أحدث المقالات


المقدمة

عملية التقريب والتوحيد من الطموحات الكبرى لكثير من علماء المسلمين، إلاَّ أنَّ الطموح شيءٌ والخوض عملياً في التقريب شيءٌ آخر، إنَّ الخوض في هذه العملية وممارستها عملياً لم يُوفَّق إليه إلاَّ القليل منهم، وكان السيد شرف الدين من هؤلاء الذين وفِّقوا في هذه العملية.

في حياة السيد شرف الدين منعطفات اجتماعية وسياسية ودينية كثيرة أهل للدراسة والتحقيق، إلاَّ أنَّا اخترنا منعطفاً واحداً انعكس في آثاره العملية وتغلّب على باقي المنعطفات، وهو منعطف الحوار بين المذاهب لأجل التقريب بينها.

إنَّ الطابع الغالب في أعماله هو طابع الحوار المكتوب، وهو في هذا المجال عبارة أخرى عن الدراسات التقريبية المقارنة وغير المقارنة، فإنَّه قلَّما تخلو أعماله من هذا النوع من الدراسات، وقلَّما تخلو أعماله من الإشارة إلى مرويَّات المذاهب الأخرى أو آرائها. وباعتبار أعمالي السابقة التي اختصَّت بالحوار([1]) والدراسات المقارنة([2])، وجدت في المؤتمر فرصة مناسبة لدراسة شخصية العلاَّمة السيد شرف الدين وتحليلها من وجهة نظر تقريبية تنسجم مع خلفياتي الذهنية.

في بداية هذا المقال، قسَّمت توجّهات التقريب والتوحيد إلى أربعة، وسعيت إلى أن أتتبْع آثار كلٍّ من التوجُّهات في أعمال السيد وسيرته، وفقاً للمناهج العلميّة المتَّبعة، فوجدته حاملاً لتوجّهين فقط، ولم أعثر على ما يدلّ على حمله للتوجّهين الآخرين.

من خلال دراستنا التحليلة التالية، أردنا بلورة معالم مدرسة السيد شرف الدين في التقريب بين المذاهب، وقد اتّضح لنا أنَّها مدرسة متميّزة، ولم نقل منفردة؛ لأنَّ هناك جوانب دينية وسياسية ذات طابع تقريبي سبقه آخرون بها. ففي الجانب الديني صدرت من السيد البروجردي وأمثاله بوادر التقريب، والسيد شرف الدين لم يكن الأوّل والوحيد الذي خاض العمل التقريبي في هذا الجانب، وفي الجانب السياسي، فإنّ السيد جمال الدين سبقه في الدعوة إلى الوحدة السياسية بين المسلمين. ورغم ذلك كانت لمدرسة السيد شرف الدين التقريبية معالم متميّزة تجعلها تختلف عن مدارس الآخرين ممَّن سبقه أو لحقه.

القسم الأول: توجّهات التَّقريب

يمكن تقسيم التوجّهات التقريبية بين المسلمين إلى سياسية ودينية، ويمكن أن تتبلور من كلٍّ منها مدارس ومناهج شتّى. فعلى الصعيد الديني، مثلاً، حمل السيد جمال الدين منهجاً في التقريب يختلف عن منهج السيد البروجردي، والأخير يختلف منهجاً مع السيد شرف الدين، وهكذا الآخرون.

بالنسبة إلى التوجّه التقريبي في الشؤون السياسية([3])، فقد تمثّل في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية على الصعيدين: الحكومي الدولي والشعبي أو الشعوبي، أمَّا على الصعيد الديني، فيمكن تقسيمه إلى قسمين: وحدوي وتقريبي، والتوجّهات عبارة عما يأتي:

التوجّه الأول: عبارة عن الدعوة إلى الوحدة بين الحكومات الإسلامية التي خاضها في الغالب قادة سياسيون من حكام بعض الدول الاسلامية، وقد لا يكونون ذوي توجّهات دينية بالضرورة، وتدخل منظمة المؤتمر الاسلامي ضمن هذه الجهود، وهي أهم ثمرة أنتجتها المساعي المبذولة هنا، إذ أنَّها تعدُّ بادرة إيجابية أسهمت – بعض الشيء – في فرض المسلمين إرادتهم أحياناً على بعض الأصعدة العالمية.

بالطبع، لم تقتصر نشاطات هذا المؤتمر على الجوانب السياسية فحسب، بل شكّل لجاناً تعنى بقضايا المسلمين غير السياسية كذلك، إلاَّ أنَّ الطابع العام والأساسي لنشاطات هذا المؤتمر هو السياسة والأوضاع السياسية الدولية والإقليمية.

وباعتبار الأهداف الأساسية التي انبثق لأجلها هذا المؤتمر، انحسرت تأثيراته المباشرة على حكومات الدول الاسلامية ولم تصل إلى الشعوب، وكانت جلّ انعكاساته على الصعيد الحكومي الإقليمي والدولي من دون تأثير مباشر وملحوظ على الشعوب.

غالباً ما توجّه البيانات الختامية لهذا المؤتمر خطابها للحكومات والمنظمات الدولية، من دون السعي للتأثير المباشر على الشعوب المسلمة، وهذا التوجّه عكس ما يلاحظ في التوجّه الثاني الذي استهدف الشعوب وعلماء المسلمين في خطابه ودعواته.

التوجّه الثاني: وهو عبارة عن دعوة الشعوب الاسلامية إلى الوحدة من خلال نبذ الخلافات أو الإغضاء، مهما كانت، والتسامح في ما بينها. وقد كان أمثال السيد جمال الدين ومحمد عبده من روّاد هذه الحركة.

كان الهدف من الوحدة السياسية، بكلا توجّهيها، هو توحيد الطاقات والجهود لأجل تخليص العالم الاسلامي من أعدائه الأجانب أو غير الأجانب من الحكام المستبدِّين والمسلَّطين على رقاب المسلمين، إلاَّ أنَّ هذه الحركات والدعوات – كأيّ ظاهرة اجتماعية – كسبت نجاحات كما واجهت إخفاقات في طريقها، لكن الذكر الحسن والمجد يعدّان أوسمة منحها التاريخ لمن سلك هذا الطريق وعانى من أجله.

المبدأ الأساسي الذي اعتمده روّاد هذين التوجّهين هو المصلحة السياسية، سواء كانت على مستوى الشعوب أم الحكومات، فإنّ الهموم المشتركة، وبخاصة في زمن انبثاق حركات التوحيد السياسية، وهي عبارة عن استعمار الدول الاسلامية وامتصاص دماء شعوبها، وكذلك استبداد قادة هذه الدول، جعل من الوحدة ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها.

والملاحظ، في هذين التوجّهين، استخدام مفردة الوحدة بدلاً من التقريب، وهو استخدام مناسب ولا إشكال فيه، من حيث إمكانية الوحدة الحقيقية بين المسلمين في الجانب السياسي، فإنّ السياسة بإمكانها أن تجمع أصحاب الأفكار والرؤى حتى المتضادّة منها، فهي تعدُّ القاسم المشترك بينها، ولهذا نرى تحالفات سياسية إقليمية ودولية بين دول مختلفة عقديََّاً ودينياً، عكس ما عليه التوجّهين الآخرين، فإنّ الوحدة الحقيقية فيهما شبه مستحيلة في الظروف الحالية.

التوجه الثالث: وهو عبارة عن التقريب المذهبي بمستوياته العالية على نحو التذويب والمزج في المجال الثيولوجي (Theology) والإيديولوجي (Ideological) أو العقدي والفقهي، ويقضي بأن تذوَّب المذاهب الاسلامية المختلفة في مذهب واحد يحمل عنوان الإسلام، وتوحَّد المذاهب توحيداً حقيقياً ومن جميع الجوانب، وأهمها العقائد أو أصول الدين.

وهذا النوع من التقريب لم يقل به أحد من علماء الإسلام، ولهذا لا يمكن العثور على دراسات في هذا المجال، إضافةً إلى ذلك فإنّه يواجه إشكاليات مبدئيّة و"مبنائيّة" جمَّة، فإنَّه ينبغي أن يعتمد مبادئ مدروسة متَّفقاً عليها، وذات نتائج قطعية لا يمكن العدول عنها ولا تترك مجالاً للتشكيك والتردُّد، كما يفترض في هذا المجال إعداد الشعوب الاسلامية وأتباع المذاهب لاستقبال نتائج هذا التوحيد وتقبّلها مهما كانت، وهذا أمر صعب المنال في الأُفق القريب على أقلّ تقدير([4]).

حركة التقريب بين المذاهب الاسلامية على العكس من حركة التقريب بين الأديان، لم تتبلور فيها نظريات توحيد تامّة، بينما تبلورت هكذا نظريات في حركات التقريب بين الأديان([5])، وهذا يكشف عن حدّة التعصّبات التي عانت منها المذاهب، والتي زاد الاستعمار من حدّتها على نهج "فرّق تسد"، ومراجعة تاريخ الدول الاسلامية وشعوبها ومعاناتها الفرقة يسوِّغ عدم تبلور نظريات توحيدية.

لقد فرّت مجامع التقريب، منذ بداية تبلورها، من هذا النوع من التقريب ونفته بشدّة بنحو أو بآخر، ففي العدد الأوّل من مجلة "رسالة الإسلام" الناطقة عن دار التقريب بين المذاهب الاسلامية بالقاهرة، ثبَّتت المجلّة طلباً لبعض الحجازيين بالإيضاح عن مهمة دار التقريب، وما إذا كانت هذه الدار تسعى لدمج المذاهب بعضها بالآخر أم لا؟ فكتبت ما يأتي:

"خير ما نجيب به عن هذا السؤال هو أن ننشر ما كتبناه بهذا الشأن إلى حضرة صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز آل سعود، وهذا نصّه بعد الديباجة:

إنَّ قانون جماعة التقريب بين المذاهب الاسلامية وبيانها يوضحان البواعث التي دعت إلى تكوين هذه الجماعة، والآمال التي يرجى أن تتحقّق على يديها للمسلمين جميعاً إن شاء الله، ومع هذا نحب أن نبيِّن في كتابنا هذا إلى جلالتكم بعض الحقائق التي يفيد بيانها في تحديد غايتنا وأهدافنا:

1 – إنَّ جماعة التقريب لا تريد المساس بالفقه الاسلامي، ولا إدماج مذاهبه بعضها في بعض، بل هي – على النقيض من ذلك – ترى في هذا الاختلاف الفقهي مفخرة للمسلمين؛ لأنّه دليل على خصوبة في التفكير، وسعة في الأُفق، واستيفاء وحسن تقدير للمصالح التي ما أنـزل الله شريعته إلاَّ لكفالتها وصونها، وكل ما تبذله الجماعة من جهود في سبيل الفقه الاسلامي، إنَّما هو في دارة خدمته وتنميته، وتسليط نوره الوهّاج على شؤون الحياة الاسلامية كلّها، وبحث المشكلات التي جدّت وتجدّ ولم يتّضح للناس حكم الله فيها…"([6]).

التوجّه الرابع: وهو التقريب من الناحية العقديَّة والفقهية بمستوياته الدنيا، وهو ما مارسته وتمارسه مجامع التقريب في بعض الدول الاسلامية مثل إيران ومصر، وتعدُّ هذه المجامع من أهم ما قام به علماء الإسلام في سبيل التقريب بين المذاهب الاسلامية.

المشتركات المذهبية تعدّ أهم مبدأ اعتمده روّاد هذه النهضة، وهي أعظم وأكثر من الأُمور المختلف فيها، وتشكِّل أمور، من قبيل: التوحيد والنبوّة والمعاد والقرآن والسنة، أساسيات هذه المشتركات ومصاديقها، ويمكن عدُّها منطلقاً للحوار من أجل رفع سوء التفاهم، والتقريب في النهاية.

إضافةً إلى المشتركات الكلية الكبرى التي أشرنا إليها، هناك مشتركات جزئية مبثوثة في التعاليم الدينية جميعها، سواء الفقهية منها أم غير الفقهية، فإنَّ كثيراً من قواعد الأُصول والقواعد الفقهية مشتركة في العنوان والمحتوى، وبعضها في المحتوى والعنوان، وهي من دون شك، تؤثر إيجاباً في التقريب بين المذاهب، واستنباط علمائها أحكاماً وتعاليم مشتركة.

التقريب والحوار

رغم اختلاف هذه التوجّهات بعض الشيء إلاَّ أنَّها جميعها تعتمد أساساً واحداً، وهو مبدأ الحوار، فهو يشكّل الركن الأساس في أي عملية تقريبية أو توحيدية.

إنَّ الحوار هو المبدأ المشترك، والمنطلق الأوّل لعملية التوحيد أو التقريب مهما كان دافعها وتوجُّهها، ولا تقريب من دون حوار، بل لا يمكن تصوُّر معنى التقريب من دون تصوّر الحوار، فإذا كان التقريب يستهدف التوحيد أو التفاهم وتبادل الرؤى والأفكار لرفع الإبهامات والمفاهيم المغلوطة التي يحملها كلٌّ منّا عن الآخر، فلا بدَّ من أن يكون الحوار وسيلة كلّ هذه الغايات وطريق الوصول إليها.

ممّا يمكن أن يختلف في عملية الحوار هو آلياته المستخدمة، فإنّ له آليات متعددة تتغيَّر حسب الزمان والمكان والظروف، ويمكن ذكر الموارد الآتية بوصفها أبرز آليات له.

1 – التواصل المباشر المتمثِّل في المناظرات والنقاشات المباشرة.

2 – الدراسات المقارنة.
3 – إقامة المؤتمرات التقريبية.
4 – المهرجانات والنشاطات الفنية([7]).
 
العلاقة بين التوجّهات

تقسيم التوجّهات إلى أربعة لا يعني بالضرورة تنافيها، ولا يعني أيضاً أنَّ الذي يمارس واحداً منها لا بدَّ من أن لا يمارس الباقي، بل قد تتداخل وقد تنفرد، فالتوجّه السياسي الأوّل الذي يعنى بتوجيه الخطاب إلى الحكومات ورؤساء الدول غالباً ما يتخصّص ممارسوه من الحكام والقادة السياسيين في هذا ولا يعتنون بالجوانب الأُخرى، وعلى العكس من ذلك التوجّهات الأُخرى، فإنّ الذين يمارسون عملية التقريب على المستوى الشعبي والفردي والجماعي في المجال السياسي، فإنَّهم يمارسونه على الصعيد الديني كذلك.

إنَّ نشاطات السيد شرف الدين التقريبية – كما سنعرف ذلك – توزّعت على غير صعيد، بعضها ذو بُعدٍ وتوجّه واحد، وبعضها الآخر ذو بُعدين، وجُلّ نشاطات السيد تحمل أكثر من بُعد، لكنَّا سعينا في هذا المجال إلى التَّفكيك بين أبعادها؛ لتحديد التوجّهات التي كان يحملها تحديداً مضبوطاً والتأكيد عليها، وفقاً لما يقتضيه البحث العلمي.

لا يمكن القول، في كتابيه: "الفصول المهمة في تأليف الأُمّة" و"المراجعات": إنَّهما كتبا مع لحاظ الجانب الديني للتقريب فقط، أو مع لحاظ الجانب السياسي للتقريب فقط، بل قد لوحظ فيهما كلا الجانبين على نحو المزج، بحيث استهدف الجانب السياسي والديني في آن واحد، رغم أنَّه بالإمكان استفادة الجانب الديني فحسب من بعض فقراتهما، أو الجانب السياسي من بعضها الآخر.

القسم الثاني: توجّهات شرف الدين التَّقريبية

لا شك في أنَّ السيد شرف الدين يحمل توجّهات تقريبية، وأعماله الخالدة وسيرته ومشاريعه التي نفّذها تكشف عن هذه التوجّهات، لكنّ الذي نريد التعرّف إليه هنا هو نوعية تلك التوجّهات التي كان يحملها في إطار تقسيم التوجّهات إلى أربعة أقسام، والتي سبق الحديث عنها. فنبتُّ بتتبُّع أعمال السيد؛ لنعثر على ميوله في كلٍّ منها إن كانت موجودة.

شهادات له بالتَّقريب

يقول العلاَّمة السيد محمد صادق الصدر في ترجمته للسيد: "لقد ناضل وجاهد سيدنا ما وسعته الظروف طوال حياته، يدعو المسلمين إلى وحدة الصف، وجمع الكلمة، والبعد عن العصبية الذميمة في خطبه البليغة، ومجالسه الحاشدة ومؤلفاته القيّمة"([8]).

شهد للسيد بروحيَّة الدعوة إلى الوحدة الاسلامية كلّ من ترجم له من علماء الشيعة، وأكبر له روحيته هذه، كما شهد بها من علماء السنة رشيد رضا، إذ أكبر في السيد روحية التفاهم والدعوة إلى الوحدة بين المذاهب في مجلة "المنار"([9]).

وبمناسبة وفاة السيد كتبت "رسالة الإسلام" تقريظاً له تنعاه فيه، باعتباره أحد كُتَّابها وأحد الداعين إلى التقريب، ورد في مقطع منه: "وقد اختمرت في رأسه فكرة التقريب بين المسلمين منذ شبابه، حتَّى إذا سمع بدعوتها أوّل نشأتها، خفّ إليها يؤيّدها وينصرها ويدعو لها ويزكّيها ويفخر بالانتساب إليها، وظلَّ على عهده ذاك إلى أن رفعه الله إليه"([10]).

وهذه شهادة أخرى تُضمُّ إلى باقي الشهادات عن توجّهات السيد التوحيدية، التي استهدف منها توحيد المسلمين سياسياً واجتماعياً.

التوجّه الأوّل

التوجُّه الأول، كما مرَّ بنا، وحدوي سياسي، وقد تزعّم الحركة نحوه بعض حكّام الدول الاسلامية في ظل ظروف الاستعمار والاستغلال التي عاشها المجتمع الاسلامي، وفي ظل التكتلات الدولية التي كانت تمضي قدماً للسيطرة على أكبر قدر ممكن من ممتلكات الدول وأراضيها، نهض بعض الحكّام لإيجاد وحدة بين الدول الاسلامية للوقوف أمام الأهداف التوسعية للدول غير الاسلامية، ولفرض الإرادة والرؤى على الصعيد الدولي من خلال تجنيب العالم الاسلامي الاختلافات الداخلية، فكانت أفضل ثمرة له تشكيل منظمة المؤتمر الاسلامي الذي نال نجاحاً نسبياً في تحقيق أهدافه.

طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية التي عاصرها السيد شرف الدين، وشأن السيّد نفسه، لم يتيحا له الفرصة لأن يمارس عملية التوحيد بين حكومات الدول الاسلامية وحكام المسلمين، كما أنَّ موقفه، بوصفه شيعياً، غالباً ما يكون موقف ناقد ورافض للحكام الذين تسلّطوا على رقاب المسلمين واستبدوا، وما استهدفوا من الحكومة والقيادة إلاَّ مصالحهم الشخصية، إضافةً إلى أنَّ القيام بعملية توحيد بين قادة الممالك الاسلامية شأن يستصعب صدوره من عالم دين في ظل الظروف التي عاشها السيد شرف الدين.

ورغم أنَّه كانت للسيد علاقات بسيطة بين الحكام مثل الملك فيصل الأول، وكان قد زاره – كما ينقل بعض المترجمين له([11]) – إلاَّ أنَّه لم تؤثر عنه حركته بين زعماء البلاد العربية – فضلاً عن الاسلامية – لأجل توحيدهم ورصّ صفوفهم. ومن خلال متابعة شاملة في التراجم المأثورة، يمكن القول: إنّه لم يكن حاملاً لهكذا توجُّه في تلك الظروف، وإذا كان حاملاً فإنّه لم يبرّزه لسبب وآخر.

التوجّه الثاني

هذا التوجُّه يتبنَّى الحركة التقريبية على صعيد الشعوب من دون الدول وحكامها، ويسعى إلى إقرار مباني الوحدة السياسية والاجتماعية بين الشعوب الإسلامية وحركاتها الشعبية مع غضّ النظر عن الحكومات.

إنَّ المبدأ الأساسي الذي يعتمده هذا التوجُّه، هو إيجاد روحية الأُلفة الاجتماعية والسياسية بين المسلمين، وإقرار حالة الحوار بين علمائها وأصحاب الحلّ والعقد؛ لأجل حلِّ ما علق من سوء تفاهم ومشاكل بين المسلمين قاطبة.

منهج السيد شرف الدين في التوجّه الثاني

كانت للسيد شرف الدين ميول ومساعٍ في هذا المجال، وقد انعكست ميوله ورغبته في وحدة الشعوب الاسلامية في كتبه غير مرّة، ومع لحاظ المبدأ الأساسي الذي اعتمده هذا التوجّه، فقد كرّس جزءاً من جهوده في سبيل إيجاد هذه الوحدة.

1 – آثار التقريب في كتبه

في مقدمة كتابه "الفصول المهمة"، بعد ما يحمد الله ويصلّي ويسلّم على الرسول وآله، يقول:

"لا تتسق أمور العمران، ولا تستتب أسباب الارتقاء، ولا تنبت روح المدنية، ولا تبزغ شموس الدعة من أبراج السعادة، ولا نرفع عن أعناقنا نير العبودية بيد الحرية إلاَّ باتفاق الكلمة، واجتماع الأفئدة، وترادف القلوب، واتحاد العزائم، والاجتماع على النهضة بنواميس الأُمّة، ورفع كيان الملّة، وبذلك تهتز الأرض طرباً، وتمطر السماء ذهباً، وتتفجّر ينابيع الرحمة من قلب المواساة، فتجري في سهوب الترقي، وتتفرّق في بيد العمران وأخاديد الحنان والاتحاد، فتنشر روح الإنسانية من أجداثها، وتحشر الملّة الفطرية من رفاتها، ويتبلّج القسط…".

ومن الواضح أنَّ عبارات من قبيل "أمور العمران" و"الحرية" و"اتفاق الكلمة" و"نير العبودية" و"الاجتماع على النهضة بنواميس الأُمّة" وما شابهها من العبارات الواردة، ذات أبعاد سياسية – اجتماعية يريد بها الدعوة إلى الوحدة في سبيل عمران البلاد الاسلامية، وتحرّرها من عبودية الأجانب وسلاطين الجور، وقد أشار في المقطع المتقدّم إلى أهمية الاتحاد وفوائده.

ثم يشير إلى مضار الفرقة ونتائجها السلبية قائلاً: "أمَّا إذا كانت الأُمّة أوزاعاً متباينة، وشيعاً متباغضة لاهية بعبثها، غافلة عن رقيها، لتكونن حيث منابت الشيح ومهافي الريح أذل الأُمم داراً وأجدبها قراراً، مذقة الشارب ونهمة الطامع، وهدف السهام وقبسة العجلان في باحة ذلّ وحلقة ضيّقة وعرصة موت وحومة بلاء، لا تأوي إلى جناح دعوة، ولا تعتصم بظل متعة، فحذار حذار من بقاء الفرقة، وتشتُّت الأُلفة، واختلاف الكلمة، وتنافر الأفئدة".

ومن الواضح هنا أنَّ عبارات من قبيل "غافلة عن رقيها" و"أذلّ الأُمم" و"هدف السهام" وما شابه ذلك، تشير إلى معنى سياسي بالعبارات الدارجة في عالم السياسة والإعلام آنذاك، وقد استهدف بها خطاب الوجدان السياسي للوحدة والتقريب بين المسلمين.

ثمّ يلمّح إلى ضرورة أخذ المسلمين – ومن خلال وحدتهم وتكاتفهم – دورهم في عجلة التطوّر التي أخذت تعم الكرة الأرضية، إذ يقول: "ألا وإنَّا في عصر العلم، ودور الذكاء والفطنة، قد تفجّر لذوي العصر ينبوع الحكمة، وتقشعت عن أبصارهم غياهب العشوة، فزهر كهرباء النور من أفكارهم، وأشرقت شموس الفضل من وجوههم. فهلاّ شرعوا خطي أقلامهم وجردوا صوارمها، ووتروا قسيّ أفكارهم وناضلوا بوظائف الإنسانية، ورفعوا منارها، وهتفوا بدعوة التمدن واعتنوا باتحاد التشيع والتسنن…"([12]).

سمّى أول فصل من الكتاب نفسه "في الاجتماع والأُلفة"([13])، أورد فيه الآيات والروايات الداعية إلى الاتحاد والإخاء بين المؤمنين، فأورد فيه آيات من قبيل: >إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ<([14]) و>وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ<([15]) و>وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ<([16]).

كما أورد بعض الروايات ذات الصلة من قبيل الروايات الآتية:

قال رسول الل 2: "لا تدخلون الجنة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم"([17]).

وقال2: "ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل"([18]).

هذه الآيات والروايات تشير إلى الجانب السياسي والاجتماعي للوحدة بين المسلمين، ولا تعرُّض لها إلى جوانب أخرى كالعقائد والفقه وما شابه.

وفي الكتاب نفسه الكثير من الآيات والروايات وكلمات العلماء وردّ بعض الشبهات الواردة في هذا المجال، والتي تفيد المعنى وتؤكده بأساليب وعبارات متفاوتة، وقد وردت هذه بخاصّة في الفصول الآتية:

· السنة كالشيعة يجمعهم الإسلام.
· نجاة جميع الموحّدين.
· أسباب الفرقة والتباعد.

وعناوينها واضحة في مضامينها، بل يمكن القول: إنَّ الهدف الأوّل والأساس من تدوين هذا الكتاب ونشره هو الوحدة السياسية والاجتماعية، والأهداف الأُخرى تعدُّ ثانوية.

وفي كتابه "المراجعات" أشار إلى الجانب السياسي من الوحدة ضمن بيان فكرة تدوين الكتاب، وذكر أنَّها تعود إلى أيّام شبابه، إذ قال: "أمَّا فكرة الكتاب فقد سبقت مراجعات سبقاً بعيداً، إذ كانت تلتمع في صدري منذ شرخ الشباب، التماع البرق في طيات السحاب، تغلي في دمي غليان الغيرة، تتطلّع إلى سبيل سوي يوقف المسلمين على حد يقطع دابر الشغب بينهم، ويكشف هذه الغشاوة عن أبصارهم؛ لينظروا إلى الحياة من ناحيتها الجدية، راجعين إلى الأصل الديني المفروض عليهم، ثم يسيروا معتصمين بحبل الله جميعاً، تحت لواء الحق إلى العلم والعمل، إخوة بررة يشدّ بعضهم أزر بعض"([19]).

وفي هذه الكلمات، إشارات واضحة إلى الوحدة التي يدعو إليها، فإنّ الدعوة إلى قطع دابر الشغب بين المسلمين، والسير معتصمين بحبل الله، وشدّ بعضهم أزر بعض، عبارات ذات طابع سياسي واجتماعي أكثر من الطَّابع الديني.

وفي كتابه: "إلى المجمع العلمي العربي بدمشق" يدعو رجال المجمع والمسلمين كافة إلى الوحدة ويقول: "وأرجو من رجال المجمع ومن المسلمين أجمع أن يؤثروا وحدتهم الاسلامية على خصائصهم المذهبية، فلا يتعصَّب أهل مذهب منهم على مذهب آخر، ليكون الجميع أحراراً في ما قادهم الدليل الشرعي إليه، كما كان عليه سلفهم في صدر الإسلام، فإن فعلوا ذلك كانوا في ظل منعة لا تضام، وإلاَّ فهم هدف السهام وموطئ الأقدام أعاذهم الله"([20]).

وبعباراته الأخيرة، يذكّر رجال المجمع والمسلمين بمخاطر التفرّق، يبيِّن أن نتيجته هجوم الأعداء والانسحاق تحت أقدامهم، أعاذهم الله من ذلك.

2 – جهاده الاستعمار

إنَّ الاستعمار، في عهد السيد شرف الدين، كان همّاً مشتركاً لدى الشعوب الاسلامية، سنَّة وشيعة، وبإفتائه جهاد المستعمرين وخوضه الجهاد ضدهم، أسهم عملياً في حلِّ إحدى مشاكل المسلمين المشتركة وأخذ دوره فيها.

إنَّ أزمة الاحتلال والاستعمار، التي كانت تعاني منها الشعوب الاسلامية، حقيقية وغير مطلوبة، لكنَّ السيد شرف الدين وظّفها لأجل إقرار الوحدة وتنبيه الشعوب الاسلامية، شيعة وسنَّة، بضرورة الوحدة لأجل التغلُّب على هذه الأزمة.

إنَّ توظيفه هذه الأزمة لغرض التوحيد لا يمكن اعتباره انتهازاً سياسياً وبراغماتية سياسية، بل التوظيف كان لأجل مصالح دينية وسياسية عامة، لا لأجل مصالح سياسية فردية أو فئوية وطائفية، فهو لم يكن من طلاَّب الزعامة والحكومة، كما أنَّا لم نجد لديه نـزعة طائفية تجعلنا نحكم عليه بالبراغماتية، وأصحّ ما يمكن أن نحكم به على السيد هنا، هو ذكاؤه السياسي الخارق، وقيامه بالوظيفة الدينية في تلك الظروف.

يقول العلاَّمة السيد محمد صادق الصدر: "كان جهاد السيد، في العهد العثماني، مقتصراً على الجهاد الديني؛ لأنَّ الدولة الحاكمة في لبنان هي دولة مسلمة تقيم الشعائر الدينية كما يفرضها الإسلام، ولكنَّ الفرنسيين جاءوا إلى الحكم واستولوا على البلاد، فأظهروا فيها الفساد وعطَّلوا الأحكام وتحكّموا في رقاب الناس، الأمر الذي لا يمكن الصبر عليه.

وقد أخذ السيد P ينبّه الأفكار إلى هذا التَّعسُّف والظلم، وشرع يعقد الاجتماعات مع من كان يثق بهم، ويتوسَّم فيهم النجدة والشهامة والوطنية، محفّزاً هممهم إلى ما يرجوه الوطن منهم من مواقف وطنية مشرّفة"([21]).

ثمَّ يشير السيد الصدر إلى البادرة الجبَّارة التي بلورها السيد شرف الدين، وهي دعوة علماء البلاد، أي جبل عامل، إلى مؤتمر أفتى فيه بجهاد المستعمرين، إذ يقول: "وقد رأى السيد P أن يبدأ بالعلماء يتشاور معهم على خطة موحَّدة يسير عليها الجميع، فدعاهم إلى مؤتمر عام عقد في "وادي الحجير" حضره علماء البلاد وزعماؤها، وقد أفتى السيد بالجهاد، وأيَّد الجميع فتواه، ثمَّ عاد الجميع إلى ديارهم يحكمون الخطط ضد الفرنسيين على قدر ما تسمح لهم الظروف"([22]).

رغم أنَّ المدعوين إلى المؤتمر من أصحاب الحل والعقد من الشيعة، إلاَّ أنَّ ذلك لا يعني إقصاء السنَّة من عملية تحقيق الاستقلال أو عدم رؤية الأهلية فيهم أو ما شابه، بل إنّ الظروف الجيوسياسية التي كانت تحكم جبل عامل آنذاك ومطالبة بعضهم بإلحاق هذا الجزء من لبنان بسورية، ومسائل من هذا القبيل حالت دون إشراك السنّة في هذا المؤتمر، وإلاَّ فالمشكلة مشتركة بين السنة الشيعة، ولا تخصُّ الشيعة وحدهم.

إنَّ هذه الخطوة الذكية التي صدرت من السيد شرف الدين تعبِّر عن ذروة نشاطه التقريبي، وحدّة ذكائه في الإفادة من المشاكل المشتركة لأغراض إيجابية كالوحدة السياسية، والتقريب بين أتباع المذاهب الاسلامية المختلفة. إنّ تأييد علماء البلاد لفتواه بالجهاد، وعدم مخالفتهم إيَّاه، يكشف عن الوئام السياسي الذي كان يحكم لبنان وجبل عامل آنذاك، الأمر الذي أسهم السيد في إيجاده وبلورته طوال تواجده هناك.

إنَّ فتواه بالجهاد، والتأييد الذي لاقاه من جراء فتواه، جعلا السيِّد رمزاً من الرموز الوطنية، لا ينحصر بالطائفة الشيعية، بل يشمل الطوائف الاسلامية جميعها.

وفي هذا المجال، ينقل السيد محمد صادق الصدر أنَّ الناس بعد فتواه قدموا لإعلان البيعة وإبرام العهد معه في الجهاد، حيث قال: "وأخذ الناس يفدون على دار السيد، ويوقعون المضابط التي تصرّح برفضهم لحكم الفرنسيين والمطالبة بالاستقلال الناجز"([23]).

وفي المجال نفسه، لم نجد – حسب مطالعتنا لتراجمه – ما يدلّ على مخالفة أيٍّ من زعماء الطوائف الاسلامية الأُخرى توجّهات السيد ونشاطاته في هذا المضمار، أو اتهامه بترجيح مصالح طائفة على مصالح الطوائف الأُخرى، وهذا هو سر تأييد زعماء الطوائف له، والعمل بما ينسجم مع فتواه بالجهاد ومناهضة الاستعمار ومقاومته؛ لأجل كسب استقلال لبنان.

هذا، إضافةً إلى مواقف وكلمات سجِّلت له في جهاد العرب والجيوش العربية للمحتلِّين من قبيل القصة التالية التي ينقلها أحد المترجمين له:

"إنَّ السيد قصد الملك فيصل الأول في دمشق، يوم كان ملكاً عليها، على رأس وفد من العلماء. فلمّا انتهت الزيارة وأراد العودة إلى جبل عامل، أرسل الملك للسيد مع فخامة السيد الجابري مبلغ خمسة آلاف ليرة عثمانية هدية للسيد فتقبّلها السيد شاكراً، ثمَّ أرجعها للجابري لتقدّم باسم السيد هدية إلى الجيش العربي في سورية، ثمَّ قال: تمنيت أن أكون درهماً لأضع نفسي في صندوق الجيش العربي لأُدافع عن الإسلام والعرب"([24]).

3 – أسفاره

كانت للسيد شرف الدين أسفار وزيارات لكلٍّ من دمشق ومصر وفلسطين وغيرها([25])، والذين ترجموا له لم ينقلوا الشيء الكثير عن نشاطاته في هذه الأسفار، لكن مع الأخذ بنظر الاعتبار إحساسه بالمسؤولية الدينية والسياسية، وكذلك التركيبة المذهبية لهذه الدول، من المسلَّم به أنَّ السعي إلى إيجاد الوحدة السياسية ومقاومة الاستعمار والمستبدين من الحكام المتسلّطين على رقاب الناس آنذاك، من ضمن الأهداف والنشاطات التي مارسها في أسفاره تلك.

وعن نشاطاته في دمشق ينقل الشيخ مرتضى آل ياسين: "وظلّ في دمشق تجيش نفسه بالعظائم، وتحيط به المكرمات، في أبهة من نفسه، ومن جهاده، ومن إيمانه، وكان في دمشق يومئذٍ مداولات ملكية واجتماعات سياسية وحفلات وطنية، تتبعها اتصالات بطبقات مختلفة من الحكومة والشعب، كان السيد فيها جميعها زعيماً من زعماء الفكر، وقائداً من قادة الرأي، ومعقداً من معاقد الأمل في النجاح"([26]).

وإن لم ينقل الشيخ آل ياسين وغيره من المترجمين للسيد شرف الدين مضمون أفكاره ورؤاه التي كان يطرحها في تلك التجمعات، إلاَّ أنَّه من المسلَّم به كونها ذات توجُّه توحيدي لا العكس، وذلك للدليلين الآتيين:

أ – لم ينقل لنا التاريخ المعاصر تظلّماً من عالم غير شيعي أو حاكم ممَّا يطرحه السيد شرف الدين من أفكار ورؤى تثير التفرقة لدى المسلمين.

ب – كتاباته التي مرّت الإشارة إلى جزءٍ منها دليل على توجهاته، ولا يوجد ما يدل على مخالفته لهذه التوجهات في المواطن الأُخرى.

وبالنسبة إلى سفره إلى مصر يُنقل أنّه كانت له عدة لقاءات مع شخصيات مثل رشيد رضا([27]).

وبالنسبة إلى سفره الثاني إلى مصر، ينقل الشيخ آل ياسين: "وحين وصل مصر، احتفلت به وعرفته بالرغم من تنكره وراء كوفية وعقال في طراز من الهندام على نسق المألوف من الملابس الصحراوية اليوم، وكانت له مواقف في مصر وجهت إليه نظر الخاصة من شيوخ العلم وأقطاب الأدب ورجال السياسة على نحو ما تقتضيه شخصيته الكريمة"([28]).

احتفال مصر به واستقبالها له يكشف عملياً عن انشراح صدره وتوجّهاته التوحيدية، وسواسية نظراته إلى الشيعة والسنة، ولو كان من ضيّقي الصدر، وممَّن لا يرون مجالاً للوحدة، لما ترك أثراً في قلوب المصريين دعتهم لاستقباله والاحتفال به رغم تنكّره بملابس غريبة.

يبدو أنَّ توحيد الصفّ الاسلامي كان من أهداف سفره الثاني إلى مصر، منضماً إلى الأهداف الأُخرى، فإنّه لا شيء يسوِّغ اختياره مصر من دون غيرها، من قبيل الترفيه أو الزيارة، فليس في مصر مراقد ومزارات تستدعيه لتحمُّل مشاق السفر في ذلك العصر، كما أنَّ شخصية السيد أجلّ من القول بأنَّه استهدف أموراً شخصية من سفره إلى هناك، وقد شهد بذلك السيد محمد صادق الصدر في ترجمته للسيد شرف الدين، إذ قال:

"وبعد سنتين من نشر كتابه الجليل([29]) سافر إلى مصر يبشّر بالدعوة إلى الوحدة الاسلامية العامة بخطاباته البليغة وكلماته المأثورة…"([30]).

وفي مقدمته لـ"المراجعات"، ضمن بيان ملابسات كتابته، يشير إلى سفره إلى مصر، ويرى أنَّ السفر يدخل ضمن الجهود التي مارسها لكتابة هذا الكتاب، إذ يقول: "ضقت ذرعاً بهذا، وامتلأت بحمله همّاً، فهبطت مصر أواخر سنة 1329 مؤملاً في نَيْلَةِ الأُمنية التي أنشدها…"([31]).

4 – علاقته بدار التقريب

لم تتضح نوعية العلاقة المباشرة بين السيد وبين دار التقريب الذي تأسّس في مصر، لكن كانت له مراسلات معهم، وقد أهدى بعض مقالاته للمجلة التي كانت تصدر باسم دار التقريب "رسالة الإسلام".

إنَّ رجالاً مثل السيد شرف الدين كانوا بمثابة الموطئين لبلورة ظاهرة التقريب، ولتأسيس دار التقريب في نهاية الأمر، ولولا جهوده المضنية في مصر والعراق ولبنان، وتوفير الأرضية اللازمة لما أمكن تشييد دار أسدت خدمات كبيرة للأُمة الاسلامية، وهي دار التقريب.

عبد الحسين مغنية يعدُّ السيد شرف الدين من علماء دار التقريب، ويقول: "أسس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية فضيلة الشيخ محمد تقي القمي وساعده فضيلة الشيخ محمد المدني.

من علمائها الكبار: الشيخ محمود شلتوت، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، الشيخ عبدالمجيد سليم، السيد عبدالحسين شرف الدين والشيخ محمد جواد مغنية…"([32]).

هذا، إضافةً إلى كتابته غير مقال في مجلة "رسالة الإسلام" كـ "البسملة في فاتحة الكتاب وغيرها"([33]) و"الجمع بين الصلاتين"([34])، وأتصور أن دلالات كتابته في هذه المجلة يتجاوز مستوى تأييده لها، لترقى إلى مستوى تأصيل عملها واعتبارها تجسُّداً لبعض طموحاته الدينية.

5 – اختياره 12 من ربيع الأول مولداً للرسول2

ومن ضمن إجراءاته الهادفة إلى توحيد الصف الإسلامي، بشقّيه السني والشيعي، اختياره اليوم الثاني عشر من ربيع الأول يوم ولادة الرسول2، فإنّ هذا الاختيار يعبّر عن مدى اهتمام السيد بقضية وحدة المسلمين وتوحيد صفوفهم وشعائرهم.

لم يقتصر الأمر على اختيار هذا اليوم يومَ ولادة، بل كان يشترك في الأفراح والاحتفالات الدينية، بل حتى غير الدينية لأهل السنة، لطبيعة شأنه الاجتماعي ومكانته لدى أتباع الطائفتين، وسلوكه في صيدا مثال بارز لشخصيته في هذا المجال.

يقول العلامة السيد محمد صادق الصدر: "واختياره ليوم 12من الشهر أقوى دليل على روحه الإسلامية التي كان يدعو إليها.

وكان من عادة السيد، إذا انتهى من دعوته، أن يذهب متَّجهاً إلى مسجد إخوانه السنة يهنئهم ويشاطرهم أفراحهم في عيد المسلمين العام، وكانوا بدورهم يشكرون لسيادته هذا الخلق النبوي، والعطف الأبوي الذي كان يغمر أهل صور في كلِّ حين بدون فرقة بين طائفة وأخرى"([35]).

6 – استخدامه اسماً مستعاراً

إنَّ التنازل عن الأموال والشؤون المادية أمر يهون، لكنَّ التنازل عن الاسم الحقيقي صعب جداً، فالاسم يمثِّل رمزاً لشخصية الإنسان وقيمه، رغم ذلك فإنّ هذا السيد الجليل تنازل عن اسمه واستعمل اسماً مستعاراً في مقالاته في "رسالة الإسلام"، فقد استخدم لقبه شرف الدين عوضاً عن عبد الحسين، وأضاف لقب "الموسوي" إلى اسمه لكي يبدو شرف الدين اسماً لا لقباً([36]).

حساسية موضوع التوحيد، واتهام الشيعة بالشرك، وأهمية الوحدة بين المسلمين ونبذ الفرقة بينهم، أمور تسوِّغ استخدامه اسماً مستعاراً، وعدم تداول الاسم الحقيقي في موارد احتكاكه مع أتباع المذاهب الأُخرى.

إنَّ مبادرة السيد هذه تعكس إيثاره ومدى اهتمامه بشأن التقريب، إنَّه تنازل عن قيم مهمة لقيم أهم، فهو تنازل عن شؤون شخصية لأغراض عامة سياسية واجتماعية بالغة الأهمية، ما يعكس علوّ شأنه ورفعة نفسه الزكية.

إجراءات لم يتَّخذها

هذه الجهود وغيرها من الجهود التي لم تسجّل في التاريخ، تدخل ضمن مساعيه الحثيثة لإيجاد الوحدة السياسية والاجتماعية بين المسلمين، المشكلة التي يبدو أنَّ السيد عانى منها الكثير، وكانت مواجهتها من طموحاته منذ شبابه، لذلك كرّس جُلَّ جهوده العلمية والسياسية لأجلها. وكما اتضح لنا فإنّ مساعيه في هذا المجال لم تقتصر على كتابة مقالات أو كتب، بل أرفق مساعيه في هذا المجال بمساعٍ عملية كالأسفار والاحتكاك المباشر بأتباع المذاهب الأخرى.

ولا أتصوّر أنَّ جهوده اقتصرت على ما مرَّ ذكره، بل لا بدَّ من وجود نشاطات أخرى قد لا تقلّ أهمية عمَّا نقلناه، لكن قلَّة الاهتمام بشخصيات مثل السيد شرف الدين حالت دون تدوين هذه النشاطات المحتملة.

رغم كلّ هذه الجهود السياسية التي مارسها في سبيل وحدة المسلمين والتقريب في ما بينهم، يُلاحظ أنّه لم يقدم على بعض الإجراءات التي نظنُّ إمكانية اتخاذها وإيجادها، لكنّه لم يمارسها وامتنع عنها، فما السبب؟

   ‌أ-     من الإجراءات التي لم يتخذها أنَّه لم يقدم على إيجاد تكتُّل سياسي، من قبيل حزب أو منظمة، تعينه في حركته باتجاه إيجاد وحدة سياسية بين المسلمين، ليتحوّل عمله إلى مؤسسة وعمل جماعي.

قد لا يكون هذا نقصاً يؤاخذ عليه؛ وذلك لأنَّ إجراءً من هذا القبيل يخضع لظروف سياسية واجتماعية خاصة، إضافةً إلى أنَّ العمل السياسي لا ينحصر في تشكيل تكتُّل سياسي منظم، فإنَّ كثيراً من العظماء – كالإمام الخميني – مارسوا العمل السياسي وبلغ ذروته لديهم من دون الاعتماد على حزب أو تكتُّل من هذا القبيل، وهذا ليس شأنه الوحيد، بل شأن جلّ أسلافه العلماء، إذا لم نقل كلّهم، فإنَّ السلف الصالح كان يهتمُّ بأداء وظيفته الاجتماعية والدينية والسياسية الملقاة على عاتقه من دون الدخول في اللُعب السياسية.

   ‌ب- ومن ضمن الإجراءات التي لم يتخذها، في عملية التقريب التي مارسها، عدم تأسيس مركز أو مؤسسة تعنى بأمر التقريب في حياته، وتتابع أهدافه بعد وفاته، فإنّه لم يؤسس في حياته هكذا مؤسسة لكي تتابع هذا الهدف المقدس، وتُخرّج دعاة لأفكاره التقريبية بعد مماته، بل ترك الأمر ما بعده من دون دعوة عملية وإيصاء عملي لمتابعة أهدافه في ما بعد.

وهذا قد يكون اعتماداً على دار التقريب بالقاهرة، وعلى الشخصيات التي كانت تواصل في حياته واستمرّت بعد مماته في عملية التقريب، لكنَّ عمل هذه الدار لم يدم طويلاً بعد ما توفي أكثر القائمين عليها، وتوقّف إصدار مجلتها بعد وفاة السيد شرف الدين بسنوات قلائل.

   ‌ج-      ومن الإجراءات التي لم يقدم عليها، عدم إصداره مجلّة أو ما شابه ذلك تنطق بالأفكار التوحيدية والتقريبية التي كان يدعو إليها، تصدر من لبنان أو النجف مثلاً.

فقد يكون ذلك اعتماداً على "رسالة الإسلام" أيضاً، فإنّها اضطلعت بدور لا بأس به في مجال التقريب، وأثّرت أثرها على غير صعيد. وقد يكون تسويغ ذلك أنَّ المجلة وتحريرها يستدعي فناً خاصاً لم يكن من توجّهاته العملية، فإنّ لكلٍّ توجهات واختصاصات محددة، قد لا يكون إصدار المجلّة ممَّا يتمتّع به السيد من قابليات وتوجّهات.

   ‌د-     ومن الإجراءات الأخرى التي لم يتَّخذها في حياته، انحصار سفراته، التي قصد منها العمل، في عدّة دول محددة من دون توسيع رقعة عمله وأسفاره إلى دول إسلامية أخرى، من قبيل دول المغرب العربي أو جنوب شرق آسيا.

وهذا الأمر، إضافة إلى أنَّه يستدعي رأس مال عظيم يمكّنه من السفر إلى الدول الإسلامية البعيدة، والاحتكاك بعلمائها، يقتضي ظروفاً ملائمة، ويبدو أنَّ ظروف السيد السياسية ما كانت تمنحه الفرصة لممارسة هكذا عمل، فإنّه عانى من أزمات سياسية كثيرة، كمواجهة الاستعمار وما تبعه من هجرة ومضايقات، وهي لا شكَّ تؤثّر سلباً على نشاطاته.

التوجّه الثالث

وهو التوجّه الوحدوي في المجالات المختلفة من العقائد والفقه وما شابههما من الشؤون الفكرية والثقافية، بحيث يتبلور من خلال ترجمة هكذا توجُّه دين موحَّد يُدعى الإسلام، من دون مذاهب كثيرة ومتكاثرة بين الحين والآخر.

لم نعثر، في أعمال السيد شرف الدين، على ما يدل على توجهاته في هذا المجال، فهو لم يصرِّح ولم يدعُ أبداً إلى توحيد المذاهب الاسلامية ولا إلى دمج أحدها مع الآخر.

الدعوة إلى المذهب والدعوة إلى التقريب

قد يقال بذهاب السيد إلى رؤية التوحيد بناءً على القول بالانحصارية (Exclusivism)، وهي تقابل التعدّدية (Pluralism)،  فإنّ دفاعه عن رؤى أهل
البيت
F وثوابت المذهب الشيعي ومبادئه يستشفُّ منه – مفهوماً والتزاماً – رفضه لما يقابل هذه المبادئ من أفكار المذاهب الأُخرى. إلاَّ أنَّ هذا مرفوض باعتبار أنّ الدفاع عن الأفكار والثوابت المذهبية والدعوة إليها لا يستلزم بالضرورة نفي الطرف الآخر.

على العموم، فإنَّ الدعوة لا تتنافى مع التقريب وآلية الحوار، وإلاَّ لزم القول بضرورة تخلّي أصحاب الفكر والمبادئ عن الدعوة إليها، أو عُدُّوا قائلين بالانحصارية وممَّن يرفضون الحوار مع الأطراف الأُخرى.

إنَّ الذي يتنافى مع التقريب هو سوء استخدام آليات التقريب والحوار أو استخدام الآليات المرفوضة وغير الأخلاقية، وهو لا يحصل بالدعوة بالضرورة. ولأجل ذلك سعت دور التقريب إلى رفض القول بمفاهيم المبادئ المذهبية والأخذ بمنطوقاتها فقط، وعدم مؤاخذة أيٍّ من أتباع المذاهب ودعاتها بمفاهيم تعاليمه وما يدعو إليه. وقد تأكَّدت هذه الفكرة في غير مقال وبيان. وهي بذلك اعتمدت الفكرة المتقدِّم ذكرها، أي أنّ الدعوة للمبادئ لا تعني تنكُّر الأطراف المخالفة، بل الحوار يعني فسح المجال للجميع لأن يمارسوا حقّهم في الدعوة والتبليغ للمبادئ التي يؤمنون بها، وهم على اقتناع بها.

وبناءً على هذا، لا يمكن استفادة الانحصارية من أعمال السيد الموسومة بطابع الدعوة إلى مذهب أهل البيت F.

التوجّه الرابع

وهو التوجُّه الذي مارسته وتمارسه دور التقريب ومجامعه والعلماء المنفتحون في العالم الإسلامي، ويعتمد أسساً من قبيل الحوار والتفاهم لأجل رفع ما علق وأسيء فهمه لدى المسلمين، ويبدو أنَّ جلّ نشاط السيد شرف الدين انصبَّ في هذا التوجُّه التقريبي، ونسعى هنا إلى تحديد توجُّهه ومنهجه بالضبط من خلال قراءة لبعض فقرات أعماله الرائدة، والمرور ببعض الإجراءات والمشاريع التي نفّذها في هذا الطريق.

منهج السيد شرف الدين في التوجّه الرابع

رغم اتفاق السيد شرف الدين مع رجال التقريب في الهدف، إلاَّ أنّه اختلف معهم بعض الشيء في المنهج والأُسلوب والآليات، والعرض المبسّط لما مارسه في هذا المجال يكشف لنا الاختلاف في ما بين المناهج.

لسنا هنا في صدد مقارنة منهج السيد شرف الدين مع مناهج باقي رجالات التقريب، بل في صدد تحديد منهجه فحسب، لتتبلور، على أثر ذلك، معالم مدرسته التقريبية في مجالها الديني.

دراسة كتبه، وبخاصة تلك التي قصد منها أساساً خطاب غير الشيعة من أتباع المذاهب الأُخرى، مثل "المراجعات" و"الفصول المهمة في تأليف الأُمّة"، تكشف لنا أنَّ السيد شرف الدين كان يعتمد مبادئ محدّده في منهجه للتقريب الديني بين المذاهب، وأنَّ عمله لم يكن من دون دراسة وتنظير، بل كان نتيجة لفكرة بدأت تختمر في ذهنه منذ شبابه، وقد أشار إلى هذه النقطة في مقدمة كتابه "المراجعات": "أمَّا فكرة الكتاب فقد سبقت مراجعات سبقاً بعيداً، إذ كانت تلتمع في صدري منذ شرخ الشباب التماع البرق في طيات السحاب، وتغلي في دمي غليان الغيرة، تتطلّع إلى سبيل سوي يوقف المسلمين على حدٍّ يقطع دابر الشغب بينهم"([37]).

إنَّ كتاب "المراجعات" يعدُّ أنضج ثمرة لمنهج السيد شرف الدين التقريبي، وذلك مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ هذه الفكرة كانت قد راودته وهو شاب، إلاَّ أنّها لم تصدر ولم تتبلور ولم تظهر إلى النور إلاَّ في السنوات الأخيرة من عمره، وهذا يكشف عن أنَّه أخذ بنظر الاعتبار جميع التجارب التقريبية التي خاضها طوال سنوات عمره، ولأجل ذلك كتب عبارته التالية التي تعكس رؤيته تجاه هذا الكتاب: "أمّا أنا فمستريح، والحمد لله، إلى هذا الكتاب راض عن حياتي بعده، فإنَّه عمل – كما أعتقد – يجب أن ينسيني ما سئمت من تكاليف الحياة الشاقة وهموم الدهر الفاقرة…"([38]).

يبدو لي أنَّ الأمرين التالي ذكرهما من المبادئ والأُصول التي اعتمدها السيد شرف الدين في عمله التقريبي، ومجموعهما يشكّل منهج السيد في هذا المضمار، وهما عبارة عن إدراك علل التَّفرقة وتحديدها أو التعريف بها، ثمّ البتّ في معالجتها.

المبدأ الأوَّل: تحديد علل التَّفرقة والتشتت على أساس المذهب، أي تحديد أسباب التمييز المذهبي. ويبدو أنَّ السيد شرف الدين يرى أنَّ هذه التَّفرقة تنشأ عن الأُمور الآتية:

   ‌أ-     الجهل بالتعاليم والمباني الفقهية والعقديَّة والمصادر التاريخية التي يعتمدها كلّ مذهب، وهذا الجهل هو الذي ولَّد ظواهر سقيمة من قبيل سوء الفهم والتفاهم، واتهام المسلمين بعضهم لبعضهم الآخر، وتكفير بعضهم لبعضهم الآخر، وتقليد الأسلاف وما شابه، ما دعاه لممارسة نشاطات علمية وثقافية سعياً للتوعية.

إنَّ كثيراً من الخلافات الدينية ناتجة عن عدم المعرفة والاطلاع بما يتبناه المذهب الآخر، أو إذا كان هناك علم فهو محدود أو مستلهم من مصادر يعتمدها المذهب المتبنَّى، فإنَّ كثيراً من أحكامنا تجاه المذاهب الأُخرى مستلهمة من مصادرنا المعتمدة لدينا، من دون النظر إلى المصادر المعتمدة لدى المذهب الآخر.

فإنّ من تبعات الجهل وعدم الإلمام بما تذهب إليه المذاهب الأُخرى، هو تقليد الأسلاف وتكرار كلماتهم واتهاماتهم للآخرين، فإنَّ ذلك نتيجة طبيعية للجهل، وممَّا يؤسف له أنَّ شرائح كبيرة من المسلمين ما زالوا يحتفظون بالمعلومات المغلوطة، بعضهم عن بعضهم الآخر، ويتناقلونها في ما بينهم، ويوسعون من خلال ذلك هوة الخلاف بين أتباع المذاهب الاسلامية.

   ‌ب- التأكيد الشديد والمتواصل على موارد الاختلاف، والتغافل عن المشتركات وتركها. وهذا التأكيد غالباً ما يصدر ممَّن لا تهمّهم وحدة المسلمين أو ممَّن لا يرغبون فيها أو يتابعون أغراضاً شخصية أو طائفية أو استعمارية.

لقد مرَّ تاريخ المسلمين بمنعطفات كثيرة دعت بعض العلماء للتأكيد على موارد الاختلاف العلمية لدى الطائفة، وهذا لا إشكال فيه إذا لم يستهدف إيجاد الفرقة، واستُخدمت فيه آليات الحوار الإيجابية، ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها هنا هو "كتاب الخلاف" للشيخ الطوسي، فإنَّه بيَّن من خلال موارد الاختلاف بين الطوائف، وثبَّت وجهة نظره أو وجهة نظر المذهب الشيعي بنحو علمي إيجابي من دون إثارة للأطراف الأُخرى، وكتابات السيد التي بيَّن فيها أحياناً موارد الاختلاف من هذا القبيل كذلك. إنَّما الإشكال في نوع آخر من التأكيد على موارد الاختلاف، حيث تُستخدم فيه آليات سلبية، أو يطرح بنحو يثير الفرقة والتمييز.

   ‌ج-     الأغراض السياسية المتغيرة حسب المصالح الشخصية للحكَّام والدول، سواء الداخلية منها أم الخارجية، وقد أشار السيد إلى هذا الجانب من سقم الأُمّة من خلال عبارته المعروفة عنه: "فرّقتهما السياسة فلتجمعهما السياسة"([39])، ويقصد بهما الشيعة والسنة اللتين تفرَّقتا من جرَّاء سياسات سلكها الساسة، وذوو المصالح الشخصية وغير الشخصية، فإنَّ كثيراً من الاختلافات كانت بدافع سياسي وإن كانت مقنَّعة بأقنعة دينية، وما زلنا نعاني من هذه المشكلة حتى في عصرنا الحاضر.

   ‌د-     عدم إعداد الأجيال والشعوب المسلمة إعداداً تتقبَّل من خلاله التقريب بين المذاهب المختلفة، ومن نتائج هذه الظاهرة انعدام التنمية الثقافية، وانعدام وجود نخبة تهتمُّ بشأن التقريب بين المذاهب تقريباً دينياً في كلّ عصر وزمان.

المبدأ الثاني: علاج علل التفرقة المذهبية، فبعد ما حدَّد السيد علل التفرقة المذهبية بتَّ في علاجها، وكانت له إجراءات عديدة في سبيل علاج الظاهرة السقيمة التي يعاني منها المجتمع الاسلامي، وشأنه هنا شأن الطبيب الذي يبادر بالعلاج بعد تشخيص المرض وأسبابه.

أما في ما يخصُّ مشكلة الجهل، فقد توزَّعت نشاطاته على صعيدين، أحدهما: الناس عامة، وثانيهما: النخبة وطلاب العلوم الدينية والمثقفون، ونشاطاته على الصعيد الثاني أوضح وأكمل من نشاطاته على الصعيد الأوَّل.

1 – توعية الناس عامة

على الصعيد الأوَّل أسَّس السيد مسجداً أو حسينية ومدرسة ونادياً، وثانوية في لبنان([40]) تهتمُّ بنشر المفاهيم الدينية إضافةً إلى العلوم الأكاديمية، ومن المسلَّم به أنَّ المفاهيم الدينية التي كان يروّج لها تتماشى مع المأثور عنه من أفكار تقريبية، بل هي نفسها، ومن غير المعقول أن يقال عكس ذلك. وباعتبار التركيبة المذهبية لسكان مدينة صور – حيث تركَّزت نشاطاته – من المحتمل قوياً كونها غير خاصة بالطائفة الشيعية. وقد أكَّد هذا المعنى المترجمون له من حيث عدم إشارتهم لما يخالف هذا المعنى. وفي هذا المجال انتُقد السيد من قبل بعضهم على ما يبدو من اسم طائفي اختاره لمراكزه التعليمية وأنَّها مراكز تختص بالطائفة الشيعية، فردَّ السيد على النقد في مقال له نشر في مجلة "العرفان" أكَّد فيه أنَّ المدرسة مفتوحة لجميع الطوائف، وفيها سنة وشيعة مدرسين وتلامذة([41]).

ويمكن أن تدخل في هذا المضمار خطبه([42]) التي كان يلقيها في المناسبات المختلفة في نادي الإمام الصادقB الذي أسسه لإقامة الاحتفالات الدينية، وفي مراكز وأماكن عديدة. فمن الطبيعي لصاحب فكر، تشكِّل الوحدة من أساسيات اهتماماته، أن يستغلّ جميع الفرص ويفعّل جميع الآليات لأغراضه الدينية السامية، وتبرز أهمية استخدام المسجد أو النادي من حيث كونهما من أهم مراكز تجمع عموم الناس واجتماعهم بعلمائهم، وبخاصة أن التجمع يحصل لمناسبات، والناس يكونون ذلك على أتمّ الاستعداد لاستقبال الأفكار الدينية، وتوظيف هذه التجمّعات يحظى بأهمية كبرى في هذا المجال.

في واحدة من خطبه التي ألقاها في جامع بيروت العمري، بمناسبة عيد مولد الرسول2، يقول السيد: "وبعد: فإنَّه لا حياة لهذه الأُمّة بإجماع آرائها وتوحيد أهدافها بجميع مذاهبها وشتَّى مشاربها على إعلاء كلمتها بإعلان وحدتها في بنيان مرصوص، يشدّ بعضه أزر بعض، وجسم واحد، إذا شكا منه عضو أنَّت له سائر الأعضاء، حتَّى ليكون المسلم في المشرق هو نفسه في المغرب، وعينه ومرآته، دليله ومشكاته، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يسلمه.

بذلك يكون المسلمون أمَّة واحدة، وبه تكون كذلك >خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ< تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعتصم بحبل الله جميعاً ولا تتفرّق…

فلا تقولوا بعد اليوم: هذا شيعي، وهذا سني، بل قولوا: هذا مسلم، فالشيعة والسنة فرّقتهما السياسة وتجمعهما السياسة، أمَّا الإسلام فلم يفرّق ولم يمزّق، الإسلام جمعهما بأشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمّداً رسول الله…"([43]).

2 – توعية النخبة

أمَّا على صعيد النخبة وطلاَّب العلوم الدينية والمثقفين، فتمثَّلت علاجاته في كتابة أعمال أصبحت رائدة في محتواها ومنهجها، وسنقرأ نماذج منها ضمن الأسطر الآتية.

مؤلفاته

1 – المراجعات. 2 – الفصول المهمة في تأليف الأُمّة. 3 – النص والاجتهاد. 4 – أجوبة مسائل موسى جار الله. 5 – الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء. 6 – المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة. 7 – أبو هريرة. 8 – بغية الراغبين. 9 – فلسفة الميثاق والولاية. 10 – ثبت الأثبات في سلسلة الرواة. 11 – مسائل خلافية. 12 – رسالة كلامية. 13 – كتاب إلى المجمع العلمي العربي بدمشق.

هذا عدا كتبه المفقودة – طبعاً – والتي تقدَّر بثمانية عشر كتاباً([44]).

من خلال كتبه المذكورة أعلاه سعى السيد إلى رفع مستوى الوعي لدى طلاب العلوم الدينية والطبقات المثقفة من الشعوب العربية، من السنة والشيعة، وكانت النتيجة – في عصره على أقلّ تقدير – مطلوبة بعد تظافر جهوده مع جهود علماء آخرين دعوا إلى التقريب كذلك.

خصائص مؤلَّفاته

من خلال تحليل دراساته ومؤلَّفاته المتقدّم ذكرها، يمكن تبين تميُّزها بالخصائص الآتية:

أولاً: الدراسات المقارنة

إنَّ مكتباتنا كانت وما زالت بأمسّ الحاجة إلى الدراسات المقارنة، الدراسات التي تعكس وجهات نظر المذاهب المختلفة وأتباعها في مكان واحد ومن دون تعصُّب، فهي إضافةً إلى أنَّها تغني عن عناء البحث في عدَّة مصادر، فإنّها تساعد في التقريب بين وجهات النظر المتفاوتة؛ وذلك لأنَّها تذكر لكلِّ رأي مبتنياته وقراءاته، ولا تكتفي بعكس وجهة النظر الخالصة والمتبنّاة.

قد لا تخلو دراسات السيد المقارنة من إشكاليات علمية وفنية من قبيل: عدم استقصاء المذاهب بأجمعها أو عدم التوسُّع في الموضوع، وعلى العموم لم تحمل المواصفات العلمية الدارجة حالياً، ورغم ذلك فهي تشكِّل معلماً من معالم مدرسته التقريبية ونشاطاً مارسه في سبيل التقريب.

ثانياً: تنوّع دراساته

من الأدوار التي مارسها السيد، في عملية تقريبه من خلال كتبه، تدوين دارسات وبحوث متنوّعة توزَّعت في أعماله المختلفة، فكتب عن الفقه في الصلاة وفي النكاح وعن الكلام، أي منها فقهية ومنها عقدية، وتاريخية وغيرها. وكان ذلك شعوراً منه بأهمية هكذا دراسات وبحوث، فلم تنحصر أعماله العلمية في أبعاد تخصصية محددة، بل عمل على ثلاثة محاور أساسية، وأكثر من محور غير أساسي.

المحاور الأساسية عبارة عن: 1 – الفقه. 2 – الكلام. 3 – التاريخ.

والمحاور غير الأساسية عبارة عن: 1 – فضائل أهل البيت E. 2 – الرجال.

لم يحدّد كتاباً خاصاً لكلٍّ من المحاور المتقدمة، بل توزَّعت دراساته وبحوثه المشار إليها في كتبه، فإنَّ كتبه – بمناسبة الموضوع والهدف الذي يختاره كالتقريب والتوحيد – لم تكن تتابع اختصاصاً واحداً بحتاً بالنحو الدارج حالياً، بل كثيراً ما تناول مواضيع مختلفة في كتاب واحد.

تناول شيئاً من الفقه والكلام في كلٍّ من: "الفصول المهمة"، و"أجوبة مسائل موسى جار الله"، كما تناول شيئاً من الكلام والعقائد بنحو الاختصاص في "رسالة كلامية"، و"فلسفة الميثاق والولاية"، وتناول بعض المسائل التاريخية المختلف فيها في "المراجعات"، وتناول في "النص والاجتهاد"([45]) جوانب فقهية كلامية إضافةً إلى أمور تاريخية، كما تناول موضوع الفضائل في كتابه "الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء"، و"المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة"، كما تناول الموضوع نفسه في بعض كتبه المتقدّمة، وتناول موضوع الرجال والمشيخة في كتابه "أبو هريرة"، و"ثبت الأثبات في سلسلة الرواة".

لم يقصر السيد مدرسته على دراسة بُعد خاص من الشؤون الدينية المختلف فيها، بل عمَّمها إلى غير بُعد واحد، لتتكامل جوانب هذه المدرسة وتبدو شاملة.

قد يُشكل على السيد هنا بأنَّه لم يتابع اختصاصاً واحداً في نشاطه العلمي، بل عمل على غير اختصاص، وهو ما يستعاب في عالم الاختصاص اليوم. لكن قد تكون لهذا مسوّغاته الخاصة، فإنَّ سعيه إلى التقريب من جميع الجوانب، والحاجة الملحّة لتنويع موضوعات البحث والدراسة بسبب افتقار عالمنا آنذاك لكتابات في هذه المجالات، وأمور أخرى تصلح لتسويغ عدم سعيه للكتابة في مجال اختصاصي واحد.

ثالثاً: شمولية خطابه

من خصائص منهجه، في التقريب المذهبي، أنَّه لم يخصص بالخطاب السنة فحسب، بل كان يعمّم الخطاب ليشمل الشِّيعة كذلك، وعلى ما يبدو أنَّه كان يلمس أزمة التعصّب المذهبي ليس لدى السني فحسب، بل لدى الشيعي كذلك، فكان يورد أحاديث وردت عن طرق الشيعة تقرّب الشيعي إلى السني، وتزيل عنه ما قد يتوهّمه ويحمله عن السني من أفكار مغلوطة، فجاء في "الفصول المهمة" بالفصل الرابع وسمَّاه: "السنة كالشيعة يجمعهم الإسلام" وهو بذلك يردّ ما قد يتصوّره أهل السنة عن الشيعة من أنَّهم يكفّرون السنة، كما يؤكّد للشيعي كون السني مسلماً وله ما للشيعي وعليه ما على الشيعي.

إنَّ الروايات الواردة في ذلك الفصل باعتبارها واردة عن طرق الشيعة، تكشف عن عدم تخصيصه الخطاب في هذا الكتاب بأتباع الطوائف السنية، بل أراد بذلك تعميم الخطاب لكل للطوائف جميعها.

رابعاً: ازدواجية التوثيق

ومن خصائص منهجه التقريبي في مؤلفاته، آنفة الذكر، هو استخدام أسلوب ازدواج التَّوثيق أو إزدواجية المصادر، فهو تارة يستخدم مصادر سنية وأخرى يستخدم مصادر شيعية، وأحياناً يوثّق الرواية أو المفهوم مستخدماً مصادر كلا الفريقين، فهو يدمج في عملية التوثيق بين هذه المصادر سعياً وبحثاً عن مشتركات الطرفين في السنة والنصوص المذهبية.

ممَّا يرد على بعض علماء أهل السنة هو جهلهم بمصادر الشيعة، أو خلوّ مكتباتهم منها أو تجاهلهم لها، ولأجل علاج هذه المشكلة خطا السيد شرف الدين الخطوتين الآتيين:

1 – التعريف المجمل بالمصادر الشيعية.
2 – استخراج مشتركاتها مع المصادر السنية، ولو بنحو محدود.

في الخطوة الأُولى، وثَّق بعض الأحاديث والروايات بالمصادر الشيعية، وفي ذلك تعريف ولو مجمل بهذه المصادر. وفي الخطوة الثانية، أراد إثبات شيء لأهل السنة، وهو أنَّ هذه المصادر ليست غريبة أو خارجة عن كونها من مصادر الإسلام، ولا تضمُّ شيئاً خارجاً عن معتقداتهم الأساسية، والأمر لا يستدعي التجاهل أو الرفض الذي نشهده من بعض علماء أهل السنة.

يبدو أنَّ السيد لم يقصد من الاستشهاد بهذه المصادر توثيقها بالكلية على غرار ما يعتقده بعض الشيعة، كما أنَّه لم يغفل بأنَّ كتاباً مثل "البحار" يعتمد مصادر من قبيل الكتب الأربعة، لكنّه رغم ذلك خرّج بعض الروايات على "البحار" وبعضها الآخر على مصادر أكثر اعتباراً، وهذا يكشف عن أنَّه استهدف من ذلك التعريف البحت بهذه المصادر لا التوثيق أو ما شابه.

لقد انتهج المنهج نفسه كلّ من سعى إلى التَّقريب ممَّن عاصره أو لحقه؛ وذلك لأنَّ المشكلة لا تزال باقية ويعاني الشيعة منها، ولا مفرَّ لهم – لأجل علاجها – إلاَّ الاستمرار في التوثيق المزدوج وانتهاج منهج السيد مع لحاظ إخفاقاته في هذا المجال إن كان من إخفاقات.

3 – التأكيد على المشتركات

من خلال الإشارات المكرَّرة إلى المشتركات الدينية في كتبه وخطبه، سعى السيد إلى تأكيد المشتركات لدى الطائفتين وتنبيه أتباعهما على كثرة ما يمكن جعله منطلقاً للقرب والمودّة وقلَّة ما يمكن أن يوطّن التمايز المذهبي. فقد تكرَّرت في كتبه قضية التأكيد على المشتركات.

فعلى سبيل المثال، جاء النص الآتي في كتابه "إلى المجمع العلمي العربي بدمشق": "وما أدري فيمَ يتجهَّم لنا بعض أهل المذاهب الأربعة؟ فنتجهَّم لهم، أليس الله عزَّ وجلَّ وحده لا شريك له ربّنا جميعاً، والإسلام ديننا، والقرآن الحكيم كتابنا، وسيد النبيين وخاتم المرسلين محمد بن عبدالله 2 نبينا، وقوله وفعله وتقريره سنتنا، والكعبة مطافنا وقبلتنا، والصلوات الخمس وصيام الشهر والزكاة الواجبة وحج البيت فرائضنا، والحلال ما أحلَّه الله ورسوله والحرام ما حرّماه، والحقّ ما حقّقاه والباطل ما أبطلاه، وأولياء الله ورسوله أولياؤنا، وأعداء الله ورسوله أعداؤنا، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنَّ الله يبعث من في القبور >لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى<؟ أليس الشيعيون والسِّنيون شرعاً في هذا كلّه سواء؟ >كُلٌّ آمَنَ بِالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ<"([46]).

المشتركات التي أكَّد عليها كثيرة جداً، نشير إلى بعضٍ منها في مجالي القرآن والسنة.

              ‌أ-ألف: نماذج من القرآن

أهم مشترك أكَّد عليه السيد هو القرآن الكريم، وفي هذا المجال كان يسعى أحياناً إلى اختيار الآيات المتقاربة أو متَّحدة التفسير لدى الطائفتين، من قبيل: ما أورده في الفصل الأول من "الفصول المهمة"([47])، فقد اختار الآيات الآتية: >إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة<([48]) ، و>وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ<([49])، و>مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ<([50])، وهذه الآيات إضافةً إلى وضوح مضمونها واتحاد تفسيرها، تشكِّل عقائد أساسية للمسلمين كالرسالة التي لم يختلف فيها أحد من المسلمين.

وأحياناً أخرى يأتي بآيات يفسّرها وفقاً لمبتنياتهم والمأثور في صحاحهم، وذلك من قبيل: آية أهل الذكر، فإنَّه يستشهد بها بوصفها من المشتركات. ولم يكتفِ بذلك، بل يفسِّرها وفقاً لقناعاتهم ورواياتهم، وبذلك يبدّلها إلى مصداق من مصاديق الاشتراك([51]).

              ‌ب- نماذج من السنة

ثاني أهم مشترك بين الطائفتين، هو السنة المتكوّنة من أحاديث متطابقة أو متقاربة المضامين ورد نقلها في مصادر الطائفتين، وفي هذا المجال يختار في "الفصول المهمة" أحاديث لا تثير الحساسية وذات مضامين توثِّق الأواصر، من قبيل: ما ورد في التآخي والتوادد.

أمَّا في "المراجعات" فجلّ المصادر التي يستقي منها سنية، وذلك إضافة إلى كون ذلك من مستلزمات موضوع هذا الكتاب باعتباره يحكي موضوعات جدلية مختلف فيها تستدعي نقض أفكار الطرف المقابل وفقاً لمتبنياته، إضافة إلى ذلك فهو يؤكِّد، من خلال استشهاده بمصادر أهل السنة، اتفاق الطرفين على المفاهيم التي يدعو إليها السيد، فإذا كانت المفاهيم التي يحاجج فيها الخصم موجودة في مصادره، فلا بدَّ من أن تكون في مصادر الشيعة كذلك، وهو اتفاق واتحاد واشتراك في المناهل.

وفي ذلك إشارات إلى المفاهيم والمعاني والأحكام المشتركة التي يمكن أن تستفاد وتُستقى من الآيات والروايات المشتركة بين الفريقين، ومن ذلك ما يستفاد منه حرمة دم المسلم وماله مهما كان توجّهه الطائفي والمذهبي([52]).

إنَّه يذكر حديث اعتبار الرسول 2 عليّاً B وصياً ووارثاً له([53]) ويوثّقه من مصادرهم؛ ليجعل من نقطة في قمة الخلاف بين الشيعة والسنة أمراً متفقاً عليه، وأنَّ الاختلاف إذا كان فينبغي صبّه على جوانب اُخرى، وما يمكن اعتباره موضع خلاف هو موضع اشتراك في الحقيقة.

4 – التوعية السياسية

إنَّ نشاطاته السياسية التي مرَّ ذكرها، ضمن توجّهاته السياسية في مجال التقريب، ونشاطات أخرى من المحتمل قوياً أنَّ التاريخ لم يسجّلها، تدخل ضمن معالجته لتدخُّل العامل السياسي في إيجاد الفرقة المذهبية بين الطوائف الاسلامية.

إنَّ كلمته "فرقتهما السياسة فلتجمعهما السياسة"([54]) تعبِّر عن إدراكه لعمق ما مثَّلته السياسة من دور في التفريق، ولعمق ما يمكن أن تمثَّله السياسة في توثيق الوحدة والتقريب بين الطوائف المذهبية. إنَّها تأسيس لمنهج تقريبي يعتمد السياسة منطلقاًَ مشتركاً للوحدة، وبخاصة في عصره، حيث كان العالم الاسلامي عموماً والعربي خصوصاً يعاني من أزمة التدخُّلات الأجنبية واستعمار الدول الضعيفة واستغلال ثرواتها، وترك شعوبها يرزحون تحت الظلم، ويعيشون في حالةٍ من الجهل وفقدان الوعي.

من خلال الإشارة إلى هذا العنصر المهم من عناصر الفرقة، سعى إلى توعية المسلمين وتفهيمهم بأنَّ كثيراً من خلافاتهم ليست دينية حقيقية، بل سياسية مؤطرة بإطار ديني وأقنعة مذهبية.

5 – إعداد الأجيال

عملية إعداد الأجيال والشعوب لفكرة التقريب لا تقتصر على نشاط من نوع خاص، بل ينبغي أن تكون عملية شاملة لا تقتصر على قطاع خاص أو شريحة محددة، والسيد شرف الدين – حسب ظروفه ومقدرته – قام بعملية شاملة نسبياً في نطاق عمله، فعمل للأطفال من خلال تأسيس مدرسة ابتدائية، وعمل للأشبال من خلال تأسيس مدارس متوسطة وإعدادية، وعمل للشباب من خلال تأسيس ثانويَّة.

لم تقتصر عملية إعداده للجيل على الطبقات المتعلّمة، بل نشط لأجل الإعداد الشامل على الأصعدة المختلفة والشرائح والطبقات المتفاوتة، فقد نشط كذلك على إعداد عموم الناس من خلال خطبه وإقامته الاحتفالات في نادي الإمام الصادقB، وباقي المراكز التي كان يحضرها لإقامة المراسم والاحتفالات الدينية، كما أنَّه نشط في مجال الطبقات العلمية أو التي كانت في طريقها إلى تسنّم مراتب العلم العليا من خلال كتاباته الراقية.

تظافرت الجودة العلمية لكتبه بجهود بعض الخيّرين في البذل والعطاء، لأجل طبعها طبعات عديدة؛ ليتسنَّى لعموم الناس اقتناءها، وهو أمر قلَّما يحظى كتاب به من حيث حجمه وعدد طبعاته، وبذلك تجتمع الكيفية والكمية لأعماله لتشكِّل نوعاً من الشمولية في أعماله رضوان الله تعالى عليه.

إنَّ معالجة شأن إعداد الأجيال تستدعي تظافر الجهود على الأصعدة المختلفة، فلا يمكن لعالم دين بإمكانيات محدودة أن يهمَّ بهذه العملية وحده، بل هو أمر متشعّب ولا ينهض به شخص أو طائفة خاصّة، بل الحكومات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، ورجالات الشعب على العموم تشترك جميعها في عملية الإعداد، والسيّد نهض بالدور الذي فرضه عليه إحساسه وشعوره بالمسؤولية، لكنَّ ذلك لا يعني كفاية نشاطه، لكن يعني نهوضه بدوره.

من إخفاقات السيد شرف الدين

في ما يخصُّ عملية التقريب التي قام بها السيد شرف الدين، يبدو أنَّه أخفق في جانب مهم وحسَّاس، وهو عدم السعي حثيثاً إلى تأصيل مصادرنا – وأقلها الكتب الأربعة – لدى أهل السنة.

إنَّ تنكُّر أهل السنة لمصادرنا وعدم الاعتداد بها وعدم الاستقاء والنهل منها يعدُّ اختلافاً مبنائياً، وحلّ الاختلاف في هذا المجال يعدّ حلاًّ لمشكلة أساسية عمَّقت هوة الخلاف بين الطائفتين.

هذه المشكلة ليس خاصة بعهد السيد شرف الدين، بل كانت ولا تزال منذ أمد بعيد، والعمل على أخذ هذه المصادر مواقعها في بحوث ودراسات أهل السنة يعدُّ عملاً جباراً، إلاّ أنَّه لم ينجح أيٌّ ممَّن سعى إلى التَّقريب في فتح مجال لهذه المصادر كي تأخذ طريقها عند أهل السنة.

قد يقال: إنَّ توثيقه بعض النصوص والروايات بهذه الكتب بالنحو الذي مضى ذكره نوع من التعريف بهذه المصادر، فإنَّه ليس من الضروري لأجل التعريف بهذه المصادر ذكر ببليوغرافيا هذه الكتب ومؤلفيها، وإعداد دراسة تخصُّ هذا الموضوع، بل يمكن التعريف بها من خلال استخدام منهج ازدواجي في التوثيق.

وإن لا يبعد ما تقدَّم ذكره، إلاَّ أنَّ هذا – رغم ذلك – يعدُّ نوعاً الإخفاق ضمن النجاحات الباهرة التي سُجِّلت له في مجال التقريب المذهبي، فإنّ النتيجة المتوخاة من هذه العملية لم تحصل، رغم أنَّ نتائج إيجابية غير قليلة حصلت جراء عمليات التقريب الأُخرى التي خاضها.

يبدو أنَّ هذا أهمّ إخفاق واجهه في عملية التقريب في الجانب الديني، والسبب يعود إلى أنَّ نتيجة العمل هنا لا تعود على الشخص نفسه فحسب، بل تعود إلى المخاطبين كذلك، وهذا أمر ليس بيد السيد، فإنّه عمل عمله وسعى سعيه، أمَّا النتيجة فليست ممَّا يُطالب به السيد.

ومن الأُمور التي أخفق في تحقيقها عدم توسيع رقعة عمله ونشاطه التقريبي، بل انحصر عمله في دول ومناطق محدودة كلبنان ومصر، ولم تتَّسع رقعة أعماله إلى دول أخرى هي أهل لإبلاغ أبنائها خطابه التقريبي، كالمغرب العربي على أقلّ تقدير إذا لم نقل باقي الدول الاسلامية ممَّن ينطقون بلغات غير عربية.

يبدو أنَّ السيد لم يكن حاملاً لتوجهات تقريبية شاملة لجميع الدول الاسلامية بما فيها الدول غير العربية، بل كانت توجهاته التقريبية محدودة، في هذا الجانب، بالدول العربية، فقد كان يخاطبهم، مطالباً إيَّاهم بنشر دعواته التقريبية إلى أرجاء الدول الإسلامية، وقد تكون الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحكم الدول المشار إليها، هي المانع من توسيع السيد نشاطاته.

 

*    *     *




الهوامش



 ______________________________________________

(*)باحث من العراق.



([1]) كتاب حوار الحقيقة في ضوء رؤية التوحّد الديني الثقافي – مطبوع.

([2]) كتاب دراسات مقارنة في أصول الفقه – مطبوع.

([3]) لا نقصد من السياسة هنا الدبلوماسية البحتة التي يمارسها السياسيون على الأصعدة المختلفة فحسب، بل ما يمشل ذلك ويشمل كذلك الأُمور الاجتماعية والاقتصادية وما شابه ذلك، في ما بين المسلمين على المستويين الفردي والجماعي.

([4]) راجع: حوار الحقيقة في ضوء رؤية التوحُّد الديني الثقافي: 36 – 60، حيث طرحت هناك شروط ومبادئ لهكذا حوار في ما يخصُّ الأديان والثقافات.

([5]) راجع: المصدر نفسه: 188 وما بعدها، وقد تناولنا هناك نظريات التوحيد باختصار.

([6]) رسالة الإسلام 1: 97، العدد الأول.

([7]) راجع: حوار الحقيقة: 41 – 60.
([8]) الاجتهاد في مقابل النص: 16.
([9]) نقلاً عن ترجمته في المصدر نفسه: 5.

([10])رسالة الإسلام 10: 109، السنة العاشرة، العدد الأوّل.

([11])انظر: الاجتهاد في مقابل النص: 17.

([12])الفصول المهمة: 9 – 11.

([13])المصدر نفسه: 15 – 20.

([14])الحجرات: 10.

([15])آل عمران: 105.

([16])آل عمران: 103.

([17])أخرجه عن التاج الجامع، الشيخ منصور علي ناصف ج5 ص30، طبعة دار إحياء الكتب العربية – بيروت.

([18])المصدر نفسسه: ج. 5 ص. 72 – 73.

([19])المراجعات: 49.

([20])إلى المجمع العلمي العربي بدمشق: 13.

([21])الاجتهاد في مقابل النص: 16 – 17، وفي ما يخصُّ هذا الموضوع راجع كذلك: بغية الراغبين 2: 153 – 155؛ ومقدمة بغية الراغبين (محمد علي قاسم) 1: ك؛ وحياة الإمام شرف الدين في سطور: 109 – 117؛ وحركة الإصلاح الشيعي: 424 – 430؛ ومقال مؤتمر وادي الحجير ودور الإمام شرف الدين ضمن (الإمام شرف الدين مصلحاً ومفكراً وأديباً): 311 – 321.

([22])الاجتهاد في مقابل النص: 17، كما أكَّدت هذا الموضوع المصادر المتقدّم ذكرها.

([23])المصدر نفسه.

([24])المصدر نفسه: 30.

([25])في ما يخصّ أسفار السيد راجع: رائد الفكر الإصلاحي السيد عبدالحسين شرف الدين: 48 – 54؛ وحياة شرف الدين في سطور: 102 – 107؛ والمراجعات: 30 – 32؛ وحركة الإصلاح الشيعي: 369 – 371.

([26])المراجعات: 30.

([27])حركة الإصلاح الشيعي: 363 ينقلها عن المنار: 31، العدد 4، ص. 292، تشرين الأول 1930، وكذلك المنار: 32، العدد 2 ص147، شباط 1932.

([28])المراجعات: 31.

([29])يقصد الفصول المهمة في تأليف الأُمّة.

([30])الاجتهاد في مقابل النص: 6.

([31])المراجعات: 50، كما أكَّد ذات المعنى في بغية الراغبين 2: 199 – 200.

([32])دعوة التقريب بين المذاهب الاسلامية: 7.

([33])رسالة الإسلام 5: 264 – 274، العدد الثالث من السنة الخامسة.

([34])المصدر السابق 7: 148 – 157، العدد الثاني من السنة السابعة.

([35])الاجتهاد في مقابل النص: 36 – 37.

([36])استخدم هذا الاسم المستعار في السنوات الأُولى من صدور المجلة، وفي المقالين اللذين تقدّمت الإشارة إليهما، ولا يبعد استخدامه للاسم المستعار في سفراته إلى جميع المناطق ذات الأكثرية السنية، إلاَّ أنَّ هذا لم ينقل عمّن ترجم له، لكنَّه يشير في "المراجعات" إلى استخدام حرف (ش) للإشارة إلى شرف الدين من دون استخدام حرف (ع) للإشارة إلى عبدالحسين.

([37])المراجعات: 49.

([38])المصدر نفسه: 53.

([39])بغية الراغبين 2: 448؛ والاجتهاد في مقابل النص: 16.

([40])راجع: بغية الراغبين 2: 116 – 138؛ والاجتهاد في مقابل النص: 37 – 38؛ وحياة شرف الدين في سطور: 87 – 99.

([41])انظر: حركة الإصلاح الشيعي: 226 – 227، نقلاً عن العرفان المجلّد 30، العدد 8 و 9 ص373، تشرين الأول والثاني، مقال للسيد باسم المدرسة الجعفرية والأوقاف في صور، ردٌّ على انتقاد علي إبراهيم.

([42])في مجال خطبه راجع: بغية الراغبين 2: 435 – 449.

([43])بغية الراغبين 2: 447 – 448.

([44])راجع: بغية الراغبين 2: 93 – 103؛ والمراجعات: 35 – 39؛ والاجتهاد في مقابل النصّ: 31 – 35؛ وحياة الإمام شرف الدين: 54 – 69.

([45])في بعض طبعاته يحمل عنوان الاجتهاد مقابل النص.

([46])إلى المجمع العالمي العربي بدمشق: 13 – 14، وقد أكَّد ذات المعنى بعبارات مختلفة قليلاً في الاجتهاد في مقابل النص: 384.

([47])الفصول المهمة: 15.

([48])الحجرات: 10.

([49])التوبة: 71.

([50])الفتح: 29.

([51])انظر: المراجعات: 89 – 104، في هذه الصفحات يوثّق بالأرقام التفاسير الواردة في أهل الذكر عن أهل السنة في الهامش، ويورد عناوين الكتب في المتن أحياناً دون ذكر الصفحة.

([52])راجع: الفصول المهمة: 31 – 38.

([53])راجع: المراجعات: 301 – 302.

([54])الاجتهاد في مقابل النص: 16؛ وبغية الراغبين 2: 448، والعبارة في المصدرين مختلفة بعض الشيء.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً