أحدث المقالات

خديجة بهبهاني

لا يوجد مذهب أخلاقي باسم ” المبدئية ” لكنني سأستخدم هذا المصطلح كمُقابل للمذهب ” النفعي “. وأقصد بالمبدئية ذلك الأسلوب في التعاطي مع الأحداث من منطلق مبدئي لا من منطلق نفعي، حيث يكون التعاطي نابع من إيمان بمبادئ معينة وواضحة، على أن لا يكون الإيمان ايمانا شكليا بل يكون ثمرة لحركة معرفية قام بها صاحبها وولّدت لديه اعتقادا راسخا بصحة هذا المبادئ وموافقتها للحق. وإن من أهم لوازم هذا الأسلوب هو وضوح الرؤية وثبات الموقف وتشكيل نمط حياة مُحدّد المَعالم.

وقد أشار المفكر الاسلامي الشهيد د. مرتضى مطهري لهذا المعنى في بحث لطيف له عن ” السيرة النبوية ” في معرض حديثه عن الفرق بين كلمتي ” السير ” والتي تعني المشي،  و ” السيرة ” والتي تعني طريقة ونمط المشي والسلوك، حيث يقول بهذا الخصوص : ” جميع الناس يفكرون ولكنهم لا يفكرون جميعا تفكيرا منطقيا ..التفكير المنطقي يعني أن الانسان يتبع في تفكيره مجموعة من المقاييس التي يُطلق عليها في علم المنطق اسم المخارج، فتكون هي الأساس الذي يبني عليه تفكيره .. وقليلون أولئك الذين يبنون تفكيرهم على هذه الأسس المنطقية بحيث تنطبق على تلك المعايير. وهذا يصح أيضا في السيرة الحياتية، حيث يندر العثور على من يُقيّم سلوكه على أسس من المعايير المعينة التي لا ينفك أبدا عنها. إن أكثر الناس لا يكون سلوكهم وفق أي منطق، وكما أن تفكيرهم غير منطقي يسوده الهرج والمرج، كذلك هو حال سلوكهم ومسيرتهم “. وأوضح الشهيد مطهري أن السيرة النبوية ليست مجرد سرد للأحداث التاريخية التي مرّ بها رسول الله -ص- بل هي استخلاص لأهم المبادئ والقيم التي شكّلت نمط حياته – ص – والتي بناء عليها اتخذ مواقفه وحدد خياراته، وإن هذه القيم والمبادئ هي التي يُفترض أن تكون محلا للاقتداء والتأسي، حيث يقول الله عز وجل في كتابه الكريم : ” لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ “.

أما ” النفعية ” فهو مصطلح أُطلق على  نظرية أخلاقية تقوم على النسبية، وهي تنص على أن أفضل سلوك أو تصرف هو السلوك الذي يُحقق الزيادة القصوى في المنفعة الشخصية. بناء على هذه النظرية فإن كل سلوك يُحقق المنفعة للفرد هو فعل أخلاقي مقبول بغض النظر عن نتائجه وآثاره على الآخرين، وكل سلوك يضر بمنفعته فهو فعل غير أخلاقي غير مقبول حتى لو كانت الفائدة على مجتمعه ومحيطه أكبر بكثير من المنفعة التي ستُسلب منه. ووفق هذا المذهب فإن المعيار الوحيد هو معيار المنفعة أما بقية المعايير والمبادئ فهي قابلة للتبدل والتغيّر متى ما تغيّرت المصالح. وما ظاهرة ” ازدواجية المعايير ” في الساحة السياسية سواء المحلية أو الإقليمية أوالعالمية إلا تعبيرا عن هذا المذهب الأخلاقي حيث تنقلب المعايير والمواقف وفقا لطبيعة الظرف ومقدار العائد النفعي منه. وغالبا لا يُصرّح السياسيون بل وحتى الأفراد ممن يسلكون مسلكا نفعيا بأنهم يتبنون هذا المذهب، إلا أنه يظهر جليا من خلال السلوك والمواقف. والساحة السياسية اليوم زاخرة بالمواقف التي تنعدم فيها المبدئية وتفوح منها رائحة النفعية وازدواجية المعايير.

وما تجب الإشارةُ إليه، هو أن المبدئية لا تعني جمود الموقف بل تعني عدم تغيّره إلا بدافع مبدئي، كأن تحتم الظروف ترجيح المبدأ الأهم على الأقل أهمية فيكون نفس التغيير تغييرا مبدئيا له أسس ومعايير قيمية. في حين أن دوافع تغيير الموقف وفق المذهب النفعي هو التبدل الصِرف للمصالح الشخصية دون أي اعتبار للمبادئ والقيم.

وإن التطور الأخير على صعيد العلاقات العربية مع الكيان الصهيوني وترويج بعض الأنظمة العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني ما هو إلا انعكاسا للنفعية وانعدام المبدئية عند هذه الأنظمة، فهذه الأنظمة لم تكن في يوم من الأيام تَعتبر قضيةَ الصراع مع الكيان الصهيوني قضية مبدئية، بل على العكس، علاقاتها كانت قائمة معه منذ زمن إلا أنها كانت بالخفاء فظهرت اليوم للعلن. إن تبدّل موقف هذه الأنظمة مع الكياني الصهيوني، من تطبيع سري إلى تطبيع علني، هو نتيجة لاختلاف الوضع الاجتماعي والثقافي لدى شعوب المنطقة. ففي السابق لم يكن من الملائم إعلان التطبيع، لما كان سيمثله هذا الإعلان من تحدّي لإرادة الشعوب وإثارة لغضبها وبالتالي تهديد لمشروعية هذه الأنظمة واستمرارية بقائها. أما اليوم فالشعوب العربية والإسلامية شعوبا ممزقة ومنهكة بفعل الفتن والاقتتال الطائفي وشياع ثقافة الكراهية وانشغالها ببعضها البعض، وذلك التهديد الذي كان موجودا في السابق لم يعد موجودا اليوم، بل هناك أطرافا – مع الأسف الشديد – باتت تُطبل لأنظمتها وتشجّعها على التطبيع مع الكيان الصهيوني لمواجهة خطر اسمه ” إيران ” بدلا من “اسرائيل”. وهذا التطوّر إن دلّ على شيء فهو يدل على حجم الانحراف الحاد في تحديد بوصلة الخطر الحقيقي عند كثير من الأطراف، ومقدار الانحدار في الوعي بفعل حملات الكراهية والإعلام المضلل الذي موّلته نفس هذه الأنظمة على مدى سنوات، بالإضافة إلى الإعلام السطحي والهابط الذي وجّه اهتمامات الكثير من شبابنا إلى قضايا سطحية وتافهة بدلا من الالتفات إلى قضاياه الكبرى والمصيرية.

إنّ مقاومة الكيان الصهيوني اليوم لا تحتاج فقط إلى مقاومة عسكرية، بل هي تحتاج أيضا إلى مقاومة بالوعي والفكر والثقافة، مقاومة تنشر القيم والمبادئ الحقة في مقابل القيم المشوهة والمُضللة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً