أحدث المقالات

و الاقتداء بالصالحين

يظن بعض الكتاب ان إهمال البحث التاريخي و تجنب البحث في حوادثه من شانه ان  يعالح ازمة العصبيات الفئوية بين المسلمين .
على ان مثل هذه الدعوات اقرب الى أمنيات شخصية تصدر عن دوافع طيبة غير انها غير عملية من ناحية البحث الفكري الاسلامي .  فان البحث التفسيري للقرآن الكريم  -على الاقل – من جهة التعرف على مناسبات النزول و أسبابه يقود الى البحث التاريخي .   و ان دراسة السيرة النبوية المعطرة  – على صاحبها افضل الصلاة وازكى التسليم – هي بذاتها بحث في التاريخ و شخوصه و وقائعه  .  أما  البحث في الحديث النبوي و الروايات التي تزخر بها مصادر الحديث فانه بطبيعته يأخذ بأيدينا الى البحث في  سلاسل السند و رجال الحديث واحوالهم و تراجمهم و هو بحث تاريخي .

و هكذا الحال بالنسبة لدراسة سير أهل البيت النبوي صلوات الله عليه وآله و أحوالهم و أخلاقهم و طرائق تعاملهم مع المجتمع و  مواقفهم  فانها في الحقيقة بحث تاريخي .
و كذا  البحث في سير الصحابة وسنة الصحابة   و احوالهم و ادوارهم و جهودهم  و ما نقل عنهم من فتاوى و آراء و مواقف سياسية فانه من التاريخ في الصميم .
اذا فإغفال  البحث التاريخي لاسبيل اليه من هذه الناحية .

من جهة ثانية ان تاريخ المسلمين ليس بدعا من حركة التاريخ البشري في كونه مر بأدوار و مراحل و حقق انجازات و نجاحات الى جانب الاخفاقات وانه يشتمل على صفحات مشرقة مضيئة واخرى مظلمة قاتمة .
والتعرف على حقائق التاريخ و تقديمها للاجيال امانة يتحملها كل جيل لمن خلفه .
وليس من الصواب حجب الحقائق عن الناس او ابعاد الصفحات السوداء القاتمة من التاريخ و الاكتفاء بالصفحات المشرقة و تضخيمها و تلقين الاجيال صورة مبتورة و منقوصة مثالية  عن تاريخ السلف لكي يتغنوا بامجادهم ويعيشوا احلاما و امنيات غير واقعية بامكانية استعادة تلكم الامجاد !
و اذا ما اطلع بعضهم لسبب من الاسباب على بعض ما يخالف تلك الصورة الوردية الجميلة ثارت ثائرته  و قامت قيامته او حدثت لديه ردود فعل عكسية عنيفة !
و في نفس الوقت  ليس من المنهج العلمي ان نحيل أسباب الاخفاقات و الصراعات التي نشبت مبكرا في تاريخنا الى مؤامرات اليهود و النصارى و المجوس و الروم و الفرس ،  كما هو حال بعضنا  اليوم في إلقاء اللائمة لكل أوضاعنا المتردية الى الشرق و الغرب و ربما  الشمال و الجنوب !
من جهة اخرى فان اي تاريخ بشري يشتمل على أدوار قام بها اشخاص بشرية سواء كانت تلكم الادوار من المنظور التقيمي حسنة او غير حسنة .
و ان الشعوب و الأمم في العادة تحتفي بالشخوص التي تعتقد بانها قدمت ادوارا نضالية و فكرية  في سبيل نهضتها و الدفاع عن قيمها ووجودها .
والمسلمون في ذلك مثل غيرهم من البشر من مختلف الثقافات في تمجيدهم  و احتفائهم بأبطال التاريخ و رجاله وقادته في مختلف المجالات سواء الدينية او العلمية او السياسية او الاجتماعية او الوطنية .

و حيث ان مركز الحديث يصب في الجانب الديني من القضية و في اختلاف الفئات المسلمة في تقييم بعض  الشخوص التاريخية ،  بين من يرى صلاحها و من يرى فسادها ، بحسب دراسة و تقييم كل جهة لها ،  مما يسبب إثارة  سجالات وقد يقود الى توترات بين بعض الفئات .
و هو امر مؤسف حقا ، غير ان معالجته لا تكمن عبر الدعوة الى ترك الاحتفاء بالشخوص الدينية و القيادية و الاحتفال بذكرياتهم .

فان مثل هذه الدعوات تستبطن الدعوة الى إهمال دراسة التاريخ و تجاهل اخفاقاته !
و هو امر ينطوي على محاذير ألمحنا الى بعضها .
على انه يلزمنا التنويه الى عدم  المزج بين البحث التاريخي العلمي و نتائجه في نسبة المواقف و اﻵراء  الى أشخاص معينة و تقييمها علميا ، و  بين التهجم  على   الشخوص التاريخية  و الرموز المعظمة عند هذه الفئة او تلك . فان هذه القضية الاخيرة مرفوضة و  تتطلب بذل مزيد من الجهود التربوية و التثقيفية و التعليمية عبر برامج قصيرة و طويلة المدى لغرس و تعميق  قيم احترام التنوع العقدي الديني و المذهبي و احترام المختلف معه دينيا و مذهبيا . و في نفس الوقت تستدعي اتخاذ تدابير قانونية تحول دون التطاول على مقدسات الغير و تأديب  من يفعل ذلك .
اما  الارتباط بالشخصيات الدينية  المجيدة و المجاهدة  والتي قدمت خدمات جليلة في الحقل الديني ، فانه  لا يعبر عن عصبية و لايشكل  صورة من صور  عبادة الاشخاص !  بل هو  في عمقه مسالة إنتماء و حب و ارتباط بالقيم الاخلاقية  و المبادئ الدينية  التي تحلى بها أؤلئك الاشخاص و ناضلوا من اجلها ، بحسب الصورة المنقولة عنهم و المطبوعة في وجدان من يحتفي بهم .
و بتعبير ديني اوضح  انما هي قضية التعرف على الأولياء الصالحين و احوالهم التي نالوا بها هذه المنزلة السامية و التاثر باخلاقهم و التأسي بهم .
و اذا نظرنا الى الأنبياء و الرسل عليهم السلام  و خاتمهم صلوات الله عليه وآله  فانهم  جميعا شخوص بشرية معظمة مسددة  بالوحي الالهي و مرتبطة به  .
و القرآن الكريم مليئ بتقديم نماذح صالحة عن أنبياء  و  غير أنبياء للاقتداء بهم و لأخذ العبر من أحوالهم  .  وأمثلة الأنبياء و الرسل واضحة و معروفة ، أما غير  الأنبياء  فمن قبيل فتية أهل الكهف و مريم ابنتة عمران و امراة فرعون وذي القرنين  و ام موسى .
كما قدم نماذج فاسدة للتحذير من أمثالها عبر التاريخ مثل الفراعنة و المترفين و هامان و قارون و السامري و الأحبار و الرهبان الذين حرفوا الكلم و امراة نوح و امراة لوط و كذا المنافقين و المثبطين والسماعين لهم  والمتخلفين عن طاعة النبي صلى الله عليه وآله .

وفي المقابل امتدح الصالحين أمثال الحواريين و المستحفظين و مريم و  امراة فرعون و  أهل الكهف و ذي القرنين  و أهل البيت الذين طهرهم تطهيرا  كما امتدح السابقين الأولين  من المهاجرين و الانصار و التابعين لهم باحسان .
والتاريخ كله حركة بشرية و  الأنبياء و الأولياء كلهم شخوص
وأعداؤهم شخوص أيضا .
كما ان القرآن الكريم  دعانا  الى دراسة تاريخ الامم والسير في الارض و النظر الى عواقب الامور  و نهايات الأمم  ،  و في نفس الوقت أكد بانها أمم قد خلت لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت و لا نسأل عن أعمالها و فعالها .
صحيح ان السياسة عبر التاريخ وظفت بعض هذه الامور بشكل ادى الى صدور ردود فعل و انفعالات هنا و هناك ، و لكن هذا لا يتطلب هدر مسالة القدوات و الاقتداء بهم و لا  إسقاط اهمية  التاريخ و دراسته ، بل يتطلب منا ان نصحح طريقتنا في  التعامل مع التاريخ و شخوصه و التمييز بين الصالح الذي يعتمد عليه في نقل احكام الدين وسننه و سنن الأنبياء و الأولياء و بين  الطالح الذي يتلبس لبوس الدين ليفسده من الداخل  !
من المهم جدا ان لا نستدعي أزمات التاريخ الى حاضرنا و لا ان نغادر حاضرنا لنعيش كهوف التاريخ و معاركه ومشاحناته ، غير انه لا يعني إهمال الدرس التاريخي .
يجدر بنا ان نمتلك بصيرة للتمييز بين الصالحين من حملة رسالات الأنبياء و المستحفظين وورثة الأنبياء و الرسل وبين مدعي الرهبنة والمتمسحين بأشكال القداسة  المحرفين للكلم و المشوهيين لحقائق الأديان و المتاجرين بالأديان و الرسالات .
من المفترض ان نتملك وعيا نميز به بين الصالحين الذين نأخذ عنهم معالم الدين وسننه و سنن النبي الكريم صلى الله عليه وآله
و نعرف به الطالحين امثال قارون و هامان و السامري  لكي نحذر منهم و من أساليبهم الشيطانية في التحريف و التشويه وليس ان نتخلى عن معرفة الحقائق و نحجبها عن الأجيال و نقدم لهم صورة مثالية حالمة عن حركة قوامها بشر !
و أيا كان فان البحث التاريخي لا غنى عنه و ان الاحتفاء بالقادة الصالحين و الأبطال المناضلين هو في عمقه تمسك بالقيم و المبادئ التي ناضلوا من اجلها .

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً