أحدث المقالات

نقد وتعليق على مقولات د. سروش

د. الشيخ حسن رضائي مهر(*)

ترجمة: حسن مطر الهاشمي

مقدمة ــــــ

لقد سمّي العصر الحديث بعصر التقدّم. ولكن من جملة خصائصه، التي لا يمكن إنكارها، عدم الالتزام بالقيم الدينية، في إطار التذرُّع بالدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، ونقد كل ما يقيِّد حريته المزعومة.

ورغم أنّ التعارض مع القيم التقليدية من أبرز سمات التقدم المعاصر، إلا أنّ التقدُّم قد ذهب إلى أبعد من ذلك، فأخذ يتَّهم كل ما لا ينسجم معه بتهمة التقليد، معدّاً بذلك أسباب تضعيفه، ثمّ إنكاره.

وللأسف الشديد فإنّ الدفاع المفرط عن التقدّم والنزعة التجديدية، والتنكر للأصول التي ألفها الإنسان ردحاً طويلاً من الزمن، وإشاعة التفكير المنفلت، والقائم على محورية الإنسان وتحرُّر الإنسان من كل ما يوجب تقييده، وكذلك السماح بإنكار كل ما يبدو منافياً للتقدُّم من وجهة نظر الإنسان المعاصر، قد وضع هذا الإنسان المعاصر في موقف يتنكَّر معه لكلّ ما لا يتناسب ومزاجه، فيعمل على رفضه وتخطئته بكلّ صلف وتهوّر.

وعلى أية حال فإنّ هذه الصَّرْعة لم تقتصر على الغرب فحسب، بل طالت حتى الوعاء الفكري لما يصطلح عليهم بالمتنوِّرين والمجدِّدين من الشرقيين أيضاً.

إنّ الغرض من هذه المقدمة هو الدخول في كلام صدر مؤخَّراً عن الدكتور سروش، في كلمة تحت عنوان: «إنّ مؤسستنا الدينية عامية، وليست مستعمية»([1]). ورغم أن مضمون الكلام الذي نشر عنه لم يكن بالشيء الذي لا نتوقَّعه منه. ولكن لما كانت أقواله لا تخلو مما يستحق النقد والردّ فإننا سنخوض في نقدها ومناقشتها، من خلال ذكر بعض الموارد التي تدعو إلى التأمل؛ بغية تنوير الأفكار العامة، والدفاع عن معتقدات المسلمين الدينية والمذهبية.

قال سروش في ما يتعلق بخصوص الفقه: «إنّ الفقه علم ذو نزعة تكليفية. ولكن لم يرِدْ فيه أيّ حديث عن الحقوق. ويعبّر عن سنّ البلوغ بسنّ التكليف أيضاً. ولا أريد القول بأنّ مفهوم الحق غائب عن الفقه بالمطلق، إلا أنّ كفة التكليف تطغى على كفة الحقوق. هذا في حين أنّ العالم المعاصر ينظر إلى الإنسان بوصفه كائناً محقاً. وفي الواقع فإن مقررات فقهنا كانت ولا تزال تعني التكليف دون الحقوق. وعليه لابد أن يقوم هناك توازن بين الحقوق والتكاليف. وعلينا أن نقوم بإيجاد هذا التوازن».

الحضارة الإسلامية بين الحقّ والتكليف ــــــ

حيث كانت هذه الدعوى المطروحة تدور حول محور مصطلحي (الحقوق) و(التكاليف) فإنه من الضروري أن نذكر بعض المقدمات قبل الدخول في النقد والنقاش.

عرّف  الحق  في كتب اللغة بـ (الصدق)، و(الصحة)([2])، و(ما يقابل الباطل)([3]). وعرّف التكليف بـ (المشقة)، و(التعب)([4]). إلا أنّ الذي هو محط أنظارنا هنا المعنى الاصطلاحي لهاتين المفردتين. إنّ الحق في الفقه الإسلامي عبارة عن الأمور المبينة في قانون الشرع، بحيث يجوز للأفراد تغييرها بقصدهم. وفي الحقوق المدنية يعتبر الحق سلطة يمنحها القانون للشخص. وهي في الفقه بهذا المعنى أيضاً، حيث استعملت كلمة السلطة هناك([5]). وعليه يمكن القول: إنّ للحق معنيان، ويمكننا باعتبارٍ أن نتصوّر لها استعمالين: أحدهما: المعنى العام الذي يكون في مقابل الباطل، ويشمل الحكم والتكليف أيضاً؛ والآخر: المعنى الخاص، وهو السلطة التي تمنح للشخص، ويتعلق بالعين أو المنفعة أو الانتفاع منه. وبعبارة أخرى: «إنّ الحق عبارة عن مجموعة من القوانين والقرارات الاجتماعية، التي يتم تدوينها من قبل الله؛ بغية إقامة النظم والقسط والعدل في المجتمع لضمان سعادة الإنسان. وطبعاً إنّ هذا التعريف للحق ناظر إلى الحق الذي هو في قبال الباطل، وأما إذا كان الحق في قبال التكليف والحكم فسيكون له تعريف آخر، وهو أنه إذا عدّ أمرٌ اختيارياً للإنسان كان حقاً»([6]). ومن الواضح أنّ ما يعدّ اختيارياً للإنسان هو من لوازم الحق في قبال التكليف، وليس تعريفاً للحق.

وأما الحق والتكليف في الفقه فهما عبارة عن «ما يتضمن من القرارات الشرعية مصلحة أكيدة للناس، ولا تكون إرادة الأفراد على خلافه نافذة. وفي هذه الصورة يستعمل في قبال مصطلح الحق، ويسمى الحق والحكم»([7]). وعليه يمكن القول: «إذا كان للأمر جهة قانونية بحتة، أو كان في حدّ الوظيفة، وعاد إلى الأشياء، سمّي حكماً. فمثلاً: إنّ حكم الماء والشمس أنهما من المطهرات. وبهذا الاعتبار يطلق الحكم على الأحكام والوظائف الفقهية»([8]).

وبالالتفات إلى ما تقدم يكون ما ذكره الدكتور سروش في شأن  كون فقهنا ذا نزعة تكليفية، وحقوقية، واضح البطلان؛ وذلك:

أولاً: إنّ كلّ ما ورد في الفقه من التكاليف إنما هو منبثق عن الحقوق المتعلقة بتلك التكاليف التي تم تحديدها في الفقه؛ وذلك لأنّ كل تكليف ينشأ عن حق موجود، ومن المستحيل عقلاً التفكيك بينهما. ولذلك لا يمكن في الفقه تصوُّر التكليف من دون تصوُّر الحق من الناحية العقلية والمنطقية. فهو لذلك فاقد للدليل الإثباتي. كما أنّ ادعاءه القائل بكون العالم المعاصر يقوم على كون الإنسان محقاً، وليس فيه نزوع إلى التكليف، باطلٌ ومرفوضٌ؛ لما تقدم من التلازم العقلي بين الحق والتكليف. وعليه فإنّ الإنسان مكلَّف ومحق.

ثانياً: في مقام الثبوت قبل أن تكون نصوصنا الفقهية مشحونة بالتكاليف فهي مفعمة بالحقوق، حقوق الله وحقوق الإنسان. وإنّ جميع أبواب الفقه على أساس حق الله وحقوق الناس.

ثالثاً: إنّ تأكيد الفقه في مقام بيان المسائل والأحكام على الجانب التكليفي يعود في أسبابه إلى لحاظ مصالح الإنسان، التي ينشدها الدين كواحدة من أهدافه السامية، ومنها: الأخذ بيد الإنسان نحو الكمال والسعادة الأبدية. توضيح ذلك: إنه ليس هناك من شكّ في كون الإنسان من الناحية الذاتية يميل إلى المطالبة بحقوقه، ويتهرّب من التكاليف. فهو يعرف حقوقه، وإذا كان لا يعرفها فإنه حيث يصرّ على المطالبة بها سينالها، ولطالما رضي باقتراف الظلم من أجل الحصول على مصالحه، فيستولي على حقوق الآخرين التي يتصوّرها من جملة حقوقه، وهي ليست كذلك، وفي الوقت نفسه يتنصل عن المسؤولية والتكليف. وهنا يأتي الدين، الذي يهدف إلى هداية الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، لينبه الإنسان، من خلال سنّ القوانين، وجعل الأحكام والتكاليف، إلى جانب الحقوق الإنسانية، الأعم من الفردية والاجتماعية، ويسيطر عليه، كي لا يتجاوز حقّه، فيعتدي على حقوق الآخرين. وعليه لما كان الحق معهوداً للإنسان، ويسعى ذاتياً إلى تحصيله، وكذلك ضرورة بيانه لجهة تحصيله، ولزوم وجود السبب الخارجي بغية اصطياده، لا يمكن القول بمساواته للتكليف المجهول للإنسان، وما لم يتمّ بيانه لا يحصل العلم به. ومن جهة أخرى يؤدي إلى تنبيه الإنسان إلى عدم التعدي على حقوق الآخرين (حق الله وحق الناس). ولذلك لابد من التذكير أنّ هذه النزعة الدينية لا تعني ميله إلى التكليف، دون الحقّ، بل هو من باب التعامل مع أحد وجهي العملة، في سياق الالتفات إلى الأهداف الدينية المتعالية. وهذا الأمر لا يعني نفي الوجه الثاني للعملة. وهذا واضح لكلّ ذي مسكة. كما أنه إذا تم في بعض الموارد الخوض في الحقوق على نحو أكثر؛ بسبب بعض المصالح، فلا يدلّ ذلك على عدم لحاظ التكاليف المتعلِّقة بتلك الحقوق، أو نفيها وإلغائها.

رابعاً: إنّ جعل التكاليف إنما يكون في سياق إحياء الحقوق. وعليه يجب على الإنسان؛ بحكم العقل، أن يلتزم بالأحكام الإلهية والتكاليف الشرعية في جميع الموارد، وحتى أثناء العمل أو فترات الراحة، وحتى عند الاستحمام، والأكل، والشرب، وسائر الأمور الأخرى؛ بغية مراعاة حقوق الآخرين وحقوقه الخاصّة أيضاً. وهذا يكشف عن قوّة التديُّن وشدّة التعقُّل عند ذلك الشخص المتديّن.

مزعمة تناقض الولاية وختم النبوّة ــــــ

ذكر سروش في موضع آخر من كلامه أنّ الإمامة والمهدوية تتعارض والخاتمية. وذهب إلى أنّ الإمامة، وكذلك المهدوية، بالتفسير الذي يقدِّمه الشيعة لهذين المفهومين يزعزع الخاتمية، ويفرغها من مضمونها ومحتواها. وإليك نص كلامه في هذا الشأن: «مفهومان رئيسان يميزان التشيُّع ويمنحانه زخماً وشدّة لا نجدها في العالم السني: الميزة الأولى: صفة الولاية، أي تلك الصفة التي كان النبي يتمتع بها، واستمرت بعد رحيله في عدد معيّن من الأفراد، وليس في جميع الأفراد. ويُسمّى هؤلاء الأفراد عند الشيعة بأولياء الله، وهم الذين يصطلح عليهم بأئمة الشيعة أيضاً. وقد منحوا من الصفات التي ترقى بهم إلى التساوي مع شخص النبي، حتى غدا بإمكاننا القول: إنهم بدأوا يهدِّدون بتعريض منصب الخاتمية إلى خطر الزعزعة.؛ وذلك لأنّ أئمة الشيعة يحق لهم التشريع، في حين أنّ هذا الحق منحصر بالنبي». ثم قال: «وطبعاً لم يكن الشيعة ليقولوا: إنّ الأئمة محلٌّ لنزول الوحي، ولكنهم يستعملون تعبيراً آخر، ويقولون: إنهم محدَّثون ومفهَّمون، وذلك في سعي منهم لتمييزهم عن النبي. ولكن هذا الكلام في روحه يمنح الأئمة لدى الشيعة ذات الشأن الذي يكون للنبي، أي إنهم يثبتون لهم مقام العصمة، الذي هو مقام النبوّة».

ثم استشهد في بحثه بكلام إقبال اللاهوري، وقال: «إنّ له مطالب بشأن النبوة في كتابه «إحياء الفكر الديني»، وخلاصتها: إنّ ختم النبوة كان بسبب ظهور العقل الاستقرائي بين الناس. فما قبل ظهور العقل الاستقرائي كانت الحاجة ماسّة إلى بعث الأنبياء، ولكن ما إن ظهر العقل الاستقرائي حتى أضحى الإنسان في غنى عن بعث الأنبياء. إنّ ختم النبوة يعني أنه لن يكون بعد الآن حامل وحي من قبل الله. إنّ ختم النبوة يعني أننا قد أوكلنا إلى أنفسنا، وأنّ العقل الاستقرائي قد أغلق باب السماء والوحي بالرتاج».

وفي ما يتعلق بهذا الادعاء، وأنّ الشيعة يمنحون الأئمة^ شخصية مساوية لشخصية النبي|، يجب القول: وفقاً للأسس الإسلامية فإن الإمامة، وكذلك الشروط والشخصية التي يتعين على الإمام التحلي بها، لا تدخل في نطاق قدرة واختيار الشيعة، ولا أي شخص أو فرقة، لتمنحها إلى الإمام؛ وذلك: أولاً: إنه بمقتضى قوله تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ﴾ (الأنعام: 62)، و﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ(الأنعام: 57)، يكون الحكم مختصّاً بذات الله تبارك وتعالى، وليس أية جهة أخرى. وهو الذي يستطيع أن يمنح حقَّه لأي شخص، وبالمقدار الذي يريده. وعليه فإنّ لمنطق الولاية منشأً إلهياً. وهذا البحث قد تمّ شرحه وتوضيحه في موضعه بشكل تفصيلي. وثانياً: إنه وفقاً لحكم العقل السليم بضرورة التناسب بين الظرف والمظروف فإنّ الذي يريد التصدي لمنصب الإمامة عليه أن يكون واجداً للشروط اللازمة التي تؤهِّله لحمل أعباء الإمامة. ومن البديهي أن تحصيل مثل هذه الشروط لا يكون إلا من طريق الباري تعالى وإذنه. وعليه فإنّ كلّ شخصية وصفة تم لحاظها بالنسبة للأئمة في القاموس الديني والمذهبي لم تمنح إليهم من قبل الشيعة، وإنما هي مأخوذة من النصوص الدينية، الأعم من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. وقد وقع الدكتور سروش في هذا الخصوص في مغالطة من خلال إلقاء مسألة انحرافية، وهو ما يدعى في الإنگليزية بـ (The Red Herring). وعليه فإنّ الادعاء بأن شخصية الأئمة من صنع الشيعة أمر مختلف ومغاير لما أراد استنتاجه من أن الإمامة تتعارض مع الخاتمية([9]).

وفي ما يتعلق بهذه الدعوى، وهي حق التشريع للأئمة من وجهة نظر الشيعة، في حين أنّ التشريع من حق النبي، يجب القول: إنّ هذا الادعاء لم يرِدْ في أي واحد من النصوص والمصادر الشيعية المعتبرة. ولا نعلم المصدر الذي عمد سروش إلى استقاء معلوماته منه. إن كبار علماء الشيعة، من الصدر الأول وإلى يومنا هذا، لم يذكروا في تصنيفاتهم، ولا في سيرتهم العملية، مثل هذا الشيء. بل وفقاً للتعاليم الإسلامية والشيعية ينحصر حق التشريع بالله تعالى. وإنّ النبي| إنما يأخذ التشريع وتقنين القوانين من قبل الله تبارك وتعالى، ويبلِّغها للناس. وعليه فحتى النبي الأكرم| لا يحق له التشريع، خلافاً لمدعاه من أن حق التشريع منحصر بالنبي، فضلاً عن الأئمة من أوصيائه. وعليه يذهب الشيعة إلى أن مهمة النبي الأكرم| تكمن في إبلاغ الشريعة وتطبيقها، وأما مهمة أوصيائه الطاهرين فتكمن في بيانها وتفسيرها، والمحافظة عليها.

وأما في ما يتعلق بالاعتقاد باختصاص الأئمة^ بكونهم محدَّثين وملهمين فيجب القول: أولاً: إنّ الاعتقاد بكون الأئمة^  محدَّثين وملهمين، خلافاً لمدعاه، ليس من مختصات الشيعة. وإن الرجوع إلى نصوص أهل السنة يثبت عدم اختصاص هذا القول بالشيعة. مضافاً إلى أن اختصاص الشيعة. بهذا القول لا يشكل طعناً عليهم، أو دليلاً على عدم إمكانه.

وثانياً: إنّ كون أئمة الشيعة^ محدَّثين وملهمين لا ينافي الخاتمية؛ وذلك لأنّ ختم النبوة لا يعني ختم التحديث([10]) أو الإلهام([11]). فمن الممكن أن يبلغ شخص من ناحية صفاء سريرته وكماله المعنوي مرتبة تحدث له معها، كما يقول العرفاء، سلسلة من المكاشفات، وتتضح له بعض الحقائق من طريق الإلهام، ولكنه غير مدعو من ناحية الله مباشرة للتبليغ وهداية الناس([12]). وفي العقيدة الإسلامية لن يكون هناك شخص بعد النبي| يأتي بشريعة جديدة من خلال الوحي. وإن هذا المعنى من الخاتمية لا ينافي وجود شخص يُحدّث أو يلهم حتى ولو كان هذا المحدَّث والملهم من غير أئمة الشيعة، كما هو واقع أيضاً.

وثالثاً: إذا كان إلهام الأئمة^ يشكل تحدّياً للخاتمية كان الأمر كذلك بالنسبة إلى القول بإلهام غير الأئمة^.

ورابعاً: كان عليه أن يدخل البحث بدقة أكبر. وبدلاً من تخطئة وردّ هذه العقائد، وبعيداً عن النسب غير الوجيهة في إضعاف التشيّع، وجب عليه طيّ هذه البحوث بشكل منطقي وعقلي. وبدلاً من الخوض في هل أنّ الشيعة قالوا بهذا الشيء أو لم يقولوه كان عليه الخوض في إمكان مثل هذه المسألة عقلياً ومنطقياً.

وفي خصوص عصمة الأئمة، التي تم التشكيك فيها، وإنكارها، يجب القول: إنّ من جملة ما يفخر به الشيعة والتفكير العلوي، الذي يهيمن على عمق الكيان الشيعي، هو الاعتقاد بعصمة الأئمة^. إنّ النبي الأكرم| يتمتع بشؤون خاصة؛ منها ما هو من مختصاته التي لا يشاركه فيها غيره، من قبيل: النبوّة، والرسالة، وكونه صاحب شريعة، وأنه مرتبط بالوحي؛ ومنها ما يشاركه فيها غيره، من قبيل: العصمة، التي يتمتع بها الأئمة^ أيضاً.

إنّ الذي يتعارض مع النبوّة ويضعف الخاتمية ـ على حدّ تعبير سروش ـ هو ادعاء التمتُّع بنفس شؤون النبي الخاصة، وليس الاتصاف بشؤونه العامة. وطبعاً فإنّ اعتقاد الشيعة بعصمة أهل بيت النبي الأكرم| يقوم على براهين عقلية متقنة لا يوجد أدنى شك فيها، كما تمّ بحثها في محله. وعلى أية حال يقول الأستاذ مرتضى مطهري: «إذا عرَّفنا الإمامة بأنها متمِّم للنبوّة فهذا يعني ـ من ناحية البيان الديني ـ أنّ وجود الإمام ضروري لمواصلة مهمّة النبي في بيان الأحكام الدينية. وإنّ نفس الدليل الذي يثبت ضرورة عصمة النبي يثبت ضرورة عصمة الإمام أيضاً»([13]). وإذا لم يذهب أهل السنة إلى عصمة أبي حنيفة فلأنهم لم يجدوا فيه وفي أمثاله ما يوحي بشروط العصمة.

نظرية إقبال، نقد وتعليق ــــــ

وبعد نقد ومناقشة أفكار إقبال اللاهوري في هذا الخصوص لا نرى ضرورة لنقد ما قاله سروش. وإنّ خلاصة ما قاله العلامة إقبال اللاهوري في باب فلسفة ختم النبوّة يمكن شرحه على النحو التالي:

أـ الوحي نوع غريزة. وعليه تكون هداية الوحي من نوع الهدايات الغريزية. ومن خصوصيات القوة الغريزية أنها تضعف من خلال ازدهار قوّة الحسّ والتخيُّل، وأحياناً من خلال تطور التفكير والعقل، والعبور من المراحل الابتدائية والبدوية، وعندها ستخلي الغريزة موقعها لصالح العقل، ويحلّ العقل البشري محل الوحي الإلهي.

ب ـ لما كانت الهداية السماوية من نوع الهداية الغريزية فإنها إذا وقعت في قبال الهداية العقلية متى ما حصل عليها الإنسان فإنها ستفقد فاعليتها، وتحل الهداية العقلية محل الهداية السماوية. وهو في الحقيقة يصف عالمين للإنسان: العالم القديم؛ والعالم الجديد. ويرى أنّ النبي يعود إلى العالمين؛ أي إنه من ناحية الوحي يعود إلى العالم القديم، وفي ما يتعلق بالدعوة إلى التفكير في الطبيعة يعود إلى العالم الجديد. وعليه لابد من انسحاب الهداية الغريزية، بما في ذلك الهداية السماوية، المتعلقة ـ بنظره ـ بالعالم القديم، بعد تحقق العالم الجديد، لصالح العالم العقلي([14]). وطبعاً إن إقبال نفسه كان يذهب إلى حاجة الإنسان إلى الدين والهدايات الدينية بعد الخاتمية. ولكن على أية حال هناك تعارض مع ما يذهب إليه وما يقوله في تفسير فلسفة الخاتمية.

هناك إشكالات عديدة وردت على هذا التفكير من قبل العلماء المسلمين، وهي:

1ـ مخالفة الضروري من الدين: إذا كان القول بالخاتمية يعني استبدال الهداية العقلية والعقل الاستقرائي التجريبي بهداية الوحي فهذا يعني غلق باب هداية الوحي، وأنه لم تَعُدْ للإنسان المعاصر من حاجة إلى تعاليم الوحي وتعاليم النبي الأكرم|. ولازم ذلك تعطيل أصل الدين. وكما قال الأستاذ مرتضى مطهري: «ختم الدين، وليس ختم النبوّة»([15]). وإنّ ما يقال، من أنّ الوحي من مقولة الغريزة، مرفوضٌ؛ وذلك لأنّ النسبة القائمة بين هاتين المفردتين، من حيث المفهوم والمحتوى، هي نسبة التباين، دون نسبة التساوي، أو العموم والخصوص المطلق، أو العموم والخصوص من وجه؛ وذلك لأنّ الغرائز والأعمال الغريزية تولد مع الفرد، فهي غير اكتسابية. مضافاً إلى عدم استنادها إلى الشعور والإدراك. كما أنها من ناحية المرتبة والمنزلة دون الحسّ والعقل. في حين يقوم الوحي على الشعور والإدراك، اللذين يتطرق إليهما الاكتساب. كما أنه من ناحية المرتبة أسمى من الحسّ والعقل. وعليه مهما بلغ العقل البشري من الرقي، وبالغ في ذلك، فإنه يبقى دون مرتبة الوحي، فتكون الحاجة إلى الوحي أمراً ضرورياً وغير منكَر، حتى بعد نبوغ الإنسان عقلياً.

2ـ اختلاف الغريزة عن العقل في الوظائف والتطبيقات: إنّ استبدال أمرٍ بأمر آخر إنما يمكن تصوّره إذا كان كلٌّ من البديل والمبدل مشتركين في موضوع الاستبدال، وإلاّ لم يمكن تصور معنى صحيح للاستبدال.

وعليه إذا افترضنا الوحي غريزة فإن ظهور العقل والتفكير؛ بالنظر إلى اختلاف الوظائف بين كلّ من الغريزة والعقل، لا يشكل دليلاً على عدم فاعلية الغريزة في ما يتعلق بوظائفها، واستخلاف العقل لها؛ فإن أموراً من قبيل: حبّ الجمال، وحب الذات، وحنان الأم على ولدها، التي هي من الأمور الغريزية، وتولد مع الإنسان، لا تزول حتى بعد بلوغ الإنسان عقلياً وفكرياً، بل وتشتد وتترسخ في أعماق وجوده، وتزداد فاعلية في مسيرة الإنسان التكاملية.

3ـ إنّ لازم دعوى العلامة إقبال اللاهوري أن تكون التجارب الباطنية (مكاشفات أولياء الله) من الأمور الغريزية أيضاً. وبعد ظهور العقل الاستقرائي تسقط الغريزة عن الفاعلية. وهذا مخالف لمعتقد إقبال اللاهوري نفسه في باب التجربة الباطنية والمكاشفات والإلهامات([16]).

4ـ الإشكال الآخر أنه على فرض تقديم العقل الاستقرائي المحض؛ بوصفه بديلاً عن الوحي، ببيان أنّ الإنسان بعد الخاتمية أو ظهور التفكير العقلاني والنبوغ العقلي أصبح غنياً عن هداية الوحي، فإنه لابد من الالتفات إلى أن البشر ليسوا جميعاً على درجة واحدة في التوفر على مثل هذه العقلانية، بحيث يتمكنون من تلبية متطلباتهم واحتياجاتهم، من دون اللجوء إلى الهداية الدينية والتعاليم السماوية. وحتى مع افتراض وجود شخص واحد يواجه مثل هذا الظرف فأيٌّ منهم يكون منه مشروع الهداية؟ هل يمكن القول: إنّ جميع الناس، من حين الخاتمية فما بعد، قد بلغوا هذا النبوغ العقلي المنشود أو إنهم سيبلغون هذا المستوى من النبوغ العقلي؟! وترِدُ هنا إشكالات أخرى على هذا التفسير من الخاتمية، ولكننا سنكتفي بهذا المقدار؛ رعاية للاختصار.

وأما بشأن التساؤل القائل: هل الاعتقاد بالإمامة يتعارض مع الخاتمية، كما يقول سروش، أم لا؟ فالجواب: من خلال نظرة إجمالية نلقيها على معنى الخاتمية وشؤون الإمامة يتضح أنه لا يوجد أدنى تعارض في هذا الخصوص؛ وذلك أولاً: إنّ الخاتمية تعني ختم باب الشريعة، بمعنى أنه لن تكون هناك شريعة بعد شريعة الإسلام، وأنه لن يوحى إلى شخص من قبل الله تبارك وتعالى بوصفه نبياً ومبعوثاً برسالة جديدة. وقد عرّف اللغويون الخاتم ببلوغ الشيء نهايته وختامه([17])، ووضع الختم على الشيء([18]). ومن البديهي أنّ الشيء ما لم يبلغ نهايته لا يختم. وعليه فإنّ الخاتمية تعني أنّ النبي الأكرم| قد ختم الشريعة، وأنّ جميع مراتب الدين قد بلغت غايتها ونهايتها في الشريعة الخاتمة. وطبعاً فإنّ هذا لا يتنافى وشأن الإمام× في تفسير الشريعة؛ وكذلك حفظها. وهكذا لا يتنافى مع مقاماته، من قبيل: الارتباط بالله تعالى من طريق الإلهام، أو نزول الملك عليهم؛ إذ لا شيء من ذلك يلازم النبوة. وقد قال تعالى في محكم كتابه حكايةً عن السيدة مريم العذراء÷: ﴿فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾ (مريم: 17). ومن أسماء سيدتنا فاطمة الزهراء÷ المحدّثة؛ لأنّ الملائكة كانت تحدِّثها وتكلِّمها. إنّ نبوغ الإنسان عقلياً وإنْ كان بالإمكان عدّه من علل وأسباب الخاتمية، إلا أنّ نفس الشريعة قد بلغت نهايتها أيضاً. وإن عقلانية الإنسان في مرحلة الخاتمية قد بلغت درجة تمكِّنها من الاضطلاع بمهمة تبليغ الدين، وهي ذات المهمة التي كان يقوم بها الأنبياء التبليغيون. ولكن هل كان بإمكان الإنسان أن يبلغ العقل الاستقرائي دون هداية من قبل الذين أخذوا روح الدين ولبابه من النبي الأكرم|؟ وعلى أية حال فإنّ العقل ـ حتى في أعلى درجاته ـ يحكم بضرورة الرجوع في فهم أحكام الدين، بل وفي فهم أي فرع من فروع المعرفة، إلى المختصين، حتى بالنسبة إلى العقلاء أنفسهم. وهذا، بالإضافة إلى أنه يثبت ضرورة وجود الإمام المعصوم، يؤكد في الوقت نفسه على ضرورة ووجوب الرجوع إليه عقلياً؛ بغية فهم الدين والوحي.

ومن الحِكَم الأخرى المترتِّبة على ضرورة وجود الإمام×، حتى مع ظهور البلوغ والتقدم العقلي لدى الإنسان بوصفه فلسفة للخاتمية، هو أنه حتى عقلاء المفكرين، وكذلك علماء الدين، يختلفون في فهمهم للتعاليم السماوية والموضوعات الدينية. وفي هذه الصورة من الضروري أن يكون هناك إمام متصل بالنبي|، قد أخذ عنه الدين مشافهة؛ ليخلص الدين من هذه الاختلافات، ويعمل على حفظه وصيانته.

والأمر الآخر أنّ النبي الأكرم|، حيث لم يسعه بيان جميع الأحكام التي نزلت عليه إلى الناس وحياً؛ بسبب عدم استعداد الناس لتقبلها، كان عليه أن يعلِّمها لشخص يستطيع بعد رحيله| حملها إلى الأجيال اللاحقة، وتعليمهم إياها عندما تتاح له الفرصة. ولم يستطع تحمل هذه المهمة على عاتقه سوى الإمام×. وعليه فإنّ الإمام مفسِّر للدين، كما كان النبي، مع فارق أنّ النبي كان يأخذ تعاليمه من الوحي، في حين يأخذها الإمام× من النبي|.

والخلاصة هي أنّ الإمامة لا تتعارض مع الخاتمية، بل إنها متممة لنبوّة النبي الخاتم|. وهذا الأمر واضح لكل فطن، سليم النفس، وطيّب السريرة. ومما ذكر يتضح وهن كلام الدكتور سروش في ما يتعلق بخصوص التعارض بين الاعتقاد بالمهدوية والخاتمية أيضاً. وقد بقيت هناك أمور أخرى في كلامه، من قبيل: هتك حرمة علماء الدين، وإهانة النظام الإسلامي في إيران، مما لا نراه جديراً بالنقد.

الهوامش

_________________________

(*) باحث في علم الكلام وفلسفة الدين.

([1]) موقع (Gooya News)، بتاريخ: 13/5/1384هـ ش.

([2]) معين ودهخدا، وفرهنگ فارسي معين 11: 1376هـ ش، طهران، مؤسسة انتشارات أمير كبير، 1363.

([3]) الفيومي، المصباح المنير: 143، الطبعة الأولى، قم المقدسة، مؤسسة دار الهجرة، 1405هـ.

([4]) المصباح المنير: 537.

([5]) راجع: جعفري لنكرودي، ترمينولوژي حقوق: 216، الطبعة الحادية عشرة، 1380، كتابخانه گنج دانش، طهران.

([6]) جوادي آملي، فلسفه حقوق بشر: 75، الطبعة الأولى، مركز نظر إسراء، قم المقدسة، 1375هـ ش.

([7]) جعفري لنكرودي، ترمينولوژي حقوق: 242.

([8]) جوادي الآملي، المصدر السابق.

([9]) راجع: علي أصغر خندان، المغالطات: 234، الطبعة الأولى، 1380هـ ش، قم المقدسة، انتشارات دفتر تبليغات إسلامي.

([10]) التحديث يعني التكليم. ويطلق المحدّث على الأفراد الذي يتكلمون مع الملائكة دون مشاهدتهم، من قبيل: الأئمة المعصومين^. ويعدّ هذا من جملة كراماتهم وفضائلهم، بمعنى أنّ الملائكة كانت تنزل عليهم، وتكلمهم، فيدوّنون كلماتهم أو يحفظونها، ولكنهم لا يرون الملك. كما جاء عن النبي الأكرم’ أنه قال: «من ذريتي اثنا عشر محدثاً» (راجع: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 26: 68).

([11]) بمعنى أن يلقى علم شيء في القلب. وهذا من الإفاضات الإلهية التي يقذفها الله في قلب من يشاء (الميزان 2: 297؛ ومنجد الطلاب، ذيل مفردة (لهم)).

([12]) مطهري، خاتميت: 33، الطبعة الرابعة عشرة، آبان، 1380هـ ش، قم المقدسة، انتشارات صدرا.

([13]) مطهري، إمامت ورهبري: 68، الطبعة السابعة والعشرين، مرداد 1381هـ ش، قم المقدسة، انتشارات صدرا.

([14]) راجع: إقبال اللاهوري، إحياء فكر ديني در إسلام: 140 ـ 146، ترجمة أحمد آرام، رسالت، قم المقدسة، طهران، 1346؛ مطهري، وحي ونبوّت، البحث المتعلق بختم النبوّة.

([15]) مطهري، الوحي والنبوة: 57، الطبعة الثانية، شهر إسفند، 1357هـ ش، قم المقدسة، انتشارات صدرا.

([16]) راجع: مطهري، المصدر السابق: 60. استفدنا في هذا القسم من بحوث الأستاذ مطهري حول الوحي النبوي.

([17]) منجد الطلاب، مادة (ختم).

([18]) الفيومي، المصباح المنير: 163.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً