أحدث المقالات

التربية العربية الإسلاميّة

إشكاليات التنظير وتحديات الواقع

كَثُر الحديثُ في الآونةِِ الأخيرة عن ضرورة الإصلاح التربوي

والعملِ على إرساء إرساء نظام تربوي حديثٍ يَخلو من مُكوّناتِ الصِّدام والعنفِ والإرهاب. وذلك إثْرَ المضاعَفاتِ الخطيرةِ والتداعيات الكبيرة التي خلَّفتها أحداث إرهابيَّةٌ تعرّضت لها الولاياتُ المتحدة الأميركية في القلب.

مع أنَّ العملَ الإصلاحيَّ في أي ناحية من الواقع الإنساني المعاصر، إسلامياً كان أم لا، هو أمر مطلوبٌ وضروريّ للحياة‌ المدنيَّة، بَيْد أنَّ قسطاً كبيراً من الحوافزِ الراهنةِ للإنطلاق نحوَ التطوير التربوي هو ناتجٌ عن ممارسة ضغوطٍ هائلة من قِبَل الذين تضرّروا جَرّاءَ «الأحداث». وإنَّ حيّزاً واسعاً من الرغبةِ في العمل الإصلاحي والتغييري جاء من قِبَل «الأنظمة‌السياسيَّة» «المتفهّمة» للهزّة‌ الإرهابيَّة التي زَلزلتْ تحت أقدام الأميركيين وسبَّبت اضطراباً حقيقياً على المستوى العالمي، وأفضى إلى ترسيخ الخوف والهول داخلَ أكثر من نظام سياسي رُعبًا مِن أن يكونَ هو الهدفَ القادمَ لهؤلاء الإرهابيين الذين يبحثون عن أي هدف يؤدّي تدميرُه إلى تقويض المصالح العائدة إلى القوى الكبرى ولا يبالون في ذلك طبعًا من أن تكون الضحايا فيها هم مذنبين حقاً أم أبرياء مدنيين. ورغم أنَّ هكذا تعاملاً مع الآخر المُعادي وحتّى المعتدي سوف يُسفر عن ممارسة‌ِ ظلمٍ هائلٍ وينتهي بالأمرِ إلى سَفكِ الدِّماء البريئة وقتلِ الأنفس النائية من بُؤرة الإفساد إلاّ أنَّ مما لا شكّ فيه هو أنَّ مثلَ هذا المنعطفِ التاريخي قد سبَّب إحراجاً غير اعتيادي للطرف الآخر الأقوى سابقاً؛ لأنّه قد خسرَ أكبرَ ألا سلاحٍ له وهو إمكانيَّة تخبئة الخُططِ الاعتدائيَّةِ والاستعماريَّة القاهرةِ خلفَ الحالة المدنيَّة.

من هنا ينبغي لنا القول إنَّ ضغوطاً على الدول الحاوية لجماعاتٍ تتبنى الوسائلَ الإرهابيَّة وأساليبَ العنف لاستئناف التنظير التَربويّ وتطوير البرامج المؤثّرة في الشخصيَّة والعقل لتكون غير ضارّة بهم! أشدّ مما تمّت ممارستها سابقاً هي في الطريق قادِمةٌ مُدركينَ أنَّ الأنظمة التربويَّةَ والمفاهيمَ الأيديولوجيَّةَ هي التي تُؤسّس للروح الفدائيَّة وهي التي تزرع في عمق الشخصيَّة الإرهابيَّة أعلى درجات الجهوزيَّة للتحوّل إلى قنبلة بشريَّة لا ترحمُ أحداً كيفما كان وكائناً من كان هذا الآخر. (هكذا هم يفسّرون الواقع طبعاً وهذا لسان حالهم).

مِن الحقِّ أن يُقالَ إنَّ هناك مشاكلَ تربويَّةً

هذا هو كان خلفيّةَ استشاطةِ الخاسرينَ غضباً، وكذلك دوافعُ تفهّمِ الأنظمة السياسيَّة العربيَّة والإسلاميَّة قسراً لِما جَرى على المخيَّم الغربي جَرّاءَ «الأحداث».

إلاّ أنَّ الحقيقةَ تقول: إنَّ التربية وعمليَّةَ بناء مكوّناتٍ من الوعي والأخلاق في عمق الشخصيَّة الإنسانيَّة المعاصرة ضمنَ نظامٍ تربويٍ صالحٍ لا يعرقلُ عمليَّةَ التواصلِ الحضاري ولا يمنعُ التعايشَ السليمَ هي قد اُهْملت وتم تجاهُلها في السياق الحضاري الغربي وكذلك في عالمنا الذي يصفونه بـ «العالم الثالث».

تَخلَّفَ النظامُ التَربويّ الغربي إثرَ إرساء قواعد الحياة الليبراليَّة والمبنيّةِ على المصلحة والاستهلاك المادّي فتحوّلت الشخصيَّةُ الإنسانيَّة الغربيَّة بعدَ ذلك إلى كائنٍ هو إلى الآلة والشَّيء أشبهُ منه إلى إنسانٍ ذي قلب وعاطفة وإيمان يتبني العلاقةَ مع الله والإنسان والطبيعة من منطلق الخير والطُّهر والسعادة. وإنَّني قد سمعت خبراً مدهشاً من الإذاعة اليومَ يقول: إنَّ متوسّطَ التحادثِ بين الزّوجين في الغرب هو أقلُّ من 15 دقيقة يومياً! ولا أظنّني بحاجةٍ إلى "التعليق التَربويّ" على مثل هذا الخبرِ والإشارةِ إلى أخطرِ التَّداعياتِ التربويَّةِ التي تَحدثُ ضمنَ هذا الواقعِ التربويِ المأساويّ في الغرب. أقول هذا لكي لا يتوهّمنَّ أحدٌ منّا بأننا بحاجة إلى الإصلاح كي نرتفع إلى مستواهم!! وهم يملكون نظاماً تربوياً قد أتحفهم ذلك النظامُ شخصياتٍ لطيفةً لا تبحث إلاّ عن خيرٍ ولا تتحدَّث إلا عن حقوق النمل والنحل! متجاوزين مرحلة حقوق الإنسان مستوفين كل ذلك له!

إلاّ أننا من جهة أخرى غيرُ قادرين على إخفاءِ التخلّف التَربويّ والسلوك غير المرغوب فيه تربوياً على صعيد الذات، والذي هو حصيلةُ تجاهلٍ مُطبقٍ للاهتمام التَربويّ المنظَّمِ لدى الأوساطِ العربيَّة والإسلاميَّة، وإهمال العمل على صياغة منظومةِ قيمٍ يُحال الأمرُ صياغتها وفي تطبيقها على الصعيد الإسلامي النفسيّ إلى مؤسَّساتِ أبحاثٍ تربويَّةٍ تَصوغُ هذه المنظومةَ التربويَّةَ وَفقاً للقيم والمعائير الإنسانيَّة في القرآن الكريم وقطعيّ السنَّة.

من هنا يجب القول إنَّ التربيةَ المعاصرة هي ضحيّةُ التوغّلِ الغربيّ في المادة والاستهلاك والتشرّد الشَّرقي بمنأى عن «الشهود» الغربي و«الغيب» المَنسيّ لدى الطرفين.

فَجَوات وآفاتُ النظامِ التربويِ العربيّ إسلامياً

رَغمَ التأكيدِ السابقِ لإلتقاء المجتمَعَينِ الغربيِّ والإسلاميِ على فُقدانِ التوازن التَربويّ وعدمِ الاعتدالِ في نظام القِيَم المعتمَد لديهما، وضرورةِ العمل من الجانبين على إعادة الصياغة للتربية الحضاريَّة أسُساً ومبادئَ وآلياتٍ ووسائلَ؛ إلا أنَّ المقام هذا هو للحديث عن «النظام التَربويّ» العربي والإسلامي، حيثُ كان موضوعُ المقالِ هو السعيَ لتسليط الضوء على ثُغُراتِ التربية في المجتمعات الإسلاميَّة؛ فنُحيل الحديثَ عن مفاسد الرؤية التربويَّة السائدة على الواقع الحضاري في الغرب إلى مجال لاحقٍ وعددٍ آخرَ من المجلة إن شاء الله؛ لأنَّ العمل على إصلاح الذاتِ أولى من الحديث عن إصلاحِ الغير وهو إلى الإمكانِ أقرب.

خلل الرؤية والفقرُ الفلسفيُ للبُنَى النظريَّة في التربية

إنَّ المدرسةَ التربويَّةَ الإسلاميَّة تقوم على أسسٍ تنظيريَّةٍ حولَ «الغَيب» و«الإنسان» و«الكَون» وما يتّصلُ بالعلاقات المَحبوكةِ السائدة على هذه الثلاثيَّةِ، حيثُ نجد فيها جدليَّةً دقيقةً يجب الحفاظُ على الاعتدالِ والتوازن في كُلّيتها وشُموليّتها كي تنطبقَ التصوّراتُ والتصديقاتُ – حسبَ المصطلح المنطقي – فيها على الرؤية الإسلاميَّة بدقّةٍ. ومن ثَمَّ فإنَّ أجزاءَ النظام التَربويّ قد تتداخلُ عناصرُه وتتراكَبُ وتتآلفُ على خلفيات من هذه الرؤى الفلسفيَّة القائمة حولَ هذه العلاقةِ الجدليَّة الثلاثيَّة: الغيب الإلهيّ، الإنسان الصائر المستخلَف والطبيعة الخادمة والمسخَّرة له للتحقّقِ والصَّيرورةِ.

وفيما يتعلق بهذا الجانب النظري والفلسفي في الرؤى التربويَّة العربيَّةِ، فإننا نلاحظُ انحرافاتٍ وفَجَواتٍ هي غايةٌ في الخطورةِ والسلبيَّة. بعضها يَظهر من خلال تلاشي العلاقةِ الدقيقة بين هذه العناصر، كتغلّب الحالة الغيبيَّة والقطيعة بينها وبين الواقع المشهود. حيث أدَّى مثل هذه الرؤيةِ السلبيَّة تجاه الحياة عند بعض النخبة الإسلاميَّة إلى تكوين توجّهٍ انعزاليّ وفكرةِ استحباب العيش على ضِفاف الحياة وإبداءِ الكراهيَّة الشديدةِ لِعُمران الواقعِ المشهود الخارجي ومن ثمَّ تأسيساتٍ تربويَّةٍ خاطئةٍ في بناء مفاهيمَ سلبيَّةٍ عن الدنيا والاجتماع والزهد وغيرها من المفردات المتكاملة ضمن المنظومة القيمية الإسلاميَّة.

أـ نظرةٌ تشائميَّةٌ إلى الاختلاط مع الحياة وبناء العلاقة المتوازنة والمتشابكة مع الواقع الطبيعي الموضوعيّ والواقع الإنساني المجتمعي فيها؛ نظرة كهذه قد أخلّت في تركيبة وهَندسة بعضِ النظريات التربويَّةِ في العمق، وسبَّبت تفسيراتٍ خاطئةً عن المنظومة المصطلحاتيَّة القرآنيَّةِ للتربية، وأسَّست في ضوء تراكمات تاريخيَّة في الاجتهاد غير الشّمولي و«الفهمِ العضينيّ» للفكر الإسلامي أسَّست مفرداتٍ غيرَ أصيلةٍ لِما يُسمّى اليومَ بالنظام التَربويّ العربي.

لا أقصد من مصطلحِ النظام التَربويّ هنا، ما هو دارج على الألسن وفي الوسط الثقافي الرسمي؛ لأنَّ الأنظمةَ التربويَّةَ المدرسيَّةَ والجامعيَّةَ اليوم هي ليست وليدة السعي الإسلامي للتأسيس التربويّ وإنَّما هي ناتجة عن استيراد ثقافي ناقص وغير دقيق للأنظمة التربويَّة من الخارج وهي لا تحظى بتأريخ عريق ولا يتجاوزُ عمرُها أكثر مِن قرت مِن الزمن. بينما الإشكاليَّةُ التربويَّةُ وبالذات على مستوى الرُّؤى الشاملةِ والنظرياتِ الأساسيَّة، هي قد تكوّنت بفعل عمليَّة فهم وتفسير غيرِ دقيق وغير مُستوعبٍ لفلسفة الدين وبالتالي، رؤية غير متكاملة لـ «الإنسان» في ضوءها. إنّها حقّاً إشكاليات كبيرة قد أسَّست لمدارس فكريَّة عربيَّة وإسلاميَّة التهت بالصراعات الفكريَّة الَّتي تمَّ توظيفها وحتّى استغلالها من قِبل الأنظمة السياسيَّة الموسومة بالإسلاميَّة تاريخياً. وإنَّ حلقاتِ هذه الرؤى والفلسفات التربويَّة غير مكتملة وغير مُؤهَّلة لتصل إلى مستوى تكوين «النظام» وأكثر ما يمكن القول فيه هو صالحيتها لِتُعتبرَ «خطابات» تربويَّة لا يتكاتف بعضها مع بعض لصياغة «النظام القيمي» والرؤية الحضاريَّة.

والسبب الرئيس في هذه التفرقة والتفكّك يعود إلى الفقر الشديد في «المرجعيَّة الفلسفيَّة» و«المرجعيَّة المعرفيَّة» في بناء المستويات العُلويَّة للفكر التَربويّ وخطابه؛ أي: تجاهل النَّص القرآني في الصياغة التربويَّة والخضوع للحالات التاريخيَّة حيناً وللاستغلال السياسيّ أو القهر الاجتماعيّ حيناً آخر. وإنَّ عمليَّةَ الفهم والتفسير التَربويّ الديني انطلق في الغالب من البيئة ودوائر «التحرّك» والتحوّل ومِن نصوصٍ قد كانت تهدف إلى معالجة الواقع التاريخي ولم تتحرّك من رأس الهرم و«النظريات» العُلويَّة والتفسيرات الشّموليَّة المتّسمة بالثبات والقواعد القرآنيَّة الأزمانيَّة (وليس الزمانيَّة).

ب‌ـ لابدَّ مِن أن تكون عمليَّةُ صياغة التربية نظاماً وأهدافاً، وآلياتٍ، متلائمةً مع صورةٍ دقيقةٍ تُرسمُ عن الإنسان والحياةِ، وأن تتغذَّى هذه العمليَّةُ التنظيريَّة مِن أسسٍ واعتباراتٍ تفسيريَّةٍ خاصَّة للغاياتِ والفلسفاتِ الإسلاميَّةِ العُليا، والتي هي تَقبلُ لِتكونَ متسمةً بالعقلانيَّة والإنسانيَّة الفطرانيَّة ومِن ثَمَّ العالميَّة. وعلى مستوى المحاولاتِ العربيَّة والإسلاميَّة التي أخفقت وفشلت في أكثر من مرحلةٍ تاريخيَّة، قد يعودُ السَّببُ في ذلك إلى الخللِ في البِناءات العُلويَّة للفكر والثَّقافةِ والمعالمِ العامَّةِ لِلرُّؤى التربويَّة. والأهمُّ من ذلكَ كلِّه هو غيابُ مراجعةٍ نقديَّةٍ مستمرَّة للذَّات لِتحديد أماكنِ الخلل ومعرفةِ أسباب التقصيرِ ومواطنِ العَجز، وضعفِ الأداءِ التربويّ.

والواقعُ التربويّ المتأزّمُ والمتفاقمُ حالياً ينبغي علاجُه بواسطة المصارَحةِ مع الذّات والعملِ الحثيث في إعادةِ صياغة مكوِّنات عملٍ اجتهاديٍّ في التربية هو يحظى بالأهليّات الحضاريَّة وتبتعدُ مِن التقوقعِ والانعزالِ أو التسيّبِ والتميّعِ والانصهارِ.

لأنَّ للإسلام رأيَه في تفسير المجتمع والتأريخ ونشوء الكَون والحَياة، ومَذهبَه في تفسير السُّلوكِ والأخلاقِ، ومَنهجَه في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والثَّقافة، والفُنون، والتَّشريع، والتَّقنين، وقواعده، وأصوله، ومصادره.

لذلكَ فإنَّ الأفكار والنظرياتِ والتوجّهات العامَّة التي تَظهَر ضِمنَ موادٍّ دراسيّةٍ ابتداءً من رياض الأطفال وقبلَها من داخل حريمِ الأسرةِ حتَّى أعلى مراحِل الدراسةِ والتخصُّصِ التربويّ، إلى جانبِ الوَسائلِ الإعلاميَّةِ والتّوجيهِ الثَّقافيّ في المُجتَمع، يجب أن تخضعَ في فَلسفتها العامَّةِ وغاياتِها العُليا للتَّفسير الإسلاميّ الشُّموليّ والفطريّ.

ج – يَنطَلقُ المَنهجُ الإسلاميُّ مِن مَبدأ أساسٍ هُو: الإيمانُ بنقاءِ الفطرةِ واستعدادِ النَّفسِ الإنسانيَّةِ لِتَلقّي الخَير والشَرّ. وإنَّ الاستعداداتِ والمَلكاتِ والقُوى البشريَّة، هي من حيثُ وجودِها في كافَّة أفرادِ النوعِ الإنسانيّ واحدة، إلاّ أنَّها تَختَلفُ في الدَّرجةِ والقُوَّةِ والضَعفِ. وَإنَّ الإنسانَ يَملِكُ الإرادةَ والحريَّةَ والاختيار، وهو مسئُولٌ عَن هذا الاختيار ومُحاسَبٌ علَيهِ ومُجازى به. وهُو قادرٌ على تصحيح مسارِ نفسه وطريقةِ حياته وإصلاحِ بيئته وظُروف المُجتمَع المحيطَة به. وإنَّه قابلٌ للهدايَةِ وقابلٌ للتحوُّلِ والتَطوُّرِ التربويّ. وإنَّ المُرتكَزاتِ الأساسيَّةِ للمنهجِ التربويّ والتصوُّر الصحيحِ لَه قد تُصاغ من خِلال مُراجعةِ نُصوص الوحيِ الّتي تَحظى بتأييد كامِل من قِبَل العقلِ الإنساني.

ولا يعني ما سبقَ هنا عن الرُّؤى الشُموليَّة في المفهوم التربويّ في الإسلام، أنَّ الأبحاثَ الجديدةَ هيَ لا تُجدي نفعاً، كما أنَّه ولا يجب أن نبدَأ من نقطة الصفر لوضعِ مفاهيم ومعالم عامَّة للأداء التربويّ أو لصياغة النظام، ذلك أنَّ توجُّهات عِلميَّةً حديثة تتَّصل بالتربية من المنظور الإسلامي قد طُرحت، غير أنَّ كثيراً من هذه النَّظريات قد لا تندرج تحتَ التصنيف المعرفي والعلمي الجديد ضمن التربية.

ومن الواضح أيضاً أنَّ النَّظريات التربويَّة والتي هي مطروحة على خط «التنشئة» كلّما تتقدَّم وتستجدّ هي تتّسم بالشموليَّة والسّعَة وتزداد أطُرها مساحةً. ذلك بالإضافة إلى الفلسفة الشاملة التي بدأت تنطرح في مرحلة «ما بعد الحداثة» والتي هي مِن مُضاعفات الخسائر الفادحة التي ألحقتها الحَداثةُ بالإنسان وبيئته وبالأحرى بحياته كاملة.

يطرح «غاستون ميالارية» صاحب «مدخل إلى التربية» فكرة عن «تيرانس» مضمونها: «لا شيءَ ممَّا هو إنسانيٌّ نستطيع حُسبانَه غريباً عن التربية الحديثة. فقد أضيفت إلى القوانين المسلكيَّة التاريخيَّة، والحياتيَّة، والنفسانيَّة، والمجتمعيَّة الَّتي جدّدتها الموجةُ العلميَّة المعاصرة، قوانين النسبة العدديَّة بين السُّكان والمكان، وقوانين الاقتصاد وعلوم العمل» .

رغم هذا، فإنَّ التّوجّهَ التَربويّ أو الطرح التَربويّ الإسلامي هو أرحب سعةً ومساحةً وأشمل من حيث اشتماله على وعي رُبوبيٍّ بأبعاد الوجود الإنساني كاملةً. ومن البديهي أن تكون الجهةُ الربُّ هي إلى وضع منهجيَّة تربويَّةٍ وصياغة شموليَّةٍ في الخطط التربويَّة للإنسان «المخلوق» أقربَ من غيرها.

إنَّ الدينَ الإسلامي بِكلّ مصادره المعرفيَّةِ بما في ذلك العقلُ الإنسانيُّ يدعو إلى تضمين النظام التَربويّ كلَّ حاجيات أبعاد الوجود الإنساني، وهذا هو فرعٌ للمعرفة الشاملة له بنفسه.

الأزمة الفلسفيَّة التربويَّة وتعقيدات التنظير

من أفضل ما سمعته حتى الآن حول البحث التَربويّ هو دعوة «دي. جي. أوكونور» في كتابه «مقدَّمة في فلسفة التربية» إلى ضرورة تقديم دراسة الفكر الفلسفي للطلاّب الذين يدرسون التربيةَ في الجامعات. ويرى أنه بدون ذلك التقديم تضيع فرصةُ الطلاب في إمكانية فهم ظروف إنشاء النظريَّة التربويَّة ومعرفة طبيعة الأساس الذي شُيّدت عليه هياكلها المختلفة والكشف عن الطريق الذي اعتمدته في اشتقاق الأهداف التربوية.

إن المعرفة الفلسفيَّة سوف تؤثر في فهم أسباب اختيار المدارس التربوية أساليبَها ومناهجها في البحث التربويّ وغيره أيضاً مما يتصل بالعمل التَربويّ إن الإجابات لفكرية على أسئلة فلسفية من قبيل ما هي طبيعة الإنسان (البشر)؟ وما هي علاقته بالعالم؟ وما هي القيم التي تتلائم معه؟ وما هي أبعاده الوجودية؟ هل الطبيعة البشريَّة خيرة بذاتها أم شريرة أم أنها محايدة؟ وهل هي طبيعة متسمة بالوحدة والتكامل؟

إن الإجابات التي نصوغها للردّ على أسئلة كهذه، تقتضي العودةَ إلى الدَّرس الفلسفي وهي في الحقيقة ذات الإسهام الأكبر في بناء التركيبة والهندسة النظريَّة للنظام التَربويّ.

المثاليَّة، والواقعيَّة، والإنسانيَّة، والطبيعيَّة، والبراجماتيَّة، والوضعيَّة المنطقيَّة، والوجوديَّة وغيرها من المذاهب الفلسفيَّة، كلّ واحد منها يقدّم تفسيراً خاصًّا للإنسان والكون، والعلاقة القائمة بينهما وبين الجهة المدبّرة والخالقة لهما. وبطبيعة الحال فإن الإجابة على الأسئلة التي مرّت لن تكون متماثلة لدى هذه التوجّهات الفلسفية حيث إنَّ كلاًّ منها يصوغ أطُرًا فكريَّة ونظريَّة في التربية هي خاصَّة به.

ومن هذا المنطلق، فإن المشروع التَربويّ الإسلامي يجب أن يكون طرحاً ينسجم مع المفهوم الإسلامي العامّ والمُقدَّم ردًّا على الإثارات الاستفهاميَّة الكبيرة. وإن التربية الإسلاميَّة وإن كانت قد اتَّخذت عَبرَ الزّمن أنماطاً مختلفةً، واعتمدت أطُراً متنوعة توزَّعت على الخطابات التربويَّة الفقهيَّة والصوفيَّة والعقلي – الفلسفيَّة؟ وسواها إلاّ أنَّ هذه الدراسات بالنظر الشمولي وبالمفهوم المعاصر لم تكن قد صيغت بالشكل المطلوب. والمشكلة الكبرى الكامنة في ذلك هي التفكك المعرفي والتجزئة في ممارسة العمل الاجتهادي والتوغّل في اختصاصات معرفيَّة مانَعَت تكوّنَ فهمٍ شاملٍ للإنسان، وعرقلت إمكانيَّةَ التَّنظير التربويّ، وبناء النظام السلوكي الذي قد أُخذ فيه بعين الاعتبار «الإنسان» بكل أبعاده. ولعلّ الحاجةَ الكبرى في ذلك للوصول إلى مرجعيَّة تربويَّة شاملة لا تُجزَّء الوجودَ الإنساني، ولا تُفكِّك أبعادَه، ولا تُحاول معالجةَ حياته بالتركيز على ناحية مُهملةً غيرَها، هي الاعترافُ بالقرآن الكريم كمصدر أوّل وأساسٍ لتأسيس أبحاثٍ تربويَّة وللبحث عن ردود على الأسئلة الكونيَّة والشاملة والَّتي هي وحدها تكفل سلامة المشروع النظري الإسلامي للصياغة التربويَّة للقيم من الآفات والمخاطر.

بات من المألوف أن يكتب المسلمون أبحاثاً يسمّونها «النظريَّات التربويَّة» عند المفكرين المسلمين، وذلك بالرجوع إلى بعض المقتطفات الفكريَّة والفلسفيَّة والنظرِ الالتقاطي في آثارهم العلميَّة والعمل على تنظيمها وتنسيقها وتأطيرها ضمنَ منهجيَّة تنظيريَّة في القضايا التربويَّة. رغم أن أصحاب هذه النظريات! ما كانوا على صدد البحث عن صياغة نظريَّة تربويَّة ولا تعدو كتاباتهم مساحاتٍ علميَّةً واسعة ومتنوّعة أحيانًا يطرحون فيها ما يتصل بالتربية وبغيرها؛ إلا أنَّ إشكالياتٍ منهجيَّة في البحث عن «النظريّة التربويَّة» لا تسمح باعتبار أعمالهم «نظريات» ولا يمكننا وصفُ هذه الأبحاث بِمقَوّماتٍ نظريَّة مؤهَّلة لبناء «النظريَّة التربويَّة». وإن كان الحديث عن المشروع التَربويّ الجاحظي أو المنهج التَربويّ عند ابن الجزاء أو ابن طفيل، مثلاً؛ حديثاً شيقاً يُسبّب اعتزازاً في داخل الإنسان المسلم بأن هناك عمليات معرفيَّةً واسعةً في التربية، إلاّ أنَّ الواقعَ هو أنَّ مثل هذه المحاولات غير كافية حتماً لاعتبار الموروث المعرفي التَربويّ صالحاً ليكون النظام التَربويّ الإسلامي؛ لأن التربية والعمل التَربويّ المعاصر، له أبعاد أوسع مما طرحه هؤلاء بكثير وإن استئنافاً جادًّا في الرجوع إلى المرجعيَّة القرآن أولاً بات أمراً ضرورياً لخوض الاختصاص التَربويّ إسلامياً. وأما التحليلات والتنظيرات الفلسفيَّة الطارئة على الفكر الإسلامي وغير المصوغة من خلال التأسيس المفهومي لها قرآنيًّا فهي لا تتجاوز عمليات الأسلمة‍! للفكر الموروث فلسفياً.

إرباك العلاقة الغيبيَّة الشهوديَّة في النظام التربويّ المعاصر

مشكلة الاهتمامات التربويَّة المعاصرة في التنظير والتحليل هي التعصّب الشديد الذي تبدو في الاستفادة العلميَّة من مصادر تربويَّة ضخمة زاخرة بالفكر والنظر مثل النصوص الدينيَّة المنتمية إلى الوحي لأسباب لا يجهلها منّا أحد‍‍!!

وإن عالِم التربية اليوم يريد أن يُخضع الحركة التربويَّة كلها للاختبار المشهود المحسوس المادي ويحلل الوجود الإنساني دون معرفة هذا الوجود ومناشئ تكوّنه! إنه للأمر مدهش حقاً أن يعتمد البحث التَربويّ على مناهج البحث في العلوم التجريبيَّة أساساً دون التفكير في التكوينة المركَّبة والمعقّدة للإنسان والعمل الجادّ على وضع منهجيَّة بحثيَّة في التربية تتأقلم مع هذا الوجود الإلهي الطبيعي.

وعي العلاقة بين العنصر الغيبي والعنصر الشهودي المادي هو بمثابة المفتاح الأصلي لفكّ الكثير من إشكاليَّات قضايا نظام التربية وفي المقابل، إنَّ فقدان أو ضياع هذه العلاقة أو تغليب الجانب المحسوس على المعقول بحيث لا يبقى للثاني وجودٌ قويٌّ بالأمر ملحوظ، سينتهي إلى وضع أفكار ونظريات وأخيراً نظام في التربية، لا يُنتج ثماراً واقعية في تحقيق الأهداف التربويَّة الكبرى على صعيد الشخصيَّة الإنسانيَّة؛ كما أنَّ الارتباكات والاضطرابات النفسيَّة الشديدة التي يعاني منها العقل الغربي ونظامه التربويّ أو حتى الَّتي يعاني منها العقل المسلم الحائر! ستَظَلُّ قويَّةً في الحياة البشريَّة في هذا العصر.

وإن «التنمية» ومشاريعَها وأطاريحها المعاصرة في الغرب، والتي يلحث وراءَها الكثيرون في العالم المسمّى بالعالم الثالث، هي لا تتبنّى مفاهيمَ تربويَّة وأبعاداً متنوِّعةً للوجود الإنساني، كما إنَّها لا تهدف إلاّ إلى ارتفاع المؤشِّرات المادّيَّة للرقيّ والتطوّر ولا تبغي إلاّ زيادة الأرباح والمكاسب الماديَّة فالحصيلة الإنسانيَّة من نظامٍ تنمويّ كهذا هي تحوّلُ الإنسان إلى آلة تتحرَّك وشيء يمشي وينطق، دونَ وجود تبصّر من آفاق ومستقبل ودون الشعور بالتحقّق الذاتي الإيجابي الشمولي.

الأسس التي يُبنى عليها التصور الإسلامي للتربية

يختلف الأسس والمفاهيم التربويَّة التي يختزنها «التصوّر التَربويّ» لدى كلّ مجتمع وثقافة أو دينٍ وانتماءٍ مذهبيّ فكريّ. وأمّا في التصور الإسلامي للتربية وبناء الفهم الصحيح عنه وتحديد المسار له لابد من الالتفات إلى:

1ـ إنَّ مفهوم «التربية» ليس مجرَّدَ أنَّها «عمليَّة قصديَّة يتمُّ عن طريقها توجيهُ الأفراد الإنسانيين» وإنما تعني:

أـ «الفلسفة التربويَّة» التي تُبنى عليها النظريات والعمليَّة التربويَّة في أيّ مجتمع .

ب‌ـ «العلوم التربويَّة» التي ترتبط بفلسفة تربويَّة محدَّدة.

ج‌ـ «التطبيقات التربويَّة» التي تتمّ في المؤسَّسات التربويَّة في ضوء «العلوم التربويَّة».

2ـ إن التربية فلسفةً وعلوماً وتطبيقاً هي، تختلف من مجتمع لآخر، وذلك، تبعاً لاختلاف عقائد المجتمعات وفلسفتها ومتطلّباتها. ولذا، كان من الخطأ الفادح تصوّر صلاحيَّة أيَّة تربية لأيّ مجتمع !

3ـ إنَّ التربية السائدة في المجتمعات الإسلاميَّة ليست وليدة ونتاج الاجتهاد الإسلامي وحصيلةَ العمل التنظيري الديني وما صيغَ ليسَ وفقاً لواقع الإسلامي لأجلِ تحقيق الغايات والأهداف الموضوعة في الفلسفة الإسلاميَّة.

4ـ إنَّ النظامَ التَربويَّ المصوغَ سَيصحُّ إطلاقُ «الإسلامي» عليه إذا كان مقتبساً من مصادر المعرفة الإسلاميَّة، وبخاصَّة، المصدر الرئيس، أيّ القرآن الكريم والمحاولات الاجتهاديَّة في كشف القناع عن معاني آياته الكريمة. من هنا، لا يجوز وصف الجهد البشري البعيد عن هذه المصادر بالمشروع الإسلامي – حتّى لو كان ينطلق من عمل المسلمين – لا يعني ذلك، أن الجهود الحكيمة المبذولة هنا وهناك وحتى التي تردنا من بلاد غير إسلاميَّة هي تُرفض؛ لأنَّ الحكمة هي ضالّة المؤمن، ومن العقل أن يستزيد المرءُ علماً وفهماً بالمشورة والتواصلِ الثقافي؛ غيرَ أن الانفتاح على الثقافات التربويَّة الأخرى أمرٌ، والخضوعَ له مع نسيان الذات الفلسفيَّة والذات الإسلاميَّة المتميزة في الرؤى الكونيَّة والإنسانيَّة الشاملة أمر آخر.

وإنَّ تجديدَ مشروع الصياغة للرسالة التربويَّة إسلامياً، وتحديثَ ترتيب وتنسيق الأهداف الأكثر تفصيلاً، وإعادةَ الاهتمام الجادّ بالوظايف والمهامِّ التربويَّة المتوزِّعة على مكوّنات الحركة التربويَّة عموماً، وفي المؤسّسات والمجالات التربويَّة برمّتها، أمور دقيقة وضرورات ملحّة لا يجب تجاهلها.

كما أن «الإدارة التربويَّة» وفهماً علمياً منها مع مراعاة كافة لوازم التبنّي لها، هي بمثابة الأساس لتطبيق النظريات التربويَّة؛ لأنَّ مجرَّدَ صياغة المواقف والأهداف، دون التضامن في عناصر ومكوّنات «الإدارة التربويَّة» هي ستبقى حبراً على أوراق، أو كلماتِ حقٍّ في الصدور والعقول.

ومن الطبيعي أن تتميَّز حقول هذه الإدارة ومجالاتها وفقاً لتنوّع المجالات الاجتماعيَّة ومقتضيات المؤسسات التربويَّة، ابتداءً من الأسرة ومراحلها المختلفة وتوزع الأدوار التربويَّة الأسريَّة، ثمَّ المؤسّسات التربويَّة متدرّجة من المرحلة الأولى إلى أعلى مراحل التربية الجامعيَّة. ورغم اشتراكها كلِّها في أصول واعتبارات نظريَّة وفلسفيَّة أو المتعلّق بالرسالة التربويَّة العامَّة والغايات الأساسيَّة، إلاّ أنَّ مراتبَ أكثر تفصيلاً من الأهداف، والآليات، والمناهج، والوسائل التربويَّة ستتعدّد وتتنوَّع حسب طبيعة هذه المؤسَّسات. والكفيل بوضع الخطط والبرامج الدقيقة طبقاً لكلّ مرحلة ومؤسَّسة ومجتمع تربويّ هو الذراع الإداري الإسلامي الرشيد للتربية.

ومن الأسف أن نعترف بأن تكويناً إدارياً للتربية ينسجم مع الأفكار والأسس الإسلاميَّة لم يظهر لِحدّ الآن، وأنَّ المسلمين وأجيالهم قد تحوّلوا إلى مجال اختبار النظريات التربوية المستوردة على أبناءهم في بلادهم! والمنذر بالخطر هو قلَّة العمل البحثي المؤسساتي في اختصاص التربية الإسلاميَّة، لا بالمعنى التقليدي والجزئي في الموروث الاجتهادي الإسلامي في التربية ولا بالمعنى الدنيوي الوافد إلينا، وإنما استناداً إلى أجوبة أساسيَّة على أسئلة تتعلّق بالوجود والإنسان وعلاقته بالله وبالإنسان الآخر وبالكون وبالآخرة ويجوز بعد ذلك كلّه صياغتها ووعيها ضمن إدراك فلسفي قرآني.

تغيير المناهج التربويَّة بين تجاذب عناصر التَّأصيل ومخاطر الخارج

دار الجدل حول الدّعوة إلى إعادة النظر وتجديد الخطط المعنيَّة بالمناهج والمقرَّرات الدراسيَّة للوصول إلى مستوى لا يتهدَّد معها أحد، ولإخلاء مضامينها من كافَّة عناصر الدعوة إلى العنف والإرهاب، حسبَ التعبير المألوف هذه الأيّام.

بغضِّ النَّظر عن مترتّبات الانصياع لمثل هذه الدعوة الملحّة من خارج الحدود الإسلاميَّة، فإنَّنا بحاجة ماسَّة إلى النظر الجادّ لترشيد المنهجيَّة التربويَّة، والوصول إلى مرتبةٍ يصحُّ معها وصفُ التربية الإسلاميَّة بالأوصاف الشُّموليَّة مثل الإنسانيَّة والعقلانيَّة والعالميَّة وغير ذلك، دون أخذ الضجيج القائم حولنا بالاعتبار. لأنَّ هذه الصرخات الساسية! الخائفة على تهديد المصالح الغربية أمر علينا جميعاً أن نتفهَّمه ونعمل ما في وسعنا على الحيلولة دون تنشيط الدوائر الإسلامية وغيرها من أن يُعرّضَ الأمنَ والاستقرارَ في أيّ منطقة للخطر والاهتزاز، إلاّ أنَّ «الإصلاح التربوي» هو غاية في الضرورة إسلامياً وعالميّاً وغاية في الدقَّة والحساسيَّة العلميَّة أيضاً؛ حيث لا يجوز معها التهاونُ في الأمر أو الاستيسار والاستسهال، لأنَّ مقومات العمل الإصلاحيّ التربويّ – كما قد أكّدنا ذلك سابقاً – هي صعبة ومتشعّبة وكثيرة بحيث يستحيلُ النجاحُ في إنجازه فورَ الاطمئنان في أنه ضروريّ يجب البدء فيه.

الاستغلالُ السِّياسي والأطماعُ الدولية في الإصلاح التربويّ

إنه من أخطر الإفرازات السلبية الحديثة القائمة حولَ هذا المشروع المطلوب تحقيقه أميركياً وعالميّاً! هو تحوّل العمل الإصلاحيّ في الحقل التربوي إلى «مشروع سياسي» و«مطمح أمني» يُراد منه أن يكونَ الطريق إلى إعاقة النشاطات المهدّدة لهم. ويُطلب منه أن يسبِّب نزعَ كلّ عناصر الممانعة والإباء، وإزالة كافَّة أسباب التحصّن والقوة من «العقل المسلم» أوّلاً و«المجتمع العالمي الثالث!» تالياً.

إنَّنا وفي الوقت الَّذي، نقرّ بكل مرارة بأنَّ الواقع الإسلامي تربويَّاً هو منهار ومتداعٍ وأننا نواجه تداعيات جدّ خطيرة في الفكر الإسلامي المطلوب أن يكون حضارياً؛ وأنَّنا لا نقوم ولن ننهض من قعودنا إلاّ بتفجير نهضة حقيقية من نوع المعرفيَّة والعلميَّة التنمويّة الشاملة، وأيضاً إنَّ «العقل الإسلامي» في هذا العصر، قد تمَّ العمل على صياغته وبناءه وتشكيله بطريقة جدّ ضيّقة قد تتباين وتتضارب في خطوطها الكلّية فضلاً عن التفصيلة، وإن الواجب البديهيّ علينا هو القيام الشّامل على مستوى الأمَّة للتطوير والتغيير والإصلاح في عمق النظريّات، وعلى صعيد الأساليب والمناهج وأيضاً المقرَّرات والبرامج التطبيقيَّة، وتحتّم إخراج الأمة وأجيالها ومجتمعاتها من هذا الذلّ والهوان، ومن هذا التخبّط الغريب المؤدي إلى نسيان مكامن القوة ومصادر «العزّة» الهائلة، والركض وراء الآخرين بطريقة ذليلة ونمط أعمى.

إلاّ أنَّ منطلق «الرغبة الأجنبيَّة» في ذلك التغيير – حتّى لو كان هذا الأجنبيّ بريئاً وصادقاً وناصحاً لنا! وليس عدواً لا يتربّص بالمسلمين إلاّ شراً – لن يكون، هذا المنطلق، صالحاً للبدء بالعمل الإصلاحي العربي. ومن الغريب أن تكون الأمة نائمة ونخبها – علماء ومثقفين – غير مبالين بالهوان الحضاري والتراجع الخطير، على كافَّة المستويات، طوالَ القرون الماضية، وأن تكون مسيرةُ العلم والتربية والحركة الاجتماعية مشلولة وعرجاء، ولكن بمجرّد توجيه الضغوط الخارجية إلى الوسط الإسلامي سياسيّاً وثقافيّاً يملئون الدنيا بنعرات الإصلاح!

نحن كنّا بحاجة إلى التحوّل نحو الصّلاح التربويّ وما زلنا في أشدّ حاجة إليها وأكثرها إلحاحاً للتغيير، غير أنَّ المعالجة يجب أن تخضع لاعتبارات ذاتية، وتنسجم مع الأهداف الأصلية وتتحقق عبر قنوان إسلامية وبالتأكيد على إعادة صياغة للفلسفة الإسلامية للتربية وتجديد قواعد الاجتهاد تمهيداً لتجديد فهم العلماء من عناصر قوة الفكر الديني، والخروج من أزمة العلاقة بين المسلمين ومذاهبهم أولاً، لأن التوجهات المتطرفة الإسلامية أضرّت بالواقع الإسلامي أكثر وأشدّ بكثير مما ألحقه بغير المسلمين.

نظرة إلى التاريخ العربي والإسلامي القريب جداً تثبت أن الحركات الأصولية التكفيرية التضليلية المدعوة بالإسلامية، هي قد تعشعشت فوق الأبنية السياسية وقد تربربت على أيدي الحكومات واختبأت تحت عباءة الأنظمة ذاتها. التفاتة بسيرة إلى هذا الأمس القريب كفيلة للبرهنة على أن النعرات الطائفية والفتن المذهبية الإسلامية في دولنا العربية قد دعمتها الدوائر السياسية واستقوت بها حكومات عربيَّة وغيرُ عربيَّة أحياناً.. وأمَّا اليومَ فيبدو أنَّ السياسة ذاتها قد عزمت على الدعوة الشديدة إلى التغيير بعد ما وقعت في بئر هي التي حفرتها أول مرَّة بيديها.

علينا جميعاً أن نختار أحد الطريقَين، ونتبنّى بكلّ شجاعة وصراحة أحدَ الخيارين: إمّا أن نعود إلى الاعتراف بهويَّتنا الإسلاميَّة وخلفيَّتها الفلسفيَّة الحضاريَّة التي قد ملئت أركانَ النصوص القرآنيَّة بالرُّؤى الشموليَّة الإنسانيَّة السمعة، وبالرّحمة التي جاء الدين لأجل تحقيقها أولاً وكل «القوانين الحدّية» جاءت لضمانة وتأمين هذه الرحمة وندرك أنَّ القيم الإنسانيَّة التي قد تبلورت في التجربة الإسلاميَّة الأولى على يد النبيّ المصطفى محمد (ص) اقتباساً من الكتاب الكريم وتطبيقاً له، قد وصلت إلى ذروة الرحمة والتسامح والحرية.. فنعترف بها كمصادر أساسيَّة وجوهريَّة لتكوين الرؤية الحضاريَّة للعودة إلى المجد الإسلامي، عبرَ تجديد وعيٍ وتحديث اجتهادٍ يُقدُّم الإسلامَ لنا نحن في القرن 21، مُخاطِباً هذا الإنسانَ الموجودَ، متفهماً همومَه وآمالَه وآلامَه، دونَ التمييز بين إنسانٍ وأخيه، مذهب وآخر أو دين ودين؛ واضعين مناهجَ جديدة يمكن تبريرها تحت التوجهات الإسلامية العامة وبالإيمان بالإسلام، كل الإسلام.. وفهم دقيق جداً لعناصر الثبات والتحرك فيه، والعمل على تقديم هذا الدّين (الشامل لكلّ الأديان وغير المنفصل عنها) بحيث يَصدقُ الادعاءُ بكونه عالميّاً وصائناً لحقوق الإنسان، مطلق الإنسان (مادام غير خارج على حقوق الآخرين وغير خارق لحدود حرّيات ومعتقداتهم).

وإما، بكلّ صراحة ودون مجاملة أيضاً يبادروا إلى، رفض هذه العقيدة وكتابها الوحياني الإلهي، وتقديمِ البرهان على أنَّ ما بيد الآخرين هو أكثر كفاءة لصناعة السعادة والراحة الشاملة وتحقيق الأمل الإنساني نحو الخير وحسن العاقبة.

مَن منّا لا يدري عمق مشكلة «المقرّر الدراسي» دينياً كان أو غير ديني؟ بَيدَ أنَّ الفاجعةَ هي إرهاصات الانصياع العربي للمطالب الخارجية في تقديم فلسفة جديدة للتربية ومقررات دينية تخلو من بعض القرآن والسنة، بذريعة اشتمالها على آيات الجهاد والقتال مثلاً‍!

ونحن نطرح سؤالاً مُتوخّين الردَّ عليه من هؤلاء المطالِبين والمطالَبين وهو: هل يقبل الجهاتُ الداعية إلى تحويل النظام التربوي العربي والإسلامي – مع قبولنا للتغيير من منطلق الذات – لإخلاء كل نقاط التأكيد على إثارة العنف والكراهية من برامجهم وأنظمتهم، هل هم سوف يتجاوبون معنا أيضاً لو طالبناهم بإقفال إعلامهم الذي أفسد مجتمعاتنا، وأخلّ بقيمنا، وأثّر سلباً في عمق شخصية شبابنا؟ وهل هم سيَرضون لتحديد نشاطاتهم الفنيَّة المدمّرة للعالم والمُقوِّضة لإنسانيَّة الإنسان المعاصر، وتقليلِ فَرض ثقافاتهم، وبثّ اهتزازهم وانهياراتهم الخُلقيَّة التربويَّة عبر عولَمة الثقافة الفاسدة لديهم أو بالأحرى أمرَكَة العالم ثقافياً وتربوياً وقيمياً؟ وإن كان ردّهم هو «كلاّ‍!» فلماذا ترتفع الأصوات الداعية إلى تغييرنا بـ «الآلاف» ولا ترتفع أصواتٌ بضرورة تعديل إفسادهم في أرض الله وتقويضهم لِفُرَصِ التنمية البشريَّة والاجتماعيَّة وتمهيدهم لإيجاد الزلازل الناكبة سياسياً وأخلاقياً بـ «الآحاد»!؟

إننا نعتبر أن عقولاً إسلاميَّة أمينةً على الأمَّة، وصالحةً للاستخلاف الإلهي على الأرض ومُشفقةً على الإنسانيَّة كلِّها وعلى القيم الموحَّدة فطرةً في الرحمة والتسامح والحرية، والَّتي هي تملك من العلم والالتزام ومؤهلات الإصلاح والتطوير التربوي الخطير قدرَ الحاجة هي وحدها صالحة للخروج بالإنسان (المسلم وغير المسلم، الشرقي والغربي) من مآزقه وآلامه وانهياره في كل ناحية وتسوقه إلى الخير والسعادة الأبدية، وهذا وفقاً لفلسفة تربوية لا مكان فيها للتمييز والعنصرية والمذهبية أبداً.

هذه دعوةٌ قد رفعها عاليةً وصوت إصلاحٍ قد رفعه مجدّدو الأمَّة ونهضويوها من زمن بعيد، عندما لاحت في الأفق الإنساني إرهاصاتُ التراجعِ والانهيارِ. ونحن الآن ومن هذا المنبر الفكري، نحاول إعادةَ الطرح، والحثَّ على نشر هذه الدعوة، ورفض كلّ أشكال العنف والإرهاب ضدّ الأبرياء المدنيين، وتأكيد الحثِّ على ضرورة تعزيز الأمَّة الإسلاميَّة – والإنسانيَّة أيضاً – بكلّ وسائل الممانعة والتحصين الذاتي للدفاع عن النفس لحظة التعرّض للاعتداء ثقافياً، معرفياً، ونفسياً، وعسكرياً. ولا يجوز لأحد أن يحاولَ نزعَ عناصر القوّة الدفاعيَّة من أحد ولا يقبلنَّ منّا أحد بالانصياع للمطالب والمنطلقات الأجنبيَّة في التغيير إلى جانب استنفار الطاقة الإسلاميَّة كافَّة لِمنع تعرّض الآخرين لإضرارٍ وممارسةِ عنفٍ قد ينطلق من المسلمين – حتّى لو كان المنطلق الإسلامي لبعض العنف الموجود لا يعبّر عن الرأي والثقافة الغالبة والسائدة على المسلمين قاطبة وإن هو إلاّ نسبة تافهة من مجمل الأفكار الإسلامية الإنسانية والسلمية.

إن المسلمين والمجتمعات الإسلامية هم ضحايا الإرهاب الدولي المنظّم من قرون بعيدة جداً وإنَّ النظام التربوي الإسلامي لا يتحمل إلا اليسير من موجة العنف والإرهاب الّذَينِ تُحرّكهما غالباً الدوائرُ السياسيَّة والأمنيَّة الغربيَّة. والحالة الراهنة من الخوف والرعب المسيطرَينِ على الأوساط الإسلاميَّة، أنظمةً ونخبةً، ومن ثَمَّ ارتجاف الخطاب الثقافي الإسلامي واهتزازه، من أثر العربدة الخارجية، هي حالة مُدانةٌ، لأنَّ الأوضاع المأساوية في كل ناحية سادت ولا تزال على الواقع الإسلامي وهي أولى لتكون مصدرَ مثيراتِ التطوير وحوافز الإصلاح مما يلاحظ في الأمَّة العالميَّة.

وقبلَ إقامة العزاء والمأتم العربي على ضحايا العنف ضدَّ أشقّائهم الغربيين على الجميع التفكير مليّاً في أسباب التراجع الحضاري وعِلل تلاشي الوجود الإسلامي ثقافياً، وابتلاء المجتمع الإسلامي بأقسى البلايا وأمرّ الأوضاع، لكي لا يذهب الجهدُ الإسلامي العلمي كلّه انفعالاً بصرخة هنا ودعوة هناك؛ ولكي لا تختفي الحقيقةُ الكبرى في المسلمين وهي تخلّفهم الحضاري – بالمقارنة مع المتوقع قرآنياً من الحضارة وليس قياساً مع حضارة غيرنا – وإن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

نقلاً عن موقع نجف ميرزائي الإلكتروني

 

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً