أحدث المقالات
موجة الحداثة التكنولوجية لها آثارها الكبيرة والمتفرقة بين إيجابيات تنعكس فعليا على كل واقعنا المعاش الشخصي والأسري والاجتماعي ، وسلبيات أيضا لها انعكاسات على واقعنا الشخصي  والأسري والاجتماعي.
 

ولعل دوما سوء الاستخدام هو جالب للسلبيات التي قد تكون أحيانا كارثية على الشخص والأسرة والمجتمع.

 

فقط بات من أسهل الأمور التقاط صورة ونشرها في هذه المواقع أو اقتباس مقولات مجتزأة أو ضرب مشاريع قائمة ثقافية  دون أدنى ضوابط أخلاقية أو عرفية بل جسد بعضنا مبدأ : كالبهيمة همها علفها وليس ما دعينا إليه " انظر لأقصى القوم وأعر لله جمجمتك". 

 

ورغم وجود حسابات خاصة لادعاء الخصوصية  لا يمكن دخولها إلا بإذن صاحب الحساب ، إلا أن هذا لا يعني أننا كسرنا أطر الخصوصية التي كانت تشكل حاضنة وحصنا للفرد والأسرة والمجتمع.

 

لأن الخصوصية لها دوائر تبدأ من الفرد وتتسع لكل العالم  ولهذه الخصوصية مجموعة من الحقوق للآخرين علينا لا يجوز انتهاكها ومجموعة من القيم الشخصية والاجتماعية والعرفية والذوقية لا يجب خرقها أيضا .

فالإنسان له شخصيتان حقوقيتان 
– شخصية حقيقية وهي ذاته

– شخصية حقوقية وهي علاقة ذاته بالمحيط الأسري والاجتماعي وما يفرضه عليه ذلك من مجموعة حقوق وواجبات

 

فدوائر الخصوصية وفق ذلك والتي تفرض حقوقا للأخرين علينا هي:

 
– الخصوصية الشخصية الذاتية 

– الخصوصية الزوجية وما تفرضه من حق لكليهما على الآخر في هذه الخصوصية.

– الخصوصية الأسرية وما تفرضة من حق لكل فرد في الأسرة على الآخر.

– الخصوصية الاجتماعية والتي تتسع وتضيق بحجم علاقات الفرد ومسؤولياته ومكانته والتي أيضا تفرض حق وفق كل مرتبة.

 

واليوم وصل الاختراق لدائرة الفرد الخاصة التي كانت سابقا دائرة شديدة الانغلاق والسرية وكانت تحفظ وتصون الفرد والأسرة والمجتمع.

 

والأخطر هو انتهاك دائرة الخصوصية الزوجية والأسرية سواء من أحد الزوجين أو من أحد أفراد الأسرة دون أدنى مراعاة لحق الآخرين وواجب الاسئذان وأخذ الرخصة ، وهو ما راكم كثيرا من المشاكل الأسرية والاجتماعية بل سبب انتهاكات خطيرة أخلاقية قد تصل لحد قتل أفراد عاديين أو ذو قيمة اعتبارية قتلا اجتماعيا من خلال إسقاط سمعتهم بصورة قد يكون لها ظروف وحكاية لم يطلع عليها أحد ووضعت في هذه المواقع وأصبحت سببا في دمار فرد أو أسرة.

 

فاليوم بات الهم هو نقل كل حركاتنا وسكناتنا للجميع دون مراعاة لأدنى خصوصية أو مراعاة لحق الآخرين بهذه الخصوصية ، وبات جل همنا نشر ثقافة الأكل والمطاعم والملابس بل تعدى ذلك للإباحية الأخلاقية بكل معنى الكلمة وكسر أطر الحواجز الشرعية في المحادثات بين المرأة والرجل لتوفر هذه الوسائل بشكل لحظي دون مراعاة حتى لصلاحية الوقت وخصوصية الفرد والأسرة وهو ما كسر حاجب الحياء والعفاف لدينا كمجتمعات إسلامية وعربية لها عاداتها وتقاليدها في ذلك .

 

وبعضنا أيضا بات يروج للثقافة الالتقاطية السطحية وانتهاك حقوق الملكية الفكرية فأصبح لدينا مثقف التويتر والفيس بوك الذي يخفي واقعا حقيقة شخصيته وموارده الثقافية والفكرية  بنشر المقولات المجتزأة  والالتقاطية، وتحولت ثقافتنا لوجبة سريعة وسطحية كما وجباتنا السريعة لبطوننا التي جلنا يعرف مضارها الصحية كما هي مضار الوجبات المعلوماتية السريعة الضارة بالعقل .

 

لست بصدد التهويل والتضخيم ولكن بصدد التنبيه لعواقب قد تكون غائبة عنا ، فخيركم من تفكر في العواقب.

 

أتمنى أن لا نروج لثقافات باتت تشكل نظرتنا عن الحياة وهي واقعا جزء لا يتجزأ من نظرة الرأسماليين لها، وأتمنى أن لا تتحول أهدافنا وأولوياتنا من أهداف سامية بسمو قيم إسلامنا العظيم  إلى أهداف  ذاتية ضيقة الأفق ووضيعة الآثار ومخلة بالقيم ومنتهكة للحقوق.

 

أتمنى أن لا نتحول إلى شيء لنروج لثقافة التشييء التي كانت أحد أهم منتجات ما بعد الحداثة السلبية ، والتي حولت الإنسان لشيء استهلاكي دعما للنظام الرأسمالي العالمي، فقد تكون حركة بسيطة نعمد لها لكنها واقعا هي كبيرة ومؤثرة في دعم الأهداف الاستراتيجية في النظام الرأسمالي .

 

لقد حصرنا همومنا في دائرة ذاتية فردية أو أسرية وانقطعنا عن الهم الأممي الذي رسخ له رسول الله صلى الله عليه وآله : من بات ولم يهتم بأمر المسلمين ليس بمسلم.

حتى بتنا لا نعلم ما وراء جدران منزلنا من آلام وهموم ومشاكل وعذابات وظلم ، وأغرقونا في همومنا الوهمية الذاتية وغالبا الاستهلاكية والهموم الضيقة الفردية والأسرية البعيدة عن سمو مكانة الإنسان العظيمة وسمو رفعة قيمه وأهدافه وغاياته .

لست مع عقلية المؤامرة ولكنني لا أنكر وجودها ، واستنكر رضانا بتهيأة أرضياتنا العقلية وإحداث ثغرات كبيرة في جسد أمتنا تتسرب إليها هذه المؤامرة وتغرس جذورها في صدورنا لتثبت وجودها وتقوم بثورة ناعمة في عملية الاحلال الثقافي التي رسمت لها استراتيجيات بعيدة المدى وهادئة الآليات، تتحقق دون ضجيج يلفت نظر الغافلين  وهم الشريحة الكبيرة ، لا أصحاب الوعي والبصيرة وهم الشريحة الأقل.

 

أتمنى أن لا نضرب أصالتنا وآدابنا وخلقنا بآليات الحداثة السلبية التي انتهكت حتى خصوصية الروح وأنهكتها وأثقلتها وخرقت عمق العقل وسطحت التفكير.

 

إننا اليوم أمام جدل إنساني من نوع آخر ، جدل بين الأصالة والمعاصرة تتحكم فيه: – ثقافات هجينة عمدت لنقل الثمار وزرعها في أرضنا دون أدنى مراعاة للخصوصيات الفكرية والثقافية والبيئية وباتت تستخدم كأدوات فاعلة في مشروع الحرب الناعمة

– وأخرى تنظر لحضارة الغرب من موقع الضعف وتستضعف ذاتها وقدراتها وثقافتها وتقبل بالاحلال الثقافي نتيجة انهزامها أمام واقعها أو قناعتها بأن الدين لا يقدم حلول لعدم تفرقتها بين حقيقة الدين والممارسة والفهم.

– وآخرين مناضلين لأجل المواكبة بالحفاظ على ما هو أصيل وإعادة صياغته بلغة معاصرة حقيقية لا تتخلى عن قيمنا ولا تراثنا الثابت ولا تضرب أعرافنا الشرعية والعقلية ولا منظومتنا الأخلاقية ، استطاعوا أن يميزوا بين الممارسة والفهم وبين الدين الحقيقي بل هي تجاهد في ساحات الجهاد الثقافي والفكري وتقدم لذلك التضحيات من أجل تقديم نموذج مشرق وبديل للاسلام يواكب العصر بأصالته ويسد الخلل في جسد الأمة ليمنع نفوذ تلك المؤامرات الثقافية التي تستهدف هويتنا وانتماءاتنا للدين والأمة وللتراب والإنسان والزمن.

وهؤلاء يواجهون بنضالهم عقبات مناهضة لحراكهم داخلية أكثر من مواجهتهم للعقبات الخارجية وهو موضوع له مبحث آخر خارج عن موضوعنا.

 

اليوم بتنا بحاجة لقراءة للدين أكثر مواكبة لإشكاليات العصر ، قراءة تنتج لنا فقه الحداثة وفقه التكنولوجيا وفقه العلاقات الاجتماعية تعالج هذه الاشكاليات الحقيقية وتطرح لها حلولا من الدين لما لذلك من تأثير عميق في الشعوب المتعلقة بالفطرة بالدين الذي يؤثر بالفتوى على كل واقع حياتها .

من غير المقبول اليوم أن تقف المؤسسة الدينية بمعزل عن مواكبة الحداثة ونتاجاتها وانعكاساتها على واقع مجتمعاتنا اليومية وضربها بسلبياتها لكل القيم والنظم الأخلاقية والأعراف العقلية والشرعية .

 

نحتاج معالجات واقعية من الدين لهذه المشاكل العصرية تكون معالجات جذرية واستراتيجية وليست موضعية وآنية ، أي نحن بحاجة لاستنطاق نظام متكامل من الدين يتعاطى مع المشروع الحداثي بقراءة جذرية ليقدم منظومة متكاملة جذرية ومبنائية تكون بديلا صالحا لمشروع الحداثة الغربي الذي أصاب أرواحنا بمقتل وأرهق وجودها وقابليتها ، وضرب الأسرة بعمقها الوجودي والوجداني وهي أهم بناء اجتماعي واجه به الاسلام على طول تاريخه النضالي  كل الانحرافات وحفظ به منظومة القيم والأخلاق والمبادئ ومقاصد الشرع .

 

لقد انعكس مشروع التغريب على واقع الإنسان الفكري والعملي، وإنساننا بالأصل مثقل من هم الفقر والجوع والاستبداد والجهل وهذه الحداثة بسلبياتها زادته ثقلا وهما وتجهيلا.وهو ما يزيد من مسؤولية كل من المثقف والمفكر والمؤسسة الدينية في مواكبة الحدث ومواجهته وحل إشكالياته ليس حلا ترقيعيا وإنما حلا جذريا بمشاريع بديلة وناجحة وناجعة الأثر.

 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً