أحدث المقالات

قراءةٌ نقدية في المستند الديني

أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)

المدخل

كان مسار المسلمين من بعثة النبي| حتّى محنة ابن حنبل مساراً معرفياً مقبولاً في سماته العامة، ومنسجماً إلى حدٍّ كبير مع حقائق المنطق العلمي السليم والعقل الإنساني، سواء في أدوار التشكُّل الأولى لمدارس الاجتهاد أو في اكتشافهم لمسالك الاجتهاد التي نتج عنها نشوء المذاهب الفقهية، وما تفرَّع عنها من اتجاهات للاستنباط.

صحيحٌ أن العصر الأول شهد في بعض أوقاته (قراءةً حرفية للنصّ)، وكان اتجاه التفسير بالمأثور هو الغالب، وتوقّف كثيرٌ عن الفتوى والخوض في مستجدات الأزمان، لكنّ ذلك الاستثناء لم تنتج عنه مباشرة موجة نصوصية، فلقد كان اختيار أشخاص قلائل، بينما كان الاتجاه العام هو الفهم العقلي للنصّ.

1ـ الجذور التاريخية للفكر المتشدِّد

صحيحٌ أيضاً أن حالات من العنف الديني قد ظهرت في هذه الفترة، مثل: ممارسات خالد بن الوليد في ما يُسمّى بحروب الردة، ومعارك الخوارج مع جيش علي×، وما تبلور عنهم من أفكار متطرفة وشاذة، استثمرت انشغال الدولة بحروب أهلية متعددة، فاستغلت الضعف والانقسام، وأعلنوا أفكاراً وبنىً جديدة، منها: استبدال الخليفة الشرعي بعد اتهامه بالتقصير، واعتبارها ذنوباً كبائر، والكبائر عندهم مكفّرة بأمرين: أحدهما للصلاة؛ وآخر للحرب([1])، وجعلوا أمر الخلافة شورى عامة بعد أن كان شورى خاصة، وحوّلوا الأمر بالمعروف إلى الجهاد، وأفتوا بالهجرة من البلاد التي يسيطر عليها (مَنْ يرونه ظالماً) فراراً إلى الجبال، وأعلنوا أنفسهم جماعة تطهيرية ـ إزاء انحراف تصوَّروه، ثم ارتكبوا على هذه البنى الفكرية جرائم قتلٍ، ومثَّلوا بالقتلى، كما حصل لـ (عبد الله بن خباب)([2])، لكن الإمام علي× عاملهم بأنهم قتلة ومجرمون ومارقون وخارجون عن الطاعة الشرعية.

إن هذه الحركة بدأت بداية سياسية، فقد كان التنظير الفكري لها أقل من الجهد السياسي، وكذلك أقل من الجهد الحركي القتالي، وكلّ ما كان لهم من بنى فكرية كانت وظيفته شرعنة حركتهم القتالية، وتبرير خروقاتهم، مثل: تكفير مرتكب الكبيرة، التي على أساسها صاروا يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان([3]).

بَيْدَ أن هذه الحركة قد تلاشى وجودها الفعلي بعد عقود من الزمان، ووقف جميع مَنْ يسمون أنفسهم أهل السنة آنذاك ضدها؛ لأنها لم تقف في خصومتها عند الإمام علي×، إنما استمرت تقاتل دولة بني أمية، فتضامن أهل السنة مع الدولة والحكام، وقاتلوا الخوارج.

أما فكرياً فقد هاجمتها كتب الفرق والعقائد وعلم الكلام هجوماً كبيراً، وانتهت هذه الموجة بعد ظهورها بمائة عام تقريباً، أي في (145هـ). لكنها في أثناء وجودها لم تؤثِّر على مسار تطوُّر المعرفة الدينية، فكانت الاتجاهات العقلية قد تنامت، وظهر الأشاعرة والمعتزلة، وكانت مدرسة أهل البيت^ تمارس بناء العقل الإسلامي الوسطي إلى جنب هذه المدارس، بفاعليةٍ عالية، رغم حصار السلطة لها.

إن بداية مشكلة التكفير ـ إذا تجاوزنا تجربة الخوارج ـ نجدها في زمن المأمون العباسي، أواخر القرن الثاني، الذي تبنّى فكر المعتزلة ومقولاتهم، ومنها: خلق القرآن. وبدافع من غلواء السلطة، وتداعيات امتلاك القوة، وطبيعة الاستبداد، صار يفرض رأي السلطة على الناس الذين يخالفونه، فاعتقل أحمد بن حنبل وضرب؛ لعدم انصياعه لفكر السلطة في مسألة خلق القرآن، حيث امتنع، حتّى أطلق سراحه. وحينما تبدلت عقيدة السلطة، بمجيء المتوكِّل، الذي أعلى شأن أحمد، وقمع المعتزلة، ونشر أصحاب أحمد في المساجد، يبشِّرون بآرائه، فصار إماماً (لأهل السنّة). وعندي أن هذا المصطلح قد ظهر توّاً مقابل جماعة البدعة (المعتزلة)([4]). وتمّ بتبجيل شخصية أحمد بن حنبل. وقد نسجت الكثير من القصص والأساطير والمناقب والكرامات له. وقد أضيف إلى مصطلح (أهل السنّة) مصطلح (لا تقية إلاّ في دار الشرك)، ليتحول الأمر من نظرية إلى اتجاه حركي عملي سلوكي سياسي.

لقد تجمع الرواة حوله لرواية الحديث، وأملى عليهم المسند، فصارت الجماعة تطلق على نفسها (أهل الحديث)، طبعاً في مقابل أهل الاجتهاد والرأي. وكان يراد بذلك تبادراً أتباع أبي حنيفة(150هـ) والشافعي (204هـ)([5]) حَصْراً في الفقه، وأتباع آل البيت والمعتزلة في الفقه والعقيدة. وشاع مسلك رفض التأويل كأساسٍ معرفي؛ لأنه عندهم حمل الظاهر على محتمل مرجوح يُراد اعتباره راجحاً، كما يصفه السبكي([6])، أو هو استخدام للرأي في موضوعات الشرع. وظهر في زمن أحمد (مفهوم البدعة)، وعرّفوها بأنها ما أُحدث في الدين ممّا ليس منه، وما خالف السنّة، وما لم يؤيِّده سلوك الصحابة والتابعين وأتباعهم. وبذلك تظهر جدلية مفهوم الابتداع والاتباع، أي مفهوم «السلف وعقيدتهم وفهمهم». ويلاحظ صعود نسخ التشدّد في اعتباره أن البدعة أخطر من الكفر، فأحمد لا يرى توبة لمَنْ دعا إلى بدعةٍ، بينما يرى للكافر توبة، ويرى أن جهاد أهل البدع أعظم عند الله من جهاد الكفار([7]). ومن هنا بدأ تصاعد الفكر الإقصائي الانتقامي ضد العقلانيين.

ويرى أحمد صحة حديث الفرقة الناجية، بل يميل إلى تواتره، ويرى أنهم أهل الحديث، ويعطيهم امتيازاً حصرياً أنهم أحقّ من غيرهم ممَّنْ يتكلَّم بالدين، لذلك مَنْ خالف التواتر عنده فهو ضالٌّ كافر، ومَنْ خالف الخبر الواحد فهو فاسقٌ يؤدَّب؛ لأنه (مبتدع). وفي مسنده لا يركز على حديث النبيّ الأكرم محمد|، كبقية مجاميع الحديث، بل يتوسَّع بذكر آراء الصحابة، ويرى لها مرجعية كمرجعية الحديث النبوي، من حيث كونها نصوصاً مستندية.

وفي ظنّي أن هذه الوقائع وما نتج عنها من آراء ونظريات قد غرست في أرضية الفكر الإسلامي جذور اتجاه متشدِّد نصوصي، غير قابل للحوار والبرهانية، ليكون الأنموذج النظري المبكر للفكر التكفيري. وبسبب أوضاع العالم الإسلامي المعروفة آنذاك نما هذا الاتجاه، فأصبح تيّاراً سُمّي بـ (الحنابلة)، وكانت تلك الجماعة من أكبر الجماعات التي تقلق الحكومة في القرنين الرابع والخامس؛ لأنها كانت تمارس العنف، وتحارب الخصوم، كالشافعية([8]) والصوفية والأشاعرة والمعتزلة والشيعة. وقد بقي هذا التيار يمارس سلوك التشدُّد وأفكاره حتّى ظهر ابن تيمية في عصر الهزائم وزمن الدويلات والانحطاط الحضاري عند المسلمين، فكان أيضاً من رواة الحديث والمشتغلين بالإسناد، حتّى أشيع آنذاك عن ابن الوردي أن كل حديث لا يعرفه ابن تيمية ليس حديثاً، ولم يتوقّف على رواية الحديث وشرحه وتوجيه نصوصه توجيهاً تكفيرياً، بل خاض جملة من الخصومات والمعارك، وساهم في حروب ضدّ النصريين في ماردين وغيرها، ونتجت عن مؤلفاته الكثيرة مجموعة من الأفكار:

1ـ الدعوة الى استئناف الدولة الدينية (الخلافة) العامة المركزية، وإنهاء وضع الدويلات.

2ـ تكفير خصومه العقائديين، كالأشاعرة والشيعة والمعتزلة… وغيرهم.

3ـ محاربة الصوفية، واعتبارهم أكثر شركاً من الكفار؛ لأنهم يرجون من الأولياء.

4ـ رسم منهجاً خاصّاً بالاستنباط أساسه فهم الصحابي (ومنطلقه الرواية).

لقد رسخ ابن تيمية تيار التكفير، وحقنه بالفكر والنظريات، وعمّق رؤى الانقسام والإقصاء، ودخل العالم الإسلامي في مرحلة التراجع الحضاري بعد القرن الثامن الهجري، ولأربعة قرون، فاستيقظ على دعوة محمد بن عبد الوهّاب، وتبنّيه لفكرة الغزو العقائدي التطهيري؛ لنشر مشروعه (التصحيحي) للعقائد التي يراها (شركاً). وتنامت دعوته بالاتفاق مع آل سعود بإنشاء دولةٍ وهّابية قبلية، طبقت نظاماً تعليمياً بدائياً للمعرفة الدينية، كان السبب الأساس في ما أعتقد بانتشار الجماعات الانتحارية التي تقاتل المسلمين، بعد تكفيرهم، والتي أدخلت العالم الإسلامي في أخطر مشكلةٍ عرفها تاريخه القديم والحديث.

2ـ السمات العامة للفكر المتشدِّد

يشترك الفكر التكفيري في مراحله التاريخية المتعاقبة بخصائص عامة، تجمع تياراته وجماعاته، ويفترق في أمور ضئيلة وتفصيلية عمّا استقرت عليه مراحله.

أما ما يُعَدّ من السمات العامّة لهذا الفكر فهي:

أوّلاً: إن منطق التكفير والعنف الديني منطقٌ واحد، وإن هذا الفكر حلقات متواصلة، يبني اللاحق أفكاره على التجارب السابقة، وربما يزيد عليها. فهو فكر (متراكمٌ ومتطوّر ذاتياً)، يكتشف آلياته في كلّ دور.

ثانياً: لهذا الفكر قابلية توظيف المقولات الدينية المتعارفة لأغراضه، بنزعها من سياقاتها، وله القابلية لإضافة مقولات عقائدية وفقهية جديدة تحت عنوان: فقه الضرورة والعقائد الغائبة.

ثالثاً: إذا احتاج هذا الفكر أن يغاير المجمع عليه من أهل السلف فهو مستعدّ أن يغايرها، ويتبنّى آراء جديدة ينفرد بها.

رابعاً: تُعَدّ القراءة الحرفية، والابتعاد عن العقل والبرهانية، وممارسة العنف الديني، سمات عامة ومشتركة لهذا الفكر.

أـ منطق الفكر التكفيري

يمكننا ببساطة أن نلحظ اشتغال الفكر التكفيري في منطقة الشذوذ الفكري، مقابل ما عرفته الأغلبية الإسلامية التي تتعاطى مع العقائد بالوسطية والاعتدال والاهتمام بالمقبول من العلماء قبولاً عامّاً. أما الفكر التكفيري فقد تماهى مع الشذوذ، ودعا إلى العزلة الاجتماعية والثقافية، فتكوَّن فكرهم خارج العقل الجمعي، حتّى أن الجماعات التكفيرية تختار المناطق النائية والبعيدة عن المطارحة الفكرية والحوار، ويوجب أيضاً غلق منافذ التأويل والاجتهاد، وبوابات العقلانية والتأمّل، ومراجعة المواقف، والإفادة من تجارب الناس، بل يدعو إلى محاربة هذه المنافذ كلّها؛ حفاظاً على منطقة الاشتغال المتشدّدة والشاذّة، ولا يعتني كثيراً بسلامة الدليل والدلالة، إنما يحيل الأمر إلى فقه ضروراته الميدانية، وتندمج الأفكار التي تقترب من إعمال العنف لتشكِّل فيه حزمة فكرية مترابطة (البدعة، التكفير، الجهاد، إنكار المنكر، الخروج على الحاكم، البراء، الطائفة المنصورة…، إلخ).

وتضيق فيه الأفكار التي تدعو إلى التعارف والحوار والسلام والتسامح والمعروف وإشاعة المحبة وإرادة البناء، بناء الإنسان، وبناء الأوطان، وبناء الفكر، وبناء التقوى، وبناء هيكلية العمل الصالح.

ب ـ تراكم الفكر التكفيري

إن هذا الفكر تتناسل مراحله وتتراكم. لو تتبَّعنا مراحل الفكر التكفيري من فكر الخوارج لوجدنا أنه يستفيد من القراءة الحرفية للنصّ، ويزيد عليها. فقد زاد الحنابلة على فكر الخوارج زيادة خطيرة، هي نظرية سلطة السلف، والبدعة، وتكفير الآخر بالذنوب وبالرأي. فاذا جئنا لابن تيمية وجدناه يبتدع فكرة الدار المختلطة (دار الكفّار والمؤمنين) كتبرير لمهاجمة ديار دخلت في الإسلام، ولكنّ فيها مَنْ لم يرتضوا مسلكهم. وحينما نصل إلى الوهّابية نجد تهمة الشرك جاهزةً لمَنْ استغاث بالأولياء، واستعان بالصالحين، وطلب بركتهم وشفاعتهم، ووجدناه يضمّ المدن إلى دولته (بالغزو)، أي تحويل نظرية الأمر بالمعروف والأساليب السلمية للدعوة والتبليغ إلى جهاد عنفيّ مسلَّح، وصولاً إلى رأي المودودي، الذي أعلن أن المسلمين لم يعرفوا معنى الربوبية الحقّة، وأنهم مقصِّرون بعدم إعلان الدولة الملتزمة تمام الالتزام بفروع الأحكام تحت نظرية الحاكمية. بهذا الشكل نلحظ أن الفكر التكفيري فكر تتوالد أفكاره ممَّنْ سبقه، ويزداد قسوةً وتطرفاً وكراهية وإكراهاً زيادة متوالية ومطّردة. فلو أجرينا مقارنةً بين آراء أحمد وما صار إليه الحنابلة نجد عندهم زيادات كثيرة، أدخلها أتباعه، ونسبوها إليه، وهو لم يقُلْها. ولو تابعنا ما بين المودودي وبين الإخوان المسلمين والجماعات (الجهادية) نلحظ تطوّرات نحو الراديكاليات المبتكرة في العقيدة والفروع، مما نستنتج منه هذه الصفة التراكمية التي تزداد انحداراً نحو التشدُّد.

ج ـ التعارض مع التراث الديني

إن الفكر التكفيري لم يقِفْ عند حدود توظيف معطيات التراث، حيث كان قد وظّف الكثير من المقولات التراثية لصالح وجهات نظره، إنما اضطرّ لكي يتعارض مع مقولات ثابتة ومجمع عليها. فقد ترك إصرار (السلف الذي انتمى إليه) في أكثر من موضع، فصار فكراً يعمل في دائرة الشواذّ الفكري المتشدّد، فصار يتراكم ذاتياً، ثم يضيف لتراكمه فكراً جديداً، حتى لو تعارض مع إجماعات السلف الذي يُعَدّ مرجعيته الشرعية.

ممّا تقدَّم يمكن تشخيص البنى الفكرية والمنهجية كالتالي:

 

3ـ البنى الفكرية للاتجاهات التكفيرية

نتيجة الاستقراء والتتبُّع وجدتُ أن البنى الفكرية نوعان:

أـ البنى المعرفية.

ب ـ البنى المنهجية.

أـ البنى المعرفية: وهي البنى الفكرية التي استند إليها التكفيريون ممّا أنتجه علماء التراث العقائدي الإسلامي والتراث الفقهي، فقد تعامل معها الفكر التكفيري بثلاث وسائل، منها: البنى المعرفية الموجودة، التي اقتطعها من سياقها العام، ووظّفها كتبريرات شرعية لأفكاره وأيديولوجياته.

ومثال ذلك:

1ـ فكرة (دار الإسلام ودار الحرب). فهذه القسمة للعالم كانت موجودة بوصفها موقفاً للفقهاء لتقسيم العالم القديم على خلفية الصراع بين تمدُّد دولة الخلافة الأموية وبين العالم الآخر المعاصر لها ممّا سُمّي بـ (الفتوحات). فهذا الأمر رغم أنه ليس معنى شرعيّاً قرآنيّاً أو حديثيّاً، إلا أنهم الآن يوظِّفونه لأغراض جيوبولوتيكية إرهابية.

2ـ وكمثالٍ آخر: قضية البيعة التي (طوّرتها السلطة الأموية) آنذاك من اختيار حُرّ إلى ممارسة استبدادية.

3ـ ومثل: تطبيق الحدود الشرعية، من دون مراعاةٍ لشروط التطبيق وظروف الجنايات، مثل: قطع يد السارق في أجواء الحاجة والفقر، وإقامة حدود الجلد التعزيرية مع مجتمع ينشأ على قِيَم تجربة معينة، بحيث يحتاج إلى تربية قِيَمية جديدة ليتبنّى قِيَم الدين؛ لأن العقوبة للذي يعلم بالجرم ويتعمّده، وليس لمَنْ لا يعلم بالجرم، ولا سيَّما أن لولاة الأمر مراعاة ظروف الشخص، ومدى ما يحقّقه التعزير من ردعٍ إيجابي، وليس مجرّد زرع الخوف والرعب من جهاز الحسبة أو جهاز الأمر بالمعروف، كما هو سارٍ في الممارسة التكفيرية.

4ـ ومن ذلك مثلاً: سبي النساء والأطفال. فهم عندما يسيطرون على بلدة يكون مصير النساء والأطفال (المستولى على بلدهم) السبي والاتّجار بالبشر. وهذا من السياسات. وهو أمرٌ متروك لوليّ الأمر. على أن مناط تصرفاته تحقيق المصلحة الإسلامية بمعناها التامّ، وليس لإيقاع الرعب والتنكيل فقط.

ب ـ إضافات التكفيريين: لقد أضاف التكفيريون إلى معطيات التراث إضافات لم تكن ضمن مسائله، سواء بتوسيعه أو اختزاله أو وضع زيادات عليه. ومثال ذلك: تحويل احترام الجيل الأول من نطاق التقدير إلى اعتبارهم مرجعية دينية معيارية. ومنها: التوسعة والتضييق في عقيدة الولاء والبراء، وإضافاتهم على عقيدة التوحيد، وتوظيف عقيدة فكرة الحاكمية.

4ـ الإضافات التكفيرية على القضايا العقائدية

أـ عقيدة السلف

لا تكاد تجد حركةً تكفيرية تمارس العنف فعلاً، أو لا تمارسه خوفاً؛ ذلك لأنها مستعدة ذاتيّاً لاعتماده، إلاّ وتزعم أنها من نتاج المدرسة السلفية، وأنها تتبنى عقيدة السلف، وتتابع المدرسة السلفية.

والمتابع للتأسيس الأول لفكرة السلفية يجد:

أوّلاً: اضطراباً كبيراً في نطاق المقصود بـ (أهل السلف)؛ فمنهم مَنْ خصه بمذهب الصحابة([9])؛ ومنهم مَنْ أدخل معهم التابعين وأتباعهم([10])؛ ومنهم مَنْ زاد فيهم الأئمة الأربعة([11])؛ وقالت جماعةٌ: هم أهل القرون الخمسة الأولى([12]).

ثانياً: لقد ظهر مصطلح عقيدة السلف على يد أبي عثمان الصابوني(449هـ)، الذي كتب رسالة أسماها [عقيدة السلف أصحاب الحديث]. وكانت فكرة السلف قد ظهرت عند أحمد بن حنبل ظهوراً خالياً من التنظير المترابط مع شبكة قضايا الفكر التكفيري. وقد صارت مسلكاً في القرن الرابع، واكتملت في الخامس عند الصابوني. ففكرة عقيدة السلف غير معروفة حتّى العصور التأسيسية المتأخِّرة، وهو مصطلح غير مؤصَّل، وقد أطلق أخيراً على أهل الحديث([13]).

والأساس النقلي لعقيدة السلف حديث: «خير القرون قرني، ثم الذي يليه». وهو من الأحاديث التي حظيت بزياداتٍ عدّة على (متن قيل عنه: إنه متَّفق عليه).

لقد تعددت متون هذا الحديث([14])، واضطرب من جهة الزيادات في دلالته ومضمونه، فقيل عنه: إنه في معرض ذمّ الحلف قبل الدعوة إلى القسم، وهذا لا يعني أفضلية مطلقة للأزمنة المبكرة على الأجيال المؤمنة المتأخّرة؛ لأن ذلك مدعاة لإهدار القيمة المعنوية للأجيال. وهو معارَضٌ بحديث: «أمتي كالمطر…»([15])؛ ومعارَضٌ بالقرآن حينما خاطب «عموم المسلمين»: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110). وإن واقع التجربة في القرون الثلاثة لا تساعد عليه. وعلى فرض صحة الحديث فهو لا يكفي دليلاً على المفهوم الإقصائي التمييزي، واقترانه بالفرقة المنصورة، ولا يكفي دليلاً على أنهم مرجعية معيارية للفكر اللاحق. وفي المحصلة إن هشاشة المستند لم تَكْفِ لإنشاء أيديولوجية تقف وراء مشروع مجتمعي للتطرُّف ذي استمرارية متشدّدة.

لكنّ التعامل مع الجماعات التكفيرية ينبغي أن يكون على أساس أن منهجها السلفي الذي لا يتمتع بالمستندات الدينية الكافية منهجٌ يحمل بذور التطرُّف في داخله، أو في بنيته الذاتية، وفي رؤاه.

إن الفكر السلفي؛ وبسبب التباين مع عقائد عموم المسلمين، نهج لا يستطيع الانسجام مع محيطه المجتمعي المعاصر، لذلك يلجأ إلى العنف، ولا يتناغم مع ممارسة الحوار والجدال بالتي هي أحسن.

ب ـ عقيدة الولاء والبراء

تهدف قضية استثمار الولاء والبراء كواحدةٍ من قضايا الفكر الإسلامي إلى وضع حجر الأساس لموقفين:

أـ ربط أفراد الجماعات التكفيرية بنطاق الولاء للجماعة الإرهابية؛ اختزالاً للمفهوم؛ لأنه بالأصل رابطة للأمة بكاملها، وتحويله إلى رابطة للجماعة الجهادية الضيقة بعددها ومضمونها وتطلُّعاتها.

ب ـ توسيع رابطة البراء التي أرادها القرآن (من المعتدين على المسلمين) إلى البراء من عموم المسلمين، ممَّن لا يعتقد بالمنهج التكفيري؛ تمهيداً للعدوان عليهم. فقد قال تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ (الممتحنة: 1)، فاذا ثبت أن شخصاً عدوٌّ لله وعدوٌّ للمسلمين وجبت البراءة منه. والبراءة في التصور القرآني توجيهٌ للانفصال عن عقائد كافرة (مغايرة) هي وشعائرها، أما ممارسة البغض والكراهية فأمرٌ عرضي انفعالي، لا يجب إلاّ لمَنْ اعتدى؛ فإن البراءة مقدّمة لمقاومته وإجباره على الكفّ عن العدوان. ويلاحظ أن آيات القرآن شدّدت على مفهوم الولاء أكثر من البراء؛ لأن الولاء هي وجهة إيجابية ورابطة للاندماج، بينما يختار التكفيريون «إشاعة البراء» على عموم مَنْ يخالفهم، وتقليص الولاء لأتباعهم فقط.

ويرى باحثون أن الولاء والبراء ليست من أمهات العقائد، إنما هي من السياسات التي تتسع وتضيق حَسْب الظرف التاريخي، وحَسْب مصالح المسلمين. لكن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وسَّعا هذه المفاهيم، وحوّلاها إلى نظرية سياسية تعبوية (للجماعات) بدل أن تكون سياسات لدولة شرعية. وكنموذج على ذلك نجد أطروحة محمد سعيد القحطاني، التي أسماها (الولاء والبراء في الفكر الإسلامي)، والتي اعتمدت من إحدى جامعات السعودية، وهي تساير هذا النهج الإقصائي، وتعدّه من آثار السلف الصالح. وأعتقد أن فكرة البراء ممَّنْ خالف فكر تلك الجماعات، حتّى لو كانت مخالفةً في الجزئيات والتفاصيل والاجتهادات الفرعية، تترابط فكرياً مع مفهوم الخلاص الواحد الأكثر خصوصية تحت مسمّى الفرقة الناجية. وتأسيساً على منح الولاء للجماعة الإرهابية فقد اعتبروا انفسهم مفوَّضين من عند الله لمحاسبة الناس على عقائدهم، وهو المستند البنيوي للتكفير.

وفي قضية البراء نوعان من المستويات: الأوّل: البراء من مخالفيهم من المسلمين أتباع الاجتهادات الأخرى؛ والثاني: البراء من (غير المسلمين)، دولاً وشعوباً، مما يسوغ لهم استعمال العنف تحت مسمّى: (الغزوات) أو (الجهاد)، دون مراعاةٍ للنظام العالمي الذي تترابط فيه مصالح الدول والشعوب، وتستقر السياسات على أساس القبول الدولي بها. وإن القيام بضرباتٍ غادرة عشوائية، هدفها إشاعة القلق على الأنفس، وبثّ الرعب، دونما إشعار أو إبلاغ أو ظهور شجاع أمام مَنْ يفترضون أنهم خصوم، لا تُعَدّ من قِيَم الشهامة والفروسية التي يريدها الإسلام كأخلاقية من أخلاقيات الجهاد، وبذلك تُعَدّ هذه الضربات ضرباً من الجبن والعمل غير الأخلاقي، مما يعكس تصوُّراً مشيناً عن الإسلام، وليس عمّا يتبنّاه هؤلاء من أفعال يصنعونها تحت مفاهيم وأفكار (دينية ـ إسلامية).

أما المراد بالبراء ففي حقيقة الحال هي ليست إثارة للكراهية، إنما اعتماد أفكار وعقائد لا تقترب من عقائد المعاندين من أعداء الحقّ والحقيقة والعقل والعقلانية، كمقدّمة لمقاومة عدوانهم إذا كانوا معتدين، بل يقف الإسلام موقفاً مانعاً ومحرِّماً للأفعال الغادرة والقتل العشوائي الذي يلي الكراهية، فليس المراد بالبراء هو القتال، وإلاّ ترادف الأمران: الجهاد؛ والبراء. والمحصّلة أن البراء لا تندمج أفكاره غير الإيمانية وقِيَمه مع فكر الإنسان المسلم، فلا بُدَّ من المفاصلة.

ج ـ متغيّرات على عقيدة التوحيد

على الرغم من أن الأديان الإبراهيمية تنطلق من فكرة الإله الواحد الخالق المدبر المعبود، يتضح إصرار المسلمين على التوحيد الخالص من الشوائب، فقد صاغ المسلمون نظرية خالصة للتوحيد بإفراده بالخلق والرزق والإحياء والحكم، وأوجبوا الإيمان بذلك، ولكنْ من دون إلزام الناس بما لا يلزم من التشدُّد كجزءٍ من مفهوم التوحيد الذي اخترعوه، مثل: مفهوم (توحيد الألوهية)، فقد استثمروا الإجماع على إفراد الله بالعبادة، لكنّهم أسقطوا الفارق بين (القصد الواعي) وعدمه في الإخلال بمفهوم التوحيد. فقد أشاعوا أن الاستعانة والاستغاثة وطلب البركة من الأولياء، وطلب الشفاء من الأمراض ببركتهم، والنذر لهم، وكلّ ذلك، صورٌ من الشرك، وخلل في توحيد الألوهية، حتّى لو كان الطالب وجاهتهم قاصداً الأمر من الله عزَّ وجلَّ، ولم يقصد عبادة الأولياء والصالحين بالذات، فعندهم هذا لا يعفي الجاهل، ولا يكون له عذر من الشرك، وكلّ مَنْ فعل هذه الأمور، سواء عن جهلٍ، أو عدم قصد، أو تصوّر أن لهم جاهاً عند الله، فهو عند التكفيريين إما مبتدع؛ وإما كافر؛ وعند بعضهم مشرك، حتّى لو كان جهله عن قصور([16]).

دليلُهم: ما نسبوه إلى الإجماع على أن مَنْ تكلَّم بكلمة الكفر فهو كافرٌ، وإنْ لم يقصد معناها([17]). وفي هذه النسبة إلى الإجماع ما لا يخفى من النقوض. وفي ثنايا الفكر التكفيري تجد أن مجرد النطق بالشهادتين غير مانع من الشرك، بخلاف ما أجمع عليه أهل العلم. ويقدِّم التكفيريون أفكاراً مضافةً أخرى على مفهوم التوحيد؛ لكي تمهد هذه الصياغات للتفتيش عن معتقدات الناس، ولهدم القبور والأضرحة والمساجد التي صار بعضها معالم حضارية؛ ولتسويغ نهب ممتلكات الناس، ومواجهة التصوُّف؛ لأنه مبنيٌّ على احترام مقامات الأولياء، وقد وصفهم ابن تيمية بأنهم أغلظ شركاً من الأوّلين.

ويوجَّه للفكر التكفيري مجموعة من الانتقادات:

1ـ إنه يهدر القصد (المعتبر فقهاً وقانوناً واعتقاداً)، وفي ذلك إسقاط للسبب الموجب لاعتبار أي تصرُّف تصرفاً شرعياً. فإفراده بالعبادة عند عموم المسلمين يتحقّق بالقصد والفعل؛ لقوله|: «إنّما الأعمال بالنيات».

2ـ إن الجهل والقصور من موجبات رفع المؤاخذة؛ لـ (حديث الرفع)، وإن علاج الجهل بالتعليم والإرشاد، وليس بالتكفير والقتل.

3ـ إن تكفير الناس بما اختلف عليه أهل العلم حكمٌ باطل؛ لأن المتفق عليه أن يكون المكفِّر قد فعل فعلاً أجمع الناس على أنه مخلٌّ بالوحدانية وضرورات الدين.

4ـ ذكر الذهبي أن أحمد بن حنبل أفتى بجواز التبرُّك بقبر النبيّ|([18])، فالتكفيريون تجاوزوا في ذلك حتّى ابن حنبل.

5ـ ورد في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ (المائدة: 35)([19])، وهو نصٌّ يجيز التواصل مع البارئ بالوسائل. وجاء لفظ الوسيلة مطلقاً غير مقيد، والمطلق يجرى على إطلاقه ما لم يَرِدْ عليه القيد، سوى ما ذكره المفسرون من جواز ذلك.

6ـ قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً﴾ (النساء: 64).

قال الرازي: لقد جاز مَنْ خصّه الله برسالته وأكرمه بوحيه أن لا ترد شفاعته حيّاً أو ميتاً، لا سيَّما وهو القائل: مَنْ زارني بعد مماتي فكأنّه زارني في حياتي.

د ـ نظرية الحاكمية السياسية

هناك فرقٌ بين الحاكمية الشرعية والحاكمية السياسية؛ فالأولى توجب التسليم بأن التشريعات الربانية أنزلها الله لصالح البشر في دنياهم وآخرتهم، فهي مطلوبة ومرغوبة عقلاً، وواجبة شرعاً([20]).

لكنّ استثمار هذه القناعة الإيمانية، وتحويلها إلى نظرية سياسية؛ للاستيلاء على السلطة، يكشف عن جماعاتٍ اختطَّتْ لها مسلكاً سياسياً وأيديولوجياً لإخضاع الآخرين تحت عنوان ديني، وذلك بتجريد الإنسان من حقّ الاجتهاد وإعمال العقل وجلب المصالح والاجتهاد في ما سكت عنه النصّ، وما يرد من عناوين ثانوية على منطقة المباح والمندوب([21])، ممّا يسمّى بالفراغ التشريعي. ولأجل أن تتحول الحاكمية إلى نظرية سياسية ملزمة فقد خالف المودودي عموم المسلمين من أهل السنة بأن نقلها من نطاق الفروع إلى نطاق العقيدة. فالإمامة والحكم جزءٌ من الفروع التي يجوز فيها الاجتهاد عند فقهاء المذاهب الأربعة وعلماء العقائد، في حين أنّ الجزء العقائدي لا يجوز فيه الاجتهاد([22]). وعند المذاهب الأربعة الإمامة جزءٌ من الفروع. وطوَّر (المتطرِّفون) آراء المودودي، فابتدعوا فكرة الجاهلية الجديدة بتبرير ابتعاد الناس عن الحاكمية، وروَّجوا لموضوع أن سكوت الناس عن تشريع من غير الله هو عبادة للمشرَِّع، وهو كفرٌ بواح، ثم ربطوا ذلك بتوحيد الألوهية([23])، وجعلوها جميعاً مقدّمات للتكفير. وكان عموم دليلهم على ذلك كلّه الآيات الثلاثة في سورة المائدة([24])، المتَّفقة كلها في جملة الشرط، والمختلفة نصّاً في جواب الشرط على ثلاثة توصيفات: (الفاسقون، الظالمون، الكافرون) بحَسَب سياق الآيات في سورة المائدة.

وقد اتفقت كلمة المفسِّرين على عدم صلاحية الآيات لتكفير مَنْ لم يحكم بما أنزل الله؛ لأن إثبات النفي ليس دليلاً على ضدّه؛ ولأن عموم الناس لا تزال تمارس عقائدها وشعائرها وتلتزم بأحكام الفقه الإسلامي، رغم عدم إلزام الحكومات به، مضافاً إلى أنه تنصّ الدساتير على مرجعية الشريعة الإسلامية للقوانين والتشريعات في أكثر دول العالم الإسلامي.

صحيحٌ أن بعض القوانين والأنظمة فيها ما يخالف فروع الأحكام، وهذه سبيلها عرض البدائل الإسلامية، وممارسة النصح والأمر بالمعروف، وشحذ الهمم، وبلورة وعي مجتمعي؛ لاستبدالها بما يتَّفق المتخصِّصون على أنه لا يتعارض مع الشريعة.

أما معالجة هذه الانحرافات عن فروع الشريعة بتكفير الحكّام والناس وعلماء الدين والموظَّفين والجيش والشرطة والطلبة والجامعات، وقتلهم، وسبي نسائهم، واغتنام ممتلكاتهم…، كلّ ذلك تطرُّفٌ لا أساس له من الدين، وقد أريد به تبرير جرائم القتل الجماعي والإبادات الجماعية.

هـ ـ حديث الطائفة المنصورة([25])

لقد أضاف الفكر التكفيري على نبوءة مستقبلية وردت في ما روي منسوباً إلى النبيّ| أن المسلمين بحقّانيتهم هم الطائفة المنصورة، أضافوا له قيداً بحيث تحوّل النصّ ـ على إشكالات الإسناد فيه ـ إلى تسمية (أهل الحديث) بأنهم الطائفة المنصورة، ثم حولوا إلى «المقاتلين ممَّنْ ينتسب إلى أهل الحديث».

قال في مرقاة المفاتيح شرح المشكاة: إنهم أهل الشام؛ لأنهم يقاتلون أهل الروم، مما يظهر منه أن مصداق الحديث متغيِّر بحسب الأزمان والاستحسانات. ولا يفرق السلفيون بين الطائفة المنصورة وأهل الفرقة الناجية وأتباع السلف.

إضافاتهم على الجهاد

لقد وضع الفقهاء المسلمون شروطاً لصحة الجهاد، واختلفوا في هل يُقاتَل الكفّار لكفرهم؟ أو المعتدون لعدوانهم؟ إلاّ أن الفكر الأصولي نقل في مجال الجهاد، أوّلاً، قضايا هي ضمن نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوسائل السلمية، كالدعوة والبلاغ، إلى مهام حربية للجهاد، ولم يلتزموا بشرط الراية أو إذن إمام شرعي، حتّى أن أبا مصعب السوري (منظِّر الجهاديين) قد اعترف أن الحركة الجهادية تفتقر إلى الأصول المنهجية للجهاد([26])، وغيَّروا وجهه الجهاد من وجهة خارجية إلى وجهه داخلية، وبرّروا العمليات الانتحارية، عادّين لها من الجهاد، صارفين النظر عن أنها فتكٌ وغدر، وبها تذهب أرواح الأبرياء، والذين لا يجوز قتلهم شرعاً وعقلاً.

إن ترجيحات الفكر التكفيري لأقوال العلماء في الجهاد تجري تَبَعاً للحاجة الميدانية، ويكفي لمعرفة إضافاتهم مراجعة كتاب محمد عبد السلام فرج «الجهاد الفريضة الغائبة»، وملاحظة ضآلة العلم الشرعي، واستناده إلى الأحاديث الضعيفة على موازين أهل الحديث أنفسهم.

لقد أسقط الفكر التكفيري من الجهاد الانضمام إلى راية حقٍّ وإمامٍ شرعي يدعو إلى الجهاد، وأسقطوا الإعلام عن بدء القتال، وإنذار الخصم، وأهدروا الأمان الممنوح لغير المسلمين في ديار الإسلام، وإنْ لم يقاتلوا، وأسقطوا مبدأ معاملة المسلمين على الظاهر، وأجازوا الغَدْر والفَتْك والقتل العشوائي، وقالوا باغتنام أموال المسلمين، وكلُّ ذلك مخالفٌ لما انعقدت عليه آراء الفقهاء من كلّ المذاهب في مبحث الجهاد([27]).

و ـ التكفير

لقد تجاوز الفكر المتشدِّد محترزات الأئمة وأهل العلم في التكفير، فكلّ مدوَّنات المسلمين تدعو إلى عدم المسارعة بالتكفير، وقد وضعوا له شروطاً لا تتحقَّق بيُسْرٍ. وقد مارسوا التكفير بإهدار قاعدة الأصل، وهي: صحة اعتقاد المسلم حتّى يتبين فساده بدليلٍ جليّ، لكنّهم كفَّروا بأبسط الشبهات، وأسقطوا التعبُّد بالظاهر، وخلطوا بين كفر الاعتقاد وكفر العمل، وقد ربطوه بشبكة أفكارهم، وأجازوا ما منعه إجماع العلماء من التكفير المذهبي، والتكفير بلازم المذهب، ومآل الرأي، وأجازوا صدور التكفير من دون قضاءٍ أو مجتهد.

5ـ الأفكار التي خالفوا فيها تراث السلفية الفقهي

1ـ مسألة الخروج على الحاكم الجائر والثورة عليه

وفي المسألة قولان عند الفقهاء:

أوّلاً: ذهب الحنفية والزيدية والإمامية والمعتزلة والخوارج وابن حزم إلى جواز الخروج على الحاكم الجائر، وإزالته، ونصب حاكمٍ عادل يسوس الناس بالحكمة والحلم والعدل([28]).

ووافقهم من الحنابلة ابن عقيل وابن الجوزي، مستدلّين بسيرة الإمام الحسين×، واشترطوا له التمكُّن، وعدم التسبُّب بمفسدةٍ أكبر.

ثانياً: قال المالكية والشافعية وأحمد وجمعٌ من الحنابلة وفقهاء أهل الحديث القدماء والمعاصرين بعدم جواز الخروج على الحاكم. واستدلوا بالقرآن بقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾؛ وحديث عبادة بن الصامت: (إلا أن تروا كفراً بواحاً). وروى البخاري أنه| قال: (فليصبر).

قال النووي: أجمع أهل السنّة على أن الحاكم لا يزول بالفسق([29]). ومَنْ قال بعزله فهو غلطان، ومخالفٌ للإجماع. وهو حرامٌ.

وقال الصابوني في عقيدة السلف: إن أصحاب الحديث لا يرَوْن الخروج على الحاكم. وعن ابن حجر، عن ابن بطال، أن طاعة الحاكم المتغلِّب خير من الخروج عليه([30]).

وذهب السيوطي إلى رواية حديث يمنع الخروج على سلاطين الجور، قال: «وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك»([31]).

ولا يرى ابنُ تيمية جواز الخروج، ولا تلميذه ابن القيِّم، ومن المتأخِّرين: الألباني.

وبين الرأيين أقوالٌ مفصلة، ومشترطة ومعلّقة للجواز على مقدّمات.

بَيْدَ أن الفكر التكفيري، رغم انتسابه إلى فقه السلف وامتداداته، خرج تماماً عن هذا الإجماع منهم، وأوجب الخروج على الحكّام. فقد دعَتْ الجماعة الإسلامية المؤسّسة بمصر عام 1981 إلى الخروج على الحاكم، وقتال الطائفة الممتنعة عن إقامة شرائع الإسلام([32]).

2ـ مسألة الشرك بالتبرُّك والتوسُّل بالرسول الكريم|

ورد في ما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء([33]) أن أحمد بن حنبل أفتى بجواز التبرُّك بقبر النبيّ|، فقد سأله ولده عبد الله عمَّنْ يلمس رمانة منبر النبي| أو الحجرة النبوية بقصد التبرُّك؟ قال: لا أرى بذلك بأساً. وخالفه الفكر التكفيري.

 

البحث الثالث: البنى المنهجية للفكر التكفيري

يكتشف المطَّلع على مدوّنات الفكر التكفيري مجموعة من الثغرات المنهجية.

وأدرجها على وجه السرعة:

1ـ الاختزال المرجعي

يختزل الفكر التكفيري التراث التفسيري للأمّة، البالغ أكثر من (800) تفسير، بعدّة تفاسير. وبذلك يتشكّل منهجٌ انتقائي مبنائي، يضع الأيديولوجيا قبل العلم. وكذلك الحال مع متون الحديث وشرّاحه وكتب الفقه. لقد غدا مرجعهم الأساس مؤلَّفات ابن تيمية، دون أن تذكر بقية المدوّنات، ودون أن نرى ترجيحات بين الأقوال على أساس متانة الدليل. فالمقارنة ملغاةٌ تماماً.

2ـ القراءة الحرفية النصوصية للنصّ الديني

لقد دعتهم السلفية الظاهراتية إلى الوقوف على النصّ الفقهي، ناهيك عن النصّ التأسيسي، مما جعلهم في صدام كامل مع متغيّرات الأزمان. ولم يُراعِ الفكر الأصولي ظروف التنزيل، ويقتطع غالباً النصّ من سياقه، ويحوِّله إلى قِيَم مطلقة، رغم وجود ما يتداخل معه من ذات المستوى، إلى جانب اعتبارهم عصر الصحابة والتابعين عصراً معيارياً.

3ـ الموقف المزدوج من التأويل

فمن جهةٍ يرفضون التأويل، حتّى وقع أسلافهم بالتجسيم؛ ومن جهةٍ أخرى يلجؤون إليه حينما تعوزهم النصوص الصريحة المؤيِّدة لأفكارهم.

4ـ رفض تقليد المذاهب الفقهية

طبقاً لنظرية فقه السلف فإن الفكر التكفيري يرفض اتّباع المذاهب الفقهية، ويشنّ حملة على فقه الحنفية، ويرى أن الرجوع إلى الحديث المرويّ هو الحلّ؛ لاكتشاف الأحكام. وبذلك يهدِّد الفكر التكفيري تراث الأمّة الفقهي برمّته؛ إذ يمنح حقَّ الاجتهاد بلا مقدِّمات منهجية لحَمَلة «فقه الحديث»، من دون مكنة منهجية.

5ـ تبنّي الفقه الميداني (فقه الضرورة)

إذا احتاجت تجربتهم ومسيرتهم إلى حكمٍ فقهي غير موجود في تراث السلفية، أو موجود ما هو نقيضه، يلجؤون إلى فقهٍ خاصّ بهم، أسموه (الفقه الميداني)، أو (فقه الضرورة)([34]).

6ـ التماس الأدلّة على أفكارهم من النصوص القرآنية

أي إنهم لا يراعون معطيات النصّ من حيث هو نصٌّ إلهي، ويجعلونه البداية والمنطلق، إنما تتكوَّن لديهم فكرةٌ فيلتمسون الأدلة عليها من القرآن. إن الفكر التكفيري لا يستنطق النصّ الديني؛ ليتعرف على معطياته، بل يُصار إليه كبرهان على مدّعياتهم([35]).

7ـ عدم مراعاة الزمان والمكان والمنهج

فهم لا يراعون تبدُّل الأحكام بتبدُّل الأزمان، إلا في مجال (نجاح أغراضهم السياسية).

كما أنّهم مصرّون على تحريم الفلسفة والمنطق والبحث المنهجي، ويتمسّكون بالآليات البدائية.

8ـ اعتماد الخبر الواحد والضعيف والمرسل

فنظراً لقلّة باعهم ومهارتهم يستندون غالباً إلى خبر الواحد؛ لإثبات قضية عقائدية ـ وهو لا يصلح لذلك لدى أهل العلم ـ، بل يعتمدون المرسل والمنقطع والضعيف.

الهوامش

(*) رئيس قسم الدراسات العليا في كلِّية الفقه، ومدير مركز الدراسات، في جامعة الكوفة. من العراق.

([1]) الآن عند التكفيريين أمير قتالي مفتي (منصبان).

([2]) ابن الأثير: الكامل في التاريخ 2: 78

([3]) انظر عند المعاصرين استراتيجية البدء بالعدوّ والقريب ـ استراتيجية الزرقاوي وداعش.

([4]) ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة 1: 4.

([5]) محمد أبو زهرة، أحمد بن حنبل: حياته وعصره: 155.

([6]) السبكي: جمع الجوامع: 117.

([7]) عبد الواحد التميمي، اعتقاد الإمام اأحمد: 11.

([8]) آدم متز، الحضارة الإسلامية 1: 370؛ انظر: المقدسي: أحسن التقاسيم: 366.

([9]) الغزالي: إلجام العوام: 45.

([10]) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 6: 157.

([11]) إبراهيم البيجوري، تحفة المريد: 231.

([12]) أبو بكر الإسماعيلي، اعتقادات أئمة أهل الحديث: 63.

([13]) البوطي، السلفية مرحلة: 22.

([14]) أسنى المطالب: 1: 136 (متفق عليه)؛ والتلخيص الجبير 4: 204.

([15]) السخاوي: المقاصد الحسنة 1: 299.

([16]) ابن عبد الوهّاب، تطهير الاعتقاد: 35.

([17]) المصدر السابق: 32.

([18]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 11: 212؛ أحمد بن حنبل، العلل 2: 492.

([19]) يقول الزمخشري: الوسيلة كل ما يتوسل به، استعيرت لما يتوسل به إلى الله. ويرى الرازي أن الوسيلة بعد الإيمان وبعد معرفته؛ لكي يسقط احتمال عبادة الوسيلة.

([20]) الخياط، المعتمد 1: 297؛ ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة: 24.

([21]) للاستزادة انظر: المودودي، المصطلحات الأربعة: 36، ومفهوم الحاكمية.

([22]) سيد قطب، معالم في الطريق: 31.

([23]) المودودي، المصطلحات الأربعة: 81.

([24]) المائدة: 45 ـ 47.

([25]) روى الحديث ابن حِبّان لوحده بسندٍ غير موثَّق، وهو قول لمسلمة بن مخلد قال: سمعته| يقول: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوّهم…). ابن حِبّان 15: 240. وورد عند الألباني: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحقّ. السلسلة الصحيحة 1: 269. قال: هم أصحاب الحديث، وروى الحديث معاوية، والمغيرة بن شعبة، وثوبان، وعمران.

([26]) السوري، الفجوة الفكرية، مجلة الظاهرين على الحقّ، العدد 2: 5، سنة 1421.

([27]) انظر: ابن رشد، بداية المجتهد 1: 577.

([28]) الموسوعة الميسّرة في الأديان 1: 32.

يرى ابن باز: لا يجوز الخروج حتّى لو فسق أكبر الفسوق، فلو رأَوْا كفراً بواحاً، وليس لديهم القدرة، ليس يجوز لهم الخروج. انظر: فتاوى الإسلام 1: 672.

([29]) النووي، شرح مسلم 12: 229.

([30]) ابن حجر، فتح الباري 13: 7.

([31]) السيوطي، تنوير الحوالك 1: 374.

([32]) انظر: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي 1: 253؛ سيد قطب، معالم في الطريق: 67؛ عبد السلام فرج، الفريضة الغائبة.

([33]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 11: 212؛ انظر: أحمد بن حنبل، العلل 2: 492.

([34]) انظر: كتاب عبد السلام فرج.

([35]) كنموذجٍ على ذلك انظر: سيد قطب، تفسير في ظلال القرآن.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً