أحدث المقالات

د. آرش نراقي(*)

ترجمة: مشتاق الحلو

مقدّمة

إن إصلاح الفكر الديني عملية معالجة تاريخية مستمرة. فعلى المسلمين في كل عصر تقييم إيمانهم من وجهاته العقلية والأخلاقية بمنتهى الحَذَر، وإصلاحه وتجديده إنْ لزم الأمر. لكنْ أرّق الحَذَر دوماً المهتمين بالأمر في السير على الحافة بين الإفراط والتفريط، أي «البِدْعة» و«التحجُّر». ويبدو أنه في أيامنا يتأرجح مسار إصلاح الفكر الديني بين: التوجّه التقليدي غير النقدي؛ والتوجّه الحداثوي.

وأريد بـ «الإصلاح الحداثوي» إصلاح الفكر الديني انطلاقاً من العقلانية الناقدة الخارج دينية؛ إذ يشعر الإصلاحيون الحداثويون بضرورة إصلاح الفكر الديني، ويسعَوْن لإعادة بناء الاتجاهات العقلية والأخلاقية للفكر الديني من خلال إعادة قراءة الفكر الديني في ضوء العقلانية الخارج دينية. لكنهم يندفعون أحياناً وراءها، فيهمّشون العقلانية الدينية، ويهملون جزءاً من التعاليم المحورية للفكر الديني دون براهين واضحة، أو يعيدون النظر فيها بشكلٍ جذريّ([2]).

كما أريد بـ «الاتجاه التقليدي غير النقدي» التوجه الذي يجعل من العقلانية الدينية الأصل والأساس، وينظر بعين الريبة إلى العقلانية الناقدة الخارج دينية، ويرفض بتاتاً أيّ تغيير يطرأ على الفكر الديني بإيعازٍ منها. لذلك يسعى رافضو النقد التقليديون لإصلاح الفكر والحياة الدينيين دون الأخذ بنظر الاعتبار تلك العقلانية([3]).

فهل من الممكن اتّخاذ نهج وسط بين «التوجه الحداثوي» و«التوجه التقليدي غير النقدي» في التعاطي مع الدين بحيث يأخذ بنظر الاعتبار العقلانيتين؟ وهل من الممكن إصلاح الفكر الديني وفق العقلانية الخارج دينية دون التهاون بالعقلانية الدينية؟

أودّ أن أقدم في هذا المقال مخطّطاً عاماً لهذا التوجه، الذي يتخذ «التراث» أساساً في إصلاح الفكر الديني، وهو بذلك «تقليدي»، ويتلقّى النقد المتأتي من خارج الدين بإيجابيةٍ، وبذلك يكون «نقدياً». ولذلك يمكن تسميته بـ «التراثية النقدية».

وقد دوّن المقال في قسمين أساسيين: القسم الأوّل: اللاهوت؛ والقسم الثاني: القانون. يقترح القسم الأوّل نموذجاً للعقلانية النظرية يقوم بإعادة إصلاح معقولية منظومة المعتقدات الدينية، وفق علاقة محدّدة بين العقلانية الدينية والعقلانية الخارج دينية. ويقدّم القسم الثاني نموذجاً من العقلانية العملية يقوم بإعادة إصلاح معقولية القانون الديني على أساس علاقة محدّدة بين القانون والأخلاق.

القسم الأول: اللاهوت

معقولية منظومة المعتقدات الدينية

في إطار نموذج «التراثية النقدية» تُعَدّ معقولية منظومة المعتقدات الدينية نتاج معقوليتين: المعقولية الخارج دينية؛ والمعقولية الدينية. أي إن المقبولية العقلية لمنظومة المعتقدات الدينية رهينةٌ بمعقوليتها خارج إطار الدين وداخله. فبالإمكان تسمية هذا التوجه بـ «المنحى الإيماني العقلاني». وأودّ هنا تبيين فهمي من هذين الشرطين للمعقولية.

أـ المعقولية الخارج دينية

1ـ للمؤمن المتعقّل تصديق تعاليم الدين إذا ما كانت «مقبولة عقلاً» من المنظور الخارج ديني. لكنّ السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا هو: في ضوء أيّ شروط يكون تصديق المؤمن لأمرٍ ما مقبولاً عقلاً من المنظور الخارج ديني؟

لكنْ يلفّ الإبهام هذا السؤال. وفي الحقيقة يمكن طرحه في موضعين مختلفين، ولا يكون شرط «المقبولية العقلية» لأمرٍ ما (من المنظور الخارج ديني) ذاته في الموضعين بالضرورة.

الموضع الأوّل هو (مثلاً) حين يكون المؤمن في مقام تبليغ الدين أو تبرير التعاليم الدينية لأناسٍ لا يشاركونه معتقداته الدينية (كالملحدين أو اللاأدريين). ففي هذه الحالة عليه إقامة البرهان، أي لا بُدَّ له من منطلق المعرفة والعلم الإتيان ببراهين قاطعة وقرائن شافية لتبيين المقبولية العقلية للتعاليم الدينية التي هو في صددها. وبالإمكان تسمية هذا النمط من العقلانية بـ «العقلانية النقدية القصوى»، أو اختصاراً: «العقلانية القصوى». في هذه الحالة شرط «المقبولية العقلية» لاعتقادٍ ما هو شرط المعقولية القصوى: المعتقد (أ) (من المنظور الخارج ديني) مقبولٌ عقلاً إذا ـ وفقط إذا ـ أيَّده برهانٌ أو قرينة محكمة.

الموضع الثاني هو حين يواجه المؤمن التساؤل عن المقبولية العقلية (من المنظور الخارج ديني) لاستمرار اعتقاده بأمرٍ ديني ما. وبعبارةٍ أخرى: في هذا الموضع يدّعي المخالفون أن اعتقاد المؤمن بأمرٍ ديني ما غير مقبول عقلاً، وعليه الرجوع عنه بحكم العقل (وبشرط خضوعه لإلزامات العقل). في هذه الحالة تقع مهمة إقامة البرهان على المخالفين الذين يدّعون عدم المقبولية العقلية (الخارج دينية) لذلك الأمر الديني، أي عليهم تقديم القرائن والشواهد على عدم مقبوليته العقلية. في هذه الحالة اعتقادُ المؤمن بذلك الأمر الديني موجّه عقلاً فقط إذا ما تمكّن من دَحْض الأدلة والقرائن التي يقدِّمها المخالفون، أو يبين عدم صحة أحدى مقدّمات استدلالهم على أقلّ تقدير، أو إنْ أصابوا في المقدّمات يبرهن على عدم صحة استنتاجهم. وبالإمكان إطلاق اسم «العقلانية النقدية الدنيا»، أو باختصار: «العقلانية الدنيا»، على هذا النمط من العقلانية. وبتعبير آخر: شرط «المقبولية العقلية» لمعتقدٍ ما في هذا الموضوع هو شرط المعقولية الدنيا: المعتقد (أ) (من منظور خارج ديني) مقبولٌ عقلاً إذا ـ وفقط إذا ـ ناقضت الأدلة والقرائن على نقضه العقل، أي أن يبرهن على (1) أن إحدى مقدّمات «الاستدلال على عدم مقبوليته العقلية» كاذبٌ؛ أو (2) إنْ صدقت جميع المقدّمات لا تنتج ادّعاء المعارضين بعدم مقبوليته العقلية.

لكنْ ما «البرهان القاطع» أو «القرينة المقنعة» هنا؟ لنفترض أني أريد الإتيان بـ «برهان قاطع» على معتقد ديني، كـ «وجود الله»؛ لغرض دعوة الملحدين أو محاججتهم، يكون حينئذٍ برهاني «قاطعاً» إنْ تمكّن من إقناع مخاطَبين مثاليين حياديين تماماً تجاه موضوع وجود الله. أو لنفترض أن معارضي «الاعتقاد بوجود الله» جاؤوا ببرهان الشرّ لدحضه، ففي هذه الحالة الحجّة التي تدعم الاعتقاد وتنقض برهان الشرّ تكون «قاطعةً» إذا ما تمكّنت من إقناع مخاطَبين مثاليين حياديين تجاه الاعتقاد بوجود الله بعدم صدق إحدى مقدّمات برهان الملحدين، أو مغايرة حصول النتيجة المدّعاة للمنطق، إنْ صحّت تلك المقدمات (أي إن برهانهم غير منتج).

والمقصود هنا بـ «المخاطَب المثالي» شخصٌ في قمّة الذكاء والفطنة، ويتمتع بمعرفةٍ منطقية وفلسفية فذّة، وأمين في إدراكه العقلي (أي يبذل ما بوسعه بأمانة وصدق لفهم البرهان وتقييمه)، ولا يحدّه الوقت في الخروج بنتيجةٍ من عملية الفهم والتقييم. وبالطبع إن للملحدين أيضاً الوقت لنقد مواقف المؤمنين لدى المخاطَبين المثاليين.

كما أريد بـ «المخاطب المحايد أو اللاأدري» مَنْ ليس له موقفٌ سلبي أو إيجابي تجاه صدق المعتقد القائل بـ «وجود الله» وعدمه، ولا يميل لأيٍّ من الاتجاهين بتاتاً([4]). إذن من منظور «العقلانية الخارج دينية» «البرهان» القاطع و«القرينة» المحكمة المقبولان هما ما يجدهما المخاطَبون المثاليون المحايدون أو اللاأدريون قاطعين ومحكمين، أي إن الحكم هم المتلقّون المثاليون اللاأدريون أو المحايدون تماماً.

وتجدر الإشارة هنا إلى ما يختلف فيه نوعا «القرينة الناقضة»: «القرينة النافية» (undercutting defeater)؛ و«القرينة الداحضة» (rebutting defeater). لنفترض أن الخبر (أ) قرينة على خبر (ب). «القرينة النافية» للخبر (أ) هو الخبر (ج)، الذي يقطع صلة القرينة بين (أ) و(ب). فلنفترض مثلاً أن علياً قال لي: «سطَتْ اليوم مجموعة من اللصوص على المصرف الذي يقع في واجهة المعبر»، وبناء على ذلك يحصل لي اعتقاد بأنه قد «سطَتْ اليوم مجموعة من اللصوص على المصرف الذي يقع في واجهة المعبر». هنا كلام عليٍّ قرينة لاعتقادي بحدوث السطو على المصرف الواقع في واجهة المعبر. لكنْ لنفترض أن يأتيني شخصٌ بقرينة قاطعة تدلّ على أن عليّاً كذّاب متمرِّس، والكذب صفة متجذّرة فيه. هذه القرينة قد لا تنفي خبر السطو على المصرف ضرورةً، لكنها تسقط مصداقية شهادة عليّ، أي إن كلامه يفقد موقعه كقرينةٍ لاعتقادي بحدوث السطو على المصرف، بدلالة القرينة الأخيرة. لذلك يمكن عدُّها «قرينة نافية» لشهادة عليّ.

من ناحيةٍ أخرى، إذا افترضنا أن الخبر (أ) قرينة للخبر (ب) تكون القرينة الداحضة للخبر (أ) الخبر (ج)، الذي ينقض الخبر (ب) بشكل مباشر، ويمنع بذلك أن يبرهن الخبر (ب) على الخبر (أ). ولنفترض مثلاً ـ في المثال السابق ـ أن يأتي شخصٌ مؤتمن آخر (حَسَن مثلاً)، ويخبر بأنه «يأتي الآن من المصرف الواقع في واجهة المعبر، ولم يحدث أيّ أمرٍ خارج المألوف هناك». شهادة حسن هذه تؤيِّد أن «اليوم لم تحدث عملية سطو على المصرف الواقع في واجهة المعبر». وبذلك تكون شهادة حسن «قرينة داحضة» لخبر عليّ.

إن القرائن الناقضة، نافية كانت أو داحضة، توفّر أدلةً يؤدّي اتّباعها إلى الكفّ عن التمسّك بأمور كنا نعتقد بها. لكنّ «القرينة الناقضة الداحضة» تقدّم، إضافةً إلى ذلك، أدلةً على صدق نقيض ما كنّا نعتقد به. فمثلاً: إنْ كنتُ قد اعتقدت بـ «حدوث سطو على المصرف اليوم» بناءً على الخبر الذي أتى به عليٌّ يتوفّر لديّ دليلٌ بعدم التمسّك بهذا الاعتقاد بعد أن أدركتُ بأن عليّاً لا يؤخَذ بكلامه (دون أن أجزم بعدم وقوع السطو). لكنّ شهادة حسن دليلٌ يؤدّي بي إلى قبول نقيض ذلك الاعتقاد، أي «اليوم لم تقع حادث سطو في المصرف الواقع في واجهة المعبر»([5]).  أما في هذا المقال فالمقصود بـ «القرينة الناقضة» كلتا القرينتين: النافية؛ والداحضة.

2ـ وينبغي الالتفات إلى عدّة نقاط في ما يخصّ العلاقة بين العقلانية القصوى والعقلانية الدنيا:

أوّلاً: إن هاتين العقلانيتين متناغمتان، أي للمؤمن اتباع العقلانية الدنيا في استمرار تمسّكه بمعتقداته الدينية، وفي نفس الوقت استناده على العقلانية القصوى في موضع دعوة الكافرين إلى تعاليم دينه أو إقناعهم بها، أي أن يبرهن على تعاليم دينه بطريقة تمكّنه من إقناع المخاطَب المثالي المحايد تماماً أو اللاأدري. فهاتان العمليتان وإنْ اختلفتا لكنْ من الممكن جمعهما([6]).

ثانياً: إن ابتناء أحد التعاليم الدينية على العقلانية القصوى ليس شرطاً لازماً لتمتّعه بالعقلانية الدنيا. فقد لا يكون المؤمن في صدد إقناع غير المعتقدين بالدين (وقد لا يتّخذ منحى «هجومياً» إطلاقاً)، أو تبوء جميع مساعيه لإقناعهم بالفشل، لكنْ لا يؤدّي ذلك لزوماً إلى دَحْض العقلانية الدنيا للتعاليم الدينية التي يعتقد بها، فلا يمنع عقلاً من الاستمرار بالتمسّك بمعتقداته الدينية. وبعبارةٍ أخرى: إقناع غير المعتقدين (أو ببيانٍ أدقّ: المتلقّين المثاليين اللاأدريين أو المحايدين تماماً) أو عدم التمكّن من إقناعهم بالمعتقدات الدينية ليس شرطاً لازماً لمعقولية الاستمرار باعتقاد المؤمن بتعاليمه الدينية. وبالطبع إن هذا الأصل المعرفي عامّ، ولا ينحصر بالتعاليم الدينية. فعدم التمييز بين الموضعين ضربٌ من المغالطة، يمكن تسميتها بـ «مغالطة خلط مراتب العقلانية». ولإيضاح الاختلاف بين هذه المراتب لنلاحظ هذا المثال. لنفترض بأني في منطقة نائية أسير في الغابة، وفجأة أرى نمراً أبيض بين أشجار الغابة الكثيفة (وعندي معرفة بالنمور تمكّنني من التعرُّف على ما أرى بالتحديد)، ولم يسبق أن شوهد نمرٌ أبيض في هذه المنطقة، لذلك فإن وجود هذا النمر في هذه المنطقة حَدَثٌ فريد، لكنّي لا أملك كاميرا لالتقاط صورةٍ له، ولم يمرّ أحدٌ من هناك ليصبح شاهداً على وجود النمر، فإنْ عدْتُ إلى البيت بعد عدّة أيام، وأخبرت أصدقائي بوجود نمر أبيض في غابات تلك المنطقة، لا يكون لديّ دليلٌ أثبت به ادّعائي لهم (فقدان القرينة في العقلانية القصوى). لكنْ هل يعني ذلك أن اعتقادي بوجود نمر أبيض في تلك المنطقة بالتحديد غير مقبول عقلاً؟ ومن الواضح في هذا المثال أن عدم التمتُّع بشرط «المعقولية القصوى» لاعتقادٍ ما لا يعني لزوماً فقدانه لـ «المعقولية الدنيا».

ثالثاً: في كثير من الأحيان يقع الرافضون للدين في «مغالطة خلط مراتب العقلانية» في مجال المعتقدات الدينية، حيث ينفون العقلانية القصوى عن المعتقدات الدينية، في مسعاهم لنفي الاعتقاد بالدين، ويستنتجون منه نفي العقلانية عامّةً عن المعتقدات الدينية، ومنها: العقلانية الدنيا لتلك المعتقدات. ويرتكز جانبٌ من هذا الاستدال على مغالطة «الإثبات على أساس فقدان الدليل»([7]). ومن الممكن تبيينه كالتالي (أبين هنا هذا الاستدلال في نفي معتقدٍ ديني واحد، وهو القائل بأن «الله موجود»):

(1) ليس هناك من دليلٍ يثبت وجود الله.

(2) إذن إن الله غير موجود.

(3) إنْ كان الله غير موجود فالاعتقاد به مرفوضٌ عقلاً.

(4) إذن الاعتقاد بوجود الله مرفوضٌ عقلاً. (النتيجة حاصلة من المقدّمات (2) و(3)).

إن «الدليل» في المقدّمة الأولى من هذا البرهان من النماذج التي تنتج عن «العقلانية القصوى»، أي إنه برهانٌ لو قُدِّم لمتلقٍّ مثالي لاأدري أو محايد تماماً لأقنعه بصدق الاعتقاد القائل بـ «وجود الله»، أو وضعه في الكفّة الراجحة لديه. وفي (4) حين تنفى العقلانية عامة عن الاعتقاد بالله إنما يُراد بها (ضمنياً، وعلى وجه الخصوص) العقلانية الدنيا، أي يدّعون بأن اعتقاد أيٍّ كان، وحتّى المؤمنين بالله، لا يمكن أن يكون مقبولاً عقلاً. لكنْ في هذا البرهان استنتاج المقدّمة الثانية من الأولى ليس بمنطقيٍّ، والانطلاق من المقدّمة (1) للانتهاء إلى (2) من مصاديق مغالطة «الإثبات على أساس فقدان الدليل». فمثلاً: ليس من المنطقي الاستنتاج من الجملة «لا دلائل وقرائن على وجود الحياة في المجرّات الأخرى» أن لا حياة في المجرّات الأخرى.

وبالطبع يمكن لمنكري الدين نفي «العقلانية الدنيا» عن المعتقدات الدينية من خلال نفي «العقلانية القصوى» عنها، باستدلالٍ آخر، كما يلي:

(1) لا وجود لدلائل مقنعة وقرائن كافية (في إطار «العقلانية القصوى») على صدق خبر أن «الله موجود».

(2) إذن احتمال أن يكون خبر: «إن الله موجود» صادقاً ضئيلٌ إذا لم تتوفّر الدلائل المقنعة والقرائن الكافية (كما في «العقلانية القصوى»).

(3) إذن «الاعتقاد بوجود الله» ليس بمقبولٍ عقلاً. (ما يستنتج من المقدّمات (2) و(3)) (يفترض هنا أن يستوجب هذا الحكم نفي «العقلانية الدنيا» عن خبر: إن الله موجودٌ أيضاً).

لنفترض أن (1) و(2) صادقتان (يمكن مناقشة هذا الفرض في محلّه) فحينئذٍ يكمن الخلل الأساسي في هذا الاستدلال الانطلاق من (2) والانتهاء إلى (3)، حيث جاءت هذه الحركة بناءً على الأصل التالي:

احتمال أن يكون الخبر P على أساس القرينة E صادقاً ضئيلٌ. إذن الاعتقاد بصدق الخبر P غير مقبول عقلاً.

لكنّ هذا الأصل العامّ كاذب؛ إذ لا يستنتج منطقياً أن الاعتقاد بالخبر P غير مقبول عقلاً من كون احتمال صدق الخبر P ضئيلاً على أساس القرينة E (إلاّ إذا ثبت أن (i) E هي القرينة الممكنة والموجودة الوحيدة أو الشاملة لجميع القرائن الممكنة والموجودة المرتبطة بذلك الاعتقاد؛ و(ii) أن «المقبولية» تابعةٌ «للقرينة»، أي إن وجود القرينة أو عدم وجودها شرطٌ لازم وكافٍ ليكون اعتقادٌ ما مقبولاً أو غير مقبول). وذلك ما يسمى في الإبستمولوجيا بالدليلية (Evidentialism)([8]).

ولنأتِ بمثالٍ؛ لتبيين هذا الادّعاء: احتمال ظهور حياة ذكية على كوكب الأرض (P)، بناءً على مجموع القرائن الفيزيائية والكيميائية المتاحة (E)، ضئيلٌ. لكنْ لا يستنتج من هذه العبارة (وهي صادقةٌ إلى مدى يقارب اليقين) أن الاعتقاد بوجود حياة ذكية على كوكب الأرض (P) غير مقبول عقلاً. (واضح أن هذا الاعتقاد مقبول عقلاً؛ إذ إن الحياة الذكية موجودةٌ على كوكب الأرض!). إذن استنتاج (3) من (2) ليس منطقياً. وبالطبع إذا أضفنا المقدّمات (i) و(ii) المساعِدة للبرهان يزيد من فرص قبوله. لكنّ إثبات هذه المقدّمات عمل شاقّ تماماً([9]).

3ـ الشرط اللازم لعقلانية المعتقدات الدينية هو تمتّعها بشروط «العقلانية الدنيا»، لا «العقلانية القصوى». وبتعبيرٍ آخر: إذا لم يحقّق معتقدٌ ديني شروط «العقلانية الدنيا» لا يكون الالتزام به مقبولاً عقلاً. لكنْ لا يصدق هذا الحكم على «العقلانية القصوى»، أي إن عدم توفُّر شروط «العقلانية القصوى» في المعتقدات الدينية لا ينفي لزوماً معقوليتها، ولا يلزم ذلك المتدينين المتعقّلين بنفيها أو تعديلها.

وبتعبيرٍ أدقّ: في إطار العقلانية المطلوبة هنا الوضع كالتالي: يدّعي معارضو الدين وناقدوه بأن منظومة المعتقدات الدينية أو جزءاً منها غير صادق، إذن الاعتقاد بها (أو الاستمرار في التمسك بها) غير مقبول عقلاً، فينبغي أن يتركها المتديِّنون الملتزمون بالعقل والحكمة. في هذه الحالة إما أن ينفي المتديِّنون الأدلة التي تنقض معتقداتهم، فتصبح بذلك معتقداتهم (أو استمرار تمسكهم بها) مقبولة عقلاً؛ وإما أن يفشل المتدينون في نفي الأدلّة الناقضة لمعتقداتهم، فتصبح معتقداتهم (أو استمرار تمسّكهم بها) غير مقبولة عقلاً، وبحكم العقل والحكمة عليهم الكفّ عنها أو إعادة النظر فيها.

إذن، بناءً على هذا النوع من العقلانية، معتقداتنا الدينية بريئةٌ في محكمة العقلانية، إلاّ إذا ثبت خلافها. فما ينبغي للمتدينين فعله من حيث اعتقادهم بالدين ليس إثبات براءة معتقداتهم، بل نفي التُّهَم الموجّهة إليها، أي إن على مَنْ يرفضون الدين تقديم برهان ينقض المعتقدات الدينية، وقرينة تدلّ على عدم صدقها، وعلى المؤمنين البرهنة على عدم صدق هذا البرهان والقرائن التي يقدِّمها هؤلاء في نقض معتقداتهم الدينية. وبالطبع إذا تبين أن الأدلة أو القرائن التي تنقض المعتقد الديني (أ) صحيحة ومعتمدة فلا بُدَّ أن يكفّ المؤمن المتعقِّل عنها أو يعيد النظر فيها([10]).

4ـ في هذا النموذج من العقلانية يتعارض العقل والتعاليم الدينية فقط إذا قدّم العقل قرينةً تنقض أحد التعاليم الدينية، ولا يتمكّن المؤمنون من نفيها. فوجود قرينة ناقضة لا يمكن نفيها للمعتقد الديني (أ) يضع المؤمن على مفترق ثلاثة طرق: (الأوّل) يغضّ عن القرينة الناقضة التي لم تنْفِ، ويلتزم بإيمانه التزاماً تامّاً، أي يكفّ عن الالتزام بالعقلانية الدنيا، ويخرج من مشروع العقلانية، ويبني معتقده على أساس الإيمان المطلق، ويجعل من محتوى الإيمان خلفية للنقد والإصلاح العقلاني. (الثاني) أن يهتمّ بالقرينة الناقضة التي لم تنْفِ، ويكفّ عن اعتقاده الديني تَبَعاً لإملاء العقل. (الثالث) أن يهتمّ بالقرينة الناقضة التي لم تَنْفِ، ويكفّ عن الاعتقاد بالمفهوم المتعارف لتعاليم الدين تَبَعاً لما يمليه العقل، ويسعى لتبنّي تفسير للتعاليم الدينية لا تناله يد النقض تلك.

ويُعَدّ ابن رشد في التراث الإسلامي (على الأقلّ وفقاً لبعض التفاسير) من المؤيِّدين للمنحى الثالث. ويبتني موقفه على المقدّمة الأساسية القائلة بأن الحقائق (ومنها: الحقائق العقلية والدينية) متوافقةٌ. فبناءً على رأي ابن رشد إنْ أثبت البرهان العقلي الأمر (أ) فالدين ـ الشريعة إما لديه رأيٌ فيه أو لا. إنْ سكت الدين عنه فحينها ينسجم موقف الدين مع العقل في خصوصه. لكنْ إنْ كان للدين رأيٌ فيه؛ فإما أن يؤيِّد ذلك الرأي حكم العقل؛ أو لا. إذا أيَّده فالاتفاق حاصلٌ؛ لكنْ إنْ لم يتفقا وتعارضا فينبغي تأويل موقف الدين. ويُراد بالتأويل أن تعتبر دلالة الدين عليه دلالة مجازية، بَدَل أن تكون حقيقية([11]).

ب ـ المعقولية في إطار الدين

سؤالٌ مهم يطرح نفسه هنا: ما الذي يستند عليه المؤمنون في تصديق التعاليم الدينية؟ توفّر أيّ شروط يجعل الأمر (أ) مقبولاً من قِبَل المؤمنين داخل منظومة المعتقدات الدينية؟ ويمكن طرح هذا السؤال تحت مسمّى شروط «المعقولية في إطار الدين».

فبشكل عامّ يتم تصديق التعاليم الدينية بطريقتين مختلفتين من قِبَل المتدينين: (1) القبول أو التصديق العملي؛ و(2) الاعتقاد أو التصديق النظري.

1ـ التصديق العملي

يختلف التصديق العملي، الذي يمكن تسميته «الحمل على القبول»، عن الاعتقاد أو التصديق النظري من وجهتين مهمتين:

أوّلاً: إن التصديق العملي أو الحمل على القبول قبل أيّ شيء هو فعلٌ، أو بتعبيرٍ أدقّ: فعلٌ ذهني. فالتصديق العملي لقضية (أ) فعلٌ، أي إن أحدهم «يتقبّلها»، ويجعلها ضمن القضايا التي يستند عليها في العمل والرأي. إن الذي «يتقبل» (أ) ليس ملتزماً بصدقه ضرورةً، لكنه يجعله مقدّمة لاستدلالاته وبراهينه، وفي العمل يتبين سبيله على ضوء ذلك الأمر، ويقيِّم أفعاله بناء عليه.

ومن ناحيةٍ أخرى إن التصديق النظري أكثر ما يكون ضرباً من الاعتقاد، و«الاعتقاد» هو الموقف الفكري الإيجابي تجاه أمرٍ ما. وأهمّ ما يمتاز به أن الفكر يطمئن إليه ويرجّح صدقه. إذن لايستلزم التصديق العملي الاعتقاد أو التصديق النظري، أي إن الناس يتقبّلون الأمر (أ) دون أن يعتقدوا به لزوماً.

ثانياً: إن التصديق العملي أو الحمل على القبول أمرٌ اختياري؛ إذ يمكننا (بشروط محددة) أن نختار قبول الأمر (أ) أو رفضه. وبالطبع لا يعني ذلك أن بإمكاننا في أيّ ظرفٍ كان تقبُّل أيّ أمرٍ إذا أردنا ذلك. لكنْ في ظروف محدّدة، حيث لا يمكننا انتظار قرائن بيّنة تحدّد صدق الأمر (أ) من عدمه، يمكن قبول الأمر (أ) ورفضه باختيارٍ تامّ. لكنْ غالباً ما يكون الاعتقاد أو التصديق النظري وراء عملية الاختيار هذه. فلا يمكننا (على الأقلّ مباشرة) أن نجبر أنفسنا على تصديق الأمر (أ)، أو نمنع أنفسنا من تصديقه. فمثلاً: حين أدخل إلى الغرفة، وأرى شخصاً فيها، يتشكَّل لديَّ لا إراديّاً اعتقادٌ بأن «أحدهم في الغرفة». هذه العملية النظرية تقع خارج سيطرتنا وإرادتنا، ولا يمكننا التحكُّم بها، وإنْ كان بالإمكان التأثير بشكلٍ غير مباشر، في ظروفٍ خاصة، على ما نتلقّاه ونعتقد به([12]).

إن التصديق العملي قد يتحقَّق في صور مختلفة. فمثلاً: في بعض الأمور يتصرف الفرد و«كأنّ» الأمر (أ) صادقٌ، أي يستند في عمله على «افتراض» صدق الأمر (أ)، دون أن يلزم نفسه بصدقه. وبتعبيرٍ آخر: يعدّ الأمر (أ) «فرضية»، ويستند في أعماله وتصرّفاته عليها، ثم يختبر النتائج عملياً ونظرياً، ويقيِّمها. في بعض الأحيان يعتبر الفرد الأمر (أ) «أصلاً مسلّماً به» في منظومة معتقدات ما، أي إنه لا يعير صدق ذلك الأصل أو كذبه اهتماماً بقدر ما يشغله تناغمه مع باقي الأصول لتلك المنظومة، ومواءمة الدلالات النظرية والعملية لتلك الأصول ككلٍّ منسجم. كما قد «يتقبل» أحدٌ الأمر (أ) بمعنىً خاصّ (ومن الممكن اعتبار هذا «التقبُّل» نوعاً من «التصديق القلبي» بإزاء «التصديق العقلي»). في هذا المعنى الأخصّ «قبول» الأمر (أ) يتضمّن تلقّياً إيجابيّاً عنه، أي إن الفرد يقبله آملاً صدقه. في هذه الحالة يقرّ الفرد بعدم وجود قرائن كافية وقاطعة تدلّ على صدق الأمر (أ)، كما يقرّ بأن من الممكن أن يكون الأمر (أ) كاذباً، لكنّه يطمع في صدقه، ويبني عليه عمله وفكره.

إن «التصديق القلبي» في نطاق الحياة الدينية ظاهرةٌ ذات معنى ومتعارف عليها. فمثلاً: شخص حمل الاعتقاد بالإسلام في صميمه منذ صباه، يؤدّي مناسكه الدينية بحماسٍ، وتوفّر له حياته الدينية السكينة والتعالي المعنوي، ويعطيه تمسّكه بالدين معنى وإيجابية في الحياة. لكنّه يفقد يقينه المحكم في كهولته، ويحدث له شكٌّ، ولا يمكنه الجزم بصدق تعاليم الإسلام الأساسية، وبعبارةٍ أخرى: لا يجد القرائن المتوفرة محكمة كفاية لتدفعه إلى «الإيمان» بتلك التعاليم. مع ذلك من الممكن تصوُّر شروط يقرِّر فيها هذا الفرد، على الرغم من انتفاء الاعتقاد لديه بتعاليم الإسلام الأساسية، أن يجعلها نافذته إلى العالم، و«يقبلها بقلبه» منهجاً له في الحياة. أو لنفترض شخصاً لم تربطه بالدين صلةٌ أو تعلُّق، لكنْ في ظروف عصيبة يأتيه نداء القرآن شافياً لهواجسه الداخلية التي تقلق حياته، فيندفع وراء تلك التعاليم دون أن يعتقد بصدقها لزوماً، فـ «يقبلها قلبه» إطاراً للحياة، ويبني عليها أفكاره وحياته. في مثل هذه الحالات هناك بارقة أمل تدفع الفرد إلى قبول الدين (أو تعاليمه الأساسية)، أو الخضوع له، وقد ينتج من هذا الإيمان في خطوات تعاليه التالية اعتقادٌ جَذْري ومحكم بتعاليم الدين.

2ـ التصديق النظري

الاعتقاد أو التصديق النظري، كما أشَرْنا، موقفٌ فكري إيجابي تجاه أمرٍ ما يدفع بصاحبه إلى الاعتقاد بصدق ذلك الأمر. وينقسم الاعتقاد أو التصديق النظري إلى نوعين: الاعتقاد دون الاستناد إلى قرائن؛ والاعتقاد المبنيّ على قرائن.

الاعتقاد أو التصديق النظري دون الاستناد إلى قرائن من القضايا

قد يبتني الاعتقاد أو التصديق النظري، في بعض الأحيان، على تجربةٍ مباشرة لصاحب الاعتقاد. أي في هذه الحالة يعتقد فردٌ بقضية (أ)، لكنْ لم يأتِ اعتقاده هذا نتيجة قضايا ومعتقدات أخرى من منظومة معتقداته، بل ينبع مباشرة من تجربته الشخصية. يمكن تسمية هذه المعتقدات المعتقدات «المبتنية على التجربة» (وبإزائها المعتقدات «المبتنية على التصديق»). قد تكون المعتقدات المبتنية على التجربة مبررة عقلاً في بعض الظروف. فلنفترض، على سبيل المثال، أن أمي تعيش في طهران، وتتصل صباح أحد الأيام ببيتي في شيراز. حين أرفع سماعة الهاتف أسمع صوتاً يقول: «سلام عليك عزيزي، أنا أمك». بمجرّد سماع هذه العبارة يتولَّد لديَّ اعتقاد بـ «أني أتكلَّم مع أمي». وهذا الاعتقاد ليس وليد مقدّمات واستنتاج. ما إن أسمع الصوت حتّى أعرف بأني أتكلَّم مع أمي.

وبالطبع، قد يحصل هذا الاعتقاد بطريقةٍ أخرى. لنفترض أن عملاء الاستخبارات يستمعون إلى اتصالاتي الهاتفية. يرنّ هاتف منزلي، وصوتٌ يقول لي: «سلام عليك عزيزي، أنا أمّك». إن العميل الذي يستمع إلى محادثتنا لا يستنتج مباشرةً أن «فلاناً يتحدّث مع أمّه»، بل عليه الاستناد إلى عدّة قرائن، والخروج منها بذلك الاعتقاد. إن اعتقادي في هذه الحالة «مبنيٌّ على التجربة»، لكنّ اعتقاد عميل الاستخبارات بنفس القضية «مبنيٌّ على التصديق»، أي يبتني على معتقدات أخرى.

في مثل هذه الحالة، إنْ لم يكن عطلٌ في جهاز الهاتف، ولا تكون ظروف غير اعتياديّة (كأن أكون قد استعملت أدوية منشطة)، اعتقادي المبنيّ على التجربة بـ «أني أكلِّم أمي» مقبولٌ عقلاً.

كذلك بعض التعاليم الدينية معتقداتٌ مبنية على التجربة، على الأقلّ بالنسبة لعدد من المتديِّنين. فإنْ كانت قواهم المعرفية التي أنتجت تلك المعتقدات تحظى بالقبول والاعتماد، ونشأت تلك المعتقدات في ظروفٍ مناسبة لعمل تلك القوى المعرفية، حينها تكون المعتقدات المبنية على التجربة، التي تنشأ في تلك الظروف، مقبولةً عقلاً([13]). فمثلاً: يجد بعض المتدينين أنفسهم مخاطَبين من قِبَل الله مباشرةً، وعلى أساس هذه التجربة ينتهون إلى الاعتقاد بـ «أن الله يكلِّمهم». هذا الاعتقاد المبنيّ على التجربة مقبولٌ عقلاً في ظروف معينة.

لكنْ قد يدَّعى هنا بأن هناك بَوْناً شاسعاً بين الاعتقاد بـ «أني أكلِّم أمي» والاعتقاد بـ «أن الله يكلِّمني»؛ فكلّما قلّ احتمال وقوع أمرٍ ما زادت ضرورة الالتجاء إلى قرائن تدعمه (على فرض تماثل سائر ظروف وقوعها). فكلامي مع أمي عبر الهاتف، ومعرفتي صوتها، أمرٌ متعارف ومتكرِّر، ويعلم الجميع ذلك؛ لكنّ تكلُّم موجودٍ متعال، كالله، أمرٌ غير متعارف، و(إنْ حصل) فهو نادر الحدوث.

قد يكون تصديق الأمور المتعارفة المبنية على التجربة، التي تحصل في الحياة اليومية مراراً وتكراراً، مقبولاً عقلاً، وقابلاً للتبرير. لكنّ تصديق الأمور غير المتعارفة، و«العجيبة والغريبة»، لا يمكن أن يكون مقبولاً ومبرّراً على نفس الأساس. وبعبارةٍ أخرى: لا يمكن تطبيق شرط التصديق النظري في الأمور المبنية على التجربة على أمور غير اعتيادية، يُدَّعى بأنها «مبنية على التجربة». فعلى سبيل المثال: يدعي صديقي بأن لديه سيارةً تطير، فكيف يجب أن تكون ردّة فعلي إزاء ذلك؟ غالب الظنّ أني مباشرةً أجد كلامه غير مقبول، فهو (مثلاً) إما أن يكذب، أو يمزح، أو أصابه وَهْمٌ. والدليل هو أن لديّ أدلة وقرائن محكمة تجعلني أعتقد بأن السيارات لا تطير. إذن «السيارة الطائرة» ظاهرةٌ غير مألوفة وعجيبة وغريبة. وإنْ ادّعى أحدٌ بأنها موجودة لا بُدَّ أن يأتي بأدلّةٍ وقرائن بيّنة على مدَّعاه.

وبعبارةٍ أخرى: في مواجهة الظواهر غير المألوفة والعجيبة والغريبة تلزمنا أخلاق الاعتقاد بالالتزام بأصل التحقُّق من القرائن. فأيُّ اعتقادٍ (وعلى أقلّ تقدير الاعتقاد بالأمور غير المألوفة والعجيبة والغريبة) لا يكون مقبولاً عقلاً، إلاّ إذا استند إلى قرينةٍ ودليل مُحْكَمين. ولذلك ظواهر كـ «وجود الله»، أو «تحدُّث الله»، من الأمور «غير المألوفة» و«العجيبة والغريبة»، والاعتقاد بها غير مقبول عقلاً، إلاّ إذا توفرت قرائن وأدلة مُحْكَمة عليها.

لكنّ سؤالاً هامّاً يُطرح هنا: ما الأصل المستند عليه في اعتبار وجود الله أو تحدُّث الله أموراً «غير مألوفة» و«غريبة وعجيبة»؟ يبدو أن ما يريده المنتقدون بالأمور «غير المألوفة» و«العجيبة والغريبة» هو الظواهر التي يستحيل حدوثها ووجودها، أو ينعدم احتمال حدوثها ووجودها. فمثلاً: ظهور «السيارة الطائرة» ليس «محالاً» من الناحية المنطقية والميتافيزيقية، لكنْ ممّا يتوفَّر من معلومات عن الطبيعة وتقنية صناعة السيارات احتمالُ ظهورها ضئيلٌ جدّاً. إذن «استحالة «وجود هذه الظاهرة تجد معناها في إطار خلفية معرفية خاصّة. فقد تكون «السيارة الطائرة» جزءاً من الحياة اليومية لمَنْ يعيشون في القرن الثامن والعشرين، وإنْ ادّعى أحدٌ ما ادّعاه صاحبي لا يكون مدّعاه «غير مألوف» و«عجيباً وغريباً».

على هذا الأساس، اعتبار وجود الله وكلام الله أموراً غير مألوفة وعجيبة وغريبة مبرَّر في إطار خلفية فكرية خاصّة. لكنْ ما هي تلك الخلفية؟ ومَنْ يمتلكها؟

يبدو أن الاعتقاد بوجود الله وحديث الله يعدّان «غير مألوفين» و«عجيبين وغريبين» لما تقتضيه الخلفية المعرفية لدى الطبيعيين. إن رؤية هؤلاء تنطلق ابتداءً من افتراض عدم وجود الله، وبديهيٌّ أن يكون الحديث عن الله، وحديث الله، «غير مألوف» و«عجيباً وغريباً» بالنسبة لرؤيةٍ ليس فيها مكانٌ لله.

لكنْ لماذا يجب أن يُلْزِم المؤمنون أنفسهم برؤية غير المؤمنين؟! لِمَ تتمتّع رؤية الطبيعيين بالقبول لدى المؤمنين، ويجعلونها معياراً لتقييم معتقداتهم؟! فبديهيٌّ أن افتراض وجود الله، وحديث الله، إنْ لم يكن مستحيلاً بناءً على رؤية الطبيعيين غير المؤمنين، فهو غير محتمل، ولذلك يعدّونه أمراً «غير مألوف» و«عجيباً وغريباً». لكنّ هذا الافتراض بناءً على رؤية المؤمنين الدينية ليس ممكناً فحَسْب، بل متوقَّع ومألوف. لِمَ يترك المؤمنون خلفيتهم المعرفية ليفسحوا المجال أمام الخلفية المعرفية للأنداد، ويقيّمون معتقداتهم بالمعايير الضيقة التي يقدّمها هؤلاء؟! إن غير المؤمن الذي يجد الاعتقاد بالله أمراً «غير مألوف» و«عجيباً وغريباً» قد وقع في المصادرة على المطلوب، أي افترض عدم وجود الله (أو استحالة وجوده) في مقدّمات استدلاله (بمقتضى خلفيته المعرفية الطبيعية)، ثم يأتي به كنتيجة تلك المقدّمات. إذن، من منظور الفرد غير المؤمن، وبناءً على علمه وتجربته، افتراض وجود الله أو حديث الله ضربٌ من المحال، ولذلك هو «غير مألوف».

لكنّ المهم في الأمر هو موقف المؤمنين، لماذا يجب أن يعتبروا رأي هؤلاء ملزماً لهم في معتقداتهم؟! لنأْتِ بمثالٍ؛ لإيضاح الأمر: نفترض أن هاتف منزلي يرنّ. هذه المرة يجيب صديقي عليّ على الهاتف. لم يتحدّث عليّ من قبل مع أمّي، ولذلك حين تقول أمي: «السيد عليّ، سلامٌ عليكم، أنا أمّ آرش» لم يتمكّن من التعرف على صوت أمي بمجرّد سماعه. لكنْ ما علاقتي بعدم مقدرة عليّ على التعرُّف على صوت أمّي بمجرد سماعه؟ فعليٌّ لا يعرف أمّي، لذلك ليس لديه تجربة مسبقة؛ ليتمكّن من التعرُّف على صوت أمّي مباشرة. وبالطبع هو يتمتّع بـ «القدرة» على التعرُّف، لكنْ لا يمتلك «مؤهّلاته» اللازمة في عالم الواقع. لكنّ عدم توفُّر المؤهّلات لدى عليّ في التعرُّف على صوت أمّي مباشرة لا يعني أن تعرُّفي على صوت أمّي مباشرة، واعتقادي بأني «أتكلَّم مع أمّي» بمجرّد سماع صوتها، غير مقبول عقلاً؛ لأن عليّاً لا يمتلك المؤهّلات اللازمة للتعرُّف على صوتها مباشرة.

ولنفترض الآن أن عليّاً يعلم بوفاة أمّه العام الماضي. ويرنّ هاتف منزله صباح اليوم، ويقول أحدهم: «سلامٌ عليك عزيزي عليّ، أنا أمّك». في هذه الحالة كيف لعليٍّ أن يتلقّى هذا الاتصال؟ فلنفترض بأنه يذكر جنازة أمّه ومأتمها جيداً، وكان قد صوّر كل المَراسِم، وأمّه متوفية، والموتى لا يتّصلون بأحد! ثم يأتيه صوتُ امرأةٍ، كصوت أمّه، وتعرِّف نفسها بأنها أمّه، في هذه الحالة أول ما يخطر ببال عليٍّ هو أنه «من المحال أن أكون أتحدَّث إلى أمّي». إن اعتقاده هذا، في هذه الظروف، «مبنيٌّ على التجربة»، أي إنه لا يستنتج هذا الاعتقاد من مقدّمات، بل بمجرد سماع الصوت يظهر لديه اعتقاد بأن أمر «حديثي مع أمّي الآن» أمرٌ كاذب. إذن، للخلفية المعرفية لدى الفرد دَوْرٌ مؤثِّر في صياغة معتقداته «المبنية على التجربة». وعلى هذا الأساس، إذا كان الاعتقاد بوجود الله كاذباً فإن ادّعاء وجود الله، أو كلام الله، مرفوضٌ وأمرٌ «غير مألوف». لكنْ إنْ كان الاعتقاد بوجود الله صادقاً فإن من المرجَّح أن يكون هناك طرقٌ لمعرفته أودعها في الإنسان، وسبلٌ للاتصال به. فإنْ كان الله موجوداً فتجربة معرفته ليست ظاهرةً «غير مألوفة» أو «مرفوضة» بتاتاً. وللمؤمنين أن يعدّوا جزءاً من معتقداتهم عن الله «مبنية على التجربة»، ومقبولة عقلاً. إذن، لا يمكن للملحدين أن يطالبوا بشبكةٍ دلالية لمعتقدات المتدينين «المبنية على التجربة»، بحجّة أنها «غير مألوفة» و«عجيبة وغريبة»، ويشكّكون بذلك بقيمتها العقلية، إلاّ إنْ أثبتوا مسبقاً أن الاعتقاد بوجود الله أمرٌ كاذب (أو محالٌ على أقلّ تقدير)([14]).

 

الاعتقاد أو التصديق المبني على القرائن الخبرية

ليست جميع معتقدات المتدينين من نوع المعتقدات «المبنية على التجربة». فكثيرٌ من المعتقدات الدينية «مبنيةٌ على التصديق»، أي استنتجوها من معتقداتهم الأخرى. وبتعبيرٍ آخر: تصديق هذه المعتقدات يبنى على القرائن، أو بتعبيرٍ أدقّ: القرائن الخبرية. والمراد بالقرينة هنا خبرٌ لو افترضنا صدقه يكون تصديق خبرٍ آخر في ضوئه مقبولاً عقلاً، أو يتيح حجّة على صدق الخبر الثاني أو رجحانه.

ويمكن تصنيف القرائن المتعلقة بالمعتقدات الدينية في نوعين: القرائن العامة أو الخارجة عن نطاق الدين؛ والقرائن الخاصة أو المنبثقة من داخل نطاق الدين.

ويُراد بـ «القرينة العامة» لأمرٍ دينيّ ما خبرٌ يحتلّ موقع القرينة بعيداً عن المعتقدات ومصادر التوثيق الدينية، أي (أ) يمكن تصديق هذا الخبر (أو القرينة) دون الاستناد إلى المعتقدات ومصادر التوثيق الدينية؛ و(ب) إنْ تمّ تصديق هذا الخبر (أو القرينة) يكون الإذعان بصدق الخبر الديني ذي الصلة به «مقبولاً عقلاً»، أو يتيح حجّة لتصديقه أو رجحان صدقه. فمثلاً: يبني كثيرٌ من المؤمنين المتعقّلين اعتقادهم بوجود الله على براهين فلسفية (إذا افترضنا ثبوت مصداقيتها) لا تتبع في إثبات مصداقيتها المعتقدات الدينية ومصادر توثيقها. ويمكن اعتبار هذا النوع من البراهين مصاديق لـ «القرائن العامة». إذن، «القرينة العامة» فاعلةٌ كقرينة لدى المؤمنين وغير المؤمنين.

لكنّ «القرينة الخاصة» لخبرٍ دينيّ ما هي خبرٌ يثبت مصداقيته على أساس المعتقدات الدينية ومصادر التوثيق الدينية فحَسْب، أي (أ) صدق ذلك الخبر (أو القرينة) تثبته المعتقدات الدينية ومصادر التوثيق الدينية؛ و(ب) إذا افترضنا صدق ذلك الخبر (أو القرينة) يكون قبول الخبر الديني ذي الصلة به «مقبولاً عقلاً». إذن، «القرينة الخاصة» لها فاعلية القرينة لدى المؤمنين فحَسْب، وتبرّر قبول الأخبار الدينية من منظور ديني، وداخل جماعة المتدينين فقط.

وفي هذا السياق ينبغي حمل العبارة: «مقبول عقلاً» على معنىً خاصّ، وهو أن يتلقى فردٌ من منظور ديني «دليلاً» على صدق خبر ديني ذي صلةٍ به، أو رجحان صدقه. فمثلاً: إذا سأل مسلمٌ: هل الصوم واجب؟ تكون آية من القرآن تتحدث عن وجوب الصوم على المسلمين «دليلاً» و«قرينةً» له (بمعنى «القرينة الخاصة»)، يبني عليه اعتقاده بوجوب الصوم. في مثل هذه الحالة لآية القرآن فاعليّة القرينة فقط للمسلمين الذين يعتقدون بحجّية القرآن في مقام التشريع، ويمكنها أن تكون «دليلاً» لهم للتصديق بوجوب الصوم. لكنْ ليس لتلك الآية فاعلية القرينة لغير المسلم أو غير المؤمن. إذن ما له دَوْر القرينة أو الدليل في تصديق معتقد (ديني) من منظور ديني لا يمتلك ضرورةً ذلك الدَّوْر من منظور خارج إطار الدين.

وبالطبع تضطلع «القرينة الخاصة أو الدينية» بدَوْرٍ مهمّ في موضوع «المعقولية داخل نطاق الدين». وأسعى هنا للتدقيق في شأن هذا النوع من القرائن. تأخذ «القرينة الخاصة أو الدينية» طابعها الإلزامي والمحدِّد من حجّية المصادر الدينية. فمثلاً: في الإسلام للقرآن وسنّة النبيّ الصحيحة الحجّية الدينية، أي إذا تبيّن أن الخبر (أ) ورد من القرآن أو السنّة الصحيحة فيكون له بذلك دَوْر الإلزام والقرينة الملزمة لدى المسلمين. فإما أن يجعل الاعتقاد بالخبر أمراً مقبولاً ومسلّماً به، أو على أقلّ تقدير يدعمه ويدفع باتجاه تصديقه.

من المفيد هنا أن ندقّق في طابع الإلزام في «القرائن الخاصة أو الدينية». من أين لهذه القرائن طابع الإلزام؟ وبعبارةٍ أخرى: لِمَ يجد المتديِّن هذه القرائن «دليلاً» على صدق معتقدٍ ما، أو رجحان صدقه؟

يبدو أن طابع الإلزام في هذه القرائن يأتي من إرجاعها إلى الله. فمثلاً: يفترض أن مضمون القرآن والسنّة الصحيحة يكشف عن حكم الله أو رأيه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وبما أن المسلم المؤمن اتّخذ أمر الله وحكمه أساساً لحياته الدينية ابتداءً إذن الأحكام والآراء المأخوذة عن القرآن والسنّة الصحيحة حجّةٌ مقبولة لديه.

لكنْ يحتاج هذا الادّعاء إلى مزيدٍ من التدقيق: يبدو أن فكر المسلم وحياته الدينية (بما أنه مسلمٌ) ينتظمان على أساس عدّة افتراضات مهمة:

(1) يوجد ربٌّ قديرٌ، خبيرٌ، ومصدرٌ للخير.

(2) الإنسان ملزمٌ باتباع إرادة هذا الربّ وحكمه.

(3) إرادة هذا الربّ وحكمه قد انعكسا في كلامه (القرآن) والسنّة الصحيحة لنبيّه، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

مَنْ يتقبل العبارات الماضية لا بُدَّ أن يؤمن بحجّية كلام الله وأحكامه الواردة في القرآن والسنّة الصحيحة. وإنْ تبيّن أن الخبر (أ) في نصّ القرآن أو السنة النبوية الصحيحة يدعم الاعتقاد بالخبر (ب) يكون لديه قرينةٌ أو دليلٌ ملزمٌ لتصديق الخبر (ب) أو رجحان صدقه.

لكنْ من الناحية الإبستمولوجية الأخبار المذكورة من (1) إلى (3)، ليست في نفس المستوى؛ فالخبر (1) خبر ميتافيزيقي، والاعتقاد بصدقه (مع افتراض وجود ربّ كذلك) مقبولاً ـ ولو ابتداءً ـ على أساس الإدراك (التجربة الدينية) أو الاستدلال (براهين إثبات وجود الله). إنْ كان الله موجوداً، وفيه كلّ كمال، فأيّ حكمٍ وأمر من قِبَله يحتلّ مكانةً خاصة، أي يُعَدّ عين الصدق والخير.

لكنّ حتى إذا اعتبرنا «أمر» الله عين الصدق والخير لا يعني ذلك أن اتّباع أمر الله وإرادته «لازمٌ»، أي إن أمر الله؛ لمجرد كونه صادراً عنه، وبما أنه (كما افترضنا) عين الصدق والخير، ليس له شأن الإلزام والتكليف. ففي الحقيقة ما يعطي «أمر الله» طابع الإلزام هو تصديق الخبر (2)، الذي لا يستنتج منطقاً من الخبر (1)، أي من الممكن أن يؤمن أحدٌ بوجود الله القدير والخبير ومنبع الخير، لكنْ لا يجد نفسه ملزما بأوامره. فمن هذا الخبر: (أ) الله موجودٌ، وهو قدير وخبير ومنبع للخير، لا يمكن من حيث المنطق استنتاج أن (ب) أوامر الله القدير والخبير ومنبع الخير ملزمةٌ.

ومن ناحيةٍ أخرى واضحٌ أن ليس بالإمكان الإذعان بضرورة اتباع أمر الله على أساس حجّية أمره. فتصديق أمر الله على أساس أنه صادرٌ من الله دَوْرٌ باطل. وإنْ لم يعتقد أحدٌ بأنه ملزم باتباع أحكام الله لا يمكن إلزامه بها. إذن، يكون لأمر الله (أو اختصاراً: ما ورد في نصّ القرآن والسنّة الصحيحة) شأن القرينة والدليل الملزم إذا ما كان الفرد يعتقد بالخبر (2) مسبقاً، ودون الاستناد إلى مصادر الحجّية الدينية.

وبعبارةٍ أخرى: ما يضفي على «أمر الله» طابع التكليف والإلزام ليس كونه صادراً من الله، بل الإذعان الحُرّ من قِبَل الإنسان لأمر الله. ولذلك خاصّة، لا حجّية لأمر الله لمَنْ لا يقبل الخبر (2)، ولا يمكن اعتباره قرينةً أو دليلاً لتصديق خبرٍ ما أو رجحان صدقه. إذن «القرينة الخاصة أو الدينية» تجد أثرها بعد أن يجتاز الفرد مرحلة «التسليم» والإذعان، ولها شأن الحجّة والدليل فقط في دائرة مَنْ تخطّوا هذه المرحلة، والتحقوا بمجتمع المتدينين.

إذن، يرقى الخبر (1) بأمر الله إلى مكانته المرموقة.

ويدل الخبر (ب) على مقام التوجيه والتكليف الملزم لأمر الله.

أما الخبر (3) فينتقل بحجّية أمر الله، بعد مرحلة الإذعان و«التسليم»، إلى نصوص ومصادر تاريخية خاصّة، كالقرآن والسنّة الصحيحة، أي يلبس أمر الله في مقام الإلزام والتكليف الملزم لباس التاريخ، ويربطه بمصادر وأحداث خاصّة (وهي هنا القرآن والسنّة الصحيحة). وبمجرد أن يحصل هذا الاقتران يصبح مضمون القرآن والسنّة الصحيحة للمسلم (بما أنه مسلمٌ) «قرينة خاصة دينية»، ويكون بذلك أساساً ودليلاً لتصديق اعتقاد محدّد أو رجحانه على معتقدات أخرى.

لكنْ ما هو الدليل في تصديق الخبر (3)؟ كيف يمكن لفردٍ ما اعتبار نصٍّ تاريخي خاصّ (كالقرآن) معبّراً عن أمر الله وحكمه؟ ما هو الأساس الإبستيمولوجي في هذا التصديق؟

في رأيي إن أهم أساس إبستمولوجي في هذا الموضوع هو حجّية «النقل» أو شهادة الراوي (الصادق). إنْ ثبت هذا الادّعاء فحجية «النقل» أو شهادة الراوي (الصادق) شرط لازم لظهور «قرينة خاصة أو دينية» (في صورته العينية والتاريخية).

وبعبارةٍ أخرى: شهادة الراوي (الصادق) ـ مثلاً: شخص النبيّ ـ تنتهي بنا في ظروف خاصة إلى المعرفة أو الاعتقاد المقبول (مثلاً) بأن القرآن كلام الله. وعلى هذا الأساس يصبح لما يأتي به هذا النصّ (أي القرآن) دَوْر القرينة (الخاصة) أو الدليل الملزم لدى المسلم.

لكنْ هل يمكن أساساً أن يصبح «النقل» أو شهادة الراوي (الصادق) دليلاً على تصديق اعتقادٍ معين (كاعتبار القرآن كلام الله) من ناحية إبستمولوجية؟

من المفيد ابتداءً مناقشة الدَّوْر المعرفي لـ «النقل» أو «شهادة الراوي» بشكلٍ عامّ وخارج الفضاء الديني. فهل يُعَدّ النقلُ قرينةً معتبرة لتصديق معتقدٍ ما أو رجحانه، من المنظور الإبستمولوجي؟

المراد هنا بـ «النقل» هو أن يسعى شخص (الراوي) ـ وإنْ ظاهراً ـ إلى أن ينقل للآخر (المتلقي) معرفةً في شكل خبر. إذن، يتشكّل «النقل» من أربعة عناصر أساسية، هي: (1) الناقل أو الراوي، أي مَنْ رأى حدثاً ما مباشرةً، ويخبر عنه، أو سمع خبراً من أحد وينقله بدَوْره إلى آخر؛ (2) المنقول، أي محتوى الخبر أو المعلومة التي من المفترض أن ينقلها الناقل؛ (3) المتلقي أو مستمع الخبر، أي مَنْ يتلقّى شهادة الناقل؛  (4) الأرضية أو الخلفية المعرفية في انتقال المعومات، أي الخلفية المعرفية التي ينقل الراوي الخبر إلى المتلقّي في إطارها.

فالسؤال الأساس هو: هل شهادة الراوي أو ناقل الخبر تُعَدّ قرينةً أو دليلاً مقبولاً للمتلقّي أو المستمع، في تصديق محتوى ذلك الخبر أو رجحانه؟ هل يَسَعني تصديق خبرٍ ما بمجرّد سماعه من الشخص (أ)؟ وهل يكون اعتقادي به مقبولاً، لأضعه في منظومة معتقداتي؟

ولتسهيل المناقشة نحدِّد البحث في سلسلة الروايات التي تحوي عنصرين فحَسْب: متحدّث أو راو؛ ومستمع أو متلقّ. لنفترض أني أسأل عابراً في الطريق عن الوقت، ويجيبني: «الساعة الثالثة وعشر دقائق مساء». في هذه الحالة بمجرّد أن يخبرني العابر يظهر لديّ اعتقادٌ بأن «الساعة الثالثة وعشر دقائق مساء». فهل اعتقادي هذا مقبولٌ عقلاً؟ يبدو في «الظروف الاعتيادية» أن الجواب إيجابيّ. لكنْ ما المراد بـ «الظروف الاعتيادية»؟ في «الظروف الاعتيادية» نفترض (مثلاً) أن الصدق هو القاعدة، وليس استثناءً، أي إن غالبية الناس صادقون في غالبية الأمور، ولذلك هم جديرون بالاعتماد عموماً. كما أن الراوي يتمتّع بمعرفةٍ كافية عن الخبر الذي ينقله، والمستمع أوالمتلقّي في وضعيةٍ يمكنه تلقّي الخبر بشكلٍ صحيح، كأنْ يتمتّع بالقابلية الذهنية والفكرية الضرورية لذلك، وتدعم منظومة معتقداته محتوى الخبر، وتنسجم معه. في المثال الأخير ليس لديّ أيّ دليلٍ لأظنّ أن العابر يريد خداعي. كما يبدو أنه يتمكّن من قراءة الوقت بشكلٍ صحيح من ساعته اليدوية. أنا أيضاً في حالة طبيعية، فمثلاً: لا أستعمل أيّ مادّةٍ مخدّرة، وسمعي بحالٍ جيدة، وجواب العابر ينسجم وسائر معتقداتي، كأنْ يكون لديَّ علم مسبق بمرور عدّة ساعات من الظهر. وبالطبع ليس بالضرورة أن يكون اعتقادي مستنتجاً من المعتقدات في خلفيتي الفكرية لذلك الأمر. فبمجرّد أن سمعتُ جواب العابر ظهر لديَّ اعتقادٌ بأن «الساعة الثالثة وعشر دقائق مساء». وبالطبع لو راجعت خلفيّتي الفكرية؛ لأيّ سببٍ كان، في وقت تلقّي الجواب لوجدت الظرف «اعتيادياً». إذن، في هذه الظروف اعتقادي الذي ظهر على أساس شهادة ذلك العابر مقبولٌ عقلاً. لكنْ إنْ توفّرت (مثلاً) قرائن تشكِّك بصدق العابر أو بصلاحيته، أو بقدرتي على التشخيص، أو التناقض بين معتقداتي وادّعاء العابر (كأنْ أعلم بأن الوقت صباحٌ، وليس مساءً)، تكون هناك أدلةٌ مقبولة لاعتبار أن الظروف ليست «اعتيادية». وإنْ عُدَّتْ الظروف «غير اعتيادية» على المستمع أو متلقي النقل اعتماد معايير أكثر صلابة في تصديق مضمون الخبر، كأنْ يتفحّص توفّر الشروط اللازمة لقبول ما نقله الراوي في الموضوع المعين؛ فإنْ تبيّن توفُّرها حينذاك يكون اعتقادي بمحتوى ما نقله الراوي استنتاجياً، وليس تلقائياً. فقد تحقّقتُ ابتداء من صدقه مثلاً، ثم تقبّلت ما نقله نتيجة لذلك.

يبدو أنه في «الظروف الاعتيادية» هناك أصلان مهمّان في خلفيتي المعرفية يمكنني بناءً عليهما اعتبار اعتقادي المبنيّ على نقل الراوي أو شهادته مقبولاً عقلاً([15]):

الأوّل: «أصل الصدق أو الاعتماد». وعلى أساسه الناس صادقون وجديرون بالاعتماد، إلاّ إذا توفّر دليلٌ ينقض ذلك.

الثاني: «أصل بساطة التصديق». وعلى أساسه للمستمعين أو المتلقّين قبول أخبار الرواة عقلاً، والاعتقاد بها، إلاّ إذا نقض دليلٌ ذلك.

وعلى هذا الأساس يمكن صياغة الأصل الإبستمولوجي التالي (ولنسمِّه «أصل حجّية النقل»):

أصل حجّية النقل: يمكن للفرد (أ) الاعتقاد بالأمر (ج) بناءً على شهادة الراوي (ب)، واعتقاده هذا مقبولٌ عقلاً، فقط إنْ لم تتوفّر قرينة غير قابلة للدَّحْض، لتنقض ذلك.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن نقل الراوي الصادق أو شهادته ليسا مصدرا معرفة جديدة بحدّ ذاتهما. فالدَّوْر الأساسي لما ينقله الراوي الموثوق أو شهادته «انتقال» المعرفة، وليس «إنتاجها». وبعبارةٍ أخرى: ينبغي أن تحصل المعرفة على أسس أخرى (كالإدراك الحسّي أو الاستدلال العقلي)، ثم يأتي دَوْر الراوي الموثوق لينقلها من شخصٍ إلى آخر. من هذه الناحية يشبه النقل أو الشهادة «الذاكرة»، فالذاكرة بحدّ ذاتها ليست مصدراً لإنتاج المعرفة الجديدة، فدَوْر الذاكرة هو «حفظ» المعرفة، لا «إنتاجها». فمثلاً: إنْ لم يعلم أحدُهم أمراً ما لا يمكن للذاكرة توفير المعرفة به لوحدها، لكنْ إنْ حصل على معرفةٍ من خلال طرق أخرى، بعيداً عن الذاكرة (كالإدراك الحسّي أو الاستدلال العقلي)، حينذاك يمكن للذاكرة تخزينها له وحفظها على مدى الزمن. فما دامت المعرفة محور الموضوع انعدام العلم بالأمر (أ) لدى المتحدّث أو الراوي لا يثمر العلم به لدى المستمع أو المتلقّي في حال نقله الراوي أو شهد به([16]).

لكنْ هل ما ينقله الراوي الأمين أو شهادته دليلٌ مقبول لتصديق معتقدٍ ما أو رجحانه، حتّى إنْ لم يكن الرواي نفسه على دراية واعتقاد مقبول بمضمون الخبر؟ يكفي هنا توفُّر دليل لدى مستمع الخبر أو متلقّيه على صدق الراوي وكونه ثقةً، حينذاك يكون اعتقاد المتلقّي المبنيّ على نقل الراوي اعتقاداً مقبولاً، وإنْ لم يتوفّر فيه عنصر المعرفة ضرورةً. ولنفترض مثلاً أني أسأل عابراً عن الوقت، فينظر إلى ساعته اليدوية، ويقول: «الساعة الثالثة وعشر دقائق مساء». لكنْ في الحقيقة ساعته اليدوية معطلة، وقد أطلعني على الوقت بناءً على حَدْسه. في هذه الحالة «لا علم» للعابر بالمعنى الدقيق للكلمة بأن الساعة الثالثة وعشر دقائق. إذن اعتقادي المبنيّ على نقل العابر أو شهادته (أي اعتقادي بأن «الساعة الثالثة وعشر دقائق») ليس مصداقاً للمعرفة. لكنْ لنفترض أن لديّ دليلاً يدفعني إلى الاعتقاد بأن غالبية العابرين في هذا الطريق جديرون بالثقة، وقد التقيتُ مرات عدّة بنفس هذا العابر وسألتُه عن الوقت، وكان جوابه دقيقاً. على هذا الأساس تفيدني شهادة ذلك العابر قرينة لتصديق أن «الساعة الثالثة وعشر دقائق مساء». وبالطبع ليس لهذا الاعتقاد في ظلّ الشروط المذكورة مصداقية المعرفة، لكنّه مقبولٌ، وإنْ كان كاذباً، أي حتّى وإنْ لم تكن الساعة في ذلك الوقت المحدّد الثالثة وعشر دقائق. إذن، لمستمع الخبر أو متلقّيه اعتماده على أساس صدوره من الراوي، ويكون اعتقاده به مقبولاً، بشرط توفُّر دليلٍ لديه على صدق الراوي، وأنه محلّ ثقة، ولا تبقى قرينةٌ ناقضة لهذا الاعتقاد دون أن تُدْحَض. في هذه الحالة من الممكن أن لا يفيد هذا الاعتقاد المعرفة، لكنّه (على الأقلّ بدايةً) مقبولٌ عقلاً([17]).

ولنفترض أن يأتيني صديقٌ ويطلعني بأنه رأى بعينه سفينة فضائية في السماء وهو في الطريق، فهل يمكنني التوصُّل من نقله وشهادته إلى الاعتقاد بأن «هناك سفناً فضائية حقيقية»؟ وإذا توصلت إلى هذا الاعتقاد بناءً على شهادته فهل سيكون اعتقادي مقبولاً عقلاً؟ ولنفترض أني أعتقد بأن «العلم يطلعنا على عدم رؤية شيءٍ باسم السفينة الفضائية في مجرّة درب التبانة، ولذلك من المستبعد رؤية سفينة فضائية في سماء الكرة الأرضية». في هذه الحالة يتناقض محتوى الخبر الذي أتى به صديقي وإحدى المعتقدات المقبولة في منظومة أفكاري، وقد يؤدّي هذا التناقض إلى تردُّدي في تصديق مضمون الخبر، أي قد تُعَدّ الظروف «غير اعتيادية»؛ بسبب مضمون الخبر «غير المألوف». في هذه الحالة تصديق «وجود سفن فضائية» قد واجه ما ينقضه، وهو اكتشافات العلم الراهنة. إذن، في مثل هذه الحالة عليَّ التأكُّد من توفُّر الشروط الضرورية لتصديق شهادة صديقي قبل الأخذ بها.

ولنفترض الآن أني أعرف الراوي منذ سنين، وأعلم بأنه ذو أخلاق، وبغاية الصدق، ولم يطرأ أيُّ تغيير غير مألوف في تصرفاته وشخصيته الفردية والاجتماعية، وأعلم أنه عالمٌ بارز في علوم الفضاء؛  ومن ناحيةٍ أخرى أعلم أن الاكتشافات العلمية الحديثة لا تنفي وجود سفينة الفضاء، لكنّها تستبعد احتمال وجودها في سماء الكرة الأرضية (وبعبارةٍ أخرى: اكتشافات العلم الحديثة «قرينة ناقضة نافية» لادّعاء الراوي، وليست «قرينة ناقضة معاكسة» له). كما أنّني على دراية بأن بعضاً من ذوي الخبرة قد ادَّعوا من قبلُ بأنهم رأَوْا سفينة فضائية في سماء المدينة. في مثل هذه الظروف بالإمكان أن آخذ بادّعاء صديقي، وسوف يكون اعتقادي بوجود سفينة فضائية في سماء المدينة بناءً على شهادة ذلك الصديق مقبولاً، وإنْ ابتداءً.

كما نرى، إن حجية النقل تتبع إلى حدٍّ كبير شخصية الراوي؛ إذ يستمدّ الخبر قيمته من شخصية الراوي. فما ينقله الراوي أو شهادته يؤخذ بهما، وينتهيان إلى اعتقادٍ مقبول، إذا ما كان الراوي معروفاً بالصدق والأمانة (كأحد الشروط). فالصدق والأمانة يضمنان قيمة خبر الراوي، ويجعلان الاعتقاد بما يدّعيه مقبولاً عقلاً.

يمكننا الآن الرجوع إلى سؤالنا الأصلي: على أيّ أساسٍ يمكن اعتبار نصّ تاريخي محدّد (كالقرآن) متضمّناً لكلام الله وأمره؟ ما هو الأساس الإبستمولوجي في تصديق هذا الأمر؟

كما أشَرْتُ سابقاً، قد يكون أحد الأجوبة المقبولة هو حجّية نقل الراوي الصادق أو شهادته. فلنفترض بأن هناك ربٌّ، وقد دخل في علاقة حوارية (وَحْي) مع إنسانٍ. في هذه الحالة هل توفِّر تجربة الإدراك لدى ذلك الإنسان أو النبيّ (في ظروف خاصّة) له العلم بكلام الله معه (فهذا العلم بالنسبة للنبيّ نوعٌ من الاعتقاد «المبنيّ على التجربة»). ولنفترض الآن أن هذا الإنسان ينقل تجربته ومضمونها إلى شخصٍ آخر، ويطلعه على أن مجموعة أخبار (أ) (وهي هنا القرآن) كلام الربّ معه، فهل في مثل هذه الظروف يحقّ للمستمع قبول ادّعاء صاحب التجربة؟ وهنا تلعب الخلفية المعرفية لتبادل النقل دَوْراً مهمّاً. يجدر بنا بحث الموضوع في حالتين:

الحالة الأولى: «الظروف الاعتيادية». وأهمّ ما تمتاز به الخلفية المعرفية في «الظروف الاعتيادية» أن ظاهرة اتصال الإنسان بالمجرّدات، ومنها: الله، تشكّل جزءاً من المعتقدات السائدة بين المخاطَبين. وبالإمكان في مثل هذه الحالة أن يسمع أحدٌ ادّعاء النبيّ، ولما لم يكن لديه دليلٌ على عدم صدق النبيّ وأمانته يصدِّق ما ادّعاه النبي تلقائيّاً، ودون استنتاج، أي بالنسبة لهذا الشخص يعمل الأصلان: «أصالة الصدق» و«أصالة سهولة التصديق». ولذلك بناء على أصل «حجّية الوثوق بالنقل» يعتقد بأن «القرآن كلام الله» على أساس شهادة الراوي (أي شخص «النبيّ»)، ويكون اعتقاده هذا مقبولاً عقلاً، ما لم تكن هناك قرينةٌ ناقضة لم تُدْحَض.

الحالة الثانية: «الظروف غير الاعتيادية». و«الظروف غير الاعتيادية» حين يكون مضمون الخبر «غير مألوف»، ويثير «العجب والاستغراب». ففي سياق هذا البحث إذا افترضنا بأن الظروف غير اعتيادية لا يمكن الانتهاء إلى الاعتقاد بأن «القرآن كلام الله» بطريقة تلقائية، ودون استنتاج.

لكنْ في بعض الأحيان في «الظروف غير الاعتيادية» أيضاً يمكن للمخاطَب الانتهاء إلى الاعتقاد بأن «القرآن كلام الله» (بطريقة الاستنتاج) على أساس شهادة الراوي، ويكون اعتقاده مقبولاً عقلاً. فلنفترض مثلاً أن شخصاً يتوصل إلى أن محمداً بغاية الصدق و«الأمانة» على أساس تجربته الشخصية وبشهادة المجتمع، وهو من الناحية المعنوية إنسانٌ حسّاس، وذو معرفة وتجربة بالسلوك المعنوي الفردي. ومن ناحية أخرى تكون لدى المستمع أدلّةٌ على أن اختبار وجود الله والاستماع إلى كلامه ظاهرةٌ لا يتوقّع حدوثها، لكنّها ممكنةٌ، وقد تكون له بحدّ ذاته تجاربه المعنوية في حياته الخاصّة. ويبدو في هذه الحالة أنّ نقل الراوي الصادق أو شهادته (أي محمد الأمين) يصبح دليلاً لتصديق أوترجيح الاعتقاد بأن «القرآن كلام الله».

وبعبارةٍ أخرى: إنْ اعتقد أحدٌ بأن «القرآن كلام الله» بناءً على ما ينقل محمد أو يشهد عليه يكون اعتقاده مقبولاً عقلاً، ولو في بادئ الأمر (ما دام لم تظهر قرينة ناقضة لهذا الاعتقاد لم تُدْحَض).

وبالطبع إنْ لم يكن الراوي على «علمٍ» ودراية بمحتوى ما ينقله (على سبيل المثال: يكون قد أخطأ في فهم تجربته، فأصبح مضمون ما نقله كاذباً) لا يفيد ما ينقله ويشهد به المعرفة، أي لا يمكن للمخاطَب الحصول على معرفةٍ بما يدَّعيه على أساس نقله أو شهادته. لكنْ حتّى في هذه الحالة أيضاً الاعتقاد الذي ينشأ على أساس شهادة الراوي في عقل المخاطَب يكون مقبولاً عقلاً، إنْ توفّر لدى المخاطب دليلٌ على صدق الراوي وأمانته.

إذن، بالنسبة للمتديِّنين، الذين يؤمنون بصدق النبيّ وأمانته، شهادته حجّةٌ مقبولة، ويمكن اعتبارها قرينةً أو دليلاً داعماً لما يدّعيه. في هذه الحالة شخصية النبيّ هي الداعم لرسالته. ولذلك إنْ قال النبيّ الصادق بأن «القرآن كلام الله»، واعتقد المؤمنون بأن «القرآن كلام الله»، يكون حينذاك اعتقادهم مقبولاً عقلاً على أساس هذه الشهادة.

ويصبح بذلك نصّ تاريخي محدّد مظهراً لكلام الله وأحكامه (بطريقة مقبولة عقلاً) بالنسبة إلى مجموعة من الناس، وتنتقل بذلك حجّية أمر الله وكلامه إلى ذلك النصّ التاريخي المحدّد (أي القرآن) من منظور هؤلاء المؤمنين. في هذه الحالة يصبح مضمون نصّ تاريخي محدّد، أي القرآن، «قرينة خاصة دينية» تتمتّع بالحجّية لمجتمع متديّن محدّد، ويضطلع بدَوْرٍ مهمّ في تصديق أو رجحان تعاليم الدين.

وبالطبع لا حجّية لهذا النصّ بالنسبة إلى مَنْ لا يعتقد بوجوب اتّباع إرادة الله وحكمه، أو لا يؤمن بصدق النبيّ وأمانته، ولا يتّخذ أولئك هذا النصّ قرينةً. لكنّ عدم حجّية القرآن والسنّة الصحيحة لغير المسلمين والكافرين لا يدلّ إطلاقاً على عدم حجّية هذه المصادر بالنسبة إلى المسلمين، أوعدم امتلاكها موقع القرينة، أو لزوم اتّباع المسلمين الكفّار في ذلك.

ج ـ الحصيلة

حصيلة البحث إلى هنا كما يلي:

* يصوغ المتديِّنون معتقداتهم الدينية بطرق مختلفة:

1ـ في بعض الأحيان تكون المعتقدات الدينية «مبنية على العمل»، أي تصاغ عملياً أو من خلال الممارسة. فعلى سبيل المثال: على الرغم من عدم توفّر الأدلة والقرائن النظرية الكافية والقاطعة لتصديق المعتقد الديني، إلاّ أن المتديِّن يأخذ نفسه به، ويصدِّقه بقلبه، ويتّخذ منه منظوراً للنظر إلى العالم، وأساساً يبني عليه حياته الدينية، آملاً صدق ذلك المعتقد.

2ـ في بعض الأحيان تكون المعتقدات الدينية «مبنية على التجربة»، أي تحصل نتيجة التجارب الخاصّة (أو «القرائن غير الخبرية»).

3ـ وأحياناً تكون المعتقدات الدينية «مبنية على الاعتقاد»، أي تبتني على معتقدات الفرد (أو «القرائن الخبرية») الأخرى. وقد يكون لهذه القرائن الخبرية تصديقٌ عامّ خارج إطار الدين (»القرينة العامة»)، وقد تتحدّد حجّيتها داخل إطار الدين («القرينة الخاصة»).

* يبرر اضطلاع «القرائن الخاصة الدينية» بدَوْر القرينة في نصّ دينٍ محدّد على أساس الحجّية المعرفية لـ «النقل» أو «شهادة الراوي الصادق».

* إن المصادر والأسس الدينية الضالعة في ظهور المعتقدات الدينية، في ظروف محدّدة، تجعل تلك المعتقدات مقبولةً عقلاً، وإنْ ابتداءً على أقلّ تقدير، أي تتمتّع المعتقدات الدينية الناتجة عن المصادر والأسس الدينية بالمعقولية داخل إطار الدين.

* تكفي المعقولية الدينية لـ (استمرار) التزام المتديِّنين بمعتقداتهم الدينية، إذا لم تكن هناك قرينةٌ ناقضة لتلك المعتقدات لم تُدْحَض («شرط المعقولية الدنيا»).

* بعبارةٍ أخرى: تبنى المعتقدات الدينية على أساس القرائن والمصادر داخل إطار الدين. وفي ظلّ ظروف محدّدة تكون مقبولةً عقلاً (أي تتمتّع بالمعقولية داخل إطار الدين). وهذه المعقولية مقبولة إذا تمتّعت هذه المعتقدات بالمعقولية الكامنة خارج إطار الدين، أي أن يتمكّن المؤمنون من دَحْض ما يثار لنقض معتقداتهم الدينية بشكلٍ مقبول، ويكون ردّهم مقنعاً للشهود المثاليين المحايدين أو اللاأدريين.

* إنْ تمكّن المؤمنون من دَحْض ما يثار لنقض معتقداتهم الدينية بشكلٍ مُرْضٍ ومقبول سيكون استمرارهم في التمسُّك بمعتقداتهم مقبولاً عقلاً.

* وإنْ لم يتمكّن المؤمنون من دَحْض ما يُثار لنقض معتقداتهم الدينية بشكلٍ مُرْضٍ ومقبول فإمّا أن يكفّوا عن التمسُّك بمعتقداتهم بحكم العقل؛ أو أن يقدِّموا تفسيراً جديداً لمعتقداتهم لا تطاله يد ذلك النقض، إنْ أمكنهم ذلك (التوجُّه المنسوب إلى ابن رشد).

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) باحثٌ وكاتبٌ متخصِّص في مجال فلسفة الدين وعلم المعرفة.

([1]) أودّ هنا شكر الصديق الفاضل السيد ياسر ميردامادي، الذي قرأ المقال بدقّة قبل نشره، وأتحفني بآرائه القيمة.

([2]) من الممكن اعتبار نموذج إصلاح الفكر الديني لدى محمد مجتهد شبستري وعبد الكريم سروش مصاديق لـ «الإصلاح الحداثوي».

([3]) قد يُعَدّ نموذج مواجهة الفكر الديني لدى السيد حسين نصر من مصاديق «المنحى التقليدي الرافض للنقد». ومن المفيد أن أؤكِّد هنا بأني استخدم تعبير «المنحى التقليدي» في معنى مختلف عن «الإنسان التقليدي»؛ فإني أجد أن الذي يتّخذ «المنحى التقليدي» يتّجه إليه عالماً بالحداثة، أي إن منحاه نحو التقليد ضربٌ من التفاعل أو ردود الأفعال تجاه ما تقتضيه الحداثة، لكنّ «التقليدي»، يغوص في التراث بعيداً عن الحداثة، أي إنه لا يحمل أيّ تجاوبٍ أو ردّ فعل أو تفاعل تجاه الحداثة. فبناءً على ذلك من الممكن تصنيف كثير من علماء المسلمين، كالشيخ صافي الكلبايكاني أو الشيخ وحيد الخراساني، كعلماء «تقليديين». لكنّ السيد حسين نصر عالمٌ «ذو منحى تقليدي».

([4]) للتوسع أكثر في هذا الموضوع راجِعْ:

Van InWagen, Peter, The Problem of Evil, OxfordUniversity Press, 2006. Lecture3. Pp. 37-55.

([5]) لمعرفة هذا الاختلاف راجِعْ:

Pollock, John, Contemporary Theories of Knowledge, Rowman and Littlefield Publishers, 1986, 2nd edition.

Also, Plantinga, Alvin, Warranted Christian Belief, «The Natureof Defeaters», Oxford University press, 2000, pp. 358-365.

([6]) للاطلاع على بحثٍ جيّد حول إمكانية اجتماع هاتين العقلانيتين راجِعْ:

Sudduth, Michael, «Reformed epistemology and Christian apologetics», Religious Studies39, 299-321.

([7]) الشكل العام لمغالطة الإثبات على أساس فقدان الدليل (Appeal to ignorance) هو تقريباً كما يلي: «ليس هناك دليل أو قرينة لإثبات الموضوع (أ)، إذن هذا الموضوع منتفٍ ولا وجود له».

([8]) للتعرف على «الدليلية» في نطاق الفكر الديني، وأهمّ ما جاء من نقدٍ عليها، راجِعْ مثلاً:

Plantinga, Alvin, ”Reason and Belief in God», in Faith and Rationality: Reason and Belief in God, ed. By Alvin Plantinga and Nicholas Wolterstroff, University of Notre Dame Press, (first printed 1983) 2004, pp. 16-93.

([9]) لا يقع رفضة الدين فقط في فوضى خلط مراتب العقلانية، فبعض المتدينين أيضاً لا يلتفتون إلى الاختلاف بين مراتب العقلانية، ويجعلون من العقلانية القصوى ملاكاً لتقييم معتقداتهم الدينية. فإنْ لم تتوفّر معتقداتهم الدينية على تلك المعايير يجدونها غير مقبولة عقلاً، و(دون أيّ ضرورة عقلية) يتركونها أو يعيدون صياغتها جذرياً. فمثلاً: يقول كاتبٌ في نقد الاعتقاد بأن القرآن كلام الله: «لا يمكن إثبات أن القرآن كلام الله. فحَسْب فهمي لا يوجد سبيلٌ بشري (عقلي ـ تجريبي) لإثبات أن القرآن كلام الله». ويقول في موضعٍ آخر: «لكنْ ليس هناك ما يدلّ على أن القرآن كلام الله، وحَسْب فهمي لا يمكن أن يوجد يوماً مثل هكذا دليل». (أكبر گنجي، «إمكان وامتناع إثبات كلام الله»، 26/آذر/1387، موقع راديو زمانه، (http://zamaaneh.com/idea/2008/12/post444.html). وبناء على هذه المقدّمة: ليس هناك سبيل بشري (عقلي ـ تجريبي)، أي خارج نطاق الدين، لإثبات قضية دينية يستنتج بأن الاعتقاد بها غير مقبول عقلاً. فمن هذا المنظور تعاليم الدين مقبولة عقلاً فقط إذا وافقت شروط العقلانية القصوى، أو يعتقد بعضهم بأن معارف الدين تتبع تماماً المعارف المتأتية من خارج نطاق الدين، ومستهلكة لها (ويجب أن يكون كذلك)، أو يرَوْن أن فهم القرآن على أسس لا يؤيِّدها منكرو الدين ليس بفهم. ويمكن اعتبار آراء كهذه مصاديق على خلط مراتب العقلانية من قبل المتدينين.

([10]) هذا النموذج من العقلانية يشبه من جوانب مهمّة الدَّوْر الذي جعله كثيرٌ من المتكلمين المسلمين من الأشاعرة، وفي مقدّمتهم أبو حامد محمد الغزالي، للعقل في نطاق الدين (أو علم الكلام). فمثلاً: يرى الغزالي في المنقذ من الضلال أن غاية علم الكلام هي حفظ معتقدات السنّة وصَوْنها من الشبهات التي يأتي بها أهل البِدَع. وبعبارةٍ أخرى: كان يرى أن أهمّ دَوْر للعقل (أو تجلّيه في علم الكلام) هو الدفاع عن ساحة الدين وصَوْنها من الشبهات، من خلال تبيين التناقضات والالتباسات في موقف المخالفين في نقدهم لتعاليم الدين؛ أو كما يقال اليوم، وورد في هذا المقال، واجب المتكلِّمين الجوهري هو نفي القرائن والأدلة الناقضة لتعاليم الدين. وقد كتب عن ذلك الغزالي في مواضع مختلفة، منها:

أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزّة والجلال: 10، اعتنى به: محمد إسماعيل حزين وشذى رائق عبدالله، نشر موقع الفلسفة الإسلامية.

لكنّ النموذج الذي يطرحه هذا المقال أكثر إيجابية تجاه النقد الخارجي. فمثلاً: يعتمد أكثر على دَوْر العقل في التمييز في نطاق التعاليم الدينية. ففي هذا النموذج، كما تبين، لا ينحصر دَوْر العقل في الدفاع السلبي عن تعاليم الدين، بل يمكن للعقل، ولا بُدَّ له، أن يعمل كمصفاةٍ على تمييز منظومة المعتقدات الدينية من التعاليم الكاذبة، وتشذيبها من تلك التعاليم، وأن يكون فعّالاً في إصلاح إدراكنا من التعاليم الدينية وتهذيبه.

من بين الإبستيمولوجيين الدينيين المعاصرين يؤيّد ألفين بلانتينغا ونيكلاس ولتراستورف هذا النموذج من العقلانية في نطاق الدين. فمثلاً: يرى ألفين بلانتينغا أن المعتقد المقبول أو warranted معتقدٌ لا يبقى له قرينة ناقضة إلاّ نُفيت. ويسعى في كتابه Warranted Christian Belief أن يدافع عن معقولية المعتقدات الدينية ومقبوليتها بنفيه ما ورد من النقد والنقض عليها. وللتعرُّف على هذا الفهم من المقبولية أو warrant، وإدخالها في نطاق معتقدات الدين، راجِعْ:

Plantiga, Alvin, Warranted Chritian Belief, Oxford University Press, 2000, pp. Ch. 11.

Also, Plantinga, Alvin, «Reason and Belief in God», in Faith and Rationality: Reason and Belief in God, Alvin Plantinga and Nicholas Wolterstroff, (eds), University of Notre Dame Press, first printed 1986, pp. 16-93.

وللتعرُّف على آراء ﻧﻴﻜﻮﻻس ووﻟﱰﺳﺘﻮرف في هذا المجال راجِعْ:

Wolterstorrf, Nichols, «can belief in God be rational if it hasno foundations?» in Faith and Rationality: Reason and Belief in God, Alvin Plantinga and Nicholas Wolterstroff, (eds), pp. 164-172.

أيضاً راجِعْ:

Sudduth, Michael, «reformed epistemology and Christian apologetics».

([11]) ابن رشد، كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال: 35، قدّم له وعلّق عليه: الدكتور ألبير نصري نادر، ط2، دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية)، بيروت، لبنان.

([12]) للتعرف على الاختلاف بين الاعتقاد (Belief) والقبول (acceptance) راجع المقال التالي:

Alston, William P., «Belief, Acceptance, and Religious Faith», in Jordan andHowardـSynder (eds.) , Faith and Rationality, Rowman and Littlefield Publishers, 1996, ch. 1, pp. 3-12.

أيضاً راجِعْ:

Audi, Robert, «Faith, Belief, and Rationality» Philosophical Perspective. Vol. 5, Philosophy of Reliegion (1991), pp. 213-239.

Audi, Robert, «Belief, faith, and acceptance», International Journal Philosophy of Religion (2008) 63: 87-102.

وللتعرُّف على نقد موقف آلستون في هذا الخصوص راجِعْ:

Vahid, Hamid, «Alston on Belief and Acceptance in Religious Faith», The Heythrop Journal, (2009), pp. 23-30.

([13]) للاطلاع الأدقّ على الشروط التي تجعل المعتقدات المبنية على التجربة مقبولة وموثوقة (warranted) راجِعْ:

Plantinga, Alvin, Warrant and Proper Function, Oxford University Press, 1993, Ch. 1, pp. 3-21.

([14]) للتعرُّف على بحثٍ جيّد عن المعتقدات المبنية على التجربة وقيمتها العقلية راجِعْ:

Clark, David, «Faith and foundationalism», in The Rationality of Theism, Paul Copan and Paul K. Moser (eds.), Routledge, 2003, Ch. 2, pp. 35-54.

Also:

Alston, Wiliam P., «Religious Experience and Religious Belief», Nous 16 (1982).

Plantinga, Alvin, «Is Belief in God Properly Basic?», Nous XV (1981).

Pargetter, Robert, «Experience, Proper Basicality, and Belief in God», Philosophy of Religion 27 (1990).

([15]) في ما يخص هذين الأصلين راجِعْ:

Reid, Thomas, Inquiry and Essays, R. Beanblossom and K. Lehrer (eds.), Indianapolish: Hackett, 1938, pp. 94-95.

([16]) راجِعْ مثلاً في هذا الخصوص:

Plantinga, Alvin, Warrant and Proper Function, Oxford University Press, 1933, pp. 83-86.

كذلك:

Audi, Robert, «Testimony, Credulity, and Veracity», in Epistemology of Testimony, Jennifer Lackey and Ernest Sosa (eds.), Oxford University Press, 2006, pp. 25-49, see esp. pp. 28-31.

([17]) في ما يخصّ الاختلاف بين دَوْر النقل أو الشهادة في انتقال المعرفة (knowledge) والارشاد(justification) راجِعْ:

Plantinga, Alvin, Warrant and Proper Function, pp. 86-87.

كذلك:

Audi, Robert, «Testimony, Credulity, and Veracity», pp. 31-32, and also:

Audi, Robert, Epistemology: A contemporary introduction to the theory of knowledge, Routledge, 1999, ch. 5, pp. 135-137.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً