أحدث المقالات


الدكتور محمد حبش

 

 حين أحرر هذه المقالة ليوم الخميس فأنا غير متأكد هل يسوغ القول: كل عام وأنتم بخير أم لا، وحتى لا تذهب بك الظنون فأنا غير راغب هنا بوصف حال العرب المتردي من الشتات والفرقة والعجز، ولا أنا راغب بالوقوف على أطلال المتنبي:  عيد بأية حال عدت يا عيد، ببساطة ليست لدي الرغبة لأجعل أول إطلال لي في جريدة (الثورة) على هيئة تراجيديا السقوط ونعي الذات، والإبداع في وصف الهزائم، وإن كنا نمتلك إبداعاً في وصف الهزائم لا نحسد عليه، ومصطلحاتنا جاهزة لوصف هذه الهزائم : نكبة ونكسة  واجتياح واحتلال وعدوان وقضم  وإبادة إلى غير ذلك. 

أبدا… لا تفهموني غلط !  فمقالي (أبيض فرحان) وهو يتجه إلى قصد آخر وهو ببساطة مشكلة ثبوت العيد وهي مشكلة موسمية صارت تطل علينا كل عام عندما تتحير  الإرادات العربية في  إثبات العيد بين  قطر وآخر، وهكذا  فإن الله وحده يعلم عند كتابة هذا المقال هل سيقرؤه الناس في يوم عيد أم يوم وقفة ؟…

قبل أعوام تحركت جهود عربية مخلصة في الأمم المتحدة بغرض إقرار يوم الفطر عطلة رسمية في الأمم المتحدة، وأذكر هنا العزيز جورج جبور الذي توصل بمتابعته وعناده إلى تحقيق هذا الإنجاز حين قدم الأدلة الوافية على ضرورة احترام مشاعر المسلمين الذين يمثلون خمس سكان الأرض، وبعد أن تقرر تعطيل الأمم المتحدة في يوم الفطر توجه السؤال ببراءة: متى يكون بالضبط ذلك اليوم ؟ … وكان الجواب بالطبع: إن الله وحده يعلم، وعلينا الانتظار إلى غروب شمس التاسع والعشرين من رمضان لنتخير عندئذ من آراء الحكومات العربية !…

والسؤال هنا: هل نحن ملزمون حقاً بمواصلة هذه الحيرة (غير المبررة) إلى الأبد ؟

إن الحديث الشريف الذي يتخذ أصلاً للوقوف عند حدود الرؤية البصرية واضح ومعلل، وقوله صلى الله عليه وسلم: إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعة وعشرين فإذا رأيتم الهلال فصوموا فإن غم عليكم فأتموا عدة شعبان ثلاثين يوماً.  .. ومن الواضح هنا أن الحديث معلل بالواقع الثقافي والمعرفي آنئذ – إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب – ومقتضى ذلك أن يتغير الحكم إذا صرنا نكتب ونحسب.

لم يعد من المقبول عقلا ً أن يصدق أحد أن الهلال قد أهل في مصر والجزائر ولم يهل في تونس وليبيا، وفكرة اختلاف مطالع الأهلة لا مكان لها اليوم إلا في متحف التراث، وعلينا أن نعترف أن حظ القائلين بها من الشافعية هو حظهم نفسه من الفتيا بالحمل أربع سنين، وهكذا فإن القابلة التي قررت فكرة استدامة الحمل أربع سنين والمنجم الذي قرر اختلاف مطالع الأهلة كلاهما ليسا مؤهلين ليصدر عنهم حكم شرعي تتبعه البلاد والعباد. 

إن تقرير الحساب الفلكي معياراً لثبوت الأهلة أصبح اليوم يقينا ًلا يتجاوز هامش الخطأ فيه واحد إلى مليون،  وقد رأينا تجربة شعبية فريدة في ذلك عندما أقدم الحساب الفلكي جداوله للكسوف بتحديد الدقيقة والثانية في كل مدينة من مدن سوريا، وشاهدنا جميعاً إلى أي مدى كانت تنطبق قراءة الحساب الفلكي على وقوعات الكسوف المتلاحقة في كل مدينة وقرية.

إن من العجيب أن الحساب الفلكي معتمد بدون أي نكير في شعائر الصلاة والأذان والصوم فالمؤذن لا يرقب زوال الشمس أو غروبها أو غياب الشفق ليؤذن، بل يرقب ما هو مطبوع في الروزنامة وهو في الواقع حساب فلكي بامتياز، وحين يؤذن فإن نسكل الصوم والصلاة يصبح لازما حتما، يعتمده الجميع بدون نكير، وهو بكل تأكيد خلاف ما كان سائداً في عصر النبوة والقرون التي تلته، ولكنه إنجاز حضاري فرض نفسه وتقبله الناس بدون حرج.

فما الذي يلجؤنا إلى هذه الحيرة غير المبررة في مسائل ثبوت الصوم والفطر.

يمكن تلخيص المسألة من الجانب الفقهي على الشكل الآتي:

المذاهب الثلاثة الحنفية والمالكية والحنابلة وهو قول عند الشافعية أيضاً: أن الهلال إذا رؤي في قطر وجب الصوم في كل الأقطار، ورأي الجمهور هنا يعالج نصف المشكلة إذا لا يسوغ هنا أبدا اختلاف الأقطار بل يجب النسك صوما وفطرا على الكافة لدى ثبوته في أي قطر.

وأما النصف الثاني من المشكلة وهو اعتماد الحساب اليقيني فقد سبق إليه من السلف ابو العباس ابن سريج ومطوف بن عبدالله وابن قتيبة من المتأخرين ونقله ابن خويزندار عن الإمام الشافعي أيضاً.

في هذا الصدد في الواقع أثني على الموقف الجريء للعلامة محمد حسين فضل الله الذي تجاوز ذلك كله وأصبح أول من يبادر بإثبات الهلال عن طريق الحساب. وفتواه التي تسبق الإهلال بأيام يصدرها منذ سنين، وحتى الآن فهي موفقة لما يثبت لاحقاً في معظم البلاد الإسلامية.

فهل سنتغلب على هذه الآفة، وندرك قيمة الوقت على هدى الآية الكريمة:  وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السينين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق.

وعلى كل حال:  كل عام وأنتم بخير


 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً