أحدث المقالات

دراسة في نماذج من السيرة المعنوية والنفسية لرسول الله‘

 

د. حسين خنيفر(*)

 

مقدمة ــــــ

التحليل النفسي للمعنويات والتبعية المذهبية([1])، والذي يذكر أحياناً بعنوان التحليل النفسي للمعنويات والدين، هو من النظرة التاريخية معاصر للأديان، وله تاريخ ولادة([2]). كما أنه تابع لقاعدة النمو والتكامل([3]) على مر التاريخ، بمعنى أن الكثير من أسسه وقواعده الرئيسية أخذت شكلها وإطارها مع تكامل الأديان([4]). ولهذا فإن البحث والتحقيق حول الجانب النفسي للمعنويات ـ إذا أخذنا تاريخ علم النفس بنظر الاعتبار ـ ليس من أبحاث علم النفس بمعناه الجديد. وتوجد في هذا المجال ثروات علمية ضخمة وقيّمة تدور حول موضوع الإنسان، انصبّت ضمن قوالب مختلفة، وفي كتب تتناول المواضيع التالية: الفلسفة، الأخلاق، سيرة الأنبياء والصالحين وأصحاب الديانات غير السماوية، بل والمبشرين. والاطلاع على هذه الثروة بحاجة إلى الفحص والتنقيب في أعماق مضامين الكتب القديمة والحديثة([5]). وعلى سبيل المثال: فقد نشرت أخيراً بعض البحوث والدراسات حول تأثير العقائد الدينية على السلامة النفسية، والنتائج التي توصّل إليها الباحثون في هذا المجال تدلّ على دورها الإيجابي في سلامة النفس والروح، وانخفاض العلائم المرضية.

ومن جانب آخر فإن الرؤية الإسلامية للعالم تنظر للإنسان باعتباره المخلوق الذي وصفه القرآن بأنه أشرف المخلوقات، وأكملها، وأجملها، وأكثرها تعقيداً([6])، والمخلوق الذي يتمتّع بقابلية تحمُّل الخلافة الإلهية في الأرض([7])، وأنه يتمتّع عند ولادته بكمالات بالقوة([8])، يتمكّن من إخراجها من حيّز القوّة إلى حيّز الفعلية. وهناك أبعاد مشتركة بين الإنسان والحيوان تتمثّل في قوّتهما الإدراكية([9])، ووجود الشهوة فيهما، والتي هي سبب بقائهما. كما أنّ هناك أبعاداً تميّز الإنسان عن الحيوان، تتمثّل في نوع إرداكه وكشفه للحقائق([10])، ونظرته الشاملة للعالم، وتندرج فيها مقولة المعنويات([11]). وحسب تعبير الحكيم الإلهي سنت توماس آكيناس([12]): «الإنسان منسوب لفصيلة الحيوانات، ومجاور للملائكة»([13]).

وتعدّ التربية والجانب النفسي للمعنويات من العوامل المهمّة والمؤثّرة على حياة الإنسان. وهذا ما كان مثار الخلاف منذ القديم، وفي فترة ظهور الأديان، وبالأخصّ في زماننا الحاضر، الذي ابتلي الناس فيه بمجموعة أمور تتمثّل في القوة والقدرة([14])، والسرعة([15])، والفرص([16])، والمعلومات([17])، والاتصالات([18])، والعالم الإلكتروني، حيث صار الخلاف فيه بشكل أوضح([19]). وقد أثير فيها النقاش والجدل إلى حدّ واسع،وأمعن النظر فيها الكثير من المفكرين.

وذهب بعض متأخِّري أصحاب النظر في هذا المجال إلى أن جزءاً كبيراً من أسباب سيطرة الإنسان على تصرّفاته راجع إلى عقائده، حيث يتمّ طرح ذلك في كيفية سيطرة الإنسان([20]) على محيطه وأطرافه([21]). وفي هذا المجال تطرح الحاجة باعتبارها أهمّ عامل لتعامل الإنسان في حياته، بحيث تعد جميع الحاجات الحيوية والنفسية إما وراثية، وإما متأثِّرة بالجانب الفطري والغريزي، لكن بفارق أن الحاجات الحيوية موروثة بالفعل، والحاجات النفسية موروثة بالقوة، وتتأثر بالأجواء المحيطة بالإنسان.

والنقطة الجديرة بالاهتمام هي أن العواطف تشكّل جزءاً هاماً في وجودنا وحياتنا. وتأثير العواطف ـ سلباً أو إيجاباً ـ على كمال الإنسان من الناحية المعنوية والأخلاقية مما لا يمكن إنكاره، بل إنّ أهميتها بلغت حداً بحيث قالت بعض المذاهب الباطنية والأخلاقية أن العامل الرئيسي والوحيد في رسم الجانب المعنوي للنفس، وتعيين تصرفات الفرد، راجعٌ إليها، أو أنهم كالقائلين بأن أساس الأخلاق، والمعيار في التقييم، راجعٌ إلى العواطف والمشاعر الفردية([22])([23]).

وقد حاولنا في هذه المقالة دراسة الأبعاد المذكورة، مع جعل محور البحث دائراً مدار المعنويات من منظار علم النفس. وتناولنا بالبحث بعض النماذج من حياة الرسول الكريم‘، وسيرته العملية والنظرية.

 

بيان موضوع البحث ــــــ

إذا تمكّنا في تحليلنا النفسي للمعنويات من إيجاد ترابط بين الأمور الأخلاقية والخصائص الروحية والنفسية والجسمية للشخص من جانب، وبين معطياتها، أعني دورها في الكمال والسعادة على مستوى الفرد والمجتمع من جانب آخر، فعندئذ يمكن التعريف بالإنسان في هذا المجال. ففي السبعينات قام كل من: شارف([24])، وريمر، وواسرمن، وجنينكز([25])، بالبحث حول الترابط بين النمو المعنوي والتكامل الأخلاقي وبين المحيط الذي يعيشه الفرد، وانتهوا إلى أن كل محيط يهيئ أرضية معينة للنمو الأخلاقي([26]) والمعنوي، ويكون التكامل المعنوي والأخلاقي في المحيط المتفتّح والنامي أيسر منه في غيره([27]).

وقد كان لهذا البحث وضوح أكثر في زمان ظهور الأديان الإلهية، بل إنّ المعاجز التي أبرزتها الأديان تتناسب مع متطلّبات ذلك العصر والطاقات البارزة في المجتمع، والتركيبة الروحية والنفسية للأفراد في ذلك العصر([28]). والاهتمام بهذا الجانب في مثل هذه الأبحاث أمرٌ ضروري.

ومن جانب آخر فإنّ التحليل النفسي لمثل هذه الأبحاث له جملة من المداخل، وقد أثارت اهتمام الباحثين والعلماء في زماننا الحاضر أيضاً، فهم مرتبطون ومنتسبون للدين من جانب، ومشدودون للأبحاث المذكورة في علم النفس من جانب آخر، فكان حصيلة ذلك جملة من الكتابات، أخذت مسارها في حيِّز الأفكار أخيراً، وسنشير إليها في ثنايا هذه المقالة.

ومن جانب آخر إذا ألقينا نظرة تاريخية ـ برؤية إسلامية ـ فإن تأسيس الدولة الإسلامية باعتبارها نظاماً متعدّد الحيثيات تعكس قدرة النبي‘ من جهة، ومن جهة أخرى هي الأساس لتدوين القوانين المدنية والمعنوية؛ حيث إن النبي الأعظم‘ عرض رسالته باعتبارها رسالة أخلاقية، ولإتمام مكارم الأخلاق([29]). وبهذا تدخل في الأبحاث المعنوية والتربوية والنفسية، وبهذا تكون عاملاً مهماً في إيجاده الحضارة الإسلامية، وأساساً للقيم المعنوية.

كما أن تأسيس النبي‘ لمراكز ذات أهداف متعددة؛ اجتماعية([30])؛ وثقافية([31])؛ وسياسية؛ ودينية، في إطار سلسلة التغييرات([32])، والتعليم غير المباشر للقيم الدينية، كان له دورٌ فعّالٌ للغاية.

وتعكس الأبحاث التمهيدية للتحليل النفسي لأسلوب النبي‘ في إدارته الدينية والمعنوية وجود سبل للسيطرة، وأساليب نفسية، في سيرته العملية بين أبناء المدينة المنوّرة. وقد أمضى الكثير من الخبراء هذا الأسلوب الحديث، ووسموه بالصحة، حتى عبّروا عن النبي‘ بأنه إنسان معنوي، خبير بعلم النفس، وأنه مصلح اجتماعي([33]). وفي اعتقاده كان للدين الإسلامي هدف أساسي يقوم على أساس تحقيق العدالة والمساواة الاقتصادية، وبثّ الاطمئنان والهدوء النفسي بين أتباعه. وفي بحث آخر، ومن خلال بيان الأبعاد النفسية للدين الإسلامي، والتأكيد على أنّ هذا الدين له نظرية سلوكية وأخلاقية، وأن الأمور المعنوية في هذا الدين أدقّ منها في الأديان الأخرى؛ حيث إنها في الأديان السابقة مجرد قوانين أخلاقية عامّة وكلية، بينما نجدها في هذا الدين ملحوظة بشكل أدقّ، وتتعرّض للتفاصيل بشكل أكثر، وهذا ما يشير إلى أصالة هذا الدين ونبيّه المكرم‘([34]).

وهذه الأبحاث، التي انصبت في الغالب على الجانب المعنوي من الدين وحياة النبي الأعظم‘، صارت أرضيّة خصبة لبحث علماء النفس، الذين لهم ميول معنوية. ولهذا خاضت هذه المجموعة غور البحث خلال قرن ونصف، إلى حدّ أمضت الترابط الموجود بين المذهب والمعنويات من جانب وبين عيش الإنسان بسلامة وسرور من جانب آخر، ومن القائلين بذلك: كارتنر([35]) وأعوانه، هانك([36])، ميلر وأولسلون([37])، ورب([38])، ماهوني([39])، لوج([40])، هوجز([41])، كامستاك وبارتريج([42]).

وتشير بعض الأبحاث إلى الدور الإيجابي للعقائد المذهبية في التأثير على سلامة الجسم والروح. ومن جملة القائلين بذلك: سوري([43])، هنريكسون([44])، لونكويست([45])([46]).

ومن هنا تطرح تساؤلات عديدة، منها: أن علم النفس من العلوم التجربية، فما هي العلاقة بينه وبين الدين؟ وهل للدين تأثير على علم النفس؟ وهل لعلم النفس فائدة في المجالات الدينية؟ وبصورة عامة: كيف يتعامل علم النفس مع الدين؟ وما هي مجالات تعاملهما معاً؟ هذه هي الأسئلة الأساسية التي نسعى للإجابة عنها في هذا المقال.

تأريخ البحث ــــــ

أشرنا في المقدمة، وعند بيان موضوع البحث إلى أن مقولة التحليل النفسي للمعنويات لها جذور تمتدّ إلى ما قبل الميلاد، وأنها طرحت في نظريات المصلحين([47])، بل طرحت هذه الفكرة في بعض الأديان غير السماوية أيضاً، مثل: البوذية، التي طرحت طرق الشريف الثمانية. وعلى سبيل المثال: فإنه يذكر أموراً خمسة باعتبارها محرمات،تتمثل في: القتل، والسرقة، والكذب، والعلاقات الجنسية غير المشروعة، والسكر، حيث طرحت هذه الأمور وفقاً للنظرية النفسية التي طرحها نيروانا، والتي تتمثل في الهدوء والاطمئنان النفسي. وكذا فينايا([48])، الذي أخذ بنظر الاعتبار حياة الرهبان. وكذا المذهب التائوي([49])، فإنه يتضمن تعاليماً تتكئ على السلامة النفسية، وعدم التدخل في نظام الطبيعة([50]). كما أنّ مذهب الكنفوسيوس يستعرض مباني شو ـ جي([51])، ولي([52])، والتي تتمثل في قواعد السلوك المناسب للحياة الدينية والاجتماعية والعائلية([53]).

يستعرض مذهب الهندوس منوسميتا([54]) أموراً يرجع تاريخها إلى القرن الثاني والأول قبل الميلاد، وتعتمد على الودايين أو الديين، التي دونت 2800 سنة قبل الميلاد، والتي تستعرض نظاماً يوائم الأهداف الإلهية والبشرية، وهو الأساس الذي يعتمده الهندوس إلى اليوم في سلوكهم الاجتماعي والديني والنفسي([55]).

ولِقِدَم هذه التعاليم والأنظمة أهمية بالغة في التحليل النفسي؛ إذ لم تكن خلال هذه القرون المتطاولة أساساً للشرائع الدينية فحسب، وإنما هي الأساس لتدوين القوانين المدنية، ولبروز الثقافات المذكورة.

كما أنه طرحت في الأديان السماوية، والسنن العرفانية المسيحية واليهودية ـ غير المحرّفتين ـ، فكرة العودة للمبدأ، وتبيّن أن روح الإنسان، مضافاً إلى حمدها لله سبحانه وتعالى، ستتّحد مع الذات الإلهية المقدسة.

وفي الفترة الأخيرة طرح عدد من المفكرين المسيحيين فكرة تنبعث من تحليل نفسي للدين، وهي أن الجنة أمر نفسي يبعث على العيش بسلام وصلح مع الله سبحانه وتعالى، ومع غيرها أيضاً، وأن نار جهنم تعني الابتعاد عن الله سبحانه، وبالتالي العجز عن تحقيق الصلح والاطمئنان والهدوء النفسي([56]).

وفي الدين الإسلامي يطرح جميع ذلك تحت عنوان السلوك، وهو آخر نظام ديني، ويستعرض أفضل نظام للحياة المعنوية في عالم الدنيا، وبوضوح تام، ويقوم بنيانه على أساس القرآن الكريم، وأقوال وأفعال النبي الأعظم‘([57]).

وفي بعض الأديان الأرضية، والتي جاء بها بعض المصلحين، لوحظت المعنويات برؤى مختلفة. وعلى سبيل المثال: في نظر البوذيين ليس الهدف من الحياة المعنوية للإنسان هو نيل الجنة، بل الهدف منها هو بلوغ النيرفانية([58])، التي هي أشهر مذهب في سريلانكا وجنوب شرق آسيا، وترجع أصولها إلى المدرسة البوذيسية. ويرى هذا المذهب أنّ الخلاص من الحياة يحصل بالتغلّب على مغريات الدنيا المادّية، في الوقت الذي يرى أصحاب المدرسة المهايانية([59])، الرائجة في منطقة التبت من الصين واليابان، أن النيرفانية ثمرة من ثمرات الحياة، وتحصل للإنسان بإخراج طاقاته اللامحدودة([60]) إلى حدّ الفعلية.

ويرى بعض الباحثين في الجوانب النفسية للمذاهب، بما في ذلك الباحثين في الجانب النفسي للمسيحية([61])، وبعض السنن المسيحية ـ الكنيسة الكاثوليكية في روما، والكنيسة الأرثودكسية الشرقية ـ أن الاعتقاد بكون الآخرة لسدّ ثغرة الظلم الدنيوي، وذلك بإعطاء الأتقياء حقهم والمسيئين جزاءهم، له أثرٌ نفسيٌّ بالغٌ وواضحٌ في المؤمنين، الذين يرجون السعادة، ويتأملون عواقب الأمور. كما أنّ هذا الاعتقاد ـ من الناحية النفسية الدينية ـ يحدّ من خوف الإنسان من الموت([62])، سواء بالنسبة إليه أم بالنسبة لأحبّائه، ويبشّره بعدم المشقّة والعناء والآلام([63]) بعد هذه المرحلة، وأنّ المؤمن فيها أقرب إلى الله باللحاظ المعنوي، بل قد يسوده الشعور بالرفعة والفضل على غير المؤمنين.

ويوجد تشابه كبير بين هذه الرؤية والرؤية الإسلام، بل الملفت للنظر إيمان أغلب الأديان السماوية بها، بل والمصلحين الذين لهم مدارس معنوية. وهذا هو الجواب عن السؤال المطروح: ما العلاقة بين الاعتقاد والتصديق الباطني والنفسي وبين الدين؟

وقد طرح هذا البحث فيما بعد تحت عنوان القيم والتحليل النفسي للمعنويات، حتى أن دونالدباتلر([64]) يرى أن العقائد ـ والتي تمثّل العوامل النفسية ـ لها تأثير بالغ في المجتمع، وهي أكثر تأثيراً من أي عامل تربوي آخر، وتتسبَّب عن إيجاد أفعال ثابتة ودائمة([65])، ولها أعظم سهم في بيان القيم، ولا يوجد عامل كهذا يسعى من أجل إيجاد التصرفات الأخلاقية([66])، وإيجاد الهدوء الروحي والنفسي([67]). وعلى حدّ تعبير نلر فإنّ بيان القيم يفوح من أجزاء النظام المعوي([68])([69]).

ويرى وارنوك أن مشاعر([70]) الإنسان وروحه هي السبب في تعدّد الميول المعنوية، ووجود الأحكام الاعتبارية (القيم)([71]). ووفقاً للأبحاث التي قام بها مور فإن متطلبات الإنسان ذات الأبعاد المختلفة، من المتطلبات الروحية، والنفسية، والجسمية، والمحيطية، تجرّ الإنسان قليلاً قليلاً نحو الحياة المعنوية والأخلاقية، كما جرّته نحو الحياة الاجتماعية([72]).

كما يرى أحد الباحثين، وهو «برجين»، أنّ الميول الدينية ضمن إطار علم النفس ستتزايد بعد القرن العشرين، وحتى الثلاثين، ويرى أن دمج الأهداف الدينية بعلم النفس سيحدث تغيراً كبيراً، ونهضة تفتح أمامنا آفاقاً جديدة، في ما يتعلّق بتفكيرنا تجاه أفعال الإنسان وتصرفاته([73]).

ومن الكتب المتأخرة والمشهورة، التي تعرضت للتحليل النفسي للمعنويات، كتاب «التحليل النفسي للدين»([74]) لـ «ولف»([75])، و«علم النفس والدين» لـ «آرجيل»([76])، و«التحليل النفسي للعقائد الدينية»([77]) لـ «براون»([78]). وقد تعرّضت لأبحاث نفسيّة نظير: ظهور الدين، وأهميّته في الحياة البشرية، ومدى تأثيراته.

 

التحليل النفسي للمعنويات في الأديان التوحيدية ــــــ

ترى الأديان التوحيدية ـ كالمسيحية، والإسلام، واليهودية، وبعض الأديان القديمة الأخرى، أو بعض فرق هذه الأديان ـ أن البركات الحاصلة في الحياة المعنوية هي من ألطاف الله سبحانه وتعالى على العباد، واستعداد الفرد نفسه([79])، وأنها تذكر تحت عنوان سلامة النفس([80])، وطهارة الفطرة. فأساسها في الحقيقة هو الإفاضات الإلهية، ويتعقّبه الخضوع للإرادة الإلهية([81]). وعلى سبيل المثال: إنّ الإسلام يؤكّد أن الله سبحانه هو الرحمن المطلق، وأنّه يحبّ الجميع([82])، وأنّه يرحّب بأهل الجنة؛ وهم الذين ينظرون إليه دوماً، حتى ملأوا كيانهم وأرواحهم منه([83]). والقوانين التي تحكم سلوك الإنسان([84]) ونفسيته، والتي هي محلّ اهتمام السنن الدينية، وتنتهي إلى تجارب الحياة والممات، هي من جانب تمثّل مجموعة من المحرمات الدينية، ومن جانب آخر لها ارتباط وثيق للغاية بالنفس الإنسانية القابلة للتغيير([85]).

ومن ناحية أخرى فإنّ مناشئ الكثير من أوجه الشبه([86]) والاختلافات([87]) بين التعاليم والأنظمة الدينية في العصور المختلفة تكمن في مسائل نفسية، بلحاظ الظروف المختلفة بحسب الزمان والمكان([88]) والضرورات الاجتماعية([89]). ونرى اليوم أنّ الترابط الوثيق بين الأديان والأدبان والأرواح، والذي هو نوع من التكامل المعنوي والدنيوي، قد صار مصبّ البحث، حتى أننا نجد بوضوح الاستعانة بالدين في القوانين؛ باعتباره وسيلة للسيطرة على الأفكار، والتصوّرات النفسية، والسلوكيات الاجتماعية([90]).

واليوم تعالج الأديان التوحيدية أربعة محاور رئيسة للترابط بين الدين وعلم النفس وهي: التحليل النفسي للدين، والتحليل النفسي الديني، والخدمات التي يقدِّمها الدين لعلم النفس، ومجالات تأثير علم النفس في الأنظمة الدينية.

ومرادنا بالدين([91]) هنا هو مفهومه الإلهي، وهو مجموع النصوص الواردة في المصادر المقدسة، والتي نؤمن بها تعبّداً. وعلى سبيل المثال: إنّ القرآن الكريم والروايات المعتبرة هي من منظار الدين الإسلامي مصادر مقدّسة، فهذه هي أصل الدين، وتبرز في الأفراد على صورة «الإنسان المؤمن»، ولها في المجتمع صور مختلفة. وعلى هذا الأساس لا نريد بالدين مفهومه غير الإلهي، والذي جاء في بعض الكتب التي تناولت التحليل النفسي للدين باعتبارها مصداقاً للدين، نظير: السحر، والشعبذة، وإنما نعني بالدين هنا الأديان الإلهية السماوية. علماً أننا سنشير أثناء البحث إلى المدارس غير السماوية([92]).

كما أنّ المراد من التحليل النفسي هو الدراسة العلمية للسلوكيات وآثارها النفسية([93])، والتي ظهرت نتائجها في مدارس علم النفس. ونجد اليوم في عالم علم النفس أربعة محاور للبحث، وهي: 1ـ محور السلوك([94])؛ 2ـ محور النفس وتحليلها([95])؛ 3ـ محورية الإنسان([96])؛ 4ـ المذاهب ومعرفتها([97]). ولهذا فالمراد في مقام بيان الترابط بين الدين وعلم النفس هو الدين بمعناه الخاص، وهو النصوص الواردة في الكتب المقدّسة، وتتمثّل في الدين الإسلامي بالقرآن الكريم والروايات المعتبرة؛ والمراد من التحليل النفسي هو التحليل النفسي السائد والمتعارف، والذي يذعن له علماء النفس.

 

الدين من منظار التحليل النفسي للدين ــــــ

الهدف الرئيس للدين ـ من منظار التحليل النفسي للدين ـ هو التديّن. ويعبّر عنه في كلمات المتخصصين بـ (religion). لكنّ موضوع بحثهم في الغالب ناظر إلى التديّن([98]). وقد أبدى آركيل تعريفاً مناسباً للدين، وهو أنه «يتمثّل في الاعتقاد بالله أو بالشخص الذي هو فوق مستوى البشر، والشعائر الدينية (العبادية)، أو الشعائر الأخرى التي تستمد من هذه القوة»([99]). وغالب الأبحاث في التحليل النفسي للدين تنصبّ على تديّن الأشخاص، ولا ينقلون القصص إلا في موطن خاصة.

ومن المواضيع ذات العلاقة بالدين وعلم النفس في إطار التحليل النفسي للدين هو حصول الصور ـ وهو في الحقيقة من فروع علم النفس، فيبحث الدين في علم النفس باعتباره موضوعاً خاصاً ـ، بمعنى أن التدين هو الحالات النفسية([100]) والظواهر أو العلامات التي تطرأ على الإنسان على أثر تمسّكه بالدين. فهذه المواضيع تمثّل محاور الأبحاث في التحليل النفسي الديني. ولهذا يبدي عدد من المتخصّصين في الأبحاث الدينية إصراراً على البحث في مواضيع ذات عمق، كالدين، وإمكان إبداء تعريف له([101]).

وبشكل عام فإنّ البحث عن علم النفس الإسلامي، وعلم النفس الديني (بشكل أعم)، يعدّ من المصاديق البارزة والمهمّة للبحث عن «علم الدين».

 

الخدمات التي يقدمها الدين لعلم النفس ــــــ

يرى بعض الباحثين أنّ الدين يقدّم خدمات كبيرة لعلم النفس في مجال السلوك. وكذا في المجالات التالية: الموت، الفرح، الصحة والرفاهية، تحمل الآلام الدنيوية، أن الله شاهد وحاضر في حياة الأفراد، وأمثال ذلك([102]). كما يرى البعض أنّ الدين يعين علم النفس في أربعة محاور، وهي: 1ـ الصحّة النفسيّة والروحية([103])؛ 2ـ العلاج النفسي والروحي([104])؛ 3ـ التحليل النفسي للكمال([105])؛ 4ـ التحليل النفسي للأخلاق([106]).

 

الصحة النفسية والروحية ــــــ

لم تأخذ بعض المجالات وبعض الأساليب في علم النفس حظّها من الاهتمام المطلوب. وأحد الأمور التي تملأ هذا الفراغ هو التحليل النفسي للدين؛ حيث إنّ بعض هذه الأبعاد المغفول عنها تتعلّق بوجود الإنسان، وبعضها راجع إلى أساليب البحث وطرقه. وبحث الصحة النفسية ـ الذي تمّ التأكيد عليه في التحليل النفسي للدين، كما نجد في سيرة النبي الأعظم‘ أنه محل اهتمامه ـ هو أحد هذه الأبحاث. وفي الآونة الأخيرة، وفي الاجتماع الذي عقد في اليونيسكو سنة 2001م، أعلن بصراحة أن منظمة اليونيسكو اهتمّت بالصحّة النفسية في الأبعاد البدنية والنفسية والاجتماعية، وأغفلت الجانب المعنوي، الذي هو العامل المؤثر في الصحة النفسية([107]).

ويرى علماء النفس في يومنا هذا أنّ نموذج السلامة لا يتمثّل في سلامة البدن فحسب، وإنما الأهم من ذلك هو السلامة الروحية والنفسية. ولهذا فإنّ السلامة الروحية([108]) ـ حسب تعريف منظّمة الصحّة العالمية ـ هي: النماذج والأساليب واتخاذ الاجراءات المناسبة التي تؤمّن للناس العيش براحة وطمأنينة، ومن دون إحساس بالقلق والاضطراب. وبعبارة أخرى: هي إيجاد الوضع المناسب للفرد من الناحيتين النفسية والاجتماعية، بحيث يستطيع من خلاله إقامة العلاقات المناسبة والمتوازنة مع الآخرين([109]).

 

العلاج النفسي والروحي ـــــ

تعرض الدين منذ قديم الأيام لمسألة المنهكين روحياً([110])، وواجه المصابين روحياً بتهمة مسّ الشيطان لهم، ولزوم طرده عنهم، وأكّد لزوم علاج أمثال هؤلاء المصابين. وقد أبدى الدين الحنيف خدمات كبرى لعلماء النفس في هذا المجال، وهي محطّ اهتمام الباحثين في هذا العصر. ففي الثمانينات، وأثناء تتبُّع بعض الباحثين لنقاط ضعف شخصية الإنسان وروحه، توصّلوا إلى أنّ نقاط الضعف هذه إذا ما انجرّت إلى حدوث مشكلة للإنسان المتديّن فإنها سرعان ما تزول، وهي في الوقت ذاته سهلة العلاج، بخلاف غير المتديّن([111]). وقد اهتمّ (ويليام وست)([112])، في كتابه «العلاج الروحي بالمعنويات» ببيان دور وتأثير الدين والأمور المعنوية في علاج المصابين بالأمراض النفسية.

ويؤكّد يونج أنه يوجد لجميع مَنْ راجعه من المرضى ـ الذين أصيبوا في النصف الثاني من أعمارهم (أي في حدود الثلاثين من العمر فما بعد) ـ علاج مناسب، وأسلوب ديني مؤثّر، وأنه يمكن القول بكلّ ثقة: إنّ ما يعانيه هؤلاء من الأمراض النفسية إنما هو بسبب فقدانهم لما تمليه الأديان الحيّة على أتباعها([113]).

ومن الأساليب والمناهج المتّبعة لعلاج الأمراض النفسية والروحية في المراكز الصحية الخاصة بعلاج الأمراض النفسية ما يلي: المراقبة، التوبة، الإعداد النفسي، الاستمرار على بعض الأذكار، الصلاة، والاستماع لآيات القرآن الكريم مع فهم معانيها.

التحليل النفسي للكمال ــــــ

ومن الكتب المهمّة في هذا المجال هو كتاب «التحليل النفسي للكمال»، لـ«شولتز»، والذي يطرح خلاله أحد المحاور الأساسية والمهمّة لنظر الناس إلى الموازين، فيطرح هذا السؤال: مَنْ هو الإنسان الكامل أو السالم من المنظار الديني؟ وقد أجيب عن هذا السؤال في طيف واسع من التعاريف. والملفت للنظر أنّ النموذج الذي يطرحه الدين بعنوانه إنساناً كاملاً هو أسمى من المعايير المادّية المذكورة خلال هذه التعاريف الكثيرة، حتى ورد في بيان كمال الإمام علي×: ما جئنا لنسمو في هذه الدنيا، وإنما جئنا لنسمو على هذه الدنيا([114]). ويرى بعض أهل النظر أن إدراك الأبدية، والتحرّر من قيد المكان، ونيل المعرفة الحقيقية، والإحساس بالسرور، هو السبب للهدوء([115])، والتفاؤل([116])، والفرح الدائم، بل إنه سيقترن بالإبداع أيضاً([117]).

 

الأخلاق وعلم النفس ــــــ

تمّ التوصّل في هذا العصر إلى أنّ الركن الرابع ـ الذي به تتمّ الأركان الثلاثة الأخرى، وهي: التحقيق، الاستشارة، العلاج ـ هو القيم الأخلاقية. ويعدّ بحث الأخلاق من المباحث المهمّة للغاية، بحيث إن أبعاد سلوك الإنسان وردود فعله، والتعابير التي يستخدمها، وحكمه تجاه القضايا المختلفة، ترجع بنحو من الأنحاء إلى الأخلاق. ومن جانب آخر فإن الاعتبارات الأخلاقية تنبعث من حبّ الشخص لنفسه، وتتبلور على هذا الأساس. وهذه الاعتباريات، وإنْ لم تكن فطرية، إلا أنها بسبب هداية الفطرة والطبيعة لها، وتبلورها على أساسهما، تصير طبيعة ثانوية، بمعنى أنّ الإنسان؛ بسبب المتقضيات الفردية، وعلى أساس أصل الاستخدام، يتّخذ طابعاً اجتماعياً. والضرورة تدعوه للحياة الأخلاقية أيضاً. ولهذا فإنّ الإنسان على ضوء أسس علم النفس ينجذب باتجاه الحياة الأخلاقية شيئاً فشيئاً، كما انجذب قبل ذلك إلى الحياة الاجتماعية([118]).

 

السيرة النبوية في مجال علم النفس، نماذج وعيّنات ــــــ

ومن الأبحاث الأخرى والتكميلية لبحث التحليل النفسي للمعنويات دراسة نماذج من السيرة النبوية في ما يتعلق بالتحليل النفسي. وقد تقدمت الإشارة في بيان موضوع البحث إلى أن خاتمية وتمامية رسالة نبينا محمد‘ ـ والذي هو أحد الثلاثة الموعود بهم من قبل الله سبحانه وتعالى، وعلى حد تعبير بعض الأدباء: «الموعود المكمل»، الذي جاء لإتمام الرسالات السابقة ـ هي بالأخلاق الفردية والاجتماعية للإنسان، والتي تنتهي به إلى الهدوء، والاستقرار، والكمال، وبلوغ الغاية القصوى للإنسانية، وتحطيم كلّ القيود المادية التي تقيده في عالم الدنيا الفانية.

وإن سيرة النبي الأعظم‘ بتمامها على أساس المعايير المذكورة في علم النفس. ولهذا فإن سيرة هذا النبي العظيم هي أفضل قدوة لنيل الحياة الخالدة، ذلك أن النبي‘ هو ميزان عمل لجميع أبناء الدنيا. وجميع أفعال النبي وسلوكياته النفسية تربوية، وهي بمثابة العين الصافية التي تُستلهم منها جميع الأفعال والسلوكيات والوظائف. ويمكن تطبيق الأفعال المختلفة في جميع المجالات على سيرته المباركة. والهدف الرئيس من بعثة هذا الموعود المكمّل هو إبراز النموذج النفسي الكامل من جميع الجهات لأبناء البشرية؛ لتنال السعادة الحقيقية. حتى أن الذين كتبوا في بيان سيرة النبي‘ على مدى القرون السالفة، وحتى القرن الحادي والعشرين، صرّحوا بكمال هذه القدوة السلوكية والأخلاقية والمعنوية التي عرضها النبي‘ خلال تبليغه للدين الإسلامي الحنيف، وأكدوا على مدى تأثيرها على الناس([119]). ومن النماذج في سيرته التبليغية، والتي تركت آثاراً عميقة في المخاطبين، هي إكرام كلٍّ من الشخصين للآخر؛ فإنها عامل مهم في شد الأواصر الاجتماعية، وتوثيق العلاقات، ولهذا يؤكد قائلاً: «إذا التقيتم فتلاقوا بالسلام والتصافح»([120]). وهذا الأمر الأخلاقي والمعنوي يطرح هذا اليوم في علم النفس تحت عنوان الأمان النفسي للأفراد من أحدهم تجاه الآخرين. وقيل: إنه شبيه بالأصل «إهميسا»، الذي يعني الابتعاد عن العنف، والاتجاه إلى محبة الآخرين، وإبراز ذلك، والوارد في مذهب البوذا([121]).

وسنستعرض في ما يلي عشر نماذج من سيرة النبي النفسية:

 

1ـ تجنب العنف والغضب ــــــ

من سيرة النبي الأعظم‘، التي هي قدوة لنا، والتي لها جذور نفسية عميقة، وتبعث على الهدوء والاطمئنان، تحاشيه للعنف والغضب. ولهذا قال: «الغضب يفسد الإيمان، كما يفسد الخل العسل»([122]). فعند سيطرة الغضب على الإنسان تصدر منه بعض التصرفات والأفعال بشكل تلقائي، وتحمّله أضراراً جسيمة. ولهذا فإن النبي‘ يأمرنا في مجال آخر؛ وبهدف التخلص من عوارض الغضب الفتاكة، بأن نتحاشى ثلاثة أشياء: الكلام؛ واتخاذ التصميم؛ والإقدام على فعل معين([123]). وهذا هو الذي يشير إليه جان إستوتزل في كتابه «علم النفس الاجتماعي» بقوله: «الغضبان أعمى»([124]).

 

2ـ الاعتدال وعدم التطرّف ــــــ

وصف القرآن الكريم الأمة الإسلامية بالأمة الوسط، حيث يقول: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً﴾ (البقرة: 143). ولهذا كان النبي‘ يؤكد دوماً على حفظ الاعتدال، ويشير إلى أن التطرّف يؤدي إلى الندامة في كثير من الأحيان. ولذا قال: «الوسط: العدل»([125]). ومن الناحية العملية أيضاً كان النبي‘ يطرق الأسماع دوماً بلزوم رعاية الاعتدال، بما في ذلك الجانب الاقتصادي من الحياة، حيث يلزم رعاية الاعتدال فيه باعتبار أنه يشكل جانباً مهماً من الحياة المعنوية للإنسان، حتى أنه قال «خير الأمور أوسطها»([126]).

 

3ـ حسن العشرة ــــــ

مما اشتهر من سيرة نبينا الأعظم‘ الأخلاقية والنفسية حسن معاشرته للأقرباء وغيرهم. ولعل أحد أسرار انتشار الدين الإسلامي يرجع إلى هذه النقطة الأخلاقية والنفسية أيضاً. بل إنه يأمر ضمن أحد تعليماته بحسن المعاشرة في ما يخص الفقراء، حيث يقول: «عليكم بحب المساكين ومجالستهم»([127]).

 

4ـ الإنصاف ــــــ

من الأمور المهمة في التحليل النفسي للمعنويات هو رعاية الموازين السلوكية، والأحكام التي يصدرها الفرد تجاه القضايا المختلفة، فإنه يوجب تزايد الاحترام تجاهه، وتسمو منزلته. ومن الأخلاق البارزة في حياة النبي’، والتي تركت آثاراً نفسية عميقة في أخلاق المجتمع، الذي كانت تسوده الطبقية، هي إنصافه في أقواله وأفعاله، فكان يقول: عليكم بالعدل في كل مكان، ولا يضيعنّ حق أحد عندكم في قول أو فعل. وهذا ما يوجب زيادة محبّة الشخص المنصف والعادل. وقد أبدى النبي الأعظم’ والأئمة^ اهتماماً بالغاً بهذا الجانب، ويرون أنه يعود بالمنفعة لعامة الناس، فيقول النبي’ في هذا المجال: «طوبى لمن طالب خلقه، وطهرت سجيته، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من كلامه، وأنصف الناس من نفسه»([128]).

 

5ـ الرفق والمداراة على المستويين الفردي والاجتماعي ــــــ

الرفق ومداراة الآخرين كالقوة المغناطيسية في جذب الآخرين. فالإنسان عبد للحبّ والرفق الصادقين، وأمّا الحب الكاذب فإنّه يعرفه بقلبه جيداً. ويعتقد علماء النفس أن أهم أسس تنظيم العلاقات المنشودة هو الرفق والتعامل الصحيح. وهذه النقطة هي الأخرى بارزة في سيرة نبينا’ المعنوية والعملية والنفسية. وقد كان لها دور أساسيّ وهامّ جداً. ولهذا فقد ورد في شأنه’: «كان دائم البشر، سهل الخلق، ليّن الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ»([129]).

كان النبي’ يتحاشى الشدّة في غير موضعها بشدّة، ولم يعتمد عنصر الشدة والعنف لنشر دعوته وأهدافه، فكان يقول: «إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض»([130]).

 

6ـ إشاعة الصلح وبثّ الاطمئنان ــــــ

تمّ التأكيد على الصلح والاطمئنان بشدة في المذهب الكنفوسيوسي. واعتبر الكمال الإنساني ملازماً لإحساس الإنسان بالطمأنينة([131]). وهذا ما وقع التأكيد عليه في الدين الإسلامي أيضاً، قولاً وفعلاً. ولهذا يقول النبي’ في هذا المجال: «من أكرم أخاه المؤمن بكلمة يلطفه بها، وفرج عنه كربته، لم يزَلْ في ظل الله الممدود عليه الرحمة ما كان في ذلك»([132]).

ومن جانب آخر فإن كلمة «الإسلام» مشتقة من السلام، بمعنى الصلح، أو من التسليم، وهو التسليم لله سبحانه وتعالى، وإطاعة أوامره. وإن اسم نبي الإسلام، الذي هو خاتم الأنبياء، مقرون دوماً بالسلام عليه من قبل الله سبحانه، فلا يذكر إلا مع الصلاة والسلام عليه. وهذا ما يشير إلى بُعْد المسألة النفسي([133]).

 

7ـ الأخلاق الحسنة والكلام الجميل ــــــ

يقوي حسن الخلق ـ وهو الصفة البارزة في النبي’ ـ الروابط، ويشدّ الأواصر، ويلطّف النفوس. والكلام النبوي يطفح باللطف، مع بعثه للسرور والأمل في النفوس. مضافاً إلى رصانته في التعبير، وأدبه في الإبراز. وكل ذلك كاشف عن وجود سيرة أخلاقية ونفسية تتعدى حدود الزمان. ويكتب فونتانا في هذا المجال قائلاً: إن محمداً ترك أسساً سلوكية، وسنناً أخلاقية، خاصّة، تسمو على جميع ما هو رائج في أوروبا([134]). ولهذا حاز وسام الفخر الإلهي الخالد، حيث خوطب بقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم: 4). فالكلام اللطيف، والسلوك السامي، والصرامة في الوقت المناسب، وعدم مزج الصرامة بالعنف، والكلام المؤنس المقرون بالأدب التام، والصبر، والتحمُّل للمصاعب، وبشاشة الوجه، كل ذلك من علامات ومظاهر «حسن الخلق». وهي جميعاً بارزة بوضوح في حياة النبي الأعظم‘. وقد بعث النبي لبثّ هذه القيم ونشرها وإشاعتها في المجتمع، ولهذا كان يقول: «إنّ الرجل يدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم»([135]).

 

8ـ التدبر في عواقب الأمور ــــــ

من أركان التحليل النفسي للمعنويات التدبر في عواقب الأمور. فالإنسان موجود له قابلية التفكير، والتفكير هو الطريق الموصل للمعرفة، ومن سيرة النبي القولية والفعلية، ومن المباني النفسي التي يعتمد عليها، أنه كان ينادي بالتفكر والتدبّر دوماً، ولهذا كان يقول: «إني أوصيك إذا أنتَ هممتَ بأمر فتدبَّرْ عاقبته؛ فإن يك رشداً فأمضه؛ وإن يكُ غياً فانتهِ عنه»([136]).

 

9ـ الكرامة وعزة النفس ــــــ

من التعاليم النبوية النفسية القيّمة، واللطيفة للغاية، والتي نجدها في سيرة النبي‘ قولاً وفعلاً، عزّة النفس. وهو الأمر الذي يعدّ اليوم من آثار علم النفس، وخصوصاً في نظرية مزلو. والعزة هنا بمعنى الرفعة والسمو للمراتب الإنسانية العالية.

إن بلوغ مرتبة العزّة النفسية في المنهج التربوي النبوي يكون من خلال عدم تحمّل الذلّ، والتقرّب إلى الله سبحانه وتعالى، فيقول في هذا المضمار: «كل عزٍّ ليس بالله فهو ذُلّ»، ويقول أيضاً: «اطلبوا الحوائج بعزّة الأنفس».

 

10ـ الاستقلال والرفعة ــــــ

من أسمى المراتب النفسية التي يبلغها الإنسان مرتبة الإحساس بالاستقلال؛ وذلك أنها من مراتب كمال الإنسان. فالمجتمع يتكون من عدد من الأفراد، الذين لهم حوائج مختلفة، فيقومون بسدّ هذه الحاجات من خلال تعاملهم الاجتماعي، إلا أنهم مع ذلك بحاجة إلى الاستقلال الفكري والعملي والروحي والنفسي في بعض المجالات، كي لا يصيروا عبيداً للآخرين. يقول النبي’ في هذا المجال: «ملعون معلون من ألقى كَلَّه على الناس». والشخص المستقلّ بحاجة إلى تجربة بعض القضايا، وبتجربته للقضايا، وتحمّل مصاعبها ومرارتها، يفيد الآخرين أيضاً. وهذا المبدأ (مبدأ الاستقلال) شامل في منظار النبي’ لجميع مجالات الحياة. فمن أبسطها المجال الاقتصادي، حيث يقول: «كُلُوا من كدّ أيديكم». ومن أعقدها المجال النفسي، من قبيل: اتخاذ التصميم المعين، والثبات على الرأي، والحكم على قضية بأمر معين، والنظرة الواقعية للأمور، والاستقلال في التفكير الروحي.

خلاصة واستنتاج ــــــ

لا ريب أن فتح باب المباحث المتعلقة بالتحليل النفسي للمعنويات بمقالةٍ أمرٌ صعبٌ، وخصوصاً إذا أردنا التعريج بالكلام على السيرة القولية والفعلية لرجل عظيم كرسول الله’، فإنه ـ كما اتضح مما ذكرناه ـ بحثٌ مهم، وله جذور تاريخية عميقة. وقد عبّر عنه في بعض الكتب بعنوان التحليل النفسي للدين. وقد تم لحاظ أبعاده وأركانه في الأديان السماوية، بل والأرضية، بحيث نجد في النصوص المقدسة (العهدين) وفي القرآن الكريم الكثير من الأبحاث المعنوية والدينية، ذات العلاقة بالنفس، وصبّ النفس في قالب معين، قد طرحت بقالب التشبيه، والقصص، والتعاليم الأخلاقية. بل نجد فيها الإشارة إلى سبل العلاج أيضاً. وكما تقدم في بيان موضوع البحث فإنها تترك أثراً كبيراً على سعادة الإنسان وكماله. وقد أذعن بذلك الباحثون والعلماء الغربيون والشرقيون. ومن أهم ذلك: نظريات فوك، وفونتانا، وميلر، وأولسون، وماهوني، وكارتنر، ويونج، وآدلر، وأمثالهم.

وقد تعرضنا في هذه المقالة إلى بحث خاص تحت عنوان «الدين من منظار التحليل النفسي للدين»؛ وذلك لبيان الهدف من الدين في هذا العلم. ثمّ ذكرنا الخدمات التي يقدمها الدين لعلم النفس. ومن الضروري أن نبيّن هنا أن الخدمات التي يقدّمها الدين لعلم النفس لا تختص بالأمور الأربعة المذكورة، وإنما هي أكثر من ذلك ـ وهو ما يمكن التعرض له في مقالات خاصة ـ من قبيل: التحليل النفسي للمعنويات والتعلّم، التحليل النفسي للمعنويات وعلاج الأمراض البدنية، التحليل النفسي للمعنويات والعمل، وأمثال ذلك. وقد أشرنا في هذه المقالة إلى بعض هذه الخدمات والآثار، وبصورة ضمنية أثناء دراسة الأبعاد النفسية للسيرة النبوية.

وفي الختام نشير إلى بعض السبل والاقتراحات في هذا المجال:

1ـ التحليل النفسي للمعنويات أو للدين موضوع واسع وعميق. ويمكن أن يعقد له مؤتمر خاص في كل عام أو عامين لدراسته من زاوية تخصُّصية.

2ـ يمكن طرح هذا الموضوع وتطبيقه على الأديان الأخرى أيضاً.

3ـ نجد فراغاً في مجال عقد ندوات بحث وتحليل هذا الموضوع من ناحية علم النفس. ونرى أنه يمكن عقد أمثال هذه الندوات، والاستعانة بالخبراء المسلمين والغربيين.

4ـ إن السيرة النبوية بحاجة إلى دراسات معمَّقة حول التحليل النفسي للمعنويات والدين، تدور حول أبحاث نظير: العائلة، الطفل، الأديان، العلم، الدنيا والآخرة، وأمثالها.

5ـ إن الأسس اللطيفة لعلم النفس وتحليل المعنويات، والتي يطفح منها الجمال والكمال، وخصوصاً في التعاليم الواردة عن قادة الدين ـ سواء في سيرتهم العملية أم في سيرتهم القولية، والمتمثلة بالأحاديث المأثورة عنهم ـ تفسح المجال أمام كتابة دائرة معارف في ما يتعلق بالتحليل النفسي للمعنويات.

الهوامش:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) أستاذ مساعد في جامعة طهران، متخصِّص في علم الإدارة.

([1]) Religion & Spirituality Psychology

([2]) Fontana David, psycholog, Religion, and Spirituality, p2.

([3]) Born

([4]) Made

([5]) البستاني، 1375: 9.

([6]) مسعود الراعي ومصطفى النجفي، بررسي مكانيسم هاي مقابله وارتباط آن با سلامت روان (دراسة تراكيب المواجهة ومدى ارتباطها بسلامة النفس): 115.

([7]) Gary & Other, Relationdship brtween Religion and history, P23.

([8]) محمود مهر محمدي، برنامه درسي در هزار سوم (المنهج الدرسي في الألف الثالث): 3.

([9]) البقرة: 30؛ ص: 26.

([10]) Self-Descover

([11]) القريشي، 1380: 35.

([12]) Sent thmoas Aquinas (1225-1274)

([13]) رابرت وليام لاندين، نظريه ها ونظامهاى روان شناسي ـ تاريخ ومكتبهاي روان شناسي (نظريات وأنظمة علم النفس ـ تاريخها ومدارسها): 35.

([14]) Power

([15]) Speed

([16]) Opportunity

([17]) Informations

([18]) Communications

([19]) بستمن، 1383: 92.

([20]) Enviroment Contorol

([21]) راتر، 1996: 176.

([22]) هودسون، 1970: 218.

([23]) Scharf

([24]) Raimer

([25]) Waserman & Jennings

([26]) Ethicul Growth

([27]) نازين بني أسدي، مديريت مشاركتي معلمان وارتباط آن با رفتار جامعه (الإدارة باشتراك المعلمين وعلاقتها بتصرفات المجتمع): 175.

([28]) النوري، مستدرك الوسائل: 199.

([29]) ﴿إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق﴾.

([30]) CommunalCultural

([31]) acculturation

([32]) Hubert Grimme (1864-1942)

([33]) الكريمة، 2006: 218.

([34]) Fuck, john, islam mahammad, P12

([35]) Garther

([36]) Hong

([37]) Miller & Olsan

([38]) Werbe

([39]) Mahony

([40]) Loch

([41]) Hughes

([42]) Comstock & Partridge

([43]) Sorri,H.

([44]) Hemriksson. m.

([45]) Lonnqvist.J.

([46]) السيد كمال صولتي الدهكردي، مصطفى النجفي، ربابه النوري قاسم آبادي، بررسي رابطه بين نگرش مذهبي مهارتهاي مقابله وسلامت روان در دانشجويان (دراسة العلاقة بين التفكير الديني والإبداع في المواجهة والسلامة النفسية للطلاب): 27 ـ 23.

([47]) السيد محمد السجادي، روان شناسي شخصيت (التحليل النفسي للشخصية): 31.

([48]) Vinaya

([49]) Tao-Te ching

([50]) Fontana David, Psychology, Religion, and spiritvality, P99

([51]) Li

([52]) Brinkley & Perry, Saved by the light, P122

([53]) Manu-Samhita

([54]) Atwarer, Beyond the light: Near Death Experiences – The Fullstory, P198

([55]) Griffiths, B the mawiage of east and west, p132.

([56]) Shastri, H.P, world within the mind, P88.

([57]) Fontana, … P155

([58]) المرحلة التي هي فوق هذه المرحلة هي پارنيرفانا (Pari Nirvana) بو هي بمعنى النيرفانية النهائية، حيث يستطيع الشخص الذي حصل له الاشراق أن يرى في نفسه مصداقاً من النيرفانية ما دام في عالم الدنيا.

([59]) Mehayaneh

([60]) Capacities

([61]) Christian Psychology

([62]) Death

([63]) Sufferings

([64]) Buncke, R.M, Cosmic conscionsness: A stady in the Evolotion of the human Mind, P96

([65]) Batler 1968

([66]) Permanenc Behaviors

([67]) Ethicul Action

([68]) Bather 1968, P159

([69]) Spirtual System

([70]) Nelear, P28.

([71]) Sentiments

([72]) Varnok, P209

([73]) Moore, Pricipia Ethica, P223

([74]) Bergin, s, Eduating for Social Responsibility, Educational Leadership, P170

([75]) Psycholigy of Religion

([76]) Wulff, D.

([77]) Argyle, M.

([78]) The Psychology of Religious Behavior

([79]) Brown, B.

([80]) Informal Merit

([81]) Healthy Psycho

([82]) Fontana…, P89

([83]) Love

([84])   Fontana…, P89

([85]) Behavioral lows

([86]) Bloom, W.

([87]) Similavites

([88]) Differences

([89]) Local inclination

([90]) Behe, M.j.

([91]) Powers, J.

([92]) Religion

([93]) Ethkinson & others

([94]) Behaviorism

([95]) Psychoanalysis

([96]) Humanism

([97]) Cognitive School

([98]) Sensual States

([99]) Nielsen, N.C.

([100]) Hay

([101]) Heald

([102])Mental Hygiene

([103])Pschotherapy

([104]) Ideal Psychology

([105])Mental Health

([106])Neurosis

([107]) Sargant, K, The mind possessed: a physiology of Possession, My stoicism, and Faith healing

([108]) Wiliam West

([109]) Yong.C.G.

([110]) Quiescence

([111]) Optimism

([112]) Stace

([113]) Moore,G.E.

([114]) Independence

([115]) نادر پور نقش‌بند، برخورد إسلام شناسان غرب با سيره رسول أكرم‘ (كيفية تعامل المستشرقين مع سيرة النبي الأكرم‘): 10.

([116]) الشيخ عباس القمي، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار: 465.

([117]) Fontana…P362

([118]) الكليني، الكافي 2: 302.

([119]) أحمد الناصري، سيره عملى پيامبر أكرم‘ (السيرة العملية للنبي الأكرم‘): 99.

([120]) جان استوتزل، روان شناسي اجتماعي (علم النفس الاجتماعي): 128.

([121]) مسند أحمد بن حنبل 3: 32.

([122]) مسند أحمد بن حنبل 2: 28.

([123]) محمد مهدي الري شهري، ميزان الحكمة 1: 57.

([124]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 66: 400.

([125]) مصطفى دلشاد طهراني، سيره نبوي (السيرة النبوية): 15.

([126]) بحار الأنوار 75: 53.

([127]) Fontana…P362

([128]) الكافي 2: 206.

([129]) Fontana…P363

([130]) Fontana…P365

([131]) بحار الأنوار 71: 280.

([132]) الكافي 8: 149.

([133]) الكافي 4: 12.

([134]) مصطفى دلشاد طهراني، سيره نبوي 1: 520.

([135]) الكافي 4: 12.

([136]) بحار الأنوار 66: 314.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً