أحدث المقالات

في حوارٍ مع الشيخ معرفت

حوارٌ مع: الشيخ محمد هادي معرفت(*)

ترجمة: حسن علي مطر

مقدّمة

كانت الحوزة العلمية في النجف الأشرف واقفة على قمّة رفيعة من العلم والفقاهة. وقد تمخّضت عن الكثير من العلماء والنوابغ على مدى القرون، وتخرّجت منها قامات في العلم والمعرفة والإيمان والزهد والتقوى والسموّ والشموخ والإنسانية، تمثَّلت بمجتهدين مقتدرين، لم يكن لهم من همٍّ سوى الدين.

وفجأة زحفت عليها صاعقة برد ومارد جور أهلك فيها الحرث والنسل، وساق الإنسان والإنسانية والشرف إلى مقصلة الذبح والتقتيل، وكان العلماء في حفلة الجور هذه ما بين سجين وقتيل ومُبعد.

وقد كان الشيخ معرفت من الأساتذة الكبار الذين قَضَوْا ردحاً طويلاً من الزمن في تلك البقاع، يصارع الظلم الأسود لسنوات، ليواجه بعد ذلك الحكم الجائر بالنفي، حيث يقيم الآن في مدينة قم المقدّسة، يمارس التدريس والتحقيق.

لقد قام سماحة الأستاذ الفذّ والكبير ـ الذي كتب في المعارف القرآنية منذ البداية، إلى جانب سائر التحقيقات والتأليفات ـ، بالاهتمام بشكلٍ خاصّ بعلوم القرآن والتفسير، وترك لنا الكثير من المؤلَّفات والمقالات. ولا يزال هذا النبع يمور بنبعه الصافي.

وها نحن على أعتاب تكريمه من قبل العديد من المراكز القرآنية، وعدد من عشّاق معارف القرآن، وتلاميذ سماحته، نجلس مرّةً أخرى تحت منبره. وبالالتفات إلى تجاربه القيّمة فقد تعرَّفنا على آخر إبداعاته في مجال النسخ، وآيات الأحكام، وتأثير الثقافة المعاصرة، وما إلى ذلك.

وقد قام سماحة الأستاذ ـ كما هو شأنه دائماً، حيث يتبع سيرة النبيّ الأكرم‘ والأئمة المعصومين^ ـ بالترحيب بالطلاب، واستقبلهم بصدره الواسع، وأجاب بصبرٍ وأناة عن جميع أسئلتهم.

وفي ما يلي نستعرض هذه الأسئلة والأجوبة ونضعها بين يدي القارئ الكريم.

وقبل الدخول في صُلب هذه الأسئلة والأجوبة نرى ضرورة للتذكير بأننا طوال هذا الاجتماعات، التي امتدّت لعدّة جلسات، كنّا في خدمة الأصدقاء الأعزّاء أصحاب الفضيلة والسماحة: محمد علي رضائي الإصفهاني، وبهجت پور، ورضا مؤدب، وناصح، ونصيري، وعبد اللهيان. وقد تحمّل سماحة السيد حامد عبد اللهي عناء كبيراً في إعداد وتلخيص وتشذيب نصّ الحوار، وهنا نجد لزاماً علينا أن نتقدَّم بالشكر الجزيل لجميع هؤلاء الأحبّة.

_ بعد التقدّم بواجب الشكر الوفير إلى سماحتكم على إتاحة هذه الفرصة لنا، نرى بالنظر إلى آرائكم ونظرياتكم الجديدة التي صدعتم بها مؤخّراً في بعض أبحاث علوم القرآن والتفسير في مؤلفاتكم، أن نسألكم قبل كل شيء ـ ونرجو منكم التفضل علينا بالإجابة ـ عن مستند هذه الآراء والنظريات في منظومتكم الفكرية؟

^ بسم الله الرحمن الرحيم. إن الأمر الذي تنبّهت له منذ البداية هو أن التقليد لا موضع له في المساحات العلمية. وهذه هي المسألة التي كان يؤكّد عليها الإمام الخميني&، حيث كان يقول: نحن لا نرى قداسة لآراء المتقدمين، ولا نرى خطوطاً حمراء حولها، ولكننا نحترم هذه الآراء. وكان سماحته يرى احترام المفكرين والعلماء يكمن في نقد أفكارهم. وعلى هذا الأساس كانت تطرأ على أذهاننا منذ البداية ـ حيث كنا ندرس الرسائل والمكاسب ـ أسئلة تبقى دون إجابات. فمثلاً: عندما كان الأساتذة يقسّمون الذنوب إلى: صغائر؛ وكبائر، كان يرد على ذهني سؤال مفاده: هل يمكن أن يكون هناك ذنبٌ صغير؟ لأن صغر وكبر المعصية ليس بحجمها، فهي تعتبر على كلّ حال تمرُّداً على الذات الإلهية. لذلك عندما كنا نسأل أساتذتنا أن يذكروا لنا مثالاً للصغائر من الذنوب، لم نحصل منهم على جوابٍ.

وقد ورد ذكر هذه الكبائر في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ﴾ (النجم: 32) بمعنى الكبائر، التي هي الإثم، حيث إن هذه الإضافة هي إضافة بيانية، وليست تبعيضية. وعليه لا يمكن العثور على معصية صغيرة.

وقد تتبّعت هذه المسألة، وكتبت مقالة تفصيلة هي تعليقة على كتاب القضاء للآغا ضياء العراقي، مع خمس عشرة مقالة أخرى.

فالسادة يتمسّكون بعبارة ﴿إِلاَّ اللَّمَمَ﴾، ويفسِّرونها بالصغائر، في حين أن معنى اللَّمَم هو أن الإنسان قد يصدر عنه من غير قصد بعض الأمور، أو يتفوَّه ببعض الكلام الذي يعيب فيه مؤمناً لا شعورياً، وبمجرّد أن يعود إلى صوابه ورشده يندم، ويستدرك مباشرةً، ويعتذر عن هذه الزلّة. إن هذا الكلام يدخل في دائرة الغيبة، ولكنها خرجت عن غير قصد، والرواية تقول: إن المؤمن بحيث لا تصدر منه المعصية عمداً، ولكنْ قد يقع في المعصية عن غفلةٍ. وطبعاً إن هذا المقدار يبقى معصية؛ لأنه لم يضَعْ الكابح المتين على نفسه، ولكنْ حيث لم يكن ذلك عن قصدٍ وإصرار وعناد، واقترن بالندم والاعتذار مباشرةً، فإن الله يصفح عنه.

فكنّا للوهلة الأولى نسعى في مثل هذه المسائل إلى فهمها، فإنْ لم نحصل على الجواب الشافي والكافي نتصدّى لجوابها بأنفسنا، سواء في الفقه أو في العلوم القرآنية؛ لأن هذين المجالين مترابطين ببعضهما، من قبيل: هذه المسألة بشأن الصغائر الكبائر، فهي فقهية وقرآنية في الوقت نفسه.

ولذلك كنت شغوفاً منذ البداية بهذين المجالين بشدّة، وكانت مقالاتي وتحقيقاتي في هذين المجالين. وقد شجّعت زملائي على انتهاج هذا الأسلوب، والنظر إلى كلّ شيء بعين الشكّ؛ لأن جميع المعطيات العلمية الراقية تبدأ من الشكّ. إن الشك هو الذي يدفع بالإنسان ناحية البحث والتحقيقات القيّمة. بل لا بُدَّ من الترحيب حتّى بشبهات الآخرين؛ إذ تتمّ الغفلة عن الكثير من المسائل، ولا نلتفت إلى الخلأ إلاّ بعد مواجهة الشبهات.

كم عدد آيات الأحكام؟

_ لقد أشرتم إلى العلاقة الوثيقة بين الفقه والتفسير. يقول بعض العلماء: إن هناك 200 إلى 500 آية من آيات الأحكام، ولكنّكم ترَوْن أن جميع آيات القرآن هي آيات أحكام. هل يمكن لكم أن تشرحوا ذلك؟

^ لا بُدَّ أنكم تعرفون أن هناك 150 آية من تلك الآيات الـ 500 هي آيات متكرِّرة، وعليه يبقى ما مجموعه 350 آية.

ومراد هؤلاء العلماء من الأحكام هي الأحكام الاصطلاحية، من الوضوء والصلاة وغيرهما. في حين أن علينا أن نعتبر الدين برمَّته أحكاماً، بمعنى أن هدف الشريعة الإلهية من الأساس هو بناء مجتمع سليم وقويّ ومتين، ولذلك عليه أن يُبرز أبعاد وهندسة هذا البناء، وهذا هو ما قام به الإسلام، حيث يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: 24). وعبارة ﴿لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ تعني ما يضمن سعادتكم واستمتاعكم في هذه الحياة، فالحيّ الذي لا يشعر بالسعادة والمتعة في هذه الحياة لا يمكن اعتباره كائناً حيّاً. إن الإسلام يقول: إذا أردتم الاستمتاع بالحياة فعليكم الاستماع لما نقوله. وبذلك تكون الشريعة بأجمعها عبارة عن آيات أحكام، وليس القرآن فقط؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله﴾ (النساء: 13). فإذا تحرّكت ضمن هذه الدائرة سيكون هذا البناء والقوام سليماً ومكتملاً. وحدود هذه الدائرة تشتمل على الأحكام الوضعية والأخلاق والآداب والأحكام التكليفية وما إلى ذلك.

_ هل يمكن أن توضِّحوا لنا ذلك بمثالٍ؟

^ هناك روايةٌ مأثورة عن النبيّ الأكرم‘ تقول: «ما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن»([1]). إن سبب صدور هذه الرواية هو أن القرآن كان ينزل بمناسباتٍ خاصة. وحيث ينظر القرآن إلى تلك المناسبة الخاصة ستكون تلك الآية خاصة بأولئك القوم أو ذلك الزمان والقيد التاريخي. وقد كان النبي الأكرم‘ يحمل هاجس أن الناس إذا نظروا إلى القرآن من الزاوية الظاهرية سيغدو هذا القرآن ميّتاً وفاقداً للروح. من هنا كان يؤكِّد للناس بأن لا ينظروا إلى الآيات القرآنية بنظرةٍ سطحية، بل لا بُدَّ من فهم رسالته العالمية من خلال التعمُّق في بطن الآية. وعندما سُئل الإمام الباقر× عن هذه الرواية قال في الجواب: «ظهره تنزيله، وبطنه تأويله»([2]).

بمعنى أنه لا بُدَّ من أن نستخرج من بطن الآية المفهوم العام الذي يمثِّل هدف الآية ومآلها.

إن المثال الذي يمكن لنا أن نذكره في هذا المجال يتمثَّل بآية النجوى مع النبيّ الأكرم‘ التي هي من أخصّ الآيات المتعلِّقة بشخص النبيّ، وذلك إذ يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ * أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المجادلة: 12 ـ 13).

فلو سألنا شخص: هل هناك حكمٌ حكومي في الإسلام؟ أتينا له بهذه الآية؛ لأن الحكم الشرعي لا يُشترط فيه أن يكون أبدياً، وإنما يتم تطبيقه في ظروف خاصة. إن هذه الآية تشتمل على رسالةٍ خالدة، لم تتعرَّض للنسخ.

إن المسلمين كانوا يريدون التحدُّث إلى رسول الله، وهذا الرسول هو ذات الإنسان والشخص الذي كان قبل البعثة، حيث كانت له علاقاته الطبيعية والأخلاق الحسنة مع الناس؛ ولكنّه الآن في المدينة المنوَّرة قد أصبح زعيماً وقائداً روحياً ودينياً وسياسياً، ولم تعُدْ أوقاته تتَّسع لغير الأمور الهامّة التي تمسّ كيان الدولة، ولم يعُدْ باستطاعته مجالسة الناس كما كان في السابق. وقد أراد الله من خلال هذه الآية أن يُفهم المسلمين بأن لا يأخذوا من وقت النبيّ في المسائل والأمور الاعتيادية، وأن لا يتردَّدوا عليه إلاّ في ما يتعلَّق بالأمور الخطيرة والجليلة. فرأى المسلمون أن ليس لديهم مثل هذه الأمور الهامّة التي تستحقّ إهدار وقت النبيّ، ولذلك لم يجدوا ضرورةً أو حاجةً لمراجعة النبيّ الأكرم‘، لا أنّهم امتنعوا عن دفع الصدقة عن بخلٍ وضنٍّ بأموالهم.

يقول المفسِّرون المعاصرون: لقد أراد الله بهذه الآية إبلاغ المسلمين رسالة، وقد فهم المسلمون مضمون هذه الرسالة، ولذلك لا تكون ناسخةً، ولا منسوخة. إن هذه الآية تعني ضرورة عدم إزعاج المسؤولين في المجتمع لأسبابٍ تافهة، بل لا بُدَّ من أخذ وقتهم في الأمور الهامّة والحسّاسة جدّاً. وعليه تندرج هذه السورة بأكملها ضمن مجال آداب العِشْرة، فهي من قبيل: قوله تعالى:

ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (المجادلة: 9).

ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا﴾ (المجادلة: 11).

حيث تشتمل على مضمونٍ عامّ، يهدف إلى تعليم المسلمين آداب المعاشرة. وعليه فإن هذه الآيات تكون من آيات الأحكام، ولا تكون منسوخةً؛ لأنها تشتمل على رسالةٍ ومضمون خالدين.

مفهوم بطون القرآن ومدياته

_ سؤالنا التالي عن البطن. فما هو المراد من بطن القرآن؟ وهل جميع الآيات لها بطنٌ؟ وهل يمكن لآية أن تحتوي على عدّة بطون؟ ومَنْ هو الذي يستطيع فهم هذه البطون؟

^ هناك روايةٌ في مصادر أهل السنّة تقول: «إن للقرآن ظهراً وبطناً»([3]). وبعض الآيات، من قبيل: ﴿اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ (آل عمران: 2)، يكون ظهرها وبطنها واحدٌ، غاية ما هنالك لا بُدَّ من التدقيق لفهم معنى الحياة، وما الذي يعنيه القيّوم.

من هنا ليس من اللازم أن يكون لجميع الآيات ظهرٌ وبطن؛ لأن نوع الآيات قد نزل في مناسبات خاصّة، وكان النبيّ ينصح بالتعمُّق في بطن الآيات للحصول على الرسالة والمضمون الخالد الكامن في بطن الآية.

وعليه أنا أخالف القول الذي يذهب إلى عجز الإنسان عن إدراك بطن الآيات؛ وذلك لأنّ النبيّ الأكرم إنما قال هذا الكلام لعامّة المسلمين، ولا يزال صداه يتردَّد في أسماع الناس، وسوف يستمرّ إلى يوم القيامة، حيث يقول: أيها المسلمون، لا تنظروا إلى القرآن بسطحيّة! وإذا كان البناء على أن يكون للقرآن بطنٌ لا يفهمه إلاّ الله فلماذا أنزله إلى الناس أصلاً؟! ومَنْ هو المخاطب بالقرآن؟! ورد في الحديث: «إنما يعرف القرآن مَنْ خوطب به»([4]).

فهل المخاطب بالقرآن هو خصوص الإمام السجاد والإمام الباقر’؟! كلاّ.

إن المخاطب بالقرآن هم عموم الناس في هذا الكون، من أكثرهم علماً إلى أشدّهم جهلاً، بمعنى أن القرآن بحيث يمكن لكلّ فردٍ أن يفهمه من خلال توفير الإمكانات اللازمة.

إن لابن تيمية كلاماً جميلاً في الردّ على مَنْ ينكرون التفسير؛ إذ يقول: كان هناك عدد من الصحابة يتهرَّبون من التفسير؛ بسبب جهلهم وعجزهم عن التفسير، ولكنْ لماذا لا تستشهدون بعليّ بن أبي طالب وابن عبّاس، من الذين لم يكونوا يُحْجمون عن الجواب عندما كانوا يُسْأَلون عن القرآن؟!

إذن فالقرآن نزل لكي يفهمه الجميع. ولكنْ غاية ما هنالك أنه بحاجة إلى الإمكانات، وتوفير الظروف والشرائط، كما هو الحال بالنسبة إلى الجامعة المفتوحة أمام الجميع، غير أن الدراسة فيها تحتاج إلى الاتّصاف ببعض المواصفات والشرائط. من هنا فإن الطريق إلى فهم أعمق الحقائق القرآنية مفتوحٌ أمام الجميع.

_ هل البطن من الدلالات الالتزامية للآية؛ فيكون مدلولاً عليه باللفظ، أم هو كامنٌ وراء الدلالة اللفظية؟

^ قال صاحب كتاب «الكبرى في المنطق»: الدلالة اللفظية على ثلاثة أقسام، وهي: الدلالة الالتزامية؛ والدلالة المطابقية؛ والدلالة التضمّنية. كما يتمّ تقسيم الدلالة الالتزامية إلى قسمين: بيّنة؛ وغير بيِّنة. ثم يتمّ تقسيم الدلالة الالتزامية البيّنة إلى: بيّنة بالمعنى الأخصّ؛ وبيّنة بالمعنى الأعمّ. والدلالة الالتزامة غير البيّنة هي التي لا يكفي فيها تصوُّر اللازم والملزوم للعلم بالملازمة، إلاّ إذا قام عليها الدليل. فإذا قام الدليل عليها حصل العلم بها. ثمّ يبحث في أن هذه الدلالة حجّة عند علماء الأصول والبيان، بمعنى أن هذه الدلالة هي من الظواهر. إذن فالتعبير بالبطن يُراد منه المعنى غير البيِّن. أي هو الذي لا يتّضح بالرؤية السطحية، ولكنّه بعد التدقيق يغدو واضحاً، ويكون حجّةً.

_ هل يمكن لكم أن تذكروا مثالاً أوضح في هذا الشأن؛ ليكون مضمون الكلام مفهوماً للجميع؟

^ على سبيل المثال: في ما يتعلَّق بشأن نزول قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43) كان المشركون يشكِّكون في أمر الرسالة، ويقولون: هل يمكن للنبيّ أن يكون واحداً من البشر؟ إن الذي يأتي بالأخبار من عالم الغيب يجب أن يكون بنفسه من أبناء ذلك العالم.

وهنا يقدِّم الله لهم جواباً نقضياً، ويقول لهم: اسألوا أهل الكتاب: هل سبق أن جاء نبيٌّ من غير البشر؟

وقدَّم جواباً حلِّياً أيضاً؛ إذ يقول في موضعٍ آخر: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ (الأنعام: 9)، بمعنى أننا لو أردنا أن نرسل ملكاً وجب علينا أن نجعله على شكل إنسان، وهذا أوّل الكلام؛ إذ سيقول الناس: هل هو مَلَك أم لا؟

إذن هذه الآية تحتوي ـ بعد ظاهرها وشأن نزولها ـ على رسالةٍ. فنحن نقول: هل المشركون مخاطبون بسبب شركهم أم بسبب جهلهم؟ وهل هذه المسألة التي وقعت مورداً للسؤال لها خصوصية أم يمكن السؤال عن كلّ مسألة دينية؟ وهل المرادُ بأهل الذكر أهلُ الكتاب أم علم أهل الكتاب بتلك المسألة؟

بعد اتّضاح الجواب ندرك «أن على كلّ جاهل بأيّ مسألة من المسائل الدينية أن يُراجِع العالم بها».

والآن إذا سألتم المراجع عن سبب وجوب التقليد سيتمسّكون بباطن هذه الآية، في حين يتمسَّك الفقهاء بظاهر القرآن.

وبطبيعة الحال هناك ضابطٌ بين بطن الآية وظاهرها، ويجب أن يكون البطن كبرى لصغرى الظاهر، كأنْ يقول الطبيب: «لا تأكل الرمان؛ لأنه حامض»، ومن هنا يتعيَّن على المريض أن يتجنّب أكل الحامض، حتّى إذا لم يكن رماناً.

إن لدى القرآن رسالة يجب أن تكون واضحةً ومفهومة للناس، بَيْدَ أن فهم هذه الرسالة يحتاج إلى إمكانات.

_ إذن كيف يمكن أن يكون للآيات المتشابهة ـ على هذا الأساس ـ بطون متعدّدة؟

^ في ما يتعلق بالآيات المتشابهة هناك بحثٌ تفصيلي عن سبب التكرار؛ فإن ورارء كلّ تكرار غاية، والبطن يُستخرج من هذه الغاية.

_ نرجو منكم ذكر مثال آخر، وأن توضِّحوا كيف يمكن لآيات من قبيل: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ (القارعة: 1 ـ 2) أن تكون من آيات الأحكام؟

^ إن الآيات التي تستحضر موضوع القيامة هي مثل قوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾ (البقرة: 34)، فإنّ الآيات العقائدية تتضمَّن الأحكام أيضاً. لقد بيَّن الله مسؤولية ومهمة الأنبياء على النحو التالي: ﴿وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ (البقرة: 129؛ آل عمران: 164؛ الجمعة: 2).

إن المراد من «الكتاب» هو الأحكام التشريعية، بمعنى علم الشريعة. والحكمة تعني رؤية الشريعة؛ وذلك لأن النبي يأخذ بالإنسان إلى التحليق بجناحين، وهما: جناح العلم؛ وجناح المعرفة، ولا قيمة للعلم إذا تجرَّد من المعرفة. وهذا يصدق حتّى على العلوم الطبيعية أيضاً. إن المتزمِّتين إنما يخوضون في علم الشريعة، بَيْدَ أن المتشرِّعين الذين يتمتَّعون بالرؤية المعرفية تجاه الشريعة مدركون لروح الشريعة وجوهرها. إن الآيات المتعلِّقة بالمعرفة تعمل على بيان هذا الجانب من رؤية الشريعة. إن علم الكلام يمثِّل حاضنة ورافعة لعلم الفقه، وإذا لم يكن الفقيه قائماً على دعامة كاملة وراسخة فإنه سيقدِّم لنا فقهه مترنِّحاً.

_ إلاّ أن هذا لا يعود فقهاً، أليس كذلك؟

^ قال الله تعالى: ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ (التوبة: 122). والتفقُّه والفقه يعني الفهم الدقيق.

هناك مَنْ عمل على فصل المسائل الأخلاقية وغيرها عن الأحكام، واستند كلّ صاحب تخصُّص إلى عددٍ من الآيات القرآنية بما يتناسب ومجال تخصُّصه.

أما نحن فنعمل على توسيع مفهوم الفقه، وهذا المعنى الموسَّع للفقه هو الذي يريده القرآن من كلمة الفقه الواردة فيه.

_ هناك من الآيات ما ينطلق من رؤيةٍ علمية، مثل: قوله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا… (الرعد: 2)، فما هي الصيغة التي تجعل هذا النوع من الآيات داخلاً ضمن آيات الأحكام؟

^ لقد عمدنا بدورنا إلى توسيع دائرة موضوع الأحكام وموضوع الفقه أيضاً. هذا درسٌ في العقيدة، ولازم ذلك أن تكون هناك ضرورةٌ عقلية، بمعنى أنه يجب معرفة الله على هذا النحو.

_ هل يمكن أن يكون لجميع الآيات بطونٌ، ولا نفهم بطن بعض الآيات، ويكون فهمها مختصّاً بالراسخين في العلم؟

^ لا يمكن أن لا نفهم آيةً من القرآن. فلم يقُلْ عالمٌ في أيّ مرحلة من المراحل: إنني لم أفهم المراد من هذه الآية، رغم أن العلم يتطوَّر. وهذه هي ميزة القرآن الكريم.

وقد أشار «ابن رشد الأندلسي» إلى هذه الحقيقة، حيث قال: إن كل شخص من أيّ طبقة كان يرى أنه قد فهم الآية جيّداً.

ولذلك فإن من بين الإشكالات التي نوردها على «الفخر الرازي»، الذي يعتبر جملة ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ (آل عمران: 7) جملةً مستأنَفة، هو أنه في أيّ موضع من تفسيرك واجهت آيةً وقلت: إن هذه الآية من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاّ الله؟

إن كلّ مفسِّرٍ إنما يخوض غمار التفسير بوصفه واحداً من الراسخين في العلم.

كما يقول ابن عباس: «أنا من الراسخين في العلم»، ويدخل في صُلب التفسير.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى العلاّمة الطباطبائي، يقوم بالتفسير من هذا المنطلق، ولا تكون هناك آيةٌ مبهمة بالنسبة له.

وبطبيعة الحال فإن هناك تفاوتاً بين ابن عبّاس ـ الذي هو من الراسخين في العلم، بعد المعصومين^؛ حيث يقول الإمام الصادق×: «إنّ رسول الله‘ أفضل الراسخين في العلم»([5]) ـ وبين المعصومين^.

يقول الإمام الصادق×: «نحن أهل الذكر»([6]). ومرجع التقليد يقول أيضاً: «أنا من أهل الذكر». أليس هناك من فرقٍ بين الإمام الصادق× والمراجع؟!

إن دور الأئمّة في فهم القرآن هو دورٌ محوري، حيث يعملون على بيان سُبُل فهم القرآن للناس.

_ ألا توجد هناك مراتب للتأويل لا يفهمها غير الأئمّة^؟

^ هل أغلق باب علم فهم القرآن؟!

أنا لا أستطيع أن أقبل بذلك؛ لأن القرآن جاء إلينا أيضاً، ولم يأتِ إلى الإمام الصادق× فقط. وعندما لا يكون باب فهم القرآن مغلقاً دوننا فهو غير مغلق دون الأئمة^ من باب أَوْلى.

_ هل يمكن أن تكون هناك طبقاتٌ أخرى للبطن تفهمها الأجيال المقبلة، أم أنها لا تفهم إلاّ بإشارةٍ من المعصوم؟ من هنا قد يمكن لآخر معصوم أن يكشف عن طبقاتٍ خاصة من بطون القرآن؟

^ أنا أصرّ على رفع هذا الوَهْم القائل بأن باب العلم في القرآن مغلق. وعلينا أن نقول لجميع أفراد البشر: لا وجود لنقطة مغلقة في القرآن لا يمكن حلُّها.

ومع ذلك لو حصل لشخصٍ أن واجه نقطةً مبهمة وغامضة يمكنه العمل على حلِّها من خلال الرجوع إلى روايات المعصومين^، وأقوال السَّلَف، والعلوم المختلفة الأخرى. ويكمن تطوُّر العلم في حلّ هذه المبهمات.

لقد بقيتُ على المستوى الشخصي لثلاثين سنة تقريباً وأنا أتساءل بشأن قوله تعالى: ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ (البقرة: 102): هل أرسل الله حقّاً مَلَكين ليعلِّما الناس طرق إبطال السحر؟

ولم أستطع الوصول إلى جواب عن هذا السؤال طوال هذه العقود، إلاّ قبل شهرٍ واحد فقط، حيث علمتُ أن «هاروت» و«ماروت» اسمان معرَّبان.

كانا عالمين. وكانا ـ بالإضافة إلى اضطلاعهما بعلوم عصرهما ـ عابدين وزاهدين. وكان الناس يعتبرونهما مَلَكين؛ لشدّة عبادتهما وزهدهما، لا أن القرآن يعتبرهما كذلك. وكان ذلك بسبب حالاتهما وخصائصهما. وقد جرى الله على استعمال الصفة الشائعة بين الناس عنهما، لا أنه يرى «هاروت» و«ماروت» مَلَكين حقيقةً. وكان منهجهما يقوم على تعليم الناس، وينصحونهم بعدم إساءة استغلال هذا العلم.

من هنا فإنني أرى أن علم التفسير من العلوم البشرية، وأن الناس هم الذين أوجدوا هذا العلم.

غاية ما هنالك أنه بدأ من رسول الله والصحابة والتابعين، ثم واصله الآخرون. وحيث يكون علم التفسير بشرياً فهو قابل للتطوير والتعميق. إذن علينا أن لا نصاب بالإحباط عندما نواجه نقطة مغلقة في القرآن الكريم، ونتذرَّع بالقول: إن هذه النقطة من الموارد التي يجب علينا تركها إلى عصر الظهور؛ فإن هذا يؤدّي بالذين لا يؤمنون بوجود صاحب العصر# إلى مواصلة التفسير، بينما المؤمنون به سوف يُحجمون عن مواصلة التفسير.

وبطبيعة الحال أنا لا أدعو إلى الاستعجال، وإنما أدعو إلى عدم التوقُّف. فها أنا أعمل في هذا المضمار منذ ثلاثين سنة، ولا زلتُ أواجه بعض المعضلات، ولم أطرحها على الخواصّ من أجل حلِّها.

دور أهل البيت في تفسير القرآن

_ إذن ما هو دور الأئمّة^ في التفسير؟

^ إن دور الأئمّة^ محوريٌّ للغاية، فإنهم يعلِّمون الناس الأسلوب والمنهج في استنباط المفاهيم من القرآن.

إن الأئمة يوجِّهون إلى الاهتمام بدقائق الآيات، وعدم الاقتصار على التعبير السطحي على مستوى ألفاظ الآيات، مثل: المسح على بعض الرأس؛ لقول الإمام الصادق×: «لمكان الباء»([7]).

كان أستاذنا في كربلاء المقدّسة الشيخ محمد رضا الجرقوئي الإصفهاني يقول: يُخطئ مَنْ يقول: إن الباء في هذه الآية للتبعيض؛ إذ تكمن الحقيقة هنا في أن كلمة المسح متعدِّية بنفسها، وما ذكر الباء إلاّ لإفادة الملاصقة. ومن هنا فإن مفهوم الإلصاق متضمّن في المسح، والمعنى هو «ألصقوا المسح بالرأس». وهذا المعنى من الملاصقة يتحقَّق بإمرار اليد على الرأس قليلاً. وهذه الدقّة قد أشار إليها الإمام الصادق× في تعليم زُرارة منهج التفسير.

_ مع تطوُّر علم التفسير نرى أن العلماء يتوصَّلون في كلّ عصر إلى مفاهيم جديدة من الآيات. وقد تشير روايات البطون السبعة إلى هذه المسألة. والسؤال هنا: هل هناك من حدٍّ ونهاية للحصول على مفاهيم جديدة من القرآن اكريم؟

^ رغم أنني لم أرَ روايات البطون السبعة في مصدرٍ معتبر، ولكنّها يجب أن تكون معتبرةً؛ إذ نفهم أحياناً عدّة رسائل عَرْضية في بعض الأحيان، وأحياناً قد تحتوي كلّ رسالة على رسالة أخرى في طولها.

هناك حديثٌ مأثور عن النبي الأكرم‘ يقول: «له نجوم، وعلى نجومه نجوم»([8]). وهو يُشير إلى هذا المعنى.

إن للقرآن عمقاً لا يُسْبَر غوره. ومعنى هذا الحديث أن بالإمكان الحصول على ما لا نهاية له من المفاهيم القرآنية.

ولربما يتمّ الوصول إلى مفاهيم واضحة من القرآن بعد التقدُّم الذي سنحصل عليه بعد ظهور الإمام المهديّ المنتظر#.

وبطبيعة الحال من الخطأ القول بأن غاية العلم سيتمّ الكشف عنها بظهور الحجّة ابن الحسن×؛ لأن هذا يعني إغلاق باب البحث والتحقيق. وأنا أقف في وجه هذا الرأي بشدّةٍ. بل إن الإمام عندما يظهر سيحثّنا ويدفع بنا نحو المزيد من البحث والتحقيق؛ لأن القرآن بحرٌ لا نهاية له.

الموقف من التفسير العلمي للقرآن الكريم

_ بالالتفات إلى تخصيصكم الجزء السادس من كتاب «التمهيد» بموضوع التفسير العلمي وإعجاز القرآن يطرح هذا السؤال نفسه: إلى أيّ مستوى نستطيع الاستناد إلى العلوم التجريبية؟ وما هو نوع التفسير العلمي المسموح به؟ وما هو النوع غير المسموح به في هذا الشأن؟

^ إن فهم كلام كلّ متكلِّم يقوم على مجموعة من الأدوات. وإن كل مخاطب عليه أن يتوجّه إلى الكلام مسلحاً بسلسلة من الفرضيات، من قبيل: أصالة الحقيقة، وغيرها.

وهناك سلسلة من الفرضيات أيضاً تقوم بفرض الآراء وتحميلها على القرآن، وهذا هو التفسير بالرأي الخاطئ.

والسؤال هنا: هل يمكن لنا الاعتماد على العلم بوصفه أداةً لفهم القرآن أم لا؟

والإشكال الذي يَرِدُ هنا هو أن العلم في تغيُّر مستمرّ، حيث يظهر إشكال النظريات العلمية بعد مدّة.

فعندما كنّا في النجف الأشرف تم التشكيك بجاذبية الأرض ـ على سبيل المثال ـ، واحتدم النقاش لعقدٍ من الزمن، حيث قيل: ليس هناك من جاذبية في الأرض، إنما كل ما هنالك ضغط على الأرض من خارجها، فليس في البين جذبٌ داخلي، وإنما هو دفع خارجي.

نحن لا نستطيع أن نقول للعلماء الذين يتوصَّلون إلى معطيات علمية: لا تعملوا على توظيف تلك المعطيات في فهم القرآن، من قبيل: العالم الذي يُفسِّر قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً﴾ (الأنبياء: 32) بالغلاف الجوّي، الذي يحول دون تسلُّل الأشعة ما فوق البنفسجية وسائر الأشياء الأخرى إلى الأرض.

وعليه فإنّ محل النزاع يكمن في رجوعنا إلى المعطيات العلميّة للعلماء والمفكِّرين في فهمنا للقرآن الكريم.

يجب القول في المجمل: إن الاستفادة من المعطيات العلمية بوصفها أداةً لإدراك المفاهيم القرآنية لا محيص عنه بالنسبة إلى صاحب المعطى العلمي؛ وأما بالنسبة إلى الآخرين فإن الاستفادة من هذه النظريات العلمية تتوقَّف أوّلاً: على بلوغها إلى حدّ الكمال؛ وثانياً: يجب طرحها في التفسير مقرونة بالاحتمال، لا أن يُقال: إن هذا هو المعنى المراد من الآية، دون غيره، اعتماداً على ذلك المعطى العلمي، بضرسٍ قاطع.

_ إذن لا يجوز الاستناد إلى التفسير العلمي بضرس قاطع، ويجوز إذا كان على نحو الاحتمال. ولكنْ ألا ينسحب هذا الإشكال على سائر الأساليب والأدوات الأخرى، من قبيل: الكلام؛ والفلسفة؛ إذ إن التغيير يحصل حتّى بالنسبة إلى العلوم العقلية، غاية ما هنالك أن التغيير الذي شهدته العلوم التجريبية في القرنين الأخيرين كان متسارعاً؟ وعليه كيف يمكن تبرير تعارض القرآن مع المعطيات العلمية؟

^ إن المفسِّر يعتمد في تفسيره على مختلف العلوم، من قبيل: التاريخ مثلاً.

فالقرآن على سبيل المثال تحدّث عن قصة ذي القرنين. وقد عمد بعض المفسِّرين إلى توظيف علم التاريخ في ما يتعلق بتفسير هذه الشخصية، وقالوا: إن هذه الشخصية التاريخية يجب أن تكون مذكورة في التاريخ، ولا يمكن أن يكون غير الإسكندر المقدوني.

ولكنْ هناك أدلة تثبت استحالة أن يكون هذا الشخص عبداً صالحاً من عباد الله؛ فقد كان الإسكندر المقدوني رجلاً شهوانياً ظالماً مستبداً، دمّر جميع معالم الحضارة والثقافة والعلم والأدب عند اجتياحه لإيران.

بَيْدَ أن الفخر الرازي لا يبدي اهتماماً لهذه المسألة، ويعتبر الإسكندر المقدوني هو ذو القرنين المذكور في القرآن الكريم.

وقد ذهب السيد أبو الكلام آزاد مؤخَّراً ـ من خلال التتبُّع في التوراة ودراسة التاريخ ـ إلى القول بأن ذا القرنين هو الملك الإيراني كوروش.

وقد يظهر في المستقبل عالمٌ آخر ويطبِّق ذا القرنين على شخصية أخرى.

وعليه إذا تمّ اتخاذ العلوم الإنسانية العقلية والنقلية أداةً لتفسير القرآن يجب أن يقرن ذلك بأنه مجرّد احتمال، وعدم البتّ به بضرسٍ قاطع.

_ في ما يتعلق بالمسائل العقلية التي يقوم عليها الدليل القطعي، والذي نأوّل به حتّى ظواهر الآيات، من قبيل: قول الله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ (الفجر: 22)، ونفسِّرها على نحوٍ قطعيّ، فهنا نسأل: ما هو الحال إذا توصَّلنا إلى القطع في المسائل التجريبية، كيف يكون شأن التفسير بالنسبة إلى هذا القطع؟

^ لا إشكال في ذلك، بمعنى أنه كان لدينا دليلٌ ثابت وقاطع، ولم يكن هناك ما يدحضه لمئات السنين، ليس هناك من إشكال في الاعتماد عليه في التفسير. كلّ الذي نريده هو أن لا ننسب إلى القرآن شيئاً يحتمل الخطأ. ويجب القول في الحدّ الأدنى: نحن إنما نفهم الآية بهذا الشكل طبقاً لهذه القاعدة.

وأما بالنسبة إلى التعارض بين المعطيات القرآنية والعلوم البشرية عند غير المسلمين من العلماء فلا بأس بذلك؛ لاعتقادهم بأن القرآن قد تعاطى مع ثقافة عصره. أما نحن فنقول: إن القرآن لا يعمل على توظيف الثقافة الخاطئة، ولا يتّخذها أداة ولا جسراً للعبور إلى أهدافه وغاياته.

تأثُّر القرآن بثقافة عصره

_ ما هو الدليل على عدم تأثُّر القرآن بثقافة عصره؟

^ إن القرآن كتاب هداية وتربية. إن مثل هذا الكتاب الذي يروم تربية جيل أو أجيال عليه أن يأتي بدليلٍ. فإذا قال بأن الوفاء بالعهد حَسَنٌ عليه أن يأتي ببعض الشواهد على ذلك. يقوم فنّ القرآن على الخطاب، وعليه أن يأتي بشواهد من القضايا البهيجة والمريرة التي مرَّتْ على الإنسان طوال التاريخ. كما يجب بالشواهد القرآنية أن تكون حقيقيةً وواقعية، وأن لا تكون من الأمور الخيالية.

ومن ناحيةٍ أخرى إذا كانت الشواهد القرآنية مقتبسةً من الثقافة المعاصرة للقرآن سوف لا تكون مفهومةً للأجيال القادمة. فهناك على سبيل المثال مصطلحٌ أو مَثَلٌ للتعبير عن وجوب القيام بالأمور قبل فوات الأوان، كقولنا مثلاً: «جاء بالحلّ بعد خراب البصرة». إنّ هذا يكون مفهوماً للعرب، ولكنّه قد لا يكون مفهوماً للأمم الأخرى. وحيث جاء القرآن لهداية جميع الناس عليه أن لا يعمل على توظيف ثقافة أمّة جاهلة.

الأمر الآخر: لا يصحّ توظيف الخيال والأوهام في مجال التربية. فحتى في المناهج الدراسة الابتدائية تتّجه الأنظار حالياً إلى عدم الاستفادة من الأساطير والأوهام في المناهج التعليمية والتربوية؛ إذ لوحظ أن هؤلاء الأطفال بعد أن يكبروا وتتوسَّع مداركهم سيدركون أن الإدارة التربوية قد أقامت أصلاً تربوياً على أسس وَهْمية، ومن هنا سوف تنهار عنده المنظومة هذه التربوية برمّتها؛ بعد أن يدرك أن الكبار قد عمدوا إلى توظيف كذبة لإثبات مفهومٍ ما.

وهذا ما قام عليه الأسلوب في كتاب «كليلة ودمنة»، إلاّ أن الشاعر والأديب الفارسي الشيخ سعدي الشيرازي؛ حيث كان معلِّماً في الأخلاق، فقد تجنَّب هذا الأسلوب في كتاباته التربوية، وأقام منظومته التعليمية من خلال توظيف الحكايات الواقعية؛ إذ أدرك أنه إذا أراد أن يكون معلِّماً للأخلاق، وأن ينشر الفضائل الأخلاقية في المجتمع، عليه أن يقدِّم شواهد واقعية وحيّة.

وقد استلهم الشيخ سعدي الشيرازي هذا المنهج من القرآن الكريم.

لا يمكن للقرآن أن يعمل على هداية مختلف الأمم والشعوب البشرية من خلال الاستناد إلى أساطير وأوهام الثقافة الجاهلية.

وقد أثبتنا في كتاب «شبهات وردود» أن جميع الشواهد القرآنية ما هي إلاّ حقائق. وحتّى لو كُتب للقرآن أن ينزل في بيئة أخرى لما تأثَّر بثقافتها، وكان مضمونه هو ذات المضمون.

لقد عمد القرآن الكريم إلى توظيف شواهد مقبولة لدى جميع البشر.

إن كلمة الإبل ليست حِكْراً على العرب، وهكذا الأنهار والأشجار وغيرها. فهل هناك شعبٌ في العالم لا يعرف البهجة الواضحة في هذه الأمور؟!

فلم يكن الأمر بحيث إن العرب هم وحدهم الذين يعتبرون هذه الأمور باهجة للنفس، حتّى يتم اختصاصهم بالترغيب في الحصول على الحدائق الخضراء والأنهار الجارية على ما هو مذكورٌ في القرآن.

أو كلمة الحور العين، التي فُسِّرت بسواد العين واتّساعها. فمَنْ ذا الذي لا يدرك جمال العين بهذا المعنى؟! فالعِين يعني اتّساعها، والحُور يعني التي في بياضها بريقٌ، لا تشوبه صفرة أو حمرة من مرضٍ. إن هذا المفهوم يُعبِّر عن الجمال في جميع أقطار العالم.

_ بالالتفات إلى عدم تأثُّر القرآن الكريم بحضارة عصره، كيف يمكن تبرير تعارض القرآن مع المعطيات العلميّة في معتقد المسلمين؟

^ إن لسيد قطب كلاماً جميلاً في هذا الشأن، حيث يقول: إن القرآن يترك الأمور العلمية مبهمة؛ وذلك لأن القرآن مطلع على الواقع، ولكنه إذا صرّح بذلك الواقع قد يؤدّي ذلك إلى تكذيبه من قبل علماء ذلك العصر، الذين كانوا قاطعين بما توصَّلوا إليه من النظريات. من هنا فإن القرآن الكريم يؤثر عدم إقحام نفسه مباشرة في هذه الأمور التي لا تدخل في صُلْب هدفه، ويشير إلى الحقائق من طرف خفيّ، ويترك الكشف عنها لقابل الأيام وتطوُّر العلوم، فلا يرى العلماء في القرآن الكريم ما يتعارض مع النظريات العلمية.

ففي ما يتعلق بقوله تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً﴾ (الكهف: 25)، على سبيل المثال، أشكلت دائرة المعارف «بريتانيكا» بالقول: إن بين عصر الملك الذي ينتمي أصحاب الكهف إلى حقبته والملك التالي فترة تقدَّر بأقل من مئتي سنة، في حين أن القرآن يقدِّرها بثلاث مئة وتسع سنوات. ولكنّنا عندما نراجع القرآن الكريم نجده في ذلك ينقل في ذلك كلام الآخرين، ويقول في نهاية الكلام: ﴿قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا﴾ (الكهف: 26).

يذهب ابن عباس ومجاهد وقتادة إلى أن هذه الآية هي نقلُ قول.

ومن ناحية أخرى فإن هذه القصة لا ربط لها بالملك «دقيانوس»؛ لأن دقيانوس إنما كان قبل بعثة النبيّ الأكرم‘ بمئة وخمسين سنة، وكان الناس في عصر النزول بحسب طبيعة الأمور يعلمون بمجريات هذه الأحداث القريبة من عصرهم. في حين نطالع في تاريخ محمد بن إسحاق أن عدداً من قريش ذهبوا إلى أحبار المدينة يسألونهم عن دعوة النبي الأكرم‘؟ فقال هؤلاء الأحبار: اسألوه عن ثلاثة أمور، ومن بينها: «اسألوه عن الفتية الذين ذهبوا في الدهر الأول»، وعندما يُعبِّر اليهود بـ «الدهر الأول» فهم يريدون بذلك أن المسألة تعود إلى ما قبل تاريخ بني إسرائيل. فالمسألة تعود إلى اليهود أنفسهم، ولا ربط لها بالمسيحية.

إن هذه التعارضات والاختلافات من النوع الذي يجعل من فهمنا أمراً لا ينسجم مع المعطيات العلمية، لا مع القرآن نفسه.

المثال الآخر نجده في نظرية التكامل لدارْوِن. وقد أشكل العلماء المعاصرون بإشكالات عميقة على نظرية دارْوِن، ولم يتمّ إثبات هذه النظرية في الأروقة العلمية. والعجيب أن هذه النظرية رغم عدم إثباتها في مهدها الأوروبي، لا تزال تسمع أصداء لها في البلدان الشرقية!

لقد تعرض فلاسفتنا إلى نظرية التكامل في الصنف الواحد منذ القدم، وأما التكامل من صنف إلى صنف آخر ـ بحسب ما تدعيه نظرية دارْوِن ـ فلم يقُلْ به أحد. هناك في المسار التكاملي من القرد إلى الإنسان هناك حلقة مفقودة لم يستطع دارْوِن إثباتها والعثور عليها، رغم بحثه الحثيث عنها.

الأمر الآخر هو أن دارْوِن يقول: نحن لا ننكر وجود الله، وإنما نروم شرح مسار الخلق فقط. وقال في مقدمة كتاب «أصل الأنواع»، ضمن رسالة له إلى مساعده في ألمانيا: يتفق المؤمنون والملحدون على أن عالم الخلق يعود إلى نقطة بداية، بَيْدَ أن الخلاف يكمن في أن هذه النقطة هل تتمتَّع بالعقل والشعور والعلم والحياة أم لا؟ يقول دارْوِن: لو كانت هذه النقطة مفتقرة إلى هذه الكمالات فمن أين إذن جاء كل هذا العقل والشعور والحياة والعلم الذي يحكم العالم؟ إذن فالحقّ مع المؤمنين. وهذا استدلال علمي من قبل عالم على مستوى دارْوِن.

إن دارْوِن لا يسعى إلى إنكار الله الصانع والخالق، وإنما يختلف في الأسلوب والمنهج. وقد قام القرآن الكريم بتناول هذه المسائل على نحو مجمل. وهناك من العلماء المسلمين مَنْ يرى انسجام نظرية دارْوِن مع القرآن.

وإن هذه اللغة العالمية التي يعمل القرآن على توظيفها هي السرّ في ناحيته الإعجازية، حيث لا يقحم نفسه في المسائل والنظريات العلمية؛ لأن هذا لا ينسجم مع الهدف التربوي للقرآن.

_ هل يمكن لنا أن نستنتج من هذا الكلام حظر الاستناد إلى القرآن لإثبات النظريات العلمية؟ وإذا صحّ هذا الكلام كيف يمكن توظيف المعطيات العلمية لفهم دقائق القرآن؟

^ إن القرآن إذ يتعرّض إلى المسائل العلمية في كلامه لا تكون هذه المسائل مرادةً له بالذات، وإنما ترشح من خلال كلامه عرضاً؛ إذ إن المتكلم إذا كان محيطاً بأسرار الخلق فإنه حتّى إذا أراد أن يتحدّث في بُعْد خاص تتسلَّل من بين كلماته أحياناً بعض العبارات المنبثقة عن علمه الجمّ، والذي لا يُدركه إلاّ بعض المتخصِّصين من العلماء.

لقد أراد المجمع اللغوي في القاهرة أن يضع ألفاظاً للمعاني الخاصة بالكون والفضاء فوجدوا أن الكلمات القرآنية المستعملة في السحاب والرياح وغيرهما هي من أدقّ الألفاظ التي يمكن أن تكون هي الأسماء العلمية لهذه الأشياء مع ملاحظة خصوصياتها. هكذا تأثر علماء مصر ـ التي تمثل مهد الثقافة والأدب العربي ـ بإعجاز القرآن.

إن هذه الدقائق رهنٌ بتطوّر العلم، حيث تتجلى عظمة القرآن يوماً بعد يوم.

وبطبيعة الحال فإن القرآن الكريم نفسه لم يتعرّض للإشارات العلمية بوصفها من الإعجاز، ولكننا اليوم توصلنا إلى هذه الحقيقة، ويمكن لنا تعريف العالم بهذا البُعْد بوصفه من إعجاز القرآن. وهذه هي خدمة العلم للقرآن.

والإعجاز في هذا البُعْد من الأوصاف الانتزاعية. فعلى سبيل المثال: قال الإمام عليّ× في بعض كلماته: «اعْجَبُوا لِهَذَا الإِنْسَانِ، يَنْظُرُ بِشَحْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ، وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ…»([9]). وكان هذا الاكتشاف كافياً لأن يشهر أحد العلماء الفرنسيين إسلامه في بداية القرن العشرين، مع أن الإمام علي× لم يقصد بهذا الكلام أن يأتي بكلامٍ معجز، وإنما حيث كان متّصفاً بالإحاطة العلمية صدرت منه هذه العبارة العلمية عفو الخاطر، خلافاً للآخرين الذين كانوا يتصوَّرون أن الإنسان يسمع بعضوٍ غضروفي.

نظرية نسخ القرآن، رؤيةٌ جديدة

_ سماحة الأستاذ، يبدو أنك قد توصَّلت إلى نظريات جديدة حتّى في باب النسخ. هل يمكن لك أن تتحفنا ببعض التوضيحات في هذا المجال؟

^ لقد كانت مسألة النسخ مطروحة منذ بدء نزول الوحي وإلى اليوم. ولكنها أصبحت في الآونة الأخيرة مستمسكاً للهجوم على هذا الكتاب العزيز، ولذلك فإني أهيب بالمجتمع الإسلامي وعلماء العالم الإسلامي، والمدافعين عن حياض القرآن الكريم ـ الذين أحسن الظنّ بهم جميعاً ـ، أن يُعيدوا النظر في هذه المسألة؛ كي لا يجد الأعداء أيّ ثغرة أو نقطة ضعف في الكلمات السابقة يمكن أن تشكِّل مدخلاً للتشكيك في القرآن.

إن من بين الشبهات المطروحة حالياً بشأن النسخ هي تلك التي تقول: ما هي الفائدة من الآيات المنسوخة بعد جعل الحكم الجديد ونسخها؟ والإشكال الأهمّ هو من أين لنا أن نعرف ما هي الآيات الناسخة؟ وما هي الآيات المنسوخة؟ فمَنْ ذا الذي يمكنه تحديد الناسخ والمنسوخ؟ فقد تكون الآية التي أراها منسوخة غير منسوخة!

وبعد عروض هذه الإشكالية بدأ المفكِّرون المصريون بتأليف كتب ضخمة في هذا المجال. وانتهجوا أسلوب السيد الخوئي&، حيث أنكر وجود النسخ في القرآن من الأساس.

ومنذ أن كنتُ في النجف الأشرف كتبت رسالة في النسخ. وقد ذهبتُ فيها إلى القول بأن دائرة النسخ ليست بتلك السعة التي يذكرها البعض، حيث بلغ بعض العلماء بعدد الآيات المنسوخة إلى 260 آية. وقلتُ في حينها: إن مجموع الآيات المنسوخة بعد حذف المتكرِّر منها لا يتجاوز 20 آية. وهذا ما ذكرتُه في الجزء الأول من كتاب التمهيد أيضاً.

وأما أستاذنا السيد الخوئي فقد كان يُنكر النسخ من الأساس، ورفض حتّى الآية التي كنا نستشهد له بها على إثبات النسخ. وبطبيعة الحال لم نقتنع بكلامه في حينها، ولكنْ بمرور الوقت توصَّلنا إلى أن الحقَّ كان معه.

_ إذن ما هو المراد من الناسخ والمنسوخ الوارد في الروايات؟

^ إن ما ورد في الروايات من الناسخ والمنسوخ إنما يراد به التخصيص والتقييد، حيث يجب على الفقيه أن يحمل عليها الآيات المطلقة.

ليس هناك آية قد فقدت جدوائيّتها ومفعولها، من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ﴾ (البقرة: 228)، فهي مطلقةٌ، ولكنها تختصّ بالمطلَّقات رجعياً. من هنا عليك أن تأتي بآيةٍ فاقدة للفائدة والتأثير.

وعندما كنا نناقش أستاذنا السيد الخوئي كنا نذكر له الآية التي تقول: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً ِلأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ﴾ (البقرة: 240)، التي ساعد إجماع الفقهاء على إثبات نسخها من خلال مجموعة من الآيات. وهذا يعني عدم وجود دليل قويّ على أنها قد نُسخت بآيةٍ أخرى.

إن الفقهاء يقولون: إن هذه الآية قد نزلت بشأن النساء اللائي يُتوفّى عنهنَّ أزواجهنَّ. لقد كانت عدّة الوفاة في عصر الجاهلية تقدَّر بسنة كاملة، يطلق عليها حالياً مصطلح الحداد، بمعنى أن على المرأة المتوفّى عنها زوجها أن لا تضع الحليّ ولا تشارك في الأعراس لمدّة سنةٍ كاملة. ولا يزال هذا التقليد قائماً بين العرب. كان الفقهاء يقولون: إن هذه الآية تشير إلى حداد الجاهلية، ثمّ نُسخت بقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ الرُّبُعُ﴾ (النساء: 12)، حيث تحدِّد مقدار الميراث لها، ومدّة العدّة بـ ﴿أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً﴾ (البقرة: 234).

كان السيد الخوئي يقول: إن آيات العدّة والميراث لا تتنافى مع هذه الآية؛ إذ إن شرط النسخ أن يكون هناك تهافتٌ وتنافٍ بين الناسخ والمنسوخ.

بل إن السبب الرئيس لمخالفة السيد الخوئي للنسخ هو أن القرآن بنفسه ينفي وجود الاختلاف بين آياته، وعليه كان يقول: كيف تريدون الوصول إلى وجود النسخ من خلال إثبات وجود هذا الاختلاف؟!

قلتُ لسماحته: كيف يكون الشأن بالروايتين الموجودتين في تفسير العياشي، والتي ترى الآية مرتبطةً بالحداد؟

فقال سماحته: لا سند لهما. وبطبيعة الحال: إن تفسير العيّاشي تفسيرٌ جيِّد.

ثمّ قلتُ له: ماذا تقول بشأن إجماع الفقهاء، حيث لم يذهب فقيهٌ طوال تاريخ الفقه إلى القول بحقَّين للمرأة؟

فقال سماحته: أنا أقول بذلك، وأقول باستحباب عدم إخراج المرأة المتوفّى عنها زوجها من البيت لسنةٍ كاملة. وهذا لا يتنافى مع دفع ميراثها لها.

وقد ذكر سماحته شاهداً، وقال: لو أن الآية كانت مرتبطةً بالحداد والعدّة لما قالت: ﴿فَإِنْ خَرَجْنَ﴾. وعليه يتّضح أن هذا التكليف إنما كان من باب الرفق، دون التكليف والإلزام.

وبعد أن فكّرنا في المسألة لاحقاً بشكلٍ أدقّ توصَّلنا إلى أن الآية ترتبط بالأشخاص الذين يتزوَّجون مجدَّداً بعد أن يتقدَّم بهم السنّ، حيث يندر أن يكون لهذه النساء أولاد؛ إذ لو كان لهنَّ أولاد لم يكن لأحدٍ حقٌّ في إخراجهنَّ. إن هذه الآية توصي بعدم إخراج هذه النساء من البيت إلاّ إذا أردْنَ ذلك بأنفسهنَّ. وهكذا أصبح مفهوم الآية واضحاً جدّاً، وعلمنا أن الحقَّ كان مع سماحة الأستاذ.

ماذا عن نسخ آية النجوى؟

_ ما هو رأيكم بشأن آية النجوى؟

^ كان سماحة السيد الخوئي يذهب إلى القول بالنسخ الظاهري في هذه الآية، دون النسخ الاصطلاحي، بمعنى أن الحكم الأوّلي بظاهر الإطلاق كان مستمرّاً، إلاّ أن الآية الناسخة تعلن ـ بناءً على تأخير البيان إلى وقت الحاجة ـ أن هذا الحكم كان مؤثِّراً حتّى ذلك الزمن.

ولكنْ هل الحكم في آية النجوى شرعي أم حكومي؟ يبدو أنه حكومي قد تمّ تشريعه في شرائط خاصة، ولشخص خاصّ، وزمن خاصّ، ولا يدخل ضمن قانون الشريعة الذي لا يقبل التغيير.

إن لسيد قطب في هذا الشأن كلاماً جميلاً، وهو أن آية النجوى إنما أرادت أن تُحدث أرضيّةً لإيصال رسالة، وبعد وصول هذه الرسالة إلى المتلقّي يتم سحب تلك الأرضية. فقد كان العرب في تلك الفترة؛ لتبسُّط النبي معهم، وكان يعطيهم الكثير من وقته قبل البعثة، فكانوا يكثرون من التردُّد عليه حتّى بعد البعثة وتأسيس الدولة في المدينة المنوّرة. ولكنْ بالالتفات إلى المسؤولية الثقيلة التي أُنيطت به بعد حمل أعباء النبوّة وإدارة الدولة لم يعُدْ بالإمكان أن يعطي الكثير من وقته للتحاور مع الناس ومجالستهم في أمور جانبية غير هامّة، فنزلت هذه الآية لتنبِّه المسلمين إلى هذه الحقيقة. وبالفعل فقد وصلت الرسالة إليهم، وفهموها، فانقطعوا عن زيارة النبيّ، لا بخلاً بدفع الصدقة، وإنما رعايةً للظرف المستجدّ. وحيث كان هذا الحكم حكومياً، ومتعلِّقاً بشرائط وظروف خاصّة، فلا ربط له بموضوع الناسخ والمنسوخ، وعليه يبقى مضمونه خالداً.

لأفترض أني كنت صديقاً لقائد الثورة، وكنت أزوره يوميّاً، فهل يحقّ لي مواصلة هذه الزيارات اليومية حتّى بعد أن تحمَّل أعباء إدارة الدولة؟!

_ لقد كان حكم دفع الصدقة في هذه الآية واجباً، ليتمّ بعد ذلك رفع هذا الحكم، أفلا يكون رفع الحكم بالوجوب نسخاً؟

^ إن هذه الصدقة ليست سوى كناية. ومضمونها أنه لا ينبغي إزعاج النبيّ في أمور تافهة. وقد فهم العرب مضمون هذه الرسالة، وبدأوا يتخلَّقون بأخلاق الله. ولم يعُدْ من الضروري أن يدفعوا الصدقات كمقدّمة للدخول على النبيّ في الأمور الهامة؛ لما ينطوي عليه ذلك من الكلفة.

إنما الإشكال يكمن في أن تكون هناك آيةٌ في القرآن ومع ذلك لا يتمّ العمل بمضمونها، في حين أن هذه الآية كانت في عهد الرسول، وقد تمّ العمل على طبق مضمونها، ولا نزال نعمل بمضمونها إلى يومنا هذا، حيث يقول المضمون: لا تزعجوا وُلاة أمركم.

_ يتّضح من كلام السيد الخوئي أن للأمر والطلب مراتب تختلف في الشدّة والضعف. ويمكن القول في هذه الآية: إن الأمر في البداية كان ذا مرتبةٍ شديدة تبلغ به حدّ الوجوب، ثم تمّ التخفيف من شدّة هذا الأمر؛ لينزل إلى مستوى الاستحباب. وعليه لو كان النبيّ حاضراً الآن لاستحبّ لنا دفع الصدقة قبل الدخول عليه أيضاً؟

^ كلاّ. كلّ ما في الأمر أن الآية أرادت أن تُفهم المسلمين بأن الكلام الذي تريدون نقله إلى النبيّ يجب أن يكون ذا قيمة، بمعنى أن كلامكم إذا كان يحظى بأهمِّية وكان ذا قيمة يمكنكم الدخول على رسول الله.

_ إن من بين الآيات التي تذكر في موضوع النسخ آية الرجم والجلد، فما هو رأيكم في ذلك؟

^ قيل: إن الحكم المبيَّن في قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء: 15)، وقوله تعالى: ﴿وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 16)، كان يمثِّل الحكم الأولي للإسلام؛ إذ يقول هذا الحكم في الآية الأولى: لو أن امرأة ارتكبت الفاحشة، وتمكّن أربعة منكم من إثبات ذلك عليها، وجب حبسها في البيت إلى الأبد؛ أو أن يحكم الله بعد ذلك بشأنها بحكمٍ آخر. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الرجل في الآية الثانية، فإنْ ارتكب فاحشة وجب تأديبه؛ ليرتدع ولا يعود إلى فعله! وقد نسخ هذا الحكم فيما بعد بحكم الجلد والرجم. هذا هو رأي أغلب الفقهاء.

أما السيد الخوئي فكان يقول: إن الآية قد تضمَّنت فقرة ﴿أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً﴾، ومعنى السبيل هو أن يفتح للمرأة طريقاً إلى الخلاص، وأنتم تقولون: إن هذا الطريق الذي حدّّده الله لها لاحقاً هو الرَّجْم والجلد!

وقد فسَّر أبو مسلم الإصفهاني «اللاتي» بالسحاق، و«اللذان» باللواط، وبذلك عمل على إبطال النسخ.

وأما نحن فقد رفضنا في بحثنا الأخير في النسخ رأي الإصفهاني هذا. كما رفضنا ما ذهب إليه علماء السَّلَف. وقلنا: إن هاتين الآيتين تشيران إلى شيءٍ آخر. ففي الأزمنة السابقة حيث كان الناس يعيشون على شكل مجموعات قبلية كان يجب على وليّ أمر الأسرة أن يعمل على مراقبة أفراد أسرته؛ من أجل منعهم من الانحراف. والآية الأولى تخصّ النساء وبنات الأسرة؛ لأن الفاحشة في الأساس لا تعني الزنا، وإنما الفاحشة تعني المعصية التي تشيع بين الجماعة، فتشمل حتّى الغيبة التي قال الله تعالى بشأنها: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ (النور: 19)، ذلك أن الشخص عندما يغتاب الآخر يكون قد هتك حرمته في العلن وأمام الناس، وكلّ ذنب خرج من حالة الإثم إلى العلن سيغدو فاحشة. وهذه الآية تقول: إذا لم تتحلَّ نساؤكم بالمسؤولية الأخلاقية، ولم يحافظْنَ على القواعد الأخلاقية خارج البيت، وجب عليكم منعهنَّ من الخروج، وحبسهنَّ في البيوت. والآية الثانية تقول: إذا رأيتم في فردين من شبابكم ـ من الذكور أو الإناث (من باب التغليب) ـ قيام علاقة مشبوهة وجب عليكم مراقبتهما. وعليه يكون موضوع هاتين الآيتين مرتبطاً بالتربية الأسرية، ويكون لذلك معنى مقبولاً، ولا يكون منسوخاً.

_ إن لديكم نظريات جديدة بشأن أنواع النسخ أيضاً، هل يمكنكم توضيح ذلك؟

^ هناك نسخ من نوع نسخ الشريعة بشريعةٍ أخرى. ونحن قد أنكرنا ذلك.

وبطبيعة الحال يمكن أن تنسخ بعض أحكام الشريعة السابقة بحسب التغيير، وهو الذي أشار له الله تعالى بقوله: ﴿وِلأَحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ (آل عمران: 50).

أما النوع الآخر فهو الذي يُصطلح عليه بالنسخ التدريجي، والذي أسميناه نسخاً مشروطاً. وهو في الحقيقة ليس من النسخ. فقد كان يجب على المسلمين في ظلّ ظروف خاصّة ـ على سبيل المثال ـ أن يلتزموا الصمت في مواجهة العدوّ، ثم جاء بعد ذلك حكمٌ آخر تمثَّل في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 194)، وبعد ذلك نزل قول الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ﴾ (التوبة: 123)، بمعنى الاقتصار في المواجهة على العدوّ الأقرب؛ لأن الخطر منه وشيك، ثمّ تطوّر الحكم فيما بعد بنزول قوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ (التوبة: 5).

وهذا يثبت أن المسلمين كانوا يعيشون ظروفاً متغيِّرة ومتدحرجة على نحو تدريجي. وهكذا كان يبدو من الحكم اللاحق أنه ناسخٌ للحكم السابق، بمعنى أنه لا يحقّ للمسلم عند اشتداد بأسه وقوّته أن يغضّ الطرف عن الظلم الذي يتعرَّض له من قبل الأعداء.

وقلنا بأن هذا النسخ هو من النسخ المشروط الذي يتوقَّف على تحقُّق بعض الشرائط والظروف. فكلما كان المسلمون في حالة ضعف وجب عليهم العضّ على الجراح والتزام الصبر والصمت، وإذا اشتدّ بأسهم لم يعُدْ يجوز لهم الصبر على الضَّيْم، بل يجب عليهم ردّ العدوان من حيث أتى.

_ وهل يصدق ذلك بالنسبة إلى حكم الخمر أيضاً؟

^ كلاّ. فقد كان الخمر محرَّماً منذ البداية، وليست هناك آيةٌ تجيز شرب الخمر. فما ورد في القرآن أوّلاً من القول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى﴾ (النساء: 43) لا يتنافى مع التحريم المطلق. وهذا من التشريع التدريجي، ولا ربط له بالنسخ أبداً.

بين قراءات القرآن وتحريفه

_ هناك مَنْ يرى في تعدُّد القراءات دليلاً على تحريف القرآن، ويطالبون في مباحث العلوم القرآنية بدراسة ومناقشة القراءات المختلفة والاستناد إليها في بيان الحكم. وقد شهد عصرنا الراهن ظاهرة تمثلت في شخص أمّي ـ وهو مزارعٌ يتّصف بالتقوى والصلاح، اسمه كاظم الكربلائي ـ حفظ القرآن فجأةً بقراءةٍ صحيحة. فما هو مدى حجّية هذه الظاهرة في العلوم القرآنية؟ وما هي الإجابة عن هذا النوع من الشبهات؟

^ من الناحية الفقهية؛ حيث يقوم الأمر على البراهين، لا تكون هذه الظاهرة حجّةً. بَيْدَ أن هذا الحَدَث من المسائل الثابتة والطبيعية؛ إذ يمكن لبعض الأفكار أن تنتقل من الأرواح العالية. وأما تغيير كلمات القرآن فهو مجرَّد كذبة، فقد اختبره المختصّون في هذا الفنّ، وأثبتوا أن قراءته هي قراءة حفص عن عاصم.

_ أين تجدون الإعجاز القرآني؟

^ يكمن إعجاز القرآن في «أناقة اللفظ، وفخامة المعنى». ولذلك نجد السيد المرتضى يُشكل على الذين يحصرون إعجاز القرآن في الفصاحة والبلاغة، ويقول: إننا نجد الكثير من العبارات الفصيحة والبليغة في كلام العرب؛ وعليه لا يمكن لمجرّد الفصاحة والبلاغة أن تكون هي التي تمثِّل إعجاز القرآن؛ كي يتم التحدّي بها. فإن فنون البديع والبيان التي نجدها عند الكثير من الشعراء تفوق الوصف، كما نجد ذلك ـ على سبيل المثال ـ عند الشاعرة «حمدة بنت زياد الأندلسية»؛ إذ تقول:

ولما أبى الواشون إلا فراقنا *** وما لهم عندي وعندك من ثارِ

وشنّوا على أسماعنا كل غارة *** وقلّ حُماتي عند ذاك وأنصاري

غزوناهم من مقلتيك وأدمعي *** وأنفاسنا بالسيف والسيل والنارِ

حيث استعملت المقلتين والأدمع والأنفاس عائدة عليها المعاني التالية: (السيف والسيل والنار)، دون أن تصرّح بذلك، معتمدةً على فهم السامع أو القارئ.

فالسيف يعود إلى ألحاظ المقلتين، والسيل إلى الأدمع، والنار إلى الأنفاس، بجامع الشبه بين كل اثنين منها.

وهذا يمثِّل قمّة الإبداع في عالم الفنّ والأدب والبلاغة، ولكنّه لا يعدو أن يكون مجرّد هراء لا ينطوي على أيّ فضيلةٍ أخلاقية أو تربوية.

في حين أن القرآن، في الوقت الذي يعمل على توظيف أسمى آيات البلاغة والفصاحة، ينطوي كلامه البليغ والفصيح على رسالةٍ أخلاقية سامية.

ومن بين الفنون التي نجدها في القرآن الكريم هو المجاز في القرآن، الذي يذهب البعض إلى إنكاره، وهناك في المقابل مَنْ يقول به. هناك مَنْ يقول: إذا قبلنا بالمجاز فسوف يلزم من ذلك أن لا تكون صفات الله حقيقيةً. وهناك مَنْ يرفض وجود المجاز في اللغة أصلاً، ناهيك عن أن يحدث ذلك في القرآن الكريم. بَيْدَ أنه وقع خطأ في تعريف المجاز بالقول: «إن المجاز يصحّ سلب الحقيقة عنه»؛ لأن سلب الحقيقة هنا ليس بمعناه الفلسفي. إن الحقيقة الفلسفية تعني الموجود بالعين، بَيْدَ أن هذه الحقيقة تعني الموضوع له الأصل؛ إذ عندما نستعمل (الأسد) في (الرجل الشجاع) نكون قد أردنا موجوداً حقيقياً أيضاً، ولم نُرِدْ موجوداً وَهْمياً.

لو أننا أفرغنا القرآن الكريم من المجاز لن نحصل من القرآن سوى على مجموعة من الظرائف والدقائق الفنية. إن القرآن إنما استحوذ على أفئدة ومشاعر العرب والعالم من طريق الفنّ. فعلى سبيل المثال: نجد الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ (ق: 30) تشتمل على تعبير أدبي في غاية الروعة. يقول سيد قطب: يكمن فنّ القرآن في أنه يخلق للجماد ـ كما الإنسان ـ نطقاً وبياناً وشعوراً.

وقد نقل الطنطاوي في هذا الشأن حكايةً عن أستاذين في الأدب، وكان أحدهما يذهب إلى إنكار الإعجاز الأدبي والبلاغي في القرآن؛ والآخر يقول به، وقد طلب منهما أن يصوغا جملةً أدبية يقول مضمونها: «إن جهنم من السعة بحيث يبقى فيها متَّسع مهما ملأناها»، يقول الطنطاوي: تمكَّنا من صياغة ثلاثين عبارة مختلفة بهذا المضمون، ولكنَّنا بعد أن تلَوْنا قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ ظلَّ مساعدي واجماً فاغراً فاه من التعجُّب، ثم أقرّ بعد ذلك قائلاً: ما هذا قولُ بشر!

يقول المخالفون للإعجاز في توجيه هذه الآية: إن الله يمكِّن النار يوم القيامة من النطق! وبذلك يقضون على جميع ما في هذه الآية من الجمالية والإبداع.

وهناك الكثير من هذه الأمثلة في القرآن الكريم.

مفهوم النسخ التمهيدي

_ لديكم بحثٌ مبتكر باسم (النسخ التمهيدي)، فما هو مرادكم من هذا النسخ؟

^ إن النسخ التمهيدي يعني أن الشارع المقدَّس في مواجهته ومكافحته لبعض العادات والتقاليد الخاطئة والسائدة بين الناس يعمل في البداية على تشريع حكم متناغم مع هذه العادة؛ تمهيداً للتراجع عنه؛ لتنهار أسس هذه العادة الخاطئة في المجتمع، وذلك من قبيل: آية النشوز، وهي قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ (النساء: 34).

فقد جاء هذا الترخيص بالضرب في وقت كان ضرب المرأة مسألةً شائعة.

وهذه هي المشكلة الكبرى التي تعاني منها بريطانيا حتّى هذه اللحظة. قبل أيام نقل التلفاز مقابلة مع العشائر البختيارية، وقالت بعض النساء: إن رجالنا يضربوننا. وعندما سألها الصحفي عن سبب ذلك قالت: إذا لم نتلقَّ الضرب منهم فسوف نُسِئْ الأدب!

وحيث يريد الإسلام القضاء على هذه الظاهرة أنزل هذه الآية. بَيْدَ أن الرجال سوف يزدادون وقاحةً؛ إذ حتى الآن لم يكن لديهم مسوِّغ شرعي للضرب، الأمر الذي دفع النساء إلى رفع شكواهنّ إلى رسول الله‘، فقال الرسول بعد ذلك: «لا يحقّ لأحد أن يضرب زوجته».

هذا، وإن معنى الضرب في الآية هو الضرب الذي لا يوجع، ولا يترك أثراً.

ثمّ قال رسول الله‘: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي».

وهكذا فهم الرجال التأويل الواقعي لهذه الآية.

من هنا نقول: إن هذه الآية إنما جاءت لتشكّل أرضية ممهِّدة للقضاء على عادة جاهلية خاطئة.

_ هل يمكن القول: إن أساس الزواج يقوم على التمكين، وإن هذا الأساس ينهار بالنشوز. وفي هذا الإطار يدعو القرآن إلى تقديم الموعظة، ثمّ التعاطي عاطفياً، فإذا لم ينفع ذلك يتمّ الانتقال إلى المرحلة الثالثة المتمثِّلة بالضرب، والذي يعني في الحقيقة الإعلان عن انتهاء المودّة والمحبّة. فما هو الإشكال في اعتبار هذه المراحل الثلاثة، وعدم اعتبار هذه الآية منسوخة؟

^ إن هذه الآية تقول: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾. وعليه يتّضح أنّ جميع هذه الأمور إنّما هي مقدّمةٌ لتحصيل الطاعة. وإنّ الضرب الذي شرحه النبي الأكرم‘ إنما يأتي بداعي الزجر، دون الإيلام، وبداعي دعوة المرأة إلى العودة؛ لأن الضرب إذا كان مُوجِعاً سيفاقم المشكلة، وينطوي على نقضٍ للغرض؛ إذ يؤدي إلى استفحال النفور والكراهية. ومن هنا نجد الآية تدعو إلى التدرُّج، فتقول: «فعظوهن»، فإنْ لم ينفع «اهجروهن»؛ لكي يصلحن، ولا يقول «عذِّبوهن». إن هذه الآية نزلت ليسأل الناس عن معنى الضرب، وبذلك يتمّ التمهيد لإبطال عادةٍ قبيحة؛ لأنها تجيز ضرباً هو في حقيقته ليس بضربٍ.

_ إذن ليس لدينا هنا في الحقيقة إزالةٌ للحكم السابق. وإنّ هذا النسخ ليس هو النسخ بمعناه المصطلح. أليس كذلك؟

^ أجل. ولذلك فإنني عندما أردتُ أن اختار تسمية لهذا النوع من النسخ فكّرتُ كثيراً؛ إذ كان اسمه في الأصل «تمهيد النسخ». بَيْدَ أن هذه العبارة قد لا يفهم منها الناطق باللغة العربية المعنى الذي أريده. من هنا فقد اخترتُ له عنوان «النسخ التمهيدي».

_ هل يمكن لكم توضيح النسخ التمهيدي في ما يتعلَّق بمفهوم الرقّ والاستعباد؟

^ إن من بين الإشكالات التي يتمّ توجيهها إلى الإسلام هي إقراره بالرقّ.

وعلينا قبل كلّ شيء أن ندرس ظاهرة الرقّ التي كانت سائدةً في تلك المرحلة الزمنية. واليوم أخذ هذا المفهوم يكتسب صيغةً حضارية، وبدأنا نشهد تعامل بعض الدول بتصدير واستيراد الفتيات.

كنّا ذات مرّةٍ ضيوفاً عند وزير أردني، فرأينا عدداً من الغِلْمان يخدمونه، حيث كان قد اشتراهم، وقد عادَتْ بنا الذاكرة إلى الصورة الموجودة في كتب التاريخ عن هارون الرشيد. ويبدو أن هذه الظاهرة لا تزال سائدةً. ولكنْ علينا أن نرى ما هو منشأ الاستعباد في العالم؟ كان هناك مَنْ يذهب بالسفن إلى أفريقيا، ويشتري الأولاد والفتيات، أو يختطفهم عنوةً، ويأخذهم للبيع في أماكن أخرى.

أو ما كان يحدث عندنا في إيران، حيث كان الإقطاعيون يفرضون على الرعيّة ضرائب باهظة، فإنْ عجز الفقير عن دفع الضريبة أخذوا منه ابنته؛ لبيعها في سوق النخاسة.

ولكنْ هل ينسجم هذا النوع من الاستعباد مع روح الإسلام؟ ورد في وصية الإمام أمير المؤمنين× لنجله الإمام الحسن المجتبى× قوله: «لا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ الله حُرّاً»([10]).

وقد كان زيد بن حارثة قد وقع في الأسر عند هجوم إحدى القبائل العربية على قبيلته. وقد اشتراه عمّ السيد خديجة÷ من سوق عكاظ، وأهداه لها. قامت السيدة خديجة بدورها بإهدائه إلى رسول الله‘ بعد زواجها منه، فقام الرسول بعتقه فوراً. وحيث لم يكن بإمكان الشخص في النظام القبلي أن يعيش لوحده فقد تبنّاه النبيّ. ثم صادف أن مرّ عمّ زيد بمكّة، فأخبر أسرته بمكانه، فأقبلت أسرته إلى النبي يحملون الهدايا، وعرضوا عليه ما يطلب من المال ثمناً لاسترجاع زيد، فقال لهم: إنه حرٌّ، ويمكنكم أن تسترجعوه، ويمكنكم الاحتفاظ بأموالكم والهدايا التي أتيتموني بها. ولكنّ زيداً رفض الرجوع معهم، وآثر البقاء مع رسول الله‘. إذن لا يمكن لشريعة الإسلام أن تنسجم مع هذا الشكل من الاستعباد. وإنّ ما كان يقوم به الأئمة من عتق ألف رقبةٍ في الشهر إنما كانوا يريدون به تخليص هذه النفوس من الذلّ والهوان. وإن الإسلام لم يعترف بالرقّ إلاّ في مورد أسرى الحرب، ولم يكن ذلك يشمل النساء. وكلّ ذلك كان الهدف منه إعداد الأرضية للقضاء على هذه الظاهرة بشكلٍ تامّ.

عندما صدر الأمر بإلغاء الرقّ في عصر الملك القاجاري ناصر الدين شاه قال أحد الوزراء: إن هؤلاء العبيد سيموتون جوعاً إذا حرَّرناهم؛ ولكنّ علماء الإسلام؛ حيث كانوا يعرفون روح الشريعة، رحَّبوا بهذا القرار.

ولذلك فإن بعض المسائل التي عمل الإسلام على مجاراتها ظاهرياً إنما كان الهدف منها هو التمهيد لنسخها.

تقويم الدرس القرآني في الحوزات العلميّة

_ كيف تقيِّم نشاط العلوم القرآنية في إيران والحوزة الشيعية؟ وبالنسبة إلى تجربتكم الشخصية في هذا المجال من أين بدأتم؟ وما هي النصيحة التي يمكنكم تقديمها في هذا المجال؟

^ تتمثَّل إحدى مشاكل العلوم القرآنية في إيران في إقبالٍ كبير من الجمهور، يُقابله شُحّ في الأساتذة المختصّين في هذا الفنّ.

أما المشكلة الأخرى فتكمن في التخطيط الخاطئ في مجال التعليم، حيث يجب الذهاب إلى فهم القرآن؛ لأن القرآن ليس كتاباً عادياً. كما أن بحث لغة القرآن، والقراءات، ومعرفة الدقائق القرآنية، في غاية الأهمية أيضاً.

علينا أن لا نسمح بأن يكون لكلّ شخص قراءته الخاصّة. لقد كان القارئ والمفتي والمفسِّر في صدر الإسلام يجتمعون في شخصٍ واحد، ولم يتمّ الفصل بين هؤلاء إلاّ في نهاية القرن الأول. وليت هذا لم يحدث. فقد كان تفسير الطبري تفسيراً ممتازاً؛ لأن مؤلفه كان منظِّراً، وكان فقيهاً، وكان صاحب رؤية بشأن القراءات، وفي الوقت نفسه كان مفسِّراً أيضاً.

من هنا فإنني أرى أن الذي يعاني من ضعف في الجانب الفقهي يعاني من الضعف في الجانب التفسيري أيضاً. كما أن الإتقان في علم الأصول يحظى بأهمّية قصوى في العلوم القرآنية أيضاً.

بَيْدَ أني عندما جئتُ من العراق دعاني العلامة القدوسي للمرّة الأولى لتدريس المفاهيم القرآنية في مدرسة «حقاني»، وإن الكثير من الشخصيات السياسية هم من الذين تخرَّجوا من تلك الفترة.

وقد كنتُ أعمل بمفردي على مدى سنوات. وقد تلخّص نقدي للباحثين في الشأن القرآني في أنهم يفضِّلون المادة الجاهزة!

لقد دعوتُ مراراً إلى ممارسة النقد وشحذ الفكر.

عندما كانت مجلة كيهان أنديشه ترسل لي مقالات القرآن؛ لغرض إعادة النظر، وقعَتْ يدي من بينها على مقال لطالبٍ من جامعة الإمام الحسين×، وقد أجرى فيها ذلك الطالب مقارنة بين رأيي ورأي السيد الخوئي، وقد شجب رأيي فيها. وقد رأيتُ أنه قد سار في مقاربته بشكلٍ متين جدّاً، وطبق الأصول والضوابط، فكتبتُ في تقييمي لها: إن هذه المقالة من بين أفضل المقالات التي كُتبت في موضوع العلوم القرآنية، وذلك رغم قدرتي على دفع الإشكال، بَيْدَ أني كنتُ مهتمّاً بالمنهج العقلي، دون المنهج النقلي. عليَّ أن لا أكون مشدوداً إلى هاجس أن يفكِّر الجميع كما أفكر. ليس هناك صاحب رأي يرى القداسة لرأيه، وإذا كان هناك مَنْ يذوب هياماً بآرائه فهو جاهلٌ.

إن علوم القرآن كلّما كانت متمركزة كانت أشدّ قوّة، ويجب أن يكون توسيع رقعتها مقروناً بالعمق أيضاً، والطريق إلى ذلك يكمن في التشجيع والحثّ على التفكير وشحذ الأذهان.

_ هناك العديد من الكتب المطبوعة لكم، هل يمكنكم بيان الدافع الذي كان وراء تأليفكم لها؟

^ كنتُ أتصوّر في بادئ الأمر أن الناس يجهلون أكثر الشبهات، وعليه من الأفضل عدم الخوض فيها، حتّى رأيت أحد مشاهير الحوزة العلمية قد نشر في إحدى المجلات مقالة ضمَّنها عشر شبهات قرآنية، دون نقدٍ أو ردّ، مكتفياً في نهاية المقال بالقول: إن هذه الشبهات غير واردة.

وفي العدد التالي قام شخصٌ آخر من هؤلاء السادة الأفاضل بطرح ذات هذه الإشكالات بشكلٍ أقوى.

لست أدري لماذا يقوم البعض بطرح الشبهات الناقصة على أنها ناضجة ومبنائية؟!

أنا لو كنتُ أروم نقد شبهة فإنّني أعدّ الأرضية أوّلاً، ولا أعمل على التسويق للشبهة بحيث تبدو مقبولة.

وعندما رأيتُ أن الشبهات قد زادت أقدمتُ خلال ثلاث سنوات تقريباً على تأليف مباحث «إعجاز التمهيد». وكان الزملاء يستفيدون من مختلف الوسائل، من قبيل: الإنترنت، وقاموا بجمع حتّى الشبهات المرتبطة بالمسيحية، حتّى إذا لمسنا الحاجة إلى إجابة العلماء المسيحيين جمعنا إجاباتهم أيضاً. وقد سعيتُ قبل كلّ شيء إلى فهم الشبهة بشكلٍ جيد، لأقوم بعد ذلك بردِّها والإجابة عنها.

وعندما كنا في كربلاء كنا نقيم بالتعاون مع السيد محمد الشيرازي، وعبد الرضا الشهرستاني، والمحمودي، والبندريغي، مباحثات في الشأن الديني. وأرسلنا إلى جامعة بغداد بأننا جاهزون للإجابة عن الأسئلة الدينية. وكانوا يُشكلون علينا بالقول: قد لا تستطيعون الإجابة عن جميع الشبهات، ولكننا كنا على ثقةٍ من أن الإسلام يُمثِّل الدين الحقّ، وأنه يحتوي على إجاباتٍ عن كلّ الشبهات.

أذكر أني كنتُ أحياناً أسهر حتّى وقتٍ متأخِّر من الليل منهمكاً في الكتابة، وكنت أتصفَّح الأجزاء القديمة لكتاب «بحار الأنوار» من السطر الأول إلى السطر الأخير؛ ليقيني بأن السادة المعصومين^ قد قالوا شيئاً في موضعٍ ما عن هذه الموارد.

ولأننا كنا نحمل هذه الثقة مدّ الله يد العون لنا، ولا غَرْوَ في ذلك، وهو القائل: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).

إن دين الإسلام ينسجم مع العلم والفطرة. وعليه إذا لم نستطِعْ الإجابة عن الشبهات والإشكالات فإنّ السبب في ذلك يعود إلى قصورنا. من هنا علينا أن نبذل المزيد من الجهد والمثابرة. وكنتُ أعثر على ضالّتي بعد سنوات طويلة من البحث والتنقيب، وقد يحدث لي ذلك في بعض الأحيان عَرَضاً ومن غير قصد، وما هو في الحقيقة إلاّ تسديد وتوفيق من الله.

_ في الختام إذا كان لديكم من كلمةٍ توجِّهونها إلى الأساتذة والباحثين في الشأن القرآني؟

^ كلمتي لهم تتلخّص في التدبّر والتفكير في المسائل القرآنية، وهذا هو مضمون قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44)، بمعنى أنه لا بُدَّ من التفكير في مضامين القرآن، وفي تعاليم الرسول الأكرم‘.

صحيحٌ أن التعبّد جيّدٌ، ولا بأس به، ولكنّ الله يريد منا أن نتدبَّر في آياته، بمعنى أن يكون القرآن ذريعةً ودافعاً نحو التفكير والتأمّل. وهذا ما يؤكِّد عليه الله سبحانه وتعالى في موضعٍ آخر، إذ يقول: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ (محمد: 24).

_ بالالتفات إلى الأعمال التي تمّ إنجازها لغاية اليوم ما هي الأولوية التي يجب القيام بها من وجهة نظركم؟

^ يمكن القيام بالكثير في ما يتعلق بالقرآن، بَيْدَ أن العمل الذي بدأتُه منذ فترة، والذي تناوله الكثير من العلماء، هو تخليص القرآن ممّا يعانيه من رسم الخطّ. وبطبيعة الحال فإن رسم الخطّ الجديد يجب أن يقوم على قوانين وضوابط خاصّة، وهو ما نسعى إلى تحقيقه وإنجازه على النحو الأكمل.

_ في الختام نتقدّم إليكم بواجب الشكر على إتاحة هذه الفرصة. ونعتذر منكم على ما أخذناه من وقتكم. ونسأل الله أن يوفِّقكم في ظلّ القرآن وتعاليمه المنيرة، وأن لا يحرم المجتمع القرآني من عطائكم المبارك.

الهوامش

(*) أُجري هذا الحوار في مستهل المهرجان التكريمي لسماحة الأستاذ معرفت بجهود رئيس تحرير فصلية (بيّنات)، ونُشر بعد ذلك في العدد 44 من هذه الفصلية.

([1]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 92: 94.

([2]) المصدر السابق 92: 97.

([3]) المصدر السابق 92: 78 فما بعد.

([4]) المصدر السابق 24: 238.

([5]) المصدر السابق 23: 192.

([6]) المصدر السابق 16: 90.

([7]) محمد رضا المشهدي، تفسير كنـز الدقائق 4: 49.

([8]) المجلسي، بحار الأنوار 77: 135.

([9]) نهج البلاغة، الحكمة رقم 8.

([10]) المصدر السابق، الكتاب رقم 31.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً