناك دليلٌ على نجاسة أحدٍ بسبب كفره، بل حتّى المرتد ليس نجساً. نعم، كانت هذه المسألة مطروحةً في برهة من الزمن، أما الآن فقد اتَّضح أمرها للجميع، ولم يَعُدْ هناك من ثمرة تترتَّب على تقسيم الناس إلى: كتابيين؛ وغير كتابيين. إن الثمرة المتصوَّرة على هذه المسألة إنما تتجلى في مسألة أخذ الجِزْية وعدمها، وأما في ما يتعلَّق بالحكم بالطهارة والنجاسة فلا فرق بين الكتابي وغيره من هذه الناحية. والجِزْية هي من قبيل: الأحكام الحكومية، ولها بحثها المستقلّ. ونحن اليوم ـ مثلاً ـ لا نأخذ جِزْية من أهل الكتاب الذين يعيشون معنا في هذا الوطن، بل لا توجد إمكانية لطرح هذه المسألة في العالم المعاصر. وهناك روايتان مأثورتان عن الإمام الصادق× يقول فيها: إن النبيّ قد جعل دية الداخلين في ذمّته مساوية لدية المسلمين، بمعنى أن اليهود والنصارى الذين دخلوا في ذمّة المسلمين يتساوون معهم في الدية. وقد سأل الراوي الإمام الصادق× عن اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون معهم في تلك الفترة؟ فقال الإمام بأن الحكم يشملهم أيضاً، وأن النبي قد أعطى الذمام لجميع اليهود والنصارى.

ثم إن الجِزْية هي نوع ضريبةٍ يعود تحديدها إلى وليّ الأمر في كلّ عصر. وقد كان يتمّ إعفاء اليهود والنصارى من دفع الكثير من الضرائب التي يدفعها المسلمون، وكانوا في المقابل يدفعون الجِزْية بَدَلاً منها، وأما في بلدنا فإن هؤلاء يدفعون جميع أنواع الضرائب، وعليه لا معنى لفرض الجِزْية عليهم. وإن تحديد الجِزْية وبيان مقدارها يعود إلى تشخيص وليّ الأمر، فهي ـ كما تقدَّم ـ من قبيل: الأحكام الحكومية، بمعنى أنها تتعلَّق برأي وليّ الأمر في كلّ عصر بملاحظة نوع الخراج والضرائب المفروضة على أنواع الخراج؛ لأن هؤلاء يتمتَّعون بجميع حقوق المواطنة، أسوةً بسائر المسلمين، فعليهم في المقابل أن يدفعوا الضريبة، وحيث يتمّ الآن في بلدنا أخذ الضرائب من الجميع بالتساوي لا يكون هناك معنى لفرض الجِزْية عليهم. هذا هو حكم المسألة، وليس الأمر بأننا قد تخلَّينا عن هذا الحكم؛ خوفاً من الرأي العام العالمي، أو أننا إنما لم نَعُدْ نأخذ الجِزْية؛ للتخلُّص من الضغوط الدولية.

_ ما هو موقف القرآن من الكتب السماوية الأخرى؟ وهل هو تأييدها أو القول بتحريفها؟

^ لقد ذكرنا في كتاب «التمهيد» سبعة أنواع للتحريف، ومن بينها: التحريف المعنوي، وهو يعني تفسير الكلام على غير وجهه. وقد حدث هذا النوع من التحريف في القرآن الكريم أيضاً، فكم من آيةٍ فسَّروها على غير وجهها؟!  وكلّ ذلك هو من قبيل: التحريف المعنوي. وإن ما يذكره القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب السابقة من التحريف هو من قبيل: التحريف المعنوي. وأما التحريف اللفظي فهو من قبيل: استبدال كلمةٍ بكلمة أخرى، أو إضافة كلمة إلى النصّ، أو حذف كلمة من النصّ، أو استبدال موضع كلمة بموضع كلمةٍ أخرى، وهو ما يصطلح عليه بعبارة أخرى بالتحريف الموضعي، أو التحريف بالزيادة والنقيصة. وكلّ هذه الموارد هي من قبيل: التحريف اللفظي. وفي قراءة ابن مسعود ـ على سبيل المثال ـ استبدال عبارة (كالعهن المنفوش) بعبارة (كالصوف المنفوش).

ولم يتعرَّض القرآن بشأن الكتب السابقة إلى هذا النوع من التحريف. وقد ذهب جميع المفسِّرين إلى تفسير التحريف الوارد في قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ (المائدة: 41)، وفي قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ (النساء: 46)، بالتحريف المعنوي، حيث يتمّ بيان التحريف بشكلٍ جميل، إذ يُقال: إن اللفظ وضع على المعنى، فالماء وضع للدلالة على مفهوم هذا الجسم السائل. وبذلك فإن اللفظ ركب على المعنى؛ فالمعنى مركوبٌ واللفظ راكب، والتحريف المعنوي يعني أن يكون اللفظ قائماً في مكانه، مع استبدال المعنى والمركوب، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾، بمعنى أنهم يخرجون الكلام عن المعنى الذي وضع له، واختلاق معنىً آخر بَدَلاً منه. وقد بيَّن جميع المفسِّرين هذا الأمر بشكلٍ واضح وصريح، ولا سيَّما جار الله الزمخشري.

وأما من زاوية النظرة الخارجية فإن التحريف الذي أصاب العهدين كان ناتجاً من الترجمات. لقد بذلتُ جهوداً كثيرة كي أرى جميع الكتب التي تمّ تأليفها في الردّ على كتب الأديان السابقة ـ سواء من السنّة أو الشيعة ـ، فوجدْتُ أنها بأجمعها تقول: إن هذه الكلمة قد تمّ تفسيرها من قبل أهل الكتاب على هذا الشكل، في حين أن معناها غير ذلك. ولا يزال هذا النوع من التحريف مستمرّاً إلى يومنا هذا، فنسخة الكتاب المقدَّس المتوفِّرة عندي، والتي يعود تاريخ طباعتها إلى ما قبل قرنين من الزمن، يوجد فرقٌ بينها وبين نسخة الكتاب المقدَّس التي طُبعت هذه السنة في لندن؛ فالمذكور في النسخة القديمة أن الله نزل من العرش، و«جعل يتمشّى» على السحاب؛ وأما في الطبعة الجديدة فالمكتوب هو «يتجلّى»، بَدَلاً من «يتمشّى»؛ وذلك لأن الأمزجة الراهنة للناس في هذا العصر لم تَعُدْ تقبل أن ينزل الله ويتمشّى. وهذا يعني وقوع التحريف المعنوي في الطبعات الجديدة؛ إذ يقومون بإجراء تحديثات في المعاني. ولكنْ هل أُجري مثل هذا التغيير في النسخة الأصلية للكتاب المقدَّس بطبعته اليونانية؟ لم يصدر مثل هذا الادّعاء من أحدٍ حتّى الآن، ناهيك عن إثباته.

إن من بين أسباب إمكان التحريف في ترجمات التوراة والإنجيل، وعدم إمكان ذلك بالنسبة إلى القرآن، هو أن كتب الأديان السابقة كانت محدودةً. فمثلاً: في ما يتعلَّق بكتاب «الأفستا» لم تتوفَّر منه في طول وعرض الإمبراطورية الفارسية الواسعة سوى 25 نسخة، بعدد الموابذة([2]). ولذلك تمكَّن الإسكندر المقدوني من إتلاف جميع هذه النسخ في هجومه على كامل الإمبراطورية الفارسية. وقد تنبَّه النبي الأكرم إلى هذه الناحية، ولذلك بادر منذ اليوم الأول من نزول القرآن ـ حتّى لو نزلت سورةٌ قصيرة ـ إلى حثّ الجميع على استنساخها وكتابتها. وقد استمرَّتْ هذه السنّة الحسنة بزخمٍ أشدّ حتّى بعد رحيل رسول|، فكانت أعداد نسخ القرآن تزداد طرداً مع اتّساع رقعة نفوذ المسلمين في العالم، وبذلك تمَّتْ صيانة القرآن من التحريف. فالقرآن منذ اليوم الأول من نزوله لم يكن حِكْراً على فرقة معيّنة دون غيرها، حتّى يكون تحريفه أمراً ممكناً. فالسيد المرتضى ـ مثلاً ـ يقول: إن كتاب (مغني اللبيب) لا يمكن لأحدٍ أن يقوم بتحريفه؛ لأن نسخه كثيرة ومتوفِّرة عند الجميع.

إن أحبار اليهود لم يكونوا يسمحون بعرض التوراة على الناس أبداً، بمعنى أن اليهودي العادي لم يكن بإمكانه أن يرى التوراة منذ ولادته إلى حين مماته. وهكذا كان الأحبار يقرأون من التوراة على الناس على طبق أهوائهم، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ (البقرة: 79)، وقال الله تعالى في موضعٍ آخر: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (آل عمران: 93). وهذا يثبت أن القرآن الكريم كان يبدي حساسية بالنسبة إلى التوراة، ويؤكِّد على ضرورة الإتيان بها، فلو أن التوراة التي كانت بحوزة أولئك الأحبار كانوا يحرِّفونها لمصلحتهم، ثم يأتون بها ويقرأونها، لم يكن بوسع أحدٍ أن يدّعي وقوع التحريف في تلك التوراة الأصلية، بمعنى أن الوحي الذي نزل من قبل الله على النبي موسى×، وكان عبارة عن عشرة ألواح، والمتوفِّر منها حالياً لا يتجاوز السبعة، لا يمكن لأحدٍ أن يدَّعي وقوع التحريف فيها؛ لأن مثل هذا الادّعاء يحتاج إلى دليلٍ. والقرآن إنما تحدَّث عن التحريف المعنوي فقط.

كما لا بُدَّ من الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أن النبيّ عيسى بن مريم× لم يكن له كتابٌ باسم الإنجيل؛ فإن الإنجيل كلمة يونانية تعني البشارة؛ فكلمة الإنجيل تعني بشارات النبيّ عيسى× وتعاليمه التي تخرج الناس من حالة اليأس؛ لأن اليهود كانوا يعملون على بثّ اليأس في قلوب الناس، فجاء النبي عيسى المسيح لكي يبعث البشرى بين الناس، ويجعلهم متفائلين بالمستقبل، ويمنحهم حياةً مفعمة بالبهجة والنشاط. وقد قام تلاميذه بعد ذلك بتدوين تلك البشارات، لا أنه جاء بكتابٍ من عند الله. وأما قول الله تعالى على لسان النبيّ عيسى×: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ (مريم: 30) فالكتاب في هذه الآية يعني الشريعة. وإن قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (البقرة: 129؛ آل عمران: 164؛ الجمعة: 2) يعني أنه يعلِّمهم الشريعة والحِكَم. فالكتاب يعني الشريعة، والحِكْمة تعني الرؤية والمعرفة، بمعنى أن النبيّ يقوم بمهمتين، وهما: تعليم علم الشريعة ورؤية الشريعة. إن هذه الأناجيل هي من تأليف تلاميذ السيد المسيح. ولم يدَّعِ أحدٌ أن السيد المسيح قال شيئاً، ثم جاء الآخرون وعمدوا إلى تحريف كلامه، لم يدَّع أحدٌ ذلك، ولم يقُمْ أحد بإثباته، وإنما كل ما حدث بعد ذلك إنما كان في الترجمات. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنهم ترجموا الـ «فرقليط» إلى «المعزّي»، في حين أن كلمة «الفرقليط» تعني «مَنْ له حمدٌ كثير»، الذي ينطبق على «أحمد». وترَوْن الآن أن القرآن الكريم ينقل عن الزبور، وهو مزامير داوود×، إذ يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: 105)، وذات هذه العبارة نجدها في المزامير، دون زيادة ولا نقيصة، ولذلك فإني لا أرتضي القول القائل بحدوث تحريف في هذه الكتب. نعم، قال المحدِّث النوري: حيث وقع التحريف في كتب الأديان السابقة يجب أن يكون الشيء نفسه قد حدث بالنسبة إلى القرآن أيضاً. ونحن نرفض هذا الكلام، ونناقشه في الكبرى، وفي الصغرى أيضاً. ومن هنا يتعيَّن عليكم أن تثبتوا حصول التحريف اللفظي في العهدين. وهناك الكثير من الشواهد والأدلّة على عدم وقوع التحريف. وفي الأساس فإن هذه التوراة هي من كتابات الناس، ولم تنزل جميعها من السماء؛ فإن التوراة ـ التي هي عبارة عن الألواح العشرة، التي لم يبْقَ منها سوى سبعة فقط ـ عبارةٌ عن كتاب تأريخي، مثل (سيرة ابن هشام) تماماً.

_ كما أن فيه تصريحاً بتاريخ وفاة النبيّ موسى (عليه السلام)!

^ أجل، فقد تمّ تسجيل كلّ شيءٍ بشكلٍ سنوي. إن هذه المسائل التاريخية لا ربط لها بالتوراة. إن التوراة هي مثل سيرة ابن هشام؛ إذ يقول: إن هذه الآية نزلت في موضع كذا. لو قلنا: إن التوراة الراهنة هي التوراة الأصلية فسوف نكون كمَنْ يقول: إن سيرة ابن هشام هي القرآن الذي نزل على رسول الله. في حين أن سيرة ابن هشام ليست قرآناً، ولكنّها تشتمل على مقاطع من القرآن. وكذلك العهد القديم يشتمل على شيءٍ من التوراة. والقرآن الكريم حيث يشير إلى التوراة فإنما ينظر إلى كلمات النبيّ موسى×.

يمكن لكم أن تقرأوا خطب النبيّ موسى× في التوراة؛ لتدركوا كم هي قوية ومؤثِّرة للغاية! هناك في التاريخ اليهودي انقطاعٌ عن تدوين التوراة على مدى سبعين سنة، كان الاعتماد خلال هذه الفترة على الذاكرة فقط، وبعد انتهاء هذه الفترة أخذوا يعيدون كتابة التوراة على طبق ما علق في الذاكرة. ولا شَكَّ في أن نقل المعلومات من ذاكرةٍ إلى أخرى قد تضرّ بصيغة النصّ الأصلية وصورته. وما يقال بالنسبة إلى الإسلام من حدوث مثل هذا التوقُّف عن كتابة الحديث لقرنٍ من الزمن، إذا أخذناه على ظاهره وحرفيته، فإنه سيضرّ بالإسلام كثيراً؛ إذ كيف يمكن للبخاري أن ينقل الأحاديث كما صدرت عن رسول الله| بعد انقطاع استمرّ مئة عام، اعتماداً على مجرّد ما تناقلته صدور الرواة فقط. ومن هنا فإن الوصول إلى أصل الأحاديث كان يتمّ بأحد طريقين؛ إما أن يكون هناك أشخاص قد كتبوا الأحاديث رغم منع الخليفة الأول والثاني من كتابتها، وكان من بين الذين خالفوا هذا الحظر عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة، وكانت هذه الكتابات تنتقل من يدٍ إلى يد؛ والطريق الآخر أنهم كانوا يراجعون الإمامين الباقر والصادق’، ويسمعون منهما أحاديث النبي الأكرم|، ومن هنا فإن الروايات المتعلِّقة بأصول الأحكام هي الموجودة في كتب ومصادر الشيعة.

_ البحث الآخر هو كيف يتمّ التوفيق بين كون القرآن مصدِّقاً للعهدين وبين كونه مهيمناً عليهما؟ فلو صوَّرنا الهيمنة بما يلازم إعمال التغيير والتصرُّف في النصّ المهَيْمَن عليه ألا يضرّ ذلك بكونه مصدِّقاً له؟

^ إن هذه المسألة ترتبط بنسخ الشرائع، وعليه لا بُدَّ من التعرُّف على معنى نسخ الشرائع. فهل نسخ الشرائع يعني أن تعمل الشريعة اللاحقة على نسخ الشريعة السابقة بشكلٍ كامل، وإعادة بنائها من جديد، أم أن نسخ الشريعة ليس بهذا المعنى؟

إن المراد من نسخ الشرائع ـ طبقاً لرؤية الدين الإسلامي، ولا سيَّما مدرسة التشيُّع ـ هو أن هذه الشرائع تقع في امتداد بعضها، بمعنى أنها بدأت من نقطة، وشقت طريقها خطوةً بعد خطوة، حتّى بلغت مرحلة تكاملها. وبطبيعة الحال فإن جميع الشرائع السماوية تقوم على أساسٍ ثابت لا يتغيَّر أبداً، وهذا ما يشير إليه القرآن في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ (آل عمران: 19). إن الدين الذي جاء به النبيّان آدم وإبراهيم’ هو الإسلام. وكان النبيّان موسى وعيسى’ يتحدثان أبداً عن الإسلام. وعليه فإن ما يتصوَّره البعض ـ بالنظر إلى قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ ـ من أن الأديان السابقة باطلةٌ بأجمعها، وأن الدين الحق الوحيد هو الدين الإسلامي فقط، مجانبٌ للصواب؛ لأن الذي تريد هذه الآية قوله هو أن جميع الأديان السماوية هي في الواقع دينٌ واحد، وهو دين الإسلام الذي اكتملت صورته الأخيرة بالدين الإسلامي. وهذا لا يعني تجاهل الأديان السابقة. ولذلك فإن القرآن الكريم يتحدَّث عن النبيّ إبراهيم× بالقول: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ﴾ (الحجّ: 78). فالإسلام هو الدين الذي جاء به النبيّ إبراهيم×، بوصفه أبا الأنبياء. وعليه فإننا نذهب إلى القول بأن جميع الأديان السماوية تقول الحقّ، وإنها لا تختلف عن بعضها من حيث الأصول والثوابت، بمعنى أنها لا تختلف في مسألة التوحيد، والعلاقة القائمة بين الأنبياء والوحي، وعلاقة الموحي والموحى إليه بالبشر، وبيان حاجة الإنسان إلى الدين، وكون العبادة من أركان الشريعة. وإلى هذه النقطة يشير القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ (البقرة: 106). وفي بعض الشرائع؛ وبسبب بعض الظروف الخاصة، تمّ تحريم بعض الأمور، من قبيل: تحريم الشحوم على بني إسرائيل؛ وذلك بسبب تحريمها من قبل النبي يعقوب على نفسه، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ﴾ (آل عمران: 93)، أي إنها لم تكن محرَّمةً في بداية الأمر. كما أن النبي عيسى يصرِّح بأنه لم يَأْتِ ليبطل الدين الذي جاء به النبيّ موسى×، ولذلك لا تزال التوراة هي مصدر المسيحيين في شرائعهم وأحكامهم إلى يومنا هذا، أي إنهم يعملون بالتوراة؛ لأن السيد المسيح لم يَأْتِ لهم بشيءٍ جديد من هذه الناحية. وإن معنى قوله تعالى: ﴿أَوْ نُنسِهَا﴾ هو أن بعض الأمور يتمّ نسيانها على مرّ الزمان، لذلك تمسّ الحاجة إلى مجيء دينٍ جديد؛ ليعيد إحياء الأمور المنسيّة، ولذلك فإننا نعتقد بأن جميع الأديان هي في الأصل دينٌ واحد.

_ إذا كنتم ترَوْن أن جميع الأديان على حقٍّ فما هو سبب الإصرار على ضرورة التعبُّد بالإسلام فقط؟ فاليهودي ـ مثلاً ـ يتبع شرائع النبيّ موسى×، وتعاليم النبيّ موسى لا تختلف عن تعاليم النبيّ الأكرم| في الأصول والثوابت، بحَسَب الفرض. فلماذا يجب على اليهودي أن يعتنق الإسلام؛ لكي تكون أعماله مقبولة؟

^ إن هذا الكلام صحيحٌ. ونحن لا نشكّ في أن جميع الأديان على حقٍّ، وأن الحقّ موجودٌ في جميع الأديان بشكلٍ نسبي. ولكنْ هناك أمران يجب التفكيك بينهما، وهما: إننا نقول إن جميع الأديان والشرائع على حقٍّ. وهذا كلامٌ صحيح. ولكنّنا نقول من ناحيةٍ أخرى: هل تَمَكَّن أتباع جميع هذه الشرائع من العثور على ذلك الحقّ؟ وهذا أمرٌ آخر. وأنا أرى أن الوثني والبوذي والزرادشتي يبحثون بنحوٍ من الأنحاء عن الله، ناهيك عن اليهودي والمسيحي، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾ (لقمان: 25؛ الزمر: 38؛ الزخرف: 9)، وقال أيضاً: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى﴾ (الزمر: 3). لقد كان الناس منذ اليوم الأول وحتّى الآن يبحثون عن شيءٍ واحد وحقيقة واحدة. فالكلّ يبحث عن الحقيقة، فضالّة الجميع هي الحقيقة. وعليه فإن اليهودي والمسيحي والبوذي والزرادشتي وحتّى الوثني ينشد الحقّ، ويسعى للوصول إليه. فإذا كان هذا هو معنى التعدُّدية كان ذلك صحيحاً. بَيْدَ أن مكمن الإشكال هو أن هؤلاء الأشخاص هل تمكَّنوا من العثور على ما يبحثون عنه؟!

هنا يأتي دور النبيّ الأكرم| ليتولّى عملية هداية جميع الناس إلى الغاية التي يبحثون عنها. وأنا أشبِّه ذلك بما لو كانت جميع الأمم منتشرةً في وادٍ كبير، وكلها تسير في شتّى الاتجاهات؛ بحثاً عن ساحل النجاة، فيأتي النبيّ الأكرم ويقول للجميع: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ (آل عمران: 31).

إن الإسلام يقول للجميع: إني كفيلٌ بأن أدلّكم على الحقيقة التي جاء بها موسى وعيسى وإبراهيم ونوح وجميع الأنبياء^. وهذا كلامٌ منطقي. ومن هنا فإننا لا نخطِّئ الأديان والملل بوصفها لا تسعى إلى الحقّ، وإنما نقول لهم: إنكم تضلّون الطريق إلى هذا الحقّ. وإن الطريق الصحيح موجودٌ في هذا الدين الخاتم. ومن هنا كان الدين الإسلامي مصدِّقاً. وإن من بين أصول عقائد كلّ مسلم هو إيمانه بجميع الأنبياء، وقبوله بجميع الشرائع. وعليه فإننا لا نكذِّب أيَّ نبيٍّ، بل لا نسعى حتّى إلى القول بأن الوثني لا يسعى وراء الحقيقة، وإنما نقول بأنه قد ضلّ الطريق. إن معنى كون القرآن مصدِّقاً هو أنه يقول نفس ما قالته التوراة من قبل، بمعنى أنه يقول للمسيحيين واليهود: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: 9)، أي إنه لم يَأْتِ ببدعةٍ جديدة، وإنما أتى بنفس ما جاء به إبراهيم وموسى وعيسى من قبل. وأما المهيمن فهو يعني أن القائد والزعيم الآن هو الذي يستطيع هدايتكم إلى ساحل النجاة، وليس ذاك غير النبيّ الأكرم وخاتم الأنبياء|، وعليه فإنه مصدِّقٌ ومهيمنٌ في وقتٍ واحد.

_ إن الكلام لا يكمن في مقدار ما يحصل عليه المتديِّنون من الحقّ، وإنما الكلام في أن الكتب المقدَّسة ومدَّعياتهم الدينية تشتمل على الحقّ، بمعنى أن الحقّ لا يتجلّى في ديننا فقط، بل إنه كذلك يتجلّى في الأديان الأخرى أيضاً. فهل يمكن الالتزام بمثل هذا الكلام؟

^ أجل، وهذا هو ما نقوله نحن أيضاً. فالتوراة الموجودة بين أيدينا حالياً تحتوي على الكثير من خطب النبيّ موسى×. وكذلك الدين الزرادشتي يقول: «التفكير الطاهر، والكلام الطاهر، والسلوك الطاهر»، وهذه هي عينها أصول الإسلام أيضاً. فالإسلام هو دين الطهر والتنزيه. ولا أحد ينكر هذه المفاهيم. نحن نقول للزرادشتي الذي يبحث عن هذه الأصول: عليك أن تدرك بأن ما تمتلكه من الكتابات والأشياء لا توصلك إلى الغاية التي تسعى إليها. وإن الإسلام هو الذي يدلّك على التفكير الطاهر والصحيح. وإن نبيّ الإسلام هو الذي يهديك إلى حدود الطهر. وعليه فإن القول بأن الأديان تحتوي على الكثير من الحقّ والحقيقة ليس كلاماً جديداً، وإنما الكلام في أن هذا المقدار من الحقيقة هل يكفي لهدايتنا، بمعنى أن اليهودي لو اكتفى بالعمل على طبق ما وصله في التوراة فقط هل سيبلغ الفلاح، ويمكنه الوصول إلى ساحل النجاة؟ يقول النبيّ الأكرم| في الجواب: كلاّ؛ لأنني أنا المفسِّر لكلام موسى×. نحن لا نقف في مواجهةٍ مع الأديان، وإنما نعرّف عن أنفسنا بوصفنا مفسِّرين ومبيِّنين مُخْلِصين للأديان الأخرى. وشاهدُنا على ذلك أن المسائل الواردة في التوراة هي بعينها مذكورةٌ في القرآن أيضاً، ولكنّها مطروحةٌ بمزيدٍ من الشرح، وببيانٍ أتمّ وأفضل.

الهوامش

(*) فقيهٌ وعالمٌ قرآنيّ بارز. له مؤلَّفاتٌ مشهودة في مجال الدراسات القرآنيّة.

([1]) لا يخفى أن إقحام اسم عبد الله (والد النبيّ) هنا في غير محلِّه؛ لكونه قد توفي قبل ولادة النبي. المعرِّب.

([2]) جمع موبذان أو موبذ، وهو في المجوس كقاضي القضاة للمسلمين. المعرِّب.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً