أحدث المقالات

مرّ الحديث عند الشيعة بثلاثة أطوار تاريخية رئيسة، هي: طور التدوين، وطور الجمع، وهما طوران طبيعيان، ثم أعقبهما طور النقد والتحقيق، كالذي سنعرضه خلال الفقرات التالية.

1ـ طور التدوين

آمن الشيعة بأصالة تدوين الحديث، وأنكروا المقولة التي رواها أهل السنّة من أنّ النبي 2 كان قد نهى عن كتابة حديثه، واستدلّوا قبالها بالروايات الأخرى التي أجازت الكتابة، وأضافوا إليها روايات أخرى عن الأئمة الأطهار، وهم بهذا لا يعوّلون ــ من قريب أو بعيد ــ على ما سلكه الصحابة واتباعهم من أقوال وأفعال، ورأوا ذلك من المؤامرة على الحديث لأغراض سياسية تتعلّق بالموقف من الخلافة. وبحسب هذا الرأي، فإنّ الحديث لم تنقطع كتابته سواء في عهد النبي أو بعده، حيث تولّى الأئمة وأصحابهم تدوينه والحث على كتابته جيلاً بعد جيل، ونقلوا حول ذلك الكثير من الروايات لسنا بصدد بحثها هنا، بل سنكتفي بالإشارة إلى كثرة الكتب والروايات التي صنّفها ورواها أصحاب الأئمة طوال القرنين: الثاني والثالث للهجرة.

فقد قيل: إنّ من روى عن الإمام الصادق وحده يبلغ ما يقارب الأربعة آلاف رجل، وقد ذكرهم أبو العباس بن عقدة الزيدي (333هـ) في كتابٍ له عن الرجال الذين رووا عن الصادق، وسعى الشيخ الطوسي إلى إحصائهم، وعدّ منهم ما يزيد على ثلاثة آلاف (3050) رجل، كما أحصاهم الشبستري، وهو من المعاصرين، وأوصلهم إلى (3759)، وهم من أهل العراق والحجاز وخراسان والشام، وأغلبهم من أهل العراق خاصّةً الكوفة، حيث المنصوص عليهم من الكوفيين يزيدون على (1800) صاحب، فيما لم يكن من أهل المدينة المنوّرة ما يزيد على (150) صاحباً، وكذا هو الحال في سائر البلدان الأخرى.

وممّا جاء بهذا الصدد، ما ذكره النجاشي من أنّ الحسن بن علي بن زياد الوشاء ــ وهو من أصحاب الإمام الرضا ــ كان يقول: أدركت في هذا المسجد (الكوفة) تسعمائة شيخ؛ كلّ يقول: حدثني جعفر بن محمّد.

وقد امتاز الكثير من أصحاب الأئمة بكثرة الرواية، فمنهم من نقل أنه روى عشرات الآلاف من الأحاديث، وجاء عن الإمام الصادق أنّ أبان بن تغلب روى عنه ثلاثين ألف حديث، كما روي عن جابر بن يزيد الجعفي أنّ الإمام الباقر حدّثه من أسرار الأئمة سبعين ألف حديث، ووعد أن يكتمها ولا يحدّث بها أحداً، وفي رواية أخرى خمسين ألف حديث. كما جاء أن محمّد بن مسلم الثقفي الطائفي سأل الإمام الباقر عن ثلاثين ألف حديث، وسأل الإمام الصادق عن ستة عشر ألف حديث، وجاء أنّ محمد بن عيسى اليقطيني قد جمع من مسائل الإمام الرضا خمسة عشر ألف مسألة، وفي رواية أخرى ثمانية عشر ألف مسألة، وروي أنه سئل الإمام أبو جعفر الجواد في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين، وقيل: إنّ أبا العباس بن عقدة كان يجيب بثلاثمائة ألف حديث من أحاديث أهل البيت سوى غيرهم.

كما كانت المصنّفات الحديثية لأصحاب الأئمة وأتباعهم كثيرة جداً، ومن ذلك أنّ النجاشي عدّد ما وقف عليه من المصنّفين من أصحاب الأئمة فبلغ لديه ما يقارب الألف والثلاثمائة (1269) رجل، وضبط الحرّ العاملي عدد مصنّفاتهم فبلغت أكثر من ستة آلاف وستمائة كتاب، وقد ظفر منها على ما يزيد على ثمانين كتاب.

وكان من بين هذه المصنّفات للفضل بن شاذان مائة وستون كتاباً، وقيل: مائتا كتاب، وأنّ للحسين بن سعيد بن حمّاد الأهوازي ثلاثين كتاباً، وبمثل هذا العدد كان لعبد الله بن المغيرة، وكذا كان ليونس بن عبد الرحمن أكثر من ثلاثين كتاباً، وكان لعلي بن مهزيار الأهوازي ثلاثة وثلاثون كتاباً، وكان للبزنطي الكتابُ الكبير المعروف بجامع البزنطي، وكانت كتب البرقي تربو على مائة كتاب، وقد تزيد الأحاديث المدوّنة في كتب البرقي على خمسين ألف حديث، وكان للنسّابة هشام الكلبي أكثر من مائة وخمسين كتاباً، كما كان لمحمد بن أبي عمير أربعةٌ وتسعون كتاباً، وكان لعبد الله بن أحمد بن أبي زيد الأنباري مائة وأربعون كتاباً ورسالة، كما كان لمحمّد بن بحر الرهني نحو خمسمائة مصنّفٍ ورسالة، وأيضاً كان لأحمد بن محمّد بن دول القمّي مائة كتاب، كما كان لمحمّد بن مسعود العياشي ما يزيد على مائتي مصنّف.

وكان من بين هذه المصنفات ما يعرف بالأصول الأربعمائة، وقد اشتهرت في فترة الأئمة، وإن كان لم يعرف أوّل من أطلق عليها هذا الاسم من القدماء، ويرى بعضهم أنّ هذا العدد لا يشكّل جميع مصنّفات أصحاب الأئمة، بل هو العدد الذي شاع في فترة الإمامين الباقر والصادق، وأن مجموع المصنّفات في زمن الأئمة كبيرٌ لا يمكن إحصاؤه.

وتعود أهمية هذه الأصول إلى أنّها ألّفت في زمن الأئمة، وكان عليها المعوّل لدى المتقدّمين، وبعد ذلك أصبحت تشكّل المادة الأوّلية لرواية الحديث عند علماء الشيعة بعد الغيبة، حيث كان الكثير منها شائعاً لدى أوساط العلماء، وقد اعتمد عليها أولئك الذين قاموا بجمع الحديث، وكان من أبرزهم أصحاب الكتب الأربعة المعتبرة الملقّبون بالمحمدين الثلاثة، وهم كلّ من الكليني والصدوق والطوسي، ومع ذلك فإنّ أغلب الكتب التي شاعت في تلك الفترة أخذت بالفقدان عبر الأزمان المتأخرة، ولم يبقَ منها إلا القليل، ونظراً لفقدانها جرى خلاف بين العلماء المتأخرين حول مدى وثاقة هذه الكتب، وإن كان قد جرى عملهم الفعلي بما اعتمدوه على الكتب الجامعة التي قام بها المحمّدون الثلاثة، كالذي سيتبيّن لنا خلال الفقرة التالية.

2ـ طور الجمع

ظهر في عصر الغيبة عددٌ من العلماء الذين سعوا إلى جمع الحديث من الأصول الأربعمائة وغيرها كما شاعت آنذاك، وقد برزت أربعة جوامع لكتب الحديث تعود إلى من عُرفوا بالمحمدين الثلاثة الأوائل، وذلك خلال القرنين: الرابع والخامس للهجرة، وهي كتاب: الكافي في الأصول والفروع، للكليني (329هـ)، وكتاب من لا يحضره الفقيه، للصدوق (381هـ)، وكتابا: التهذيب، والاستبصار، لأبي جعفر الطوسي (460هـ). وتعدّ هذه الكتب معتبرةً لدى علماء الإمامية الإثنى عشرية، وان لم تكن كتب صحاح، كالذي عليه الحال مع صحاح أهل السنّة، ويبلغ مجموع الأحاديث فيها ــ مجتمعةً ــ ما يقارب خمسةً وأربعين ألف (44244) حديث.

ويعدّ كتاب الكافي للكليني أوثق كتب الحديث وأهمّها لدى علماء المذهب قاطبةً، وقيل: إنّ الكليني صرف عليه عشرين سنةً يجوب فيها البلدان بحثاً عن الأصول وكتب الحديث المروية عن الأئمة، خاصّةً تلك التي رواها تلامذة الإمام الصادق خلال القرن الثاني للهجرة، حيث اعتنى بها الكوفيّون وتطوّع بعضهم لنشرها في قم إبّان القرن الثالث.

وقد درج علماء الشيعة في تبيان أهميّة (الكافي) وقيمته، وقديماً قال المفيد: إنّ كتاب الكافي من أجلّ كتب الشيعة وأكثرها فائدةً. وقيل: إنّه يتضمّن ثلاثين كتاباً كالذي صرّح به الشيخ الطوسي في فهرسته، لكن من المتأخرين من قال: إنّه عبارة عن اثنين وثلاثين كتاباً، بل وقيل كذلك: إنه خمسون كتاباً، وفي الطبعات الحديثة الحالية نجده عبارة عن خمسة وثلاثين كتاباً كالذي يشير إليه الخوئي في رجاله، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الرواية المعتبرة وسط هذه الأقوال هي رواية الشيخ الطوسي لقِدَم قوله، فإنّ هناك خمسة كتب غير معلومة تبدو زائدة على الكافي، وربما مدسوسة فيه.

أمّا الكليني، فيعدّ لدى علماء الشيعة من الثقات العظام، وقد عاصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي، ويرجّح بعضٌ أنّه أدرك الإمام العسكري وإن لم يرو عنه، كما أدرك الكثير من رجال الحديث الذين عاصروا بعض الأئمة المتأخرين ممّن صحبوهم وسمعوا منهم ورووا عنهم، وقد تتلمذ على يدهم وسمع منهم وروى عنهم، هذا بخصوص الكافي وصاحبه الكليني.

أمّا ثاني الكتب الأربعة، فهو كتاب (من لا يحضره الفقيه)، الذي ألّفه الصدوق؛ ليكون مرجعاً على شاكلة كتاب من لا يحضره الطبيب للرازي، وتعدّ أحاديثه أقلّ عدداً من أحاديث (الكافي)، حيث تبلغ أكثر من تسعة آلاف (9044) حديث في الأحكام والسنن، وهي موزّعة على (176) باباً، وقد صرّح الصدوق بأنّه أخرج أحاديثه من الكتب المشهورة المعوّل عليها لدى المحدّثين الشيعة آنذاك، واستشهد في مقدّمته بعدد من هذه الكتب، كما اعتبر أنه سعى لما هو صحيح واعتقد أنه حجّة فيما بينه وبين الله.

وأخيراً يبقى كتابا: تهذيب الأحكام والاستبصار، للطوسي، وهما مختصّان بالأحكام الفقهية، ويعدّ كتاب الاستبصار اختصاراً للتهذيب، وبحسب رأي الشهيد الثاني: يمكن الاستغناء به عنه، وقد وضع (التهذيب) لجمع مطلق الأحاديث، سواء ما ورد منها على سبيل الوفاق أو الخلاف، وذلك بخلاف (الاستبصار) حيث اقتصر على الأخبار التي تتّصف بالاختلاف والتعارض، كالذي نصّ عليه الطوسي في ترجمته لنفسه في كتاب (الفهرست)، وأشار في مقدّمة (الاستبصار) إلى أنّه سيتبع طريقة الجمع بين الأخبار المتعارضة دون إسقاط شيء منها ما أمكن ذلك.

على هذا، امتاز الكتابان بأنهما يعالجان ــ ولأوّل مرّة ــ مسألة التعارض بين النصوص، كالذي أشار إليه الطوسي في مقدّمة الكتابين، حيث قسّم الأخبار إلى عدد من الخصائص ووضع قواعده في الجمع والترجيح، وهي الطريقة التي مثلت جوهر العملية الفقهية لدى فقهاء الشيعة فيما بعد، ولكتاب التهذيب (393) باباً، وأحاديثه تبلغ أكثر من ثلاثة عشر ونصف ألف (13590) حديث. أمّا كتاب الاستبصار فتبلغ أبوابه (925) باباً، وأحاديثه أكثر من خمسة آلاف (5511)، وقد حصرها الطوسي في خاتمة كتابه خشية أن يقع فيها زيادة أو نقصان، لكن مع ذلك ذكر الطهراني في (الذريعة) أنّ بعض العلماء أحصى أحاديث هذا الكتاب فحصرها في (6531) حديث، وهو خلاف ما ذكره الشيخ الطوسي.

هذه هي خصائص الكتب الأربعة المعتبرة على نحو الإجمال، ومنها تتبيّن خصوصية هذا الطور في جمع الحديث، سواء ما عرف فيما بعد بالضعيف منه أو الصحيح، وقد استمرّ العمل بهذا الطور قرنين من الزمان بعد الطوسي، ثم ظهر على أعقابه طورٌ جديد، له خصوصية النقد والتحقيق، كالذي سنتحدّث عنه في الفقرة التالية.

3ـ طور التحقيق

بدأت الدعوة إلى إجراء التحقيق في سند الحديث من قبل بعض المتأخرين خلال القرن السابع للهجرة، وذلك تأثراً بالطريقة الشائعة لدى أهل السنّة؛ حيث عمل العلامة الحلي أو شيخه ابن طاووس على استعارة تقسيم الحديث منهم، حتى صار مسلكاً يحتذي به الأصوليون الشيعة إلى يومنا هذا، وهو أنّ للحديث أربعة أقسام بحسب السند، وهي: الصحيح والحسن والموثق والضعيف. وقد أفضى هذا التقسيم إلى طرح الكثير من الأخبار لعلّة ضعف سندها، حتى قدّر ما ضعّف من الأخبار التي تضمّنتها الجوامع الأربعة بما يتجاوز النصف من الأخبار؛ ففي الكافي وحده أحصى المجلسي ــ في كتاب مرآة العقول ــ الأخبار التي تطرح استناداً إلى ذلك الاصطلاح، وبغضّ النظر عن القرائن الأخرى، فبلغت أكثر من ثلثي الأخبار الموجـودة فـيه.

وقيل: إنّ السبب الذي دعا إلى تقسيم الحديث أنّه لما طالت المدّة بين العلماء المتأخرين وبين الصدر الأول، وخفيت عليهم القرائن التي أوجبت صحّة الأخبار عن المتقدّمين، لجؤوا إلى التنويع والتقسيم؛ لمعرفة صحيح الأخبار من ضعيفها، كما علّل بعض الأصوليين الوضع الجديد بأنّه كان بسبب اختلاط الأصول المعتمدة بغيرها واندراس هذه الأصول، فضلاً عن خفاء القرائن، ولأن أصحاب الجوامع الأربعة كانوا يعتمدون على اجتهاداتهم في تصحيح الأحاديث.

وعلى رأي الإخبارية أن هذا الفهم للحديث الصحيح كما يعوّل عليه المتأخرون من الأصوليين مغاير لفهم قدماء المحدّثين والجامعين للأخبار، وقد اعتبرت إحداث الاصطلاح الجديد في تقسيم الحديث مفضياً إلى زوال الدين، حتى قال بعضهم: إنّ الدين هُدم مرّتين: يوم السقيفة ويوم أحدث الاصطلاح الجديد في الأخبار، وفي عبارة أخرى: يوم ولد العلامة الحلي، باعتباره المسؤول عن ذلك.

الحديث الشيعي ودليل الانسداد

يمكن إيضاح انطباق دليل الانسداد على الحديث الشيعي، وذلك تبعاً لكلّ من علم التوثيق وعلم الرواية وعلم الدلالة، كالآتي:

انسداد علم التوثيق

يعود اهتمام علماء الشيعة بعلم الرجال والجرح والتعديل إلى قديم الزمان، فقد اعتاد القدماء على تأليف كتب التراجم والفهارس بغية الجرح والتعديل وتمييز الثقة عن غيره، مثلما أشار إلى ذلك الشيخ الطوسي في (عدّة الأصول)، لكنّه اعتبر أنّ جميع كتب الرجال وفهارس المصنّفات، منذ أن ظهرت وحتى زمانه، لم يكن فيها ما يستوفي هذا العلم باستثناء ما قدّمه معاصره أحمد بن الغضائري، فإنّه صنّف في هذا المجال كتابين، لكن أتلفهما بعضُ ورثته.

وأهمّ ما في الأمر أنّ كتب الرجال التي شاعت في عصر الأئمة وما بعدهم بقليل لم يعد لها أثر في الأزمان المتأخرة، وما بقي من الكتب المعتمدة أربعة صغيرة متأخرة تُعرف بالأصول الرجالية الأربعة، وكذلك بعضٌ ممّا بقي من الكتب التي سبقتها مثل رجال البرقي ورجال العقيقي، لكن هذه الكتب الأخيرة لا تعدّ من الأصول لعدم تضمّنها التحقيق في توثيق الرجال، وإن كان حالها ليس بأفضل من بعض الأصول المعتبرة كرجال الطوسي، حيث إنّه أيضاً لا يحمل صفة التعديل والتجريح كما سنرى، وهذا يعني أنّ هناك فجوةً بين علم الرجال وبين أغلب الرواة الذين يتحدّث عنهم هذا العلم. بل هناك انسداد في الباب بسبب وجود الفاصلة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين زمن الكتب المتبقية من علم الرجال وبين زمن الرواة الذين عاصروا الأئمة، وعلى رأسهم الإمام الصادق، حيث غلبت عنه الرواية.

والأصول الأربعة التي وصلتنا في علم الرجال، هي كلّ من: اختيار رجال الكشي، ورجال النجاشي، ورجال وفهرست الطوسي، يضاف إليها رجال ابن الغضائري المسمّى بكتاب الضعفاء، وهو كتاب شكّك فيه العلماء. فهذه هي الكتب الاساسية الوحيدة التي بقيت خلال القرن السابع الهجري والتي اعتمد عليها المتأخّرون بدأ بابن طاووس (673هـ) وتلميذيه العلامة الحلي وابن داود، وحتى عصرنا الحاضر، ويمكن أن نصف كلّ واحد منها كالآتي:

أولاً: إنّ الأصل في (اختيار رجال الكشي) هو كتاب معرفة الناقلين، لعمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي، وهو تلميذ العيّاشي وأستاذ جعفر بن قولويه شيخ المفيد، ويعدّ من طبقة الشيخ الكليني. وكتابه مفقودٌ سوى ما انتخبه الشيخ الطوسي منه بعد تهذيبه وتلخيصه، وسمّاه: اختيار معرفة الرجال، وقيل: إنّ النسخ التي وصلتنا من الكتاب تختلف بالزيادة والنقصان. أمّا معرفة الناقلين، فقد ذكر النجاشي أنّ فيه أغلاطاً كثيرة، وهو ما دعا الطوسي إلى القيام بتهذيبه وتجريد ما فيه من أغلاط. وهذا يعني أنّ (اختيار معرفة الرجال) الذي وصلنا لا يعكس تمام الصورة لكتاب الكشي المفقود، فربما أجرى الطوسي إضافات وتغييرات جوهرية على الكتاب دون أن نعرف حقيقتها، كذلك يغلب على الكتاب طابع الأسانيد المعلّقة، وأنّ الطوسي ذكر هذه الأسانيد من غير إصلاح، وعلى رأي بعض المحقّقين: إنّه لم يصحّ من نصوص الكتاب المقدّرة (1150) نصّاً إلا أقلّ من ثلاثمائة نصّ فقط، هذا بالإضافة إلى وجود مشكلتين أخرتين: إحداهما أنّ الكتاب يعتمد التوثيق المروي عن الأئمة بحقّ الرواة، وهو ليس معنياً بالغالبية العظمى ممّن لم يرد فيهم شيء عن الأئمة، وثانيتهما أن الكثير من روايات التوثيق التي ينقلها الكتاب عن الأئمة هي روايات متعارضة من المدح والذم، فلم يسلم من ذلك حتى أولئك الموصوفين بقوّة الوثاقة ممن اعتمد عليهم في النقل، الأمر الذي اضطرّ العلماء إلى تعليل روايات الذمّ بأنّها صادرة للتقية.

ثانياً: قدّم النجاشي كتابه المسمى رجال النجاشي، وعرف الرجل بضبطه وتخصّصه في علم الرجال، واعتمد عليه كلّ من تأخر عنه، فهو أضبط الجماعة وأعرفهم بحال الرجال كما يقول الشهيد الثاني، ولم يستبعد بعضهم ترجيح قوله على قول معاصره الطوسي عند التعارض، بل ذهب العديد من العلماء إلى تقديمه في فنّ الرجال على غيره؛ تعويلاً على كتابه الذي عدّ من الكتب التي لا نظير لها في هذا الباب، كما صرح السيد بحر العلوم في فوائده الرجالية، واعتبر الطهراني كتابه عمدة الأصول الرجالية الأربعة، نظير الكافي بين كتب الحديث الأربعة.

وأوّل ما يُلاحظ في كتاب النجاشي أنّه يستهدف البحث عن أصحاب المصنّفات من الشيعة، وليس الكشف عن أحوال الرجال، وأنّ الاسم الحقيقي للكتاب هو (الفهرست)؛ حيث صنّفه ليثبت أنّ في قدماء الشيعة الكثير من المصنّفين الذين كثرت كتبهم ومصنّفاتهم، فحاول جهده أن يجمع ما أمكنه من أسماء المصنّفين المعروفين بالكتب، فكان كتابه من الفهارس التي تخصّ معرفة المصنّفات وأصحابها، وليس فيه ذكر لمن لم يكن له كتاب أو تصنيف، ومع ذلك فغالباً ما تضمّن الكتاب توثيق الرجال المصنّفين، فاعتبر بذلك من كتب علم الرجال، وإن خلا من التفصيل عن الأحوال عادةً، فقد تناول فيه النجاشي أكثر من ألف ومائتي (1269) مادّة رجالية، رغم صغر حجمه، بحيث لا يعطي صورةً كافية للتوثيق، وعبّر عن أغلب رجاله بلفظة (ثقة) مفردة أو مقترنة بألفاظ أخرى، وفي بعض الأحيان يذكر اسم الراوي مع كتابه أو مصنفاته فحسب، أو يذكر عنه أنه روى عن الإمام الفلاني، أو يذكر اسمه دون شيء آخر، وغالباً ما لا يزيد ذكره عن المادة الواحدة أكثر من ثلاثة أو أربعة أسطر حسب الطبعة الحديثة التي اعتمدناها، ويتخلّل ذلك نقله للسند أو الثنا والعنعنة.

وقد لاحظنا أن عدد المصنفين الذين أورد أسماءهم دون ذكر شيء عنهم تماماً هم أكثر من عشرة رجال، وأنّ الذين تحدّث عنهم بما لا يتجاوز السطر الواحد هم سبعون رجلاً تقريباً، وبما لا يتجاوز السطرين يقاربون مائة وثمانين رجلاً، وبما لا يتجاوز الثلاثة أسطر يقاربون مائتين وسبعين، وبما لا يتجاوز الأربعة أسطر يقاربون مائتين وستين، وبما لا يتجاوز الخمسة أسطر يقاربون مائة وثمانين. والمجموع الكلي لهذه التقديرات يقارب تسعمائة وسبعين رجلاً، أي أنّ هناك ما يقارب ألف مادّة رجالية هي بين أن تكون مذكورة بسطر واحد أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو لم يذكر عنها شيء بالمرّة، وأغلبها يتخلّله ذكر السند والعنعنة، وما تبقى، وهو ما يقارب ثلاثمائة مادة رجالية، تجاوز كلّ منها الخمسة أسطر، فقد تكون ستة أو سبعة أو صفحة أو أقل أو أكثر قليلاً.

ويتضح ممّا سبق أنّ الغالب في الموادّ الرجالية لم يذكر عنها شيء يفيد التفصيل، وأن التفصيل الذي يذكره النجاشي عادةً ما يكون عبارة عن تعداد أسماء المصنّفات والكتب للراوي، فكما قلنا: إنّ كتابه لم يوضع للكشف عن أحوال الرواة، بل لذكر من لهم كتب ومصنفات، وإن كان قد جرى له التوثيق والجرح والتعديل في أغلب ما عرضه من موادّ.

وبهذا الصدد، يمكن أن نسجّل الملاحظات النقدية التالية:

1ـ إنّ أغلب الرجال الذين ذكرهم النجاشي قد حكم عليهم بالثقة، سواء كانت هذه اللفظة منفردة أو مقترنة مع غيرها من الصفات المتعلّقة بالتوثيق، على أنّ لفظة الثقة المنفردة قد فاق تكرّرها كثيراً تلك التي وردت مقترنةً بغيرها من الأوصاف الأخرى، لكن ما ورد من هذه الأوصاف يجعل اللفظة المنفردة غير كافية لأن يعوّل عليها في توثيق ما ينقله الراوي، فمثلاً النجاشي رغم توثيقه لبعض رجاله إلا أنّه يقرن ذلك بصفات تمنع الاعتماد عليه أحياناً، مثل أن يصفه بأنّه يروي عن الضعفاء أو يعتمد المراسيل، وقد يصف الرجل بالثقة ويقرن مع هذا الوصف أنّه صحيح الحديث، أو يصف الرجل بأنّه ثقة في الحديث..، وكلّ ذلك ينبئ عن أنّ انفراد لفظة الثقة لا يدلّ على وثاقة الرجل في النقل والرواية، فقد يكون ثقةً لا يكذب لكنّه ضعيف الحافظة أو غير دقيق وضابط للحديث؛ لذلك وصف النجاشي بعضهم بالثقة وقرن معه أنه صحيح السماع أو الرواية، ممّا يدلّ على أنّ أغلب رجال النجاشي لم يتعيّن في حقهم التوثيق الخاصّ بالنقل والرواية، ولم يرد بشأنهم علامات دالّة على الحفظ والاتقان.

2ـ اقتصر كتاب النجاشي على المصنّفين الشيعة، وهو بذلك لا يغطّي مساحة الرواة الذين لم يعرف لهم مصنّفات، وكما مرّ معنا فإنّ عدد المصنفات التي ظهرت في عصر الإمام الصادق كانت تقدّر بأربعمائة مصنّف، في حين أنّ الذين رووا عن الصادق كانوا أربعة آلاف رجل، فعدد هؤلاء أعظم من عدد المصنّفين بأضعاف كثيرة، وهم غائبون عن مطلب الكتاب، يضاف إلى أنّ الكتاب قد شمل علماء ومصنّفين لا علاقة لهم بالرواية والنقل، كالشعراء والأدباء والمتكلّمين وما إليهم، وإن كان غالب ما تضمّنه من أصحاب الرواية والحديث.

3ـ يغلب على طريقة النجاشي الاهتمام بالسند المتصل، وأحياناً لا يذكر السند، كما يصدّر سنده أحياناً بعبارة: (أخبرنا عدّة من أصحابنا) أو ما يقابلها من معنى مثل الجماعة وما إليها، وذلك على شاكلة ما ألفه أصحاب الحديث؛ مثل الكليني والطوسي، مع هذا فإن اهتمام النجاشي بالسند جعله ينقل كيفية مختلفة من الاتصال بين الرواة، فهو عادةً ما يصدّر السند بلفظة (أخبرنا)، وبعد ذلك قد يخلّل أواسطه بعبارة العنعنة، ثم يعقبها بعبارات دالّة على الاتصال والسماع المباشر، مثل عبارة (قال: حدثنا..)، ويذكر اسم الراوي، أو قد يكون العكس، فيروي بمثل هذا السماع المباشر ثم يعقبه بالعنعنة، وأحياناً يمتزج الحال بأشكال من التعاقب في سلسلة السند الواحد، مثل قوله في أحد رجاله: (أخبرنا به أحمد بن محمد عن أحمد بن محمد قال: حدثنا عمر بن أحمد بن كيسبة عن علي بن الحسن الطاطري قال: حدثنا محمد بن زياد عن عبد الله)([1])، وهذا يعني أن هناك تمايزاً بين العنعنة وبين السماع المباشر، وأن وجود الأولى دالّ على المسامحة في النقل، كالذي يحصل في نقل الأحاديث، حيث هو الآخر قائم على المسامحة بفعل غياب ما يدلّ على الاتصال والسماع المباشر.

ثالثاً: أمّا ما قدّمه الشيخ الطوسي في علم الرجال فهو أنّ له كتابين يعرفان برجال الطوسي والفهرست، ويسمى الكتاب الأول بالأبواب، ومشكلته أنّه يكاد يخلو من التوثيق، ويقتصر على ذكر أسماء الرجال ونسبهم وطبقاتهم، حيث ألّفه الطوسي لهذا الغرض، وإن أشار في النادر إلى كلمةٍ ما من التوثيق.

أمّا كتاب الفهرست، فهو العمدة لدى علماء الرجال والتوثيق، ونظرة داخلية له ترينا أنّ مجموع موادّه الرجالية تقارب تسعمائة (888) مادّة، والغالب في طريقة الطوسي أنّه يذكر السند بالعنعنة، لكنّه يصدّره بعبارة الثنا: حدثنا أو أخبرنا، وأحياناً يذكر عبارة: (أخبرنا عدّة من أصحابنا) وما شاكلها، كما قد لا يذكر السند تماماً، وحديث الطوسي في أغلب موادّه مختصر وقليل، إلى درجة لا يتجاوز حدّ السطرين، بما فيه ذكر اسم الراوي وسلسلة السند، وذلك حسب الطبعة الحديثة التي اعتمدناها، وأنّ حوالي ثلاثة أرباع الموادّ لا يتجاوز كلّ منها الثلاثة أسطر، وتعدّ كلمات التوثيق في الرجال عند الطوسي قليلة، وأغلب ما كان يذكره في رجاله هو الاكتفاء بتعريف الرجل وأنّ له كتاباً؛ دون أن يعرّف باسم الكتاب، وهو في كثير من الأحيان لا يهتمّ بنقل السند، كما قد يذكر أنّ للرجل أصلاً دون ذكر اسمه، أو أنّ له روايات أو نوادر أو مسائل، وأحياناً قليلة يكتفي بالقول: إنّ له كتباً أو أخباراً أو مصنّفات، لكنّه في حالات كثيرة أيضاً يشير إلى أسماء الكتب والمصنفات، وفي كتاب الطوسي هناك جماعة كثيرة لم يعرفوا بأسمائهم سوى الكنية أو اللقب أو القبيلة أو البلد، وأغلب ما كان يذكره عن الواحد منهم أنّ له كتاباً، وقد يذكر السند، كما قد لا يذكره، أو يكتفي بعبارة: رواه فلان وما إلى ذلك، كما وفي الكتاب حالتان لم يذكر فيهما شيء غير الاسم فحسب، وهما حالة زيد البرسي، وحالة أخرى عرفها بالكنية واللقب، دون أن يذكر حولها شيئاً آخر، وهي تخصّ أبا حفص الرماني([2]).

ولو أردنا أن نقارن بين فهرست الطوسي وفهرست النجاشي، برؤية داخلية للكتابين، سنجد أن الأول أقلّ قيمةً من الثاني؛ فعدد الرجال في الأول أقلّ ممّا جاء في الثاني، وما ذكره الطوسي من أسطر لأغلب الموادّ أقلّ ممّا ذكره النجاشي، والأهم من ذلك أنّ الطوسي قلّما تعرّض لتوثيق رجاله بخلاف ما فعله النجاشي، كما أنّ الطوسي غالباً ما كان يعرف الرجل بأنّ له كتاباً أو أصلاً أو روايات أو غير ذلك دون أن يحدّد أسماءها، وهو على خلاف ما فعله النجاشي، وأيضاً فإنّ سلسلة السند التي ذكرها الطوسي تمتلئ بالعنعنة بعد التصدير بلفظة: أخبرنا وما على شاكلتها.

مع هذا، فالمعروف أنّ العلماء المتأخرين ارتبطوا بالطوسي أكثر من غيره في معرفة حال المتقدّمين، فقد اعتبروه حلقة الاتصال بين المتأخّرين والمتقدّمين من أصحاب الأصول الأربعمائة؛ وذلك لكثرة ممارسته التوثيق في كتب الحديث والفقه التي ألّفها، ولهيمنة شخصيّته على من جاء بعده من العلماء في مختلف العلوم النقلية؛ حتى أصبح تقليده من المسلّمات خلال ما يقرب القرن من الزمان؛ فقد كانت توثيقاته وفتاويه هي العمدة لمن جاء بعده، واعتبر العلماء أن أصول المذهب كلّها راجعة إليه، خاصّة وقد انقطعت السلسلة بعده فأصبح أغلب الناس يقلّدونه ويعملون بفتاويه، بل ويستدلّون بها كما يستدلّ بالرواية، على ما صرّح به ابن إدريس الحلّي وغيره، فهم حين يذكرون طرقهم إلى أرباب الأصول والكتب المعاصرين للأئمة يتوسّلون بطرقهم إلى الطوسي، ثم يحيلون الأمر بعد ذلك إلى طرقه.

لكن مع أنّ الطوسي هو الرابط الأعظم بين المتأخرين والمتقدّمين كما عرفنا، إلا أنّ فيه جملة من نقاط الضعف والتناقض، إلى الدرجة التي قد يصعب الاعتماد عليه في التوثيق والنقل والادعاء، فقد وصفه بعضهم بأنّه كان يضعّف الرجل في موضع ويوثقه في موضعٍ آخر، وآراؤه في هذا وغيره لا تكاد تنضبط، ومن ذلك أنّه كان يصرّح بصحّة الاعتماد على روايات أصحاب العقائد المنحرفة ما لم يعرفوا بالكذب، وهو في مقدمة الفهرست أشار إلى أنّ الكثير من أرباب الأصول هم ذوو عقائد فاسدة وإن كانت كتبهم معتمدة، لكنه مع هذا لا يتقبّل ــ أحياناً ــ روايات بعض الثقات منهم؛ بعلّة الانحراف في المذهب والاعتقاد، كما هي الحال في طرحه بعض الأخبار التي رواها سماعة؛ معلّلاً ذلك بأنّه واقفي، وقد عرف الرجل بقوّة الوثاقة والجلالة، وفي كتابه: الرجال، تارةً يذكر الرجل في رجال أحد الائمة، وأخرى في رجال غيره، وتارة فيمن لم يرو عنهم.

وتبعاً للاضطراب المعروف عن الطوسي، نقل الخوانساري في (روضات الجنات) كلاماً للمحقّق إسماعيل الخواجوئي يقول فيه: «لا يسوغ تقليد الشيخ (الطوسي) في معرفة أحوال الرجال، ولا يفيد إخباره بها ظنّاً، بل ولا شكّاً في حال من الأحوال؛ لأنّ كلامه في هذا الباب مضطرب»، كما عرّضه يوسف البحراني في (لؤلؤة البحرين) إلى ما يقارب هذا النقد.

ونخلص ممّا سبق إلى أنّ ما ورثه المتأخرون عن معرفة المتقدّمين هي تلك التي قدّمها لهم الطوسي ومعاصره النجاشي، رغم الفاصلة الكبيرة التي تفصل زمانهما عن عصر المتقدّمين، وعادةً ما تكون سلسلة السند في توثيقات هذين الرجلين للرواة طويلة، تبعاً لتعدّد الوسائط من خبر الواحد، وهي في النتيجة لا تعطي المادة الكافية، وإذا عرفنا أنّ أغلب نصوص الحديث رويت عن الإمام الصادق، فإنّ الفاصلة التي تفصل بين عصر هذا الإمام وعصر النجاشي والطوسي تقارب الثلاثمائة سنة، حيث توفي الصادق في منتصف القرن الثاني للهجرة (148هـ) وتوفي النجاشي في منتصف القرن الخامس للهجرة (450هـ)، وكذا توفي الطوسي قريب هذه الفترة، وبين المدّتين فاصلة كبيرة، فكيف يمكن الاطمئنان إلى التوثيق الذي يصدر منهما حول الرواة الذين عاصروا الصادق ورووا عنه مع طول هذه المدّة وقصر العبارات التي أورداها واقتضابها من حيث إنها غالباً ما لا تفي بشيء مهمّ في التعرّف على الراوي؟!

علماً أنّ الشرط الزمني في التوثيق ليس غائباً عن أعين بعض المحقّقين؛ فهذا أبو القاسم الخوئي يرى في رجاله أنّ من شروط التوثيق أن يكون من أخبر عن وثاقته معاصراً للمخبر أو قريب العصر منه، ولا عبرة بتوثيق من كان بعيداً عن عصره؛ لأنه يكون مبنياً على الحدس والاجتهاد فحسب، ولا شك أنّ هذا الحال ينطبق تماماً على توثيق الشيخين: الطوسي والنجاشي ومن عاصرهما، وفيه يتبيّن انسداد علم التوثيق، سواء أخذنا الأمر من حيث اجتهاد هؤلاء الموثقين، أو اعتبرنا أنهم إنّما بنوا توثيقاتهم تبعاً للنقل والرواية، حيث الوسائط الكثيرة، وفي كلا الحالين لا يعدّ ذلك بيّنةً شرعية من باب الشهادة، ولا يقبل مثله في الحقوق كالذي أشار إليه الشيخ الأنصاري في (فرائد الأصول)، بل وحتى التعديل فيه لا يتعدّى عادةً حدود العدل الواحد، ولو أشرط التعديل بعدلين لأوجب ذلك خلوّ الأحكام والنصوص المروية عن الدليل، بل إنّ التعديل قائمٌ على المسامحة، وعلى ما يرى الشيخ الهمداني أنّه لا يكاد يوجد خبر يمكن إثبات عدالة رواته على سبيل التحقيق لولا البناء على المسامحة والعمل بظنون غير ثابتة الحجيّة، الأمر الذي دعاه إلى ترك الفحص عن حال الرجال ومعرفة أحوالهم؛ تعويلاً على ما سلكه الأصحاب من الاعتناء بالأحاديث المدوّنة في الكتب المعتبرة وعدم إعراضهم عنها، وهي النزعة التي يؤكد عليها الإخباريون، بل ذهب بعضهم ــ كما جاء في كتاب: منتقى الجمان ــ إلى أنّ الظن الحاصل من الخبر الذي استفيدت عدالته من تزكية الواحد قد يكون أضعف ممّا يحصل من أصالة البراءة أو عموم الكتاب.

وبهذا يكون العلم بتوثيق الرواة متعذراً تماماً؛ تبعاً للمبرّرات التي سبق عرضها.

أصحاب الأئمة والتوثيق

ينطبق كلّ ما ذكرناه في تعذّر التوثيق على أصحاب الأئمة مثلما ينطبق على غيرهم؛ فقد اعترف عددٌ من علماء المذهب بأنّ توثيق أصحاب الأئمة مبنيّ على الظنّ الاجتهادي، وليس من باب الشهادة ولا الرواية المصطلحة، وعلّلوا ذلك بانسداد علم التوثيق وعدم القدرة على معرفة حقيقة أحوال الأصحاب عن قرب، وكانت هذه المسألة إحدى أسباب الزعم بانسداد الطريق إلى علم الأحكام، وكان من أبرز الذين ذهبوا إلى هذا الاتجاه الوحيد البهبهاني في (رسالة الاجتهاد والأخبار)، حيث نفى القطع بوثاقة أصحاب الأئمة، رغم أنّ علماء المذهب رسموا لهم صورةً ملؤها التعديل والتبجيل، أمثال زرارة بن أعين، وليث المرادي، وحريز، وعبد العظيم بن عبد الله الحسني، والهشامين، وغيرهم ممّن هم مصدر التعويل في تصحيح الحديث؛ وقد استنتج البهبهاني من كلمات علماء الرجال ــ كالنجاشي والطوسي والكشي وغيرهم ــ أنّه لم يحصل لهم القطع بوثاقة هؤلاء الأصحاب، وكذا وثاقة أرباب الأصول، وصرّح بأنّ المتأمّل في كلمات أصحاب الرجال المشار إليهم سلفاً، وكذا أصحاب الحديث والفقه من القدماء، يدرك أنه لم يظهر لهم قطعٌ بوثاقة كلّ من أصحاب الأئمة وأرباب الأصول، كما لم يحصل لأحد منهم طريق إلى هذه الأصول، الأمر الذي جعلهم لا يقبلون الانفراد في الرواية عن المشهورين بالجلالة والعظمة من الأصحاب؛ فالطوسي ــ مثلاً ــ كان يطرح رواية الأعاظم من أمثال «جعفر بن بشير، وجميل بن دراج، وأبي همام، ويونس بن عبد الرحمن، وهشام بن سالم، وعمرو بن يزيد، وأمثالهم، بناء على عدم كونها من المعصوم % وتحقّق الوهم منهم». وأكثر من هذا، اعتقد البهبهاني أنّ التتبع في وثاقة الأجلة في أخبار الكتب المعتمدة ربما يكون مضراً، معلّلاً ذلك ببعض الأسباب، منها «ما ورد في تلك الكتب من الأحاديث الدالّة على ذمّ الأجلّة الفحول وأعاظمهم من أرباب الأصول؛ مثل أحمد بن محمّد بن عيسى، وزرارة، وليث المرادي، والهشامين، ويونس بن عبد الرحمن، وغيرهم». ونحن نعلم أنّ الشريف المرتضى قد طعن بجماعة هامّة من أصحاب الأئمة ممّن جرى عليهم التعويل لدى المتأخرين في تصحيح الحديث، وذلك للظنّ بجلالة قدرهم.

والذي يطّلع على كتاب (اختيار معرفة الرجال)، يجد فيه روايات كثيرة تطعن في الكثير من أصحاب الأئمة المعتمد عليهم في النقل، ومن بين هؤلاء بعض من عرفوا بأصحاب الإجماع، والتعويل في ذلك يعود إلى الكشي، حيث صرّح بأنه انعقد إجماع العلماء على تصحيح ما يصحّ عن كلّ واحد منهم وتصديقهم لما يقولون وأقرّوا لهم بالفقه، رغم ما ورد بشأنهم من روايات متعارضة عن الأئمة من التعديل والتجريح، ومن ذلك ما جاء في حقّ زرارة بن أعين المعدّ أبرز الجماعة الموثوقين، فمثلاً أورد الكليني في الكافي أربعة أحاديث تقدح فيه، كما نقل الكشي حوله روايات كثيرة متعارضة من التعديل والتجريح، وهي تتفاوت في الصحّة والضعف بحسب الاصطلاح الذي سار عليه علماء الرجال من الأصوليين المتأخرين، وفي نظر الأميني أنّ أخبار الطعن ــ كأخبار المدح ــ مستفيضة إن لم تكن متواترة، وذلك كجواب على ما قاله الشهيد الثاني من أنّ الكشي ذكر ما يزيد على عشرين رواية تقتضي ذمّه، وكلّها بنظره ضعيفة السند إلا حديث واحد طريقه صحيح لكنّه مرسل، لكنّ عدداً من العلماء لم يقتنع بما قدّمه الشهيد الثاني، ليس فقط لوجود الأخبار غير الضعيفة، بل ولأن هناك استفاضة بالغة في الأحاديث الدالّة على الذم، وإن وجّهها العلماء بأنّها جاءت للتقية كما تفيد بعض الروايات، وذهب السيد الداماد إلى أنّ ما ورد من ذمّ لزرارة إنّما جاء على خلفية ما كان يحمله من عقائد خاطئة لم يرضَ عنها الصادق وإن كان ممدوحاً عنده، ومن ذلك أنّ زرارة كان يقول بالتفويض والاستطاعة لشبهة عويصة اعترضته، ولكونه أساء الأدب مع الصادق اتكالاً على ارتفاع منزلته عنده وشدّة اختصاصه به. وجاء في بعض الروايات ــ كما في رجال الكشي ــ أنّ زرارة كان يذمّ الإمام الصادق ويمتدح أباه الباقر، ومن ذلك أنه قال: رحم الله أبا جعفر، وأمّا جعفر فإنّ في قلبي عليه لعنة، وقد اعتبر بعض العلماء أنّ ما حمل زرارة على هذا القول، أنّ الإمام الصادق قد أخرج مخازيه، وفي رواية أخرى أنّ زرارة كان لا يرى ما يراه الإمام الصادق في كذب البعض على أبيه الباقر، كذلك جاء أنّه كان يرى الإمام الصادق أقلّ علماً ممّا كان يظن، وكذا إنّه لم ير فيه ما يعتمد عليه.

انسداد علم الرواية

من النقاط النقدية حول توثيق الرواية في كتب الحديث الأربعة، نذكر ما يلي:

أولاً: إذا غضضنا النظر عن مشكلة التوثيق في علم الرجال كما عرضناها من قبل، وتساءلنا عن الكيفية التي تعامل بها أصحاب الكتب الأربعة مع سند الروايات التي جمعوها، فهل بدا منهم حرص على الاهتمام بالسند لمن رووا عنه؟ أم كانوا مجرّد نَقَلَة جامعين من غير تحقيق؟

في واقع الأمر، استقر عمل هؤلاء على النقل من الكتب والأصول المنسوبة إلى مؤلّفيها دون النظر في رجال السند ولا تمهيد لبيان المشيخة الواقعة بين الناقل وبينها، فالكليني يصدّر سنده بذكر اسم الراوي عادةً دون أن يعرّف اتصاله به إن كان قد عوّل في ذكره على ما في الكتب والأصول المشهورة آنذاك، أو استند إلى طريق آخر، والأرجح هو الأول، خاصّة وأنّه روى عن ابن أبي خالد شينولة أنّه قال لأبي جعفر الثاني (الجواد): جعلت فداك، إن مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبد الله % وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم، فلما ماتوا صارت الكتب إلينا، فقال: حدّثوا بها فإنّها حقّ.

أمّا الشيخ الصدوق، فقد أشار إلى أنّ جميع ما أورده في كتابه (من لا يحضره الفقيه) مستخرجٌ من كتب مشهورة معروفة، وذكر أنّ طرقه إليها معروفة في فهرس الكتب التي رواها عن مشايخه وأسلافه، لكنّ هذا الفهرس الذي ذكر فيه طرقه إلى الكتب التي رواها عن مشايخه لم يصل الينا، فلا يعرف من طرقه غير ما ذكره في المشيخة من طرقه إلى من روى عنهم في كتابه، وأمّا طرقه إلى أرباب الكتب فهي مجهولة تماماً، لذلك لا يعلم ــ والحال هذه ــ أيّ منها كان صحيحاً وأيّ منها غير صحيح، كالذي أشار إليه الخوئي في رجاله، مضيفاً أنّ الكتب المعروفة المعتبرة التي أخرج الصدوق روايات كتابه منها ليست كتبَ من بدأ بهم السند في كتابه، وقد ذكر جملة منهم في المشيخة، وإنما هي كتب غيرهم من الأعلام المشهورين، التي منها رسالة والده إليه، وكتاب شيخه محمد بن الحسن بن الوليد، فالروايات الموجودة في كتابه مستخرجة من هذه الكتب؛ وهذا يعني أنّه لم يعتمد في نقله للروايات على الكتب المشهورة مباشرةً، بل نقل ما فيها اعتماداً على بعض مشايخه، وكما يقول بعض العلماء: إنّ الشيخ الصدوق لم يفِ بما وعده في أول كتابه، من أنه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع؛ وذلك لأنّه روى عن جماعات غير مشهورين، ولا كتبهم مشهورة.

أمّا الحال مع الشيخ الطوسي فمختلف؛ حيث بدأ في السند في كتابيه (التهذيب والاستبصار) لمن هو صاحب كتاب، فروى عنه ما جاء في كتابه، على ما صرّح به في آخر كتابيه، ومع ذلك فالطوسي لم يذكر أنّ الكتب التي اعتمدها في رواياته كانت كتباً معتبرة معروفة، كالذي أشار إليه الخوئي.

وخلاصة ما سبق أنّ القدماء قد اعتمدوا على ما شاع عندهم من الكتب المعروفة دون تحقيق وتدقيق في السند الذي يوصل إلى هذه الطرق، ولا إلى ما يتصف به أصحابها ومضامينها، وكأنها كتب صحاح بما تضمّنته من الروايات.

على أنّ هذا الحال من عدم اهتمام القدماء بالسند قد شكّل معضلةً لدى المتأخرين من الأصوليين؛ ذلك أنّهم صرّحوا باعتبار الواسطة والاعتناء بها، والتي منها الطرق إلى أصحاب الكتب والأصول التي ظلّت مجهولةً لدى المتأخرين. أمّا الإخباريون فلم يبالوا بالأمر؛ إذ ذهبوا إلى عدم الحاجة إلى الطريق فيما روي بصورة التعليق من أحاديث الكتب المعتبرة، وعلى رأيهم، لا يضرّ الجهل بالطريق ولا اشتماله على مجهول أو ضعيف، طالما أنّ الأصول والكتب كانت مشهورةً معروفة في تلك الأعصار متواترة النسبة إلى أصحابها، وإن فقدت الطرق التي توصل إلى أرباب هذه الكتب وأصبحت مجهولةً لدى المتأخرين، وقد زاد المتأخّرون من التعويل على الكتب التي عثروا عليها ممّا ينسب إلى القدماء، رغم الفاصلة الزمنية الطويلة وقوّة احتمال الوضع والدسّ والتزوير، وقد أدرج الحرّ العاملي في كتاب وسائل الشيعة ثمانين كتاباً ظفر بها من كتب المتقدّمين، وكذا أدرج حسين النوري في كتاب مستدرك الوسائل، أكثر من ستين كتاباً ظفر بها، وهناك من أضاف إلى ذلك كتباً عثر عليها للقدماء المعاصرين للأئمة؛ مثل بصائر الدرجات للصفّار، والمحاسن للبرقي، وجملة أخرى من الأصول قدّرت بثلاثة عشر أصلاً، مثل تلك التي تعود إلى كلّ من زيد الزراد، وزيد النرسي، وعباد العصفري، وعاصم بن حميد الحناط، وجعفر بن محمد بن شريح الحضرمي، ومحمد بن المثنى الحضرمي، وغيرها، وقد اعترف الشيخ النوري بأنّ جملة من تلك الكتب التي اعتمد عليها المتأخرون كالحرّ العاملي ممّا لم تثبت نسبته إلى مؤلفيه، كفضل الشيعة للصدوق، وتحف العقول، وتفسير فرات الكوفي، وإرشاد الديلمي، ونوادر أحمد بن محمد بن عيسى، والاختصاص للمفيد وما إليها.

ثانياً: يُضاف إلى ما سبق، أنّ أصحاب الكتب الأربعة قد تقبّلوا الروايات الضعيفة، ومنهم من اعتبرها مقطوعة الصدور، كما أنّ منهم من تعبّد بالعمل بها ضمن شروط، وكان موقفهم من الرواة يستند إلى مبدأ المسامحة، فأكثرهم تشدّداً هو الشيخ الطوسي الذي مارس مهمّة الجرح والتعديل دون سابقيه، وهي المهمّة التي ورثها عنه الفقهاء الأصوليون فيما بعد، لكنّه مع ذلك لم يمانع من الأخذ بالروايات الضعيفة حين تسلم من المعارض الأقوى، ولم يكن رواتها معروفين بالكذب؛ فهو يقبل كون الراوي ثقةً من حيث تحرّزه عن الكذب في الرواية وإن كان فاسقاً بجوارحه، وقد ادّعى أنّ الطائفة كانت تعمل بالأخبار التي يرويها من هكذا صفته وحاله، كما أنّه يقبل الروايات المرسلة إذا ما كان الراوي قد عُرف بأنّه لا يروي إلا عن ثقة، وكذا يقبل الروايات المرسلة بشرط أن لا يكون لها معارض من المسانيد الصحيحة، واحتجّ بأنّ الطائفة عملت بالمراسيل عند سلامتها عن المعارض كما تعمل بالمسانيد من دون فرق، كذلك رغم اعترافه بأنّ الكثير من المصنّفين القدماء كانوا ينتحلون المذاهب الفاسدة، إلا أنّه اعتبر كتبهم وأصولهم معتمدة، ويؤيد هذا المعنى ما آل إليه المحقّق الحلي في (المعتبر) حين انتقد الجماعة التي تعمل بمبدأ صحّة السند، فاعتبر ذلك طعناً بعلماء الطائفة وقدحاً في المذهب، مؤكّداً على أنّ ما من أحد منهم إلا ويعمل بخبر المجروح.

هذا مع الشيخ الطوسي، أمّا الكليني والصدوق فلا شك أنهما لم يباليا بالجرح والتعديل، فقد كان الصدوق يعوّل في توثيقه على شيخه ابن الوليد، وجاء في كتابه الكثير من الروايات الضعيفة حسب اصطلاح المتأخرين. أمّا الكليني فمن الواضح أنه لم يشترط على نفسه ضابطاً في انتخابه للروايات التي جمعها، وإن اتخذ صورة المسامحة في العمل بعد أن اعترف باللبس الذي يحيط بالروايات المتداولة آنذاك، كالذي أشار إليه في مقدّمة الكافي، حيث كان عمله شبيهاً بعمل المتأخرين فيما اصطلحوا عليه بالأصول العملية، كما أنه لم يعوّل على الجرح والتعديل؛ فكان يروي عن الضعفاء من المنحرفين والغلاة وغيرهم.

ولا بأس أن نقارن هنا بين الكافي وصحيح البخاري من حيث توثيق السند والرواية؛ فالملاحظ أنّ منهج الأخير واضح وأنّ شروطه التي حاول أن يلتزم بها قوية، وكان نتيجة ذلك أن وجد المتأخرون من التابعين أنّ الضعف لدى روايات البخاري أو رجاله قليلٌ جداً مقارنة بعدد أحاديثه، وذلك بخلاف ما حصل مع الكافي، حيث اتصفت طريقة صاحبه بعشوائية لا تستند إلى أساس من التدقيق والتمحيص؛ فالكليني يروي عمّن يعدّون من الضعفاء والموثوقين، كما أنه يتسامح في السند والأخذ بما هو موجود من الكتب دون تحقيق، لذلك وجد المتأخرون أن أغلب أحاديثه ضعيفة؛ فنسبة الأحاديث المنتقدة أو الضعيفة لدى البخاري مقارنة بالعدد غير المكرّر من أحاديثه أقلّ من (3%)، وهي نسبة ضئيلة، في حين أنّ نسبة الضعف في أحاديث الكافي هي أكثر من (66%)، وهي نسبة كبيرة جداً.

وتبعاً لهذه المقارنة يلاحظ أنّ علماء السنّة لم يجدوا أنفسهم قادرين على تحقيق الرواية بالشكل الذي كان يفعله سلفهم البخاري، وذلك لبُعد الزمان، وهو ما جعلهم يعتمدون على توثيقه ويعتبرونه كافياً في الاطمئنان، في حين أنّ المتأخرين من علماء الشيعة وإن كانوا لم يجدوا أنفسهم قادرين على تحقيق الرواية مثلما كان بوسع سلفهم الكليني وغيره من القدماء، إلا أن أغلبهم لم يتبعوا طريقته ولا خضعوا إلى غيره بنحو التقليد، بل اجتهدوا بأنفسهم في التوثيق وتصحيح الحديث، فكان من جرّاء ذلك اختلافهم في اعتبارات التوثيق والتصحيح، وذهب عدد منهم إلى الإقرار بالعجز عن التحقيق لبعد الزمان وغياب القرائن.

ثالثاً: إن أكثر راوٍ اعتمد عليه أصحاب الجوامع الحديثية هو عليّ بن إبراهيم وأبوه إبراهيم بن هاشم القمي، فقد كان عليّ شيخاً للكليني وعاصر عدداً من الأئمة المتأخرين، ويعدّ من أصحاب الإمام الهادي وإن لم يثبت أنّه روى عنه شيئاً، ولا عن غيره من الأئمة مباشرةً، وبلغت رواياته في الكافي وحده أكثر من سبعة آلاف (7068) رواية، كان منها أكثر من ستة آلاف (6214) رواية منقولة عن والده إبراهيم، وقد وقع في إسناد كثير من الروايات تبلغ سبعة آلاف ومائة وأربعين (7140) مورداً، كالذي أشار إليه الخوئي في رجاله. وهو يعدّ ــ بنظر القدماء ــ من المشايخ الثقات، فقد عرّفه النجاشي بالثقة في الحديث، ثبت معتمد صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنّف كتباً وأضرّ في وسط عمره، وله كتاب التفسير والناسخ والمنسوخ وقرب الإسناد والشرائع..

ووصلنا منه تفسيره للقرآن، وهو تفسير بالرواية عن الإمام الصادق، وذكر في مقدّمة الكتاب أنّه روى فيه عن الثقات من مشايخه وسائر الرواة حتى ينتهي إلى الأئمة، فقال: «ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهى إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم وأوجب ولايتهم ولا يقبل عملٌ إلا بهم».

وقد اعتبر العديد من العلماء أنّ هذه الشهادة دالّة على صحّة صدور روايات التفسير عن الإمام الصادق، كالذي صرّح بذلك الحرّ العاملي ووافقه عليه العلامة الخوئي، حيث اعتبر أنّ كل من وقع في إسناد روايات تفسير علي بن إبراهيم المنتهية إلى المعصومين، قد شهد عليه هذا الشيخ بوثاقته. وعلّق الخوئي بأنّ علي بن إبراهيم إنما أراد إثبات صحّة تفسيره، وأنّ رواياته ثابتة وصادرة عن المعصومين، وأنّها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة، وعلى ذلك فلا موجب لتخصيص التوثيق بمشايخه الذين يروي عنهم بلا واسطة كما زعمه بعضهم. ومثل ذلك حكم المحقق الخوئي بوثاقة جميع المشايخ الذين وقعوا في أسانيد كامل الزيارات.

لكنّ نظرةً داخلية للتفسير تظهر أنّ راوي التفسير عن علي بن إبراهيم هو تلميذه أبو الفضل العبّاس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى الكاظم، وقد مزجه بروايات أخرى عن الإمام الباقر مروية عن طريق أبي الجارود، وقد أشار العلماء إلى أنّ أبا العباس لم يذكر في كتب الرجال، وإن ذكر في كتب الأنساب.

 ولعلّ أهمّ ما جاء في هذا التفسير هو الطعن في القرآن والقول بتحريفه، تعويلاً على جملة من الروايات، كتلك التي يرويها علي بن إبراهيم عن الإمام الصادق، وهي تتفق مع ما أورده الكليني عنه من روايات في الكافي تشير إلى التحريف.

أما إبراهيم بن هاشم القمّي ــ والد علي المشار إليه قبل قليل ــ فهو كوفي الأصل، وقد أدرك الإمامين: الرضا والجواد، وروى عن هذا الأخير بعض الروايات، وهو أوّل من نشر حديث الكوفيين في قم، تبعاً لما أشار إليه الطوسي والنجاشي، وقد روى عن مشايخ كثيرة يبلغ عددهم زهاء مائة وستين (160) شخصاً، وبلغت رواياته أكثر من ستة آلاف وأربعمائة (6414) رواية، ولا يوجد في الناقلين مثله في كثرة الرواية، وقد روى عن محمد بن أبي عمير وحده ما يقارب ثلاثة آلاف (2921) رواية كالذي أشار إليه الخوئي.

لكنّ المشكلة أنّه لم ينص أحد من القدماء على وثاقته؛ لا بالتعديل ولا بالتجريح والتضعيف. واعتبر الخوئي أنّه لا ينبغي الشك في وثاقته، ودلّل على ذلك بثلاثة أدلة، وهي قريبة ممّا ذكره بحر العلوم في فوائده الرجالية:

الأوّل: إنّ ابن طاووس ادّعى الاتفاق على وثاقته، ويرد على ذلك أنها مجرّد دعوى تفتقر إلى الدليل، حيث إنّ عصر ابن طاووس بعيدٌ عن عصر القمي، ومثل هذا الادعاء يكون حدسياً غير قائم على الحسّ.

الثاني: قوله بأنّه أوّل من نشر حديث الكوفيين بقم، والقمّيون قد اعتمدوا على رواياته، وفيهم من هو مستصعب في أمر الحديث، فلو كان فيه شائبة الغمز لما قبلوا رواياته، ولأسرعوا في قدحه وجرحه وهجره وإخراجه كالذي يظهر منهم مع الآخرين بأدنى ريبة، بل إنّ من المتأخرين من اعتبر العبارة التي نصّ عليها القدماء من أنّه أول من نشر أحاديث الكوفيين بقم، عبارةً دالة على المدح، كالذي نصّ عليه الداماد في الرواشح معتبراً هذه العبارة كلمة جامعة، وكلّ الصيد في جوف الفرا.

لكنّ هذا الدليل غير تام؛ إذ ما يُشار إليه عادةً من تحفّظ القميين هو تحفظهم من المغالين في الأئمة أو المعروفين بالكذب ووضع الحديث، وأنّ التضعيف لديهم عادةً ما يأتي بهذا الطريق، كالذي يظهر مما ينقله ابن الغضائري في رجاله، والذي استند إليه من جاء بعده من أصحاب الرجال كابن داود وغيره، حيث ذكر الكثير من الرجال الذين غمز القمّيون عليهم بالغلو والارتفاع وفساد المذهب، مثل أحمد بن الحسين بن سعيد، وأحمد بن محمد بن سيار، وأمية بن علي القيسي، والحسن بن علي بن أبي عثمان، والحسين بن شادويه القمي، وسهل بن زياد الرازي، والقاسم بن الحسن بن علي بن يقطين، ومحمد بن أحمد الجاموراني، ومحمد بن علي بن إبراهيم الملقب بأبي سمينة، ويوسف بن السخت، ومحمد بن أورمة القمي، وغيرهم؛ فمثلاً جاء حول ابن أورمة القمي أنّ القميين غمزوا عليه ورموه بالغلو حتى دسّ عليه من يفتك به، فوجدوه يصلّي من أول الليل إلى آخره فتوقفوا عنه، كما جاء عن أبي سمينة أنه كان من الغلاة الكذابين، وبعد أن اشتهر بالكذب في الكوفة انتقل إلى قم، ونزل على أحمد بن محمد بن عيسى، ثم اشتهر بالغلوّ فأخرجه أحمد من قم.

هذا، في حين أنّ من الرواة من سكن قم وروى عنه القميون رغم ما قيل فيه من أنّه ضعيف جداً لا يلتفت إليه، وفي مذهبه غلوّ، مثل عبد الرحمن بن أبي حماد، بل إنّ القدماء ــ كما قيل ــ لا يتحاشون عن الرواية عن الضعفاء والمجاهيل فيما لا يتعلّق بالحرام والحلال، وأنّ منهم من كان موضع اعتماد القمّيين وروايتهم عنه كالذي يشير إليه الصدر في كتاب نهاية الدراية.

أمّا ما حدث لأحمد البرقي؛ حيث أبعده عن قم رئيس القميين أحمد بن محمد بن عيسى، فقد جاء أنّ سبب الإبعاد يرجع إلى كونه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، ويعود مصدر هذا التعليل إلى ابن الغضائري حيث صرّح في كتابه (الضعفاء) أنّ البرقي طعن القمّيون عليه، وليس الطعن فيه، إنما الطعن فيمن يروي عنه، فإنه كان لا يبالي عمّن يأخذ على طريقة أهل الأخبار، وكان أحمد بن محمد بن عيسى أبعده عن قم، ثم أعاده إليها واعتذر إليه، وقيل: إنّ أحمد بن محمد بن عيسى مشى في جنازته حافياً حاسراً تنصلاً مما قذفه به، مع أنّ إعادته إلى قم واعتذار رئيس القميين إليه لا يتسق مع التعليل الذي أبداه ابن الغضائري، فالأمر لا يتعلّق بكونه يروي عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، وإلا لما أرجعه واعتذر إليه، بل يتعلّق بشيء آخر ظنّه رئيس القميين في البرقي، لكن ظهر أنّه لم يثبت عنده، وغالب الظن أنّ ذلك يتعلّق بمسألة الغلو التي كان القميون يولونها جلّ اهتمامهم في التوثيق، وقد عرف عن هذا الرئيس إخراجه لعدد من العلماء من قم بعلّة الغلو والكذب في الرواية، ومن بينهم سهل بن زياد وغيره؛ حتى اعتبر بعض المتأخرين في الفوائد الرجالية أنّ «حال القميين ــ سيما ابن عيسى ــ في التسرّع إلى الطعن والقدح والإخراج من قم بالتهمة والريبة، ظاهر لمن راجع الرجال»، كما اعتبر بعضٌ آخر أنّه قد يكون منشأ جرح القمّيين للرواة نابعاً ممّا تتضمّنه روايتهم من معاني الغلو والارتفاع والمناكير، بل قد ينسب بعض القميين الراوي إلى الكذب ووضع الحديث بعد اتهامه بالغلو، وذلك اعتماداً على روايته التي تتضمّن هذا المعنى.

الثالث: إنّ ولده علياً قد نصّ على وثاقة مشايخه في مقدّمة تفسيره، وكان على رأس هؤلاء المشايخ والده إبراهيم؛ حيث روى عنه معظم كتابه من الأحاديث، مما يدلّ على كونه ثقة لدى ابنه، وإلا لما اعتمد عليه في الرواية.

لكن لو أخذنا بالتوثيق الذي أدلى به الابن، لكان يعني التسليم بصحّة التفسير رغم ما فيه من روايات عديدة تشير إلى تحريف القرآن صراحةً، فضلاً عمّا ورد فيه من روايات أسطورية، والعجيب رغم أنّ العلامة الخوئي لا يقرّ القول بتحريف القرآن كما أبان ذلك في كتاب (البيان)، إلا أنّه ــ مع ذلك ــ يرى تفسير علي بن إبراهيم تفسيراً صحيح الصدور باعتبار التوثيق الذي ذكره صاحبه في المقدّمة، مع أنّ قوله هذا يناقض متبنّاه؛ وذلك لأنّ تصحيح التفسير يعني قبول مقولة التحريف كما هو واضح.

وبيت القصيد من كلّ ما عرضناه في هذه الفقرة هو أننا بين أمرين: إما قبول كون التفسير مروياً عن الإمام الصادق حسب روايات علي بن إبراهيم رغم ما فيه من القول بالتحريف وسائر الأساطير، أو التشكيك فيه ومن ثم التشكيك في وثاقة إبراهيم بن هاشم القمي، وتضعيف رواياته على ضخامة عددها كما قدّمنا.

المحققون القدماء وتوثيق الرواية

متابعةً لما سبق، يمكن أن نتساءل: هل كان القدماء المحقّقون من الفقهاء يثقون بالروايات المشتهرة في زمانهم والمدوّنة في الأصول الأولية والجوامع الحديثية؟ وهل كانوا يرون فيها شيئاً من الحجيّة، كما ذهب اليه المتأخرون من الأصوليين؟

لعلّ الجزء الرئيس من الإجابة على هذا التساؤل يتحدّد بموقف القدماء من خبر الواحد وحجيته؛ فأغلب المحققين من القدماء لم يتقبلوا خبر الآحاد ما لم تكن معه قرائن دالّة على القطع، وذلك بخلاف ما آل إليه المتأخرون، وقد قيل: إنّ الذين منعوا الأخذ بخبر الآحاد هو كلّ من سبق الطوسي، بل والكثير ممّن جاء بعده، مثل المفيد، والمرتضى، وابن إدريس، وابن زهرة، والطبرسي، كما نسب هذا المنع إلى المحقّق الحلي وابن بابويه، وجاء في (الوافية) للفاضل التوني أنه لم يجد القول بحجيّة خبر الآحاد صريحاً ممّن تقدّم على العلامة الحلي، واعتبر الأنصاري في (فرائد الأصول) ذلك أمراً عجيباً، ويعدّ المفيد والمرتضى أبرز القدماء الذين منعوا العمل بهذا الخبر.

أما أبرز الذين عولوا على خبر الآحاد من المحققين القدماء، فهو الشيخ الطوسي. صحيح أنّه في كتاب (تمهيد الأصول) لم يختلف عن قول أستاذه المرتضى، حيث منع العمل بخبر الآحاد، وعدّ القول به وبالقياس واجتهاد الرأي فاسداً لدى المذهب الشيعي؛ مشيراً إلى ما بيّنه في مواضع من كتبه بهذا الخصوص، كما أنّه كثيراً ما يقول في كتابه (التهذيب) حين يتعرّض لتأويل الأخبار ولا يعمل بها: «هذا من أخبار الآحاد التي لا تفيد علماً ولا عملاً»، إلا أن أقواله فيما عدا ذلك تدلّ على قبوله العمل بهذا الخبر ضمن شروط، وقد ادعى على ذلك إجماع الطائفة، ودلّل على بطلان العمل بخبر الواحد الذي يختصّ المخالف بروايته.

وقد انعكس التباين السابق في الموقف من خبر الآحاد على النظرة إلى الروايات المدوّنة في الأصول والجوامع الحديثية، ومنها الكتب الأربعة، وبعضهم يعدّ ابن إدريس أوّل من زعم أن أكثر أحاديث أصحابنا المأخوذة عن الأصول المتداولة في عصر الأئمة هي أخبار آحاد خالية من القرائن الموجبة للقطع، وأدى به ذلك إلى الاعتراض على أكثر فتاوى الطوسي لكونها تعتمد على تلك الأصول؛ إذ قال ابن إدريس في (السرائر): إنّ الطوسي صنّف كتباً إخبارية أكبرها تهذيب الأحكام، أورد فيه من كلّ غث وسمين، كما اعترض عليه فيما أورده في (الاستبصار)، وقال بصدد إحدى المسائل الفقهية: «إني لأربأ بشيخنا أبي جعفر، مع جلالة قدره وتبحّره ورياسته، من هذا القول المخالف لأصول المذهب، وله رحمه الله في كتابه الاستبصار توسّطات عجيبة، لا أستجملها له، والذي حمله على ذلك، جمعه بين المتضادات، وهذا لا حاجة فيه، بل الواجب الأخذ بالأدلّة القاطعة للأعذار، وترك أخبار الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً، فإنّه أسلم للديانة؛ لأنّ الله تعالى ما كلّفنا إلا الأخذ بالأدلة وترك ما عداها»، كذلك شاع أن ابن إدريس هو أول من فتح باب الطعن في أكثر الأخبار، مع أنه سبقه في ذلك الشريف المرتضى الذي طعن بالأخبار الواردة في الكتب والأصول الشيعية، ومن قبله عرّض المفيد الكثير من أحاديث هذه الكتب إلى الطعن، كتلك التي رواها الصدوق حول سهو النبي، وحول العدد في رؤية شهر رمضان، وجدّد المرتضى اعتراضه على روايات العدد ونقد أصحابها، وزاد في طعنه على شيخه المفيد بما لا يقاس، ومن ذلك أنه استخفّ بمصنّفات أصحاب الحديث لكونها تعتمد على خبر الآحاد، وقال في بعض رسائله ما نصّه: «دعنا من مصنّفات أصحاب الحديث من أصحابنا فما في أولئك محتجّ، ولا من يعرف الحجّة، ولا كتبهم موضوعة للاحتجاجات»، وهو في محلّ آخر أكّد أنّه لا يجوّز العمل بكتب الحديث ــ ككتاب الكافي وغيره ــ للعالم والعامي، واعتبر أنّ فائدة هذه الكتب أنّها تسهل علينا النظر لاستخراج صحيحها من فاسدها، وذكر أنّ علماء الطائفة ومتكلميهم كانوا ينكرون على كلّ من يعمل بها، والأهمّ من ذلك أنّه طعن بجميع روايات الفقه المشتهرة في عصره، متهماً ناقليها بانحرافهم عن الاعتقاد الحقّ وعدم العدالة، وقال بهذا الصدد: «إنّ معظم الفقه وجمهوره، بل جميعه، لا يخلو مستنده ممّن يذهب مذهب الواقفة، إما أن يكون أصلاً في الخبر أو فرعاً، راوياً عن غيره ومروياً عنه، وإلى غلاة وخطابية ومخمسة وأصحاب حلول، وإلى قمي مشبه مجبر، وإنّ القميين كلهم ــ من غير استثناء لأحد منهم إلا أبا جعفر بن بابويه ــ بالأمس كانوا مشبهة مجبرة، وكتبهم وتصانيفهم تشهد بذلك وتنطق به، فليت شعري أيّ رواية تخلص وتسلم من أن يكون في أصلها وفرعها واقفٌ أو غال، أو قمّي مشبه مجبر، والاختبار بيننا وبينهم التفتيش».

بل حتى الشيخ الطوسي هو الآخر أثار شبهة كون أكثر الرواة في الكتب الشيعية هم من المجبرة والمشبهة والمقلّدة والغلاة والواقفية والفطحية وغيرهم، وناقش في بعض ما ذكر، واعترف بوجود روايات الجبر والتشبيه، لكنه اعتبرها لا تدلّ بالضرورة على كون ناقليها ممّن يعتقدون بها، مع هذا فقد اعترف بأنّ أكثر الأخبار الخاصّة في الأحكام تفتقر إلى القرائن الدالّة على صحتها؛ فلا عجب ــ إذاً ــ أن يرى الأنصاري أنّ ما ذهب إليه أصحاب دليل الانسداد في الأزمان الأخيرة له جذوره في ما سبق إليه الطوسي من اعتقاد.

على ذلك؛ يمكن القول: إنّ هناك نزعة تشكيكية تسود بين المحققين القدماء إزاء الروايات المدوّنة في الأصول الأولية وكتب الحديث القديمة، وإن تباين حجم هذا التشكيك بينهم، وهو موقف يختلف عما آل إليه المتأخرون؛ سواء الإخباريون منهم أو الأصوليون، باستثناء أصحاب دليل الانسداد.

والغريب أنه رغم الموقف المتشكّك للمحققين القدماء بالروايات المشتهرة في زمانهم، وقد كانوا على علم بالأصول الأولية وأصحابها، إلا أنّا نجد لدى بعض الأصوليين المتأخرين موقفاً يقترب من الزعم الإخباري، ومن ذلك ما نقله الخوئي من أن بعض الأعلام يرى أن روايات الكافي كلّها صحيحة، ولا مجال لرمي شيء منها بضعف السند، كما نقل ما سمعه من شيخه محمد حسين النائيني أنه قال في مجلس بحثه : «إنّ المناقشة في إسناد روايات الكافي هي حرفة العاجز»، وقبل ذلك ذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ جميع الروايات في تصانيف الشيعة صادرة عن الأئمة باستثناء ما شذّ وندر منها، بل واعتبر أنّ العلم الاجمالي بصدور أغلبها أو كثير منها هو من البداهة، واستدلّ على القطع بصدورها عن الأئمة ــ عدا القليل منها ــ تارةً بدعوى مزعومة دون دليل، وأخرى بعدد محدود أو يتيم من الشواهد المروية التي تظهر نزعة الاحتياط فيما سلكه بعضهم في نقل الحديث، فهو يزعم أنّ أصحاب الجوامع الأربعة قد نقحوا ما أودعوه في كتبهم دون الاكتفاء بأخذ الرواية من كتاب ثم إيداعها في تصانيفهم، وذلك حذراً من أن يكون الكتاب المعتمد عليه يتضمّن أحاديث مدسوسة، كما أنه نقل ثلاثة روايات عن رجال الكشي تبيّن الاحتياط في الحديث؛ ففي رواية عن أحمد بن محمد بن عيسى أنه قال: «جئت إلى الحسن بن علي الوشاء، وسألته أن يُخرج إليّ كتاباً لعلاء بن رزين القلاء وكتاباً لأبان بن عثمان الأحمر، فأخرجهما، فقلت: أحب أن أسمعهما، فقال لي: رحمك الله ما أعجلك، اذهب فاكتبهما واسمع من بعد، فقلت له: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت أنّ الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه، فإني أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمد ‘»، وفي رواية أخرى عن حمدويه عن أيوب بن نوح: «أنه دفع إليه دفتراً فيه أحاديث محمّد بن سنان، فقال: إن شئتم أن تكتبوا ذلك فافعلوا، فإني كتبت عن محمد بن سنان، ولكن لا أروي لكم عنه شيئاً، فإنه قال قبل موته: كلّ ما حدّثتكم به فليس بسماع ولا برواية، وإنما وجدته»، كذلك في رواية ثالثة جاء أن علي بن الحسن بن فضال لم يرو كتب أبيه الحسن عنه مع مقابلتها عليه، وإنما يرويها عن أخويه: أحمد ومحمد عن أبيه، واعتذر عن ذلك بأنّه يوم مقابلته الحديث مع أبيه كان صغير السنّ ليس له كثير معرفة بالروايات، فقرأها على أخويه ثانياً.

ومع أنّ هذه الشواهد لا تعدّ شيئاً قبال غيرها من الشواهد الكثيرة التي تفيد عكس ذلك تماماً، فإنه يلاحظ في الشاهد الأول أنه لا علاقة له بمسألة الاحتياط في النقل، وأنّ الشاهد الثاني لا يدلّ على أنّ الآخرين يحتاطون في الرواية عن محمد بن سنان، بدلالة أنّ المحمدين الثلاثة يروون عنه كثيراً، حتى أنّ الكليني روى عنه عدداً كبيراً من الروايات، بل إن الفضل بن شاذان رغم ما نقل عنه أنه يمنع الرواية عنه ويعدّه من الكذابين، روى عنه الكثير من الروايات، ومثله في ذلك الكثير ممّن يعدّون من الثقات؛ ممّا يدلّ على أنّ هذه المسألة يشوبها الكثير من الاضطراب، فكما ذكر بحر العلوم في رجاله أنه قد عظم الخلاف بين الأصحاب في محمّد بن سنان، واضطربت فيه أقوالهم اضطراباً شديداً، حتى اتفق للأكثر فيه القول بالشيء وضدّه من التوثيق والتضعيف والمدح والقدح، والمنع من الرواية والإذن فيها والامتناع منها والإكثار، والطعن فيه والذبّ عنه؛ وعليه فما نقله الأنصاري من شاهد بهذا الخصوص يأتي على خلاف مطلبه، فضلاً عن أنّ عليه العديد من المؤاخذات التي لسنا بصدد بحثها هنا.

يبقى الإشكال الذي يورده العاملون بخبر الآحاد والروايات المدوّنة في الكتب المعتبرة، فكما أشار جماعة من العلماء إلى أنّ ترك العمل بهذه الروايات يقتضي الخروج عن الدين، ومن ذلك ما صرّح به الشيخ الصدوق ــ وهو بصدد الحديث عن أخبار سهو النبي 2 ــ حيث قال: «فلو جاز ردّ هذه الأخبار الواقعة في هذا الباب لجاز ردّ جميع الأخبار، وفيه إبطالٌ للدين والشريعة»، وعلى هذه الشاكلة لم يتقبل المحدّث البحراني ما صرّح به العلامة الحلي بردّ أخبار الآحاد باعتبارها لا توجب علماً ولا عملاً، فقال: «إنّ الواجب عليه ــ مع ردّ هذه الأخبار ونحوها من أخبار الشريعة ــ هو الخروج عن هذا الدين إلى دين آخر»، كما ذهب بعض العلماء إلى أنّ ترك العمل بأخبار الآحاد هو في حدّ ذاته عبارة عن ترك التكليف، حيث إنّ البراءة الأصلية ترفع جميع الأحكام، وسبق للشيخ الطوسي أن ردّ على الشبهة التي تقول: إنّ فقدان القرائن التي تصحّح الأحاديث الموجودة يقتضي العمل بالعقل؛ إذ اعتبر أنه يلزم من ذلك ترك أكثر الأخبار والأحكام؛ بحيث «لا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حدّ يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته؛ لأنه يكون معولاً على ما يعلم ضرورةً من الشرع خلافه».

مع أنّ الصحيح أنه لا توجد ضرورة ولا إجماع يوجبان الرجوع إلى الأخبار التي لا تفيد القطع، كالذي أشار إليه الشيخ الأنصاري، مثلما أشار إلى أنه لا دليل على وجوب العمل بخبر الآحاد ما لم يفد الوثوق والاطمئنان بمؤداه، بحيث يكون احتمال مخالفته للحكم الإلهي بعيداً لا يعتني به العقلاء ولا يسبّب لهم التردد والشك في ذلك، وقبله كان كاشف الغطاء يوصي الفقهاء بعدم الأخذ بخبر الآحاد إلا عند الضرورة والاضطرار، وأنه لابدّ من الاعتماد على القرآن الكريم والحديث المتواتر والسيرة القطعية، وعليه فقد أجرى جماعة من العلماء المتقدّمين والمتأخرين العمل باعتبارات مختلفة غير الاعتماد على حجية خبر الآحاد أو التقيّد بالعمل بالروايات الموجودة، فمثلاً طرح الشريف المرتضى مثل تلك الشبهة، وهي أنه إذا لم يكن من الجائز العمل بخبر الآحاد، فبماذا يعمل العالم المسلم؟ وكان جوابه هو العمل إما بالعقل أو القرآن أو التواتر أو الإجماع، كذلك ذهب جماعة من المتأخرين إلى وضع طريقة أخرى للعمل، وهي التي أطلق عليها (دليل الانسداد) فذهب أكثرهم إلى صحّة العمل بالظنّ الغالب، سواء كان مصدره الرواية أو الشهرة أو عمل الأصحاب أو العقل أو غير ذلك، أي أنهم أجازوا العمل بالظنون غير المعتبرة، وبعضهم ذهب إلى صحّة العمل حتى بالظنون المنهيّ عنها كالقياس وما إليه.

 انسداد علم الدلالة

هناك عددٌ من المشاكل التي تخصّ الدلالة في الروايات الشيعية، سنقتصر على ذكر ثلاث منها فقط، وهي مشكلة التعارض، ومشكلة العقيدة، ومشكلة التحريف، وذلك كالآتي:

1ـ التعارض في النصوص الحديثية

تتصف الروايات الشيعية المعتمد عليها بكثرة التعارض في مختلف أبواب الفقه والعقيدة، وهي حقيقة اعترف بها العلماء وجعلت بعضهم يرتدّ عن مذهبه، كما أودت ببعض آخر إلى أن ينئا بنفسه عن الفتوى لتضارب الأحكام بعضها بالآخر، كالذي يشير إليه ابن طاووس في (سعد السعود) بقوله: «إنّي كنت قد رأيت مصلحتي ومعاذي في دنياي وآخرتي من التفرّغ عن الفتوى في الأحكام الشرعية، لأجل ما وجدت من الاختلاف في الرواية بين فقهاء أصحابنا في التكاليف الفعلية».

وربما يكون الطوسي أوّل من شغل نفسه بهذا المشكل، فكتب كتابه (تهذيب الأحكام) بناء على ما علمه من أنّ عدداً من علماء الشيعة قد تركوا المذهب لأجل ما رأوه من اختلاف الرواية وتعارضها. فقد صنف الطوسي كتابه كشرح لكتاب (المقنعة) العائد إلى شيخه المفيد، وذلك لما سمعه يقول: إنّ أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحقّ ويدين بالإمامة، فرجع عنها لمّا التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب، ودان بغيره لما لم يتبيّن له وجوه المعاني فيها؛ لذا عدّ الاشتغال بشرح كتاب يحتوي على تأويل الأخبار المختلفة والأحاديث المتنافية من أعظم المهمّات في الدين، ويشير في مقدمة التهذيب إلى هذا المعنى، يقول: «إنّ أحاديث أصحابنا فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضادّ، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا، وتطرّقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا، وذكروا أنه لم يزل شيوخكم ــ السلف والخلف ــ يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذى يدينون الله تعالى به، ويشنّعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع، ويذكرون أنّ هذا ممّا لا يجوز أن يتعبّد به الحكيم، ولا أن يبيح العمل به العليم، وقد وجدناكم أشدّ اختلافاً من مخالفيكم وأكثر تبايناً من مباينيكم، ووجود هذا الاختلاف منكم مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل»، وقد اعتبر أنه بسبب ذلك رجع جماعة عن اعتقاد الحقّ.

وقد اعتاد علماء المذهب أن يردّوا سبب هذا التعارض إلى أمور عدّة؛ اعتماداً على ما جاء في الروايات، كمبدأ التقية الذي جاء تبريره لحفظ حياة الأئمة وأصحابهم، وكون الأئمة تقصّدوا بث الخلاف بين الأصحاب؛ حقناً لدمائهم وحفظاً لحياتهم، وأيضاً لأن كلام الأئمة يسع لمعاني كثيرة، وأنّ فيه طبقات من الباطن؛ فيبدو بعضه على خلاف البعض الآخر، حيث يجيبون بأجوبة مختلفة تحتاج إلى نوع من التوجيه، والعديد من الأخبار تؤكّد أنّ في كلام الأئمة سبعين وجهاً ممكناً، وأخيراً هناك بعض الدسّ والكذب والتزوير..

وقد حظيت التقية باهتمام خاصّ من قبل العلماء، حيث حوّلوها إلى عقيدة لازمة، خاصّة وأنهم رووا قول الإمام الصادق: التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له، وقوله: تسعة أعشار الدين في التقية، فأصبحت بذلك مرجعاً عاماً تفسّر بها الكثير من مضامين الروايات المتفقة مع آراء (المخالفين) مهما كانت عاديةً، وهي تفترض أنّ (المخالفين) يحملون رأياً مشتركاً، مع أنّ لهم مدارس كثيرة مختلفة الرأي والاتجاه. وقد يصل التطرّف إلى اعتبار كلّ خلاف في الروايات يمكن حمله على التقية، بما في ذلك الروايات التي تتحدّث عن الأمور التاريخية أو الكونية التي لا علاقة لها بالعقائد ولا بالفقه ولا بالتفسير، ومن ذلك ما سلكه المجلسي في بحار الأنوار؛ حيث أخذ يعلّل أو يحتمل كلّ ما يراه من روايات تتفق مع رأي (المخالفين) بأنه يعود إلى التقية، وكذا كلّ ما يجده من اختلاف في الروايات يصعب علاجه؛ فمثلاً اعتبر بعض الأخبار التي تتحدّث عن المادة التي خلقت حواء منها بأنها جاءت للتقية، ومثلها الأخبار التي تتحدّث عن مكان هبوط آدم وحواء من الجنّة، وكذا بخصوص أخبار تزويج هابيل وقابيل من أختيهما، وأخبار عمر النبيين: إسماعيل وإسحاق، وأخبار طبيعة القرابة بين يحيى وعيسى، وأخبار تقدّم وفاة يحيى على رفع عيسى أو العكس، والخبر الدالّ على ولادة عيسى في يوم عاشوراء، والأخبار الخاصّة بزمان حمله وموضع ولادته، والأخبار التي تتحدّث عن مدة غزو بختنصّر بني إسرائيل، والأخبار الدالّة على أنّ الذي أماته الله مائة عام هو عزير، والأخبار التي تتعلّق بمدّة مكث يونس في بطن الحوت.. إلى غير ذلك مما لا يعدّ ولا يُحصى.

على أنه لو كانت التقية بهذا الشكل المضخم، كما يتحدّث عنها العلماء، لكان المتوقع أن نجد ما يرد خلاف التقية من الحديث قليلاً جداً، وذلك بسبب الكتمان والسرية، في حين أنّ الروايات التي تشير إلى الدلالات المنافية لها هي ذات أعداد كبيرة جداً، يروى أغلبها عن الإمام الصادق، فكيف ينسجم ذلك مع العمل بالتقية؟ وكيف لا يعرف المخالفون بهذه الأعداد الضخمة من الأحاديث لو صحّ أنها فعلاً صدرت عن الإمام الصادق، كتلك التي تطعن في القرآن وفي كبار الصحابة؟ فقد يكفي واحدٌ منها لتضليله أو تكفيره وربما قتله، وهو خلاف ما عرف عنه لدى علماء عصره من المذاهب الأخرى، فقد كانوا يقدّرونه ويعدّونه من سادات العلم والإيمان، ولم يرد منهم أيّ طعن أو تشكيك فيه وفي أقواله.

وبعبارة أخرى، كيف حقّ لنا التسليم بالكثرة الروائية الدالّة على المناكير التي ينكرها المخالفون من الارتفاع والغلوّ والطعن واللعن والتكفير والتحريف، والعصر عصر تقية كما يقال، حيث يفترض أن لا يعلم بهذه الأمور إلا أقرب المقرّبين؟ فنحن ــ هنا ــ بين أمرين، فإما الأخذ بالتقية وإبطال ما روي من الأحاديث المنافية لها واعتبارها موضوعة من قبل المتأخرين عن زمن التقية، أو الاعتراف بهذه الأحاديث من غير تقية، ومن الواضح أنّ أحد هذين الافتراضين يقتضي نفي الآخر، لكنّ التعويل على الافتراض الأخير يفضي بدوره إلى التردّد بين أمرين آخرين، فإما أن تكون تلك الروايات صادرة فعلاً عن الأئمة، أو أنها صادرة عن رجال وأصحاب نسبوها إليهم كذباً وزوراً.

والتحقيق أنه لما كان الأئمة معروفين بالعلم والصلاح والتقوى لدى معاصريهم من علماء السنّة، وذلك بخلاف غيرهم من حملة تلك الروايات، فهذا يبيّن أنها مختلقة ومنسوبة إلى الأئمة زوراً، وبغير هذا الافتراض كان المتوقع أن يلقى الأئمة الطعن والتشهير مثلما حصل مع غيرهم من حملة تلك الروايات والآراء المنكرة، وأقلّ ما قيل فيهم: إنهم روافض، ومن أصحاب البدع، وذلك على خلاف ما لقيه الأئمة من المدح والثناء.

يبقى أنّ التقية أصبحت ممارسة عامة لدى أتباع المذهب في إظهار الرأي الموافق لرأي المخالفين وإخفاء خلافه، ومع أنها ساعدت على سلامة هؤلاء الأتباع من عدوان الآخر طيلة قرون من الزمان، لكنها أصبحت اليوم عبئاً ثقيلاً على الأتباع؛ وذلك لسهولة معرفة الحقائق وإشاعتها عبر وسائل الاتصال المختلفة، وأهمها القنوات الفضائية والانترنت، ولأجل الإصلاح والديمومة كان لابدّ من المراجعة الشاملة والنقد الذاتي.

ويبدو لي أنّ ما ذكره العلماء من أسباب حول تعارض الروايات، كتلك المشار إليها سلفاً، أسباب وهمية، حيث لا يعقل أن يعمل الأئمة على بث الخلاف بين أصحابهم، ولا أن يحثوا على التقية لأدنى سبب، أو يدعوا إلى باطنية عبر تعدّد معاني الكلام، فكلّ ذلك يفضي إلى تضييع الحقيقة الدينية وإلباس الحقّ بالباطل، وهو حاصل فعلاً؛ لكثرة التعارض بين الروايات، وقد لمح بعض العلماء إلى هذه النقطة، معترفاً بأنه لا يمكن التوصل إلى الحقيقة الدينية النابعة عن كلام الأئمة عبر الوسيلة العرفية المطلق عليها بحجية الظهور، وكما ذكر المحقق الخوئي أن كلام الأئمة حيث إنه يختلف من أحدهم لآخر للتقية أو لغيره، فإنه على ذلك لا تجري فيه أصالة حجية الظهور التي هي أصل عقلائي، وقبله ذكر الأنصاري أنّ عمدة الاختلاف في الرواية إنما هو كثرة إرادة خلاف الظواهر في الأخبار، إما بقرائن متصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الأخبار أو نقلها بالمعنى، أو منفصلة مختفية من جهة كونها حالية معلومة للمخاطبين، أو مقالية اختفت بالانطماس، وإما بغير القرينة لمصلحة يراها الإمام من تقية وما إليها، بل وقبل ذلك عرفنا كيف أنّ الكليني يعترف بضياع الحقيقة، الأمر الذي عوّل فيه على صيغة العمل بما وسع له الاختيار.

هكذا يدرك المحققون كون الحقيقة الدينية ضائعةً بسبب تعارض الروايات واختلافها، وإن أخطأوا في تحديد السبب الأساس الذي يقف وراء هذا الضياع، لكن ظلّت المحاولات ترمي إلى إيجاد الطرق الكفيلة لمعالجة مثل هذا الوضع بأشكال شتى، أبرزها محاولات الجمع بين الروايات المتعارضة، كالتي بشّر بها الشيخ الطوسي وأتباعه من المجتهدين.

ويظلّ السبب المعقول الذي يقف خلف تلك الكثرة من التعارض منحصراً بالكذب والدسّ والتزوير، وهناك من الروايات ما يشير إلى هذا الصنيع من الكذب على الأئمة الكرام كالذي ينقله الكشي في رجاله؛ لذلك ظهرت أعداد كبيرة من الأحاديث المخالفة لظواهر الكتاب والسنّة، وكما ذكر الأنصاري أن الأخبار المخالفة لظواهر الكتاب والسنّة كثيرة جداً، معلّقاً على ذلك بأنه لا يصدر من الكذابين ما هو مباين للكتاب كليةً كي لا ينكشف الوضع، ومثل ذلك ما أشار إليه الآخوند الخراساني في (الكفاية)، وهو أنّ الأخبار المخالفة لعموم الكتاب كثيرة جداً؛ وعليه فمن الصعب الوثوق بمثل هذه الأخبار، ناهيك عن أن تكون حاكمة على نصّ الكتاب القطعي، سواء بالتخصيص أو التقييد أو النسخ، أو أيّ شكل من أشكال التغيير في المعنى والحكم.

والعجيب من الشيخ الأنصاري كيف أمكنه التوصّل إلى الاطمئنان بصدور جميع الروايات عن الأئمة في تصانيف الشيعة باستثناء القليل منها، وهو مع ذلك يلوح إلى ظاهرة الوضع في هذه الروايات، كالذي عرضناه قبل قليل؟!

ويكفي دلالةً أنه رغم الاهتمام الكبير الذي حظي به كتاب الكافي من قبل العلماء والفقهاء، لم يسلم ــ على الأرجح ــ من الدسّ؛ حيث تتضمّن نسخه الحديثة زيادةً في الأبواب مقارنة مع ما ذكره الشيخ الطوسي، كالذي أشرنا إليه من قبل، فكيف هي الحال مع الكتب القديمة التي من الواضح أنّها لم تحظ بالعناية الخاصّة؟!

لذلك لم ينفع الاصطلاح المستحدث في تقسيم الحديث، فهناك روايات تعدّ من الصحاح رغم أنها متهافتة أو ظاهرة الوضع؛ ففي رواية في أصول الكافي عدّت صحيحةً رغم ما تتضمّنه من تناقض، جاء فيها أنّ معنى الذكر في قوله تعالى: >وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ< هو رسول الله، وأنّ قومه هم أهل بيته، مع أنّ في هذا الحديث تناقضاً، إذ كيف يكون الذكر رسول الله وهو المخاطب الذي إضيف إليه الذكر؟! بل جاء بعده مباشرةً حديثٌ آخر عدّ صحيحاً أيضاً رغم أنه يخالف الأول، حيث ورد فيه أنّ الذكر هو القرآن.

وفي رواية أخرى عدّت عالية الصحّة باعتبار أنّ رواتها كلّهم معدّلون بتعديل إمامين من أئمة الرجال، بخلاف المعروف من الاكتفاء في تصحيح الحديث بإمام واحد فحسب، ومع ذلك فقد أظهر المحقّق محمد باقر البهبودي في (معرفة الحديث) كذب الرواية بعدد من الأدلّة، وهي التي تعرف بصحيحة حمّاد بن عيسى الجهني في آداب الصلاة وكيفيتها، فقد اعتمد عليها العلماء ووضعوها في كتبهم ورسالاتهم العملية للعمل بها.

وبهذا يتضح أنّ قضية إبعاد الروايات المختلقة ومعالجة التعارض بين الأحاديث هي أكبر من أن يطالها علم التوثيق، كما هو معهود في التقسيم المستحدث الذي يعمل به العلماء.

2ـ مسألة العقيدة

ليست هناك قضيةٌ أهم من مسألة الامامة في الفكر الشيعي، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى ما تشغله هذه المسألة من محور مركزي في كتب الرواية، خصوصاً تلك التي تتعلّق بمجال الأصول والعقائد، لكن المشكلة أنها ليس لها ذكر صريح في القرآن.

فمن المعلوم أنّ آلاف الروايات تتحدّث بإسهاب عن تلك الفكرة، فتبدي ما للأئمة من علوم شمولية وقدرات خارقة لم تعرف حتى للنبي 2؛ فهم معصومون ومنصوص عليهم من الله تعالى، ولهم من العلوم الغيبية ما لا يحصى، كما لهم من الكرامات والمعاجز، وأنهم أركان الأرض وحجج الله على العباد؛ فمثلاً عقد الكليني في الكافي كتاباً أطلق عليه (كتاب الحجة) ويحوي أكثر من ألف حديث يفيد هذا المعنى، وإن كان ما يقارب ثلاثة أرباع هذا العدد يعدّ من الضعيف، حسب الاعتبارات التي اتخذها الأصوليون من التقسيم المستحدث للحديث.

وأول ما يعترض هذه الفكرة هو ما نجده من التعارض بين صنفين مختلفين من المعطيات: أحدهما عبارة عن مضامين الروايات عن الأئمة من جهة، والآخر عبارة عن سلوك أصحاب الأئمة المتأخرين من جهة ثانية. حيث يشير عددٌ كبير من الروايات إلى أنّ علم الأئمة شامل ومشترك، وقد جاءت النصوص الخاصّة بالجفر ومصحف فاطمة وغيرها ما يؤكّد هذه الناحية، لكنّ المشكلة التي تواجهنا بهذا الصدد، أنّ مضامين هذه الروايات لا تتسق مع السلوك الذي كان عليه المكثرون من أصحاب الأئمة المتأخرين ــ من أمثال الإمامين: الهادي والعسكري ــ فهي لا تفسّر لماذا كان هؤلاء يتجشمون العناء ليرووا عن المتقدّمين من الأئمة روايات هي في أفضل الأحوال ظنية، أو ليهتمّوا بعلم الرجال والتعديل والتجريح، إذ كان يكفيهم تحصيل اليقين بالأخذ ممّن عاصروهم على فرض أنّ علمهم غيبي أو مشترك، لكنهم لم يفعلوا؟!

ومثلما ينطبق هذا الحال على المكثرين من المشايخ المعاصرين للأئمة المتأخرين، ومنهم مشايخ الكليني، ينطبق أيضاً على هذا الأخير، حيث عاصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي، وزار العراق وحدّث عن بعض مشايخ بغداد موطن السفراء الأربعة، لكنه ــ مع ذلك ــ لم يتحرّ الاتصال بأيّ منهم لعرض كتابه والتأكّد من صحته مع إدراكه لأهميّته، خاصة وأنه ــ كما قال النجاشي ــ انشغل به عشرين سنةً يجوب فيها البلدان بحثاً عن الرواة وكتب الرواية.

وليس من الصحيح أن يقال: إنّ الأئمة أوكلوا أمر القضايا الدينية إلى العلماء والفقهاء؛ فهذا الجواب يتمّ فيما لو أنّ الأمور الدينية كانت واضحةً، أما تركها على ما هي عليه من التعارضات والتناقضات والوضع والتزوير، وجعل التعويل فيه على العلماء الحيارى، فممّا لا يعقل إطلاقاً؛ كيف وقد علمنا أنّ الكليني ذاته كان متمشكلاً بمشكل غياب الحقيقة الدينية، فالسؤال ــ على هذا ــ يظلّ قائماً، أي ما سبب عزوف الكليني عن الاتصال بالسفراء وعرض كتابه عليهم؟ فهل كان لا يثق بسفارتهم ونيابتهم؟ أم كان يخشى أن يقولوا في كتابه ما لا يُرضيه كما حصل مع غيره؟ أو أنّ هناك سبباً آخر نجهله..

وأهمّ من ذلك، الإشكال المتعلّق بالسلوك الغالب على المكثرين من المشايخ المعاصرين للأئمة المتأخرين؛ حيث إنهم يعولون على الرواية عبر سلسلة الوسائط عن الإمام الصادق والباقر والرضا، دون اللجوء مباشرةً إلى الأئمة الذين عاصروهم، فلو كانت الإمامة واحدةً وإلهامية لما جاز هذا السلوك الظنّي ولوجب الرجوع إلى إمام العصر لاستفتائه والاكتفاء بما يقرّه، كما لوجب الاحتفاظ بكتاب منقول عن الأئمة مباشرةً دون التوسّل بالروايات، ومنها الروايات الضعيفة والمرسلة.

فمثلاً، كان محمد بن يحيى ــ أبو جعفر ــ من الثقات، وهو من مشايخ الكليني وعاصر الإمام العسكري، ومع ذلك فإنّ رواياته عنه ــ إن صحّت ــ قليلة لا تعدّ بشيء قبال كثرة ما رواه عبر الوسائط، حيث وقع في إسناد ما يقارب ستة آلاف (5985) مورد، وروى عن أحمد بن محمد وحده ما يقارب ثلاثة آلاف (2951) رواية، وقد اعتمد عليه الكليني وروى عنه أكثر من خمسة آلاف (5073) رواية، كالذي أشار إليه الخوئي في رجاله، كذلك كان أحمد بن محمّد بن خالد البرقي يعدّ من الثقات وعاصر بعض الأئمة المتأخرين، وهو من أصحاب الإمامين: الجواد والهادي، وكان في زمان العسكري دون أن يروي عنه شيئاً، وهو فوق هذا كان يكثر الرواية عن الضعفاء ويعتمد المراسيل، وكذا يقال الشيء نفسه عن محمد بن الحسن الصفار وعلي بن إبراهيم القمّي وغيرهم، فكتبهم تستند إلى الأئمة المتقدّمين بالرواية والعنعنة دون اللجوء إلى الأئمة الذين عاصروهم وصاحبوهم، مع أنّ هذه الصحبة تكفي لاستعلام الأمر كما هو، سواء كانت هناك تقية شديدة كما يقال، أو لم تكن، كذلك فإنّ شيوع روايات هؤلاء الأصحاب وكثرتها، مع ما فيها من كثرة الموارد المنافية للتقية، يجعل من الصعب تفسير الحالة طبقاً للتقية؛ إذ من التناقض القول: إنّ الأئمة كانوا يعملون بها فلا يظهر عليهم شيء ينافيها، في حين أنّ أصحابهم كانوا يفعلون العكس، وذلك بترويجهم للروايات المنافية لها، حتى وصلت إلينا، وحتى لو قيل: إنّ أصحاب الأئمة كانوا حريصين على عدم إيصال مثل هذه الروايات إلى المخالفين، لكنّهم أشاعوها بين أصحابهم ومن ثم وصلت إلينا، فإنّ ذلك لا يمنع من أن يفعلوا الشيء نفسه في الرواية عن الأئمة المتأخرين، ومن ثم حفظها وإشاعتها بين الأصحاب لتكون حجّةً على الجميع، بدل الخلاف الحاصل بينهم في الأمور العقائدية، ومنها تلك التي تخصّ الأئمة رغم أنهم عاصروهم وصاحبوهم.

فما سرّ هذا السلوك لأصحاب الأئمة المتأخرين؟ بل ما فائدة الأصول والكتب التي دوّنت في عصر الأئمة وهي مختلطة بين الصحيحة والموضوعة والمزورة، إذ كان يكفي نقل عدد قليل من الكتب عن الإمام مباشرةً دون العنعنة والوسائط، ليستفاد من خلالها بكلّ ما يراد له في التكليف، مع الأمر بحفظها بين الثقات مثلما تمّ الحفاظ على الكتب الأربعة المعتبرة؟ وكذا نقول: ما فائدة علم الرجال وتسجيل الثقات والضعفاء في عهد الأئمة، إذا كان الغرض هو الوصول إلى أقوالهم، وهم كانوا حاضرين غير غائبين؟!

إن هذه التساؤلات والإشكالات جميعها تصدق بحقّ القائلين بالعلم الشمولي والغيبي للأئمة؛ ذلك أنها تبعث على الظنّ بأنّ المشايخ الذين عاصروا الأئمة المتأخرين لم يجدوا العلم اللدني والشمولي لهؤلاء الذين عاصروهم، فترى الكثير منهم يبحثون عن الضالّة التي يشتهونها من علوم الغيب والأساطير والغلوّ والغرائب وكلّ ما يستثير النفوس، فوجدوا ذلك أمامهم في الكتب والروايات التي تنسب إلى الإمام الصادق وغيره، ولم يجدوا الشيء نفسه لدى من عاصروهم من الأئمة، فزاد اهتمامهم بالأئمة المتقدّمين دون من عاصروهم، ويدلّ على ذلك ما وصلنا من كتبهم، إن لم تلحقها يد الوضع والتزوير، مثل كتاب تفسير القمي وبصائر الدرجات للصفار والمحاسن للبرقي وغيرها.

ولا شك أنّ هذه القضية تلقي بظلالها على مسألة العصمة؛ حيث انقسم قدماء الشيعة حولها إلى عدد من الطوائف، والكثير منهم ذهبوا إلى أن الأئمة معصومون تماماً، ويحملون العلم اللدني، وأنهم لا يختلفون فيما بينهم، رغم أن شواهد البحث في الرواية والرجال لا تؤيد هذا الاعتقاد كما عرفنا، وهو فضلاً عن ذلك لا يتسق مع منطق القرآن الكريم في ذكره لسيرة الأنبياء، ومنها سيرة نبينا محمد 2.

وفي قبال هؤلاء، ذهب جماعة إلى أنّ الأئمة هم من كمّل المؤمنين مع نفي العصمة، لكن شاء المغالون والوضاعون أن يدسّوا في الإمامة كلّ ما يريدونه حتى رفعوها إلى حدّ الربوبية، عبر ما يطلق عليه: الولاية التكوينية، ربما تأثراً بإسقاطات النظام الوجودي. فقد ذكر الوحيد البهبهاني في فوائده الرجالية أنّ كثيراً من القدماء، لا سيما القميين وابن الغضائري، كانوا يعتقدون بأنّ للأئمة مكانةً لا يجوز تعديها والارتفاع عنها، وكانوا يعدّون التعدي ارتفاعاً وغلواً، فاعتبروا مثل نفي سهو النبي عنهم غلواً، بل وربما جعلوا نسبة مطلق التفويض إليهم أو التفويض المختلف فيه أو الإغراق في إعظامهم وحكاية المعجزات وخوارق العادات عنهم أو المبالغة في تنزيههم عن كثير من النقائص وإظهار سعة القدرة وإحاطة العلم بمكنونات الغيوب في السماء والأرض ارتفاعاً وموجباً للتهمة، خصوصاً والغلاة كانوا مخلوطين بهم يتدلّسون فيهم، ثم أشار البهبهاني إلى أنّ القدماء كانوا يختلفون في المسائل الأصولية كالفرعية، فربما كان بعض الاعتقادات عند بعضهم كفراً أو غلواً أو تفويضاً أو جبراً أو تشبيهاً أو نحو ذلك، وعند آخرين ممّا يجب اعتقاده.

وسبق للشيخ المفيد أن نقل عن جماعة من القمّيين أنهم يعتقدون بأنّ الأئمة كانوا لا يعرفون الكثير من الأحكام الدينية حتى يلهموا في قلوبهم، ومنهم من يقول: إنهم كانوا يلجأون في الأحكام الشرعية إلى الرأي والظنون. وقد كان ابن الجنيد يرى أنّ الأئمة يجتهدون ويعملون بالرأي، وذلك عندما وجد الأقوال المنقولة عنهم متضاربة، حيث جمع مسائل وكتبها إلى أهل مصر وسمّاها: المسائل المصرية، ذكر فيها أنّ أخبار الأئمة مختلفة في معانيها؛ لاعتمادهم على الرأي.

كذلك صرّح الشهيد الثاني أن جلّ رواة الأئمة وشيعتهم كانوا يعدّون الأئمة علماء أبرار، افترض الله طاعتهم، مع عدم الاعتقاد بعصمتهم.

ويؤيد هذا المنحى ما هو معروف من الخلاف بين أصحاب الأئمة حول الإمام الواجب طاعته، كالذي يشير إليه أصحاب الفرق كالنوبختي وغيره. ولهذا الخلاف دلالات عديدة، حيث ظهر الخلاف مع الكيسانية مروراً بعشرات الفرق والمذاهب، وصولاً حتى الخلاف الحاد بعد وفاة الإمام العسكري.

وتعدّ هذه المدة من وفاة الإمام العسكري أعظم الفترات اضطراباً وحيرة لدى علماء الشيعة وفقهائها، لكنها كانت مسبوقة بعدد من فترات الاضطراب التي فرّقت شمل من وصفوا بالأجلّة العظام من أصحاب الأئمة، خاصة بعد الإمامين: الصادق والكاظم، لاسيما عند ظهور فرقة الفطحية حيث تحمل من الدلالات ما تحمل. وقد ذهب إليها وإلى غيرها عددٌ ممّن يعدّون من أصحاب الإجماع؛ مثل عبد الله بن بكير وأبان بن عثمان اللذين ذهبا إلى إمامة عبد الله بن جعفر الصادق، وبعضهم وقف عند الإمام موسى الكاظم مثل أحمد بن محمد بن أبي نصر، كما أنّ بعضاً آخر قال بالوقف ثم رجع عنه، مثل جميل بن درّاج وحماد بن عيسى. هذا بالإضافة إلى غيرهم ممّن اعتبروا من الأعاظم والأجلاء، وان لم يكونوا من أصحاب الإجماع، ويكفي ما قاله الكشي في كلّ من محمد بن الوليد الخزاز، ومعاوية بن حكيم، ومصدق بن صدقة، ومحمد بن سالم بن عبد الحميد، قال: هؤلاء كلّهم فطحية، وهم من أجلّة العلماء والفقهاء والعدول، وبعضهم أدرك الرضا %، وكلّهم كوفيون.

فماذا يدلّ كلّ هذا الاختلاف والحيرة والاضطراب بين أصحاب الأئمة؟ خاصّة وبينهم من وصفوا بالجلالة والتقوى. لعلنا نقف على عدد من الدلالات والاستنتاجات لما حصل، وذلك كالآتي:

1ـ إنّ عدد الأئمة لم يكن معروفاً أثناء حياتهم؛ وذلك بدلالة القول بالوقف لدى الكثير من الأصحاب، وبدلالة أنه لم يظهر من يُبطل حجج هؤلاء بدعوى نقصان العدد؛ إذ كيف يتسق ذلك مع شيوع خبر الأئمة الاثني عشر؟! وكلّ ما روي بهذا الشأن لا يقف قوّةً قبال هذه الدراية، فلعلها ظهرت في عصر الغيبة لتبرير النهاية بعد الحيرة، ويقرب هذا المعنى أنه جاء في رواية عن أحمد بن محمد البرقي تبيّن أن الأئمة اثنا عشر إماماً، حيث رواها محمد بن يحيى عن محمد بن الحسن الصفار عن البرقي المذكور، فعلّق محمد بن يحيى، وقال للصفار: يا أبا جعفر! وددت أنّ هذا الخبر جاء من غير جهة أحمد بن أبي عبد الله (البرقي)، فأجاب الصفار: لقد حدّثني قبل الحيرة بعشر سنين، والمعروف أنّ الحيرة ظهرت عند وفاة الإمام العسكري، وسمّيت بذلك لاضطراب الناس حول الإمام بعده، والخبر المذكور يدلّ على أنّ زمن الحيرة يدعو إلى حالة وضع الأحاديث الخاصّة بالاثني عشر إماماً، كما يدلّنا على ذلك أنّ ما وصلنا من الروايات عن عدد الأئمة كان لدى كتاب (بصائر الدرجات) قليلة للغاية، ربما لم تتجاوز ثلاث روايات، وأنها كانت لدى (الكافي) عشرين رواية الكثير منها تعتليها الصفة الأسطورية، وأنّ ما جاء فيها من الأحاديث المعدّة صحيحة حسب الاعتبارات المصطلح عليها؛ حديث منفرد وصف بأنّه حسن كالصحيح، وآخر مروي عن أحمد بن محمد البرقي بطريقين مختلفين، وهو الحديث الذي دار حوله الحوار المذكور بين محمد بن يحيى ومحمد بن الحسن الصفار، ويتصف الحديث بالطابع الأسطوري، أمّا غير ذلك من الأحاديث فمعدودة ضمن الأحاديث غير الصحيحة، حيث بعض طرقها ضعيفة، وبعض آخر يتضمّن الرفع أو المجاهيل؛ لذا لو أبعدنا الحديث الأسطوري المعدود ضمن الأحاديث الصحاح، يبقى حديثٌ واحد من بين العشرين حديثاً اعتبر حسناً كالصحيح، لكنّ هذا الحديث ليس بشيء قبال الدراية التي مرّت معنا، مع ما في سنده من بعض الذين لم يرد فيهم نصّ من التوثيق، وهو إبراهيم بن هاشم القمي، وأنّ الحديث مروي عن بعض الأئمة المتقدّمين لا المتأخرين ممّن عاصرهم الشيخ المذكور وابنه علي.

هذا فيما جاء في عصر الغيبة الصغرى، أمّا بعدها فالملاحظ أنّ روايات خبر الأئمة الاثني عشر قد زاد عدداً، فقد أورد الشيخ الصدوق في (الخصال) أكثر من خمسين رواية، وكذا روى معاصره أحمد بن عياش الجوهري روايات أخرى من العامّة والخاصّة تقارب عدد ما رواه الكليني في كتابه (مقتضب الأثر في النصّ على الأئمة الاثني عشر)، وأخرج من بعده الخزاز القمي في كتابه (كفاية الأثر) أضعاف الأعداد السابقة، والتي رواها عن النبي والصحابة والأئمة، لكنّ هذا الكتاب لم تثبت نسبته إلى الخزاز القمي، فمع أنّ النجاشي والطوسي ذكراه في كتبهما الرجالية، إلا أنّهما لم يذكرا له هذا الكتاب، فقد وثقه النجاشي؛ وقال عنه: كان فقيهاً وجيهاً له كتاب الإيضاح في أصول الدين على مذهب أهل البيت (، كما وثقه الطوسي في (الفهرست)، وقال عنه: متكلّم جليل، له كتب في الكلام، وله أنس بالفقه، وكان مقيماً بالري، وبها مات رحمه الله، كذلك ذكره الطوسي في رجاله واكتفى بالقول عنه: علي بن أحمد بن علي الخزاز، نزيل الري، يكنّى أبا الحسن، متكلّم جليل؛ وبهذا فإنّ النجاشي والطوسي لم يعرّفا للخزاز كتاباً بالعنوان المذكور، وكان الأولى أن يذكرا ذلك في فهرستيهما، وقد سار على هذا المسار عددٌ من أصحاب الرجال المتأخرين مثل العلامة الحلي في (خلاصة الرجال)؛ حيث عرّفه دون أن يذكر له كتباً.

ولعلّ أول من ذكر أنّ للخزاز الكتاب المذكور ــ ولو بشيء من الاختلاف في الاسم ــ هو ابن شهر آشوب (588هـ) في (معالم العلماء)؛ حيث عرّفه بقوله: إنّ له كتباً في الكلام وفي الفقه، من كتبه: كتاب الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية، والإيضاح في الاعتقاد، والكفاية في النصوص.

بل يمكن أن يقال: إنه حتى لو ثبت أن للخزاز هكذا اسم من الكتاب، فإنه من غير المعلوم أنّ ما عثر عليه من نسخة هي ذاتها للخزاز دون زيادة ولا نقصان، فالنسخة التي عثر عليها فيها من الإشكالات ما لا يسع المقام لذكرها.

2ـ كذلك وللسبب السابق ذاته؛ لا تقف روايات تشخيص الأئمة قبال الدراية الخاصّة بجهل المقربين من الأئمة بهم؛ فمثلاً مات زرارة ولم يعرف من هو الإمام بعد جعفر الصادق. كذلك الحال فيما عرفناه من أن أغلب أصحاب الإمام الصادق لم يعرفوا في البدء من هو الإمام بعده، فعولوا على ابنه الأكبر عبد الله الأفطح، وكذا بالنسبة للآخرين الذين قالوا بالوقف، أو الذين اختلفوا على أولاد الأئمة، وقد أدرك عددٌ من المحققين ما تستلزمه هذه الدراية، فقد قال الميرزا أبو الحسن الشعراني، بعد ذكره لخلاف الأصحاب على الأئمة: إنه «لو كان الأئمة متعيّنين لم يعهد منهم التفحّص»، كما قال البهبودي: «إنّ الأحاديث المروية في النصوص على الأئمة جملة من خبر اللوح وغيره كلّها مصنوعة في عهد الغيبة والحيرة وقبلها بقليل، فلو كانت هذه النصوص المتوفرة موجودةً عند الشيعة الإمامية لما اختلفوا في معرفة الأئمة الطاهرة هذا الاختلاف الفاضح، ولما وقعت الحيرة لأساطين المذهب وأركان الحديث سنوات عديدة، وكانوا في غنى أن يتسرّعوا إلى تأليف الكتب لإثبات الغيبة وكشف الحيرة عن قلوب الأمّة بهذه الكثرة».

3ـ إن الدلالتين السابقتين تثيران إشكاليةً جوهرية تحتاج إلى تحليل؛ وذلك أننا نواجه افتراضين لكلّ منهما شواهده الدالّة عليه: أحدهما المعطيات السابقة من النقل الخاصّ عن اضطراب أصحاب الأئمة حول معرفتهم على وجه التحديد، أما الآخر فهو النقل الخاصّ بالروايات التي تعرف بتشخيص الأئمة وتبيان عددهم بوضوح، ومن الواضح أنّ الافتراض الأول لا ينسجم مع الثاني، فأحدهما لابد أن يكون كاذباً، وكلا النقلين قد تفشيا في عصر الغيبة؛ فأيهما أقوى دليلاً من الآخر؟

لنختبر النقلين من حيث دوافع الكذب والمصلحة؛ حيث الملاحظ أنّ النقل الخاصّ باختلاف الأصحاب ليس فيه ما يبعث على مصلحة الكذب؛ وذلك لأن نقلة هذا الاختلاف هم من المنتسبين إلى الشيعة وثقاتهم، وليسوا من أطراف خارجية كي يطرأ احتمال الكذب، بل أصبح من المتيقّن عند العلماء بلا خلاف أن هذا الاختلاف كان جارياً وأنّه ظهرت على أثره الكثير من الفرق التي يعرف رجالها وآراؤهم؛ وعليه بنى أصحاب المقالات والفرق، وكذا أصحاب الرجال والتوثيق، علومهم، فيقال: هذا واقفي، وذاك ناووسي أو فطحي أو إسماعيلي أو غير ذلك. ولو أنه تمّ طرح مثل هذه الروايات لبطلت كتب التوثيق ومثله كتب الفرق والمقالات التي اعتمدت عليها، بل لبطلت كذلك الكثير من الكتب التي اعتمد عليها العلماء بعد الغيبة، كالذي أشار إليه الطوسي من أنّ الكثير من أصحاب الأصول هم من المذاهب الفاسدة، وإن كانت كتبهم معتمدة، وهو بدوره سيفضي إلى إبطال الكثير من الروايات، بل لأصبح من غير الممكن الاعتماد والتعويل على شيء من النقل والروايات لكثرة الرواة المعدّين ضمن تلك الفرق المنحرفة، أمّا النقل الخاص بعدد الأئمة وتشخيصهم فهو ما جاء في الروايات المنقولة عن الأئمة، ودوافع الكذب فيها بادية؛ حيث إن من مصلحة المنتسبين إلى المذهب إظهار هذه القضية دون غبش، وإلا لم يعد هناك مجال للأخذ بالمذهب، كذلك فإن الروايات التي وصلتنا لا تعدّ بشيء، فهي من الآحاد، وإذا جاز ترك الأحاديث الكثيرة المنافية لأصول العقيدة كروايات التحريف وما إليها، فإنّ من الأولى ترك هذه الأحاديث القليلة التي تتعارض مع معطيات الافتراض الأول، خاصّة وأنّ هذا الافتراض يعدّ درايةً لو أزلناه لزال كلّ شيء يتعلق بالتوثيق والرواية في المذهب، كما عرفنا.

ما نستنتجه ــ بحسب الدلالات الثلاث السابقة ــ أنّ الأئمة لم ينصّ عليهم بنصّ مخصوص؛ وإلا لما خفي ذلك على المقرّبين والأجلاء من أصحابهم، ولما اختلفوا أشدّ الخلاف، وكذا لما ادّعى الكثير منهم المهدية، والله تعالى يقول: >ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً<، فالأئمة انفسهم كانوا لا يعلمون ــ سلفاً ــ من الذي يتلوهم في وجوب الطاعة، وإلا لعرّفوه للأصحاب من غير خلاف.

ولا يقال: إنّ جهل الكثير من الأصحاب بأشخاص الأئمة سببه ضغط الظرف السياسي، وذلك باعتبار أنّ هذا الافتراض يجرّنا إلى إشكال أعمق، وهو إذا كان المقرّبون لا يعرفون أشخاص الأئمة على التحديد بسبب ذلك الظرف، فكيف تسنّى لنا معرفة ما لم يعرفوا، ونحن إنما تلقينا علمنا من خلالهم؟!

هكذا، وبحسب المعطيات السابقة ووفق الدلالات التي ذكرناها، يكون تصوّر الإمامة بحسب الصورة التي رآها المتقدمون من القمّيين أقرب من تلك التي رآها غيرهم ممن وصفوهم بالارتفاع والغلو، وإذا كان من الصحيح ما قيل من أنّ التصوّر الذي بناه القميون كان يصدق على أغلب الرواة في عصر الأئمة، كالذي يشير إليه الشهيد الثاني كما أسلفنا، فإذا كان هذا صحيحاً فإنّ الأمر انقلب فيما بعد؛ وأصبح معكوساً، حيث غلبت على المتأخرين الرؤية الأخرى وصارت من المقدّسات التي يصعب مخالفتها حتى يومنا هذا.

لكنّ الأمر لا يتوقف عند هذا الحدّ، فهناك العديد من الاستنتاجات يمكن طرحها بصدد الإمامة كالآتي:

أولاً: من الناحية العلمية، يقرّب الاستناد إلى المعطيات السابقة وما استتبعناه من دلالات، فكرة كون الإمامة ذات طبيعة كسبية غير منزلة ولا إلهامية، والرجوع إلى القرآن الكريم يؤكّد هذا النحو من التصوّر كما سيأتينا بيانه، وهي بهذا لا تتضمّن العصمة، بل كمال العلم والدين والتقوى، وهي أقرب ما تكون إلى التصوّر الحالي عن المرجعية وصفاتها الخاصّة في الإيمان والعدالة والأعلمية، مع أخذ اعتبار أنّ المرجعية قائمة على الاجتهاد المفضي إلى الظنّ في الغالب، وأنّ المهمة التي تضطلع بها هي استنباط الأحكام الشرعية بحسب الوسع والقدرة، ومن ثمّ العمل بها أو تبليغها، فيما تتقوّم الامامة بالعلم والحكمة؛ تبعاً للوظيفة التي تؤدّيها وهي الهداية، مما لا علاقة له بالفقه حسب الاصطلاح المتعارف عليه، كذلك فالمرجعية تفترض أن يكون هناك طرفٌ آخر تحقّق فيه الهدف المطلوب، وهو التقليد وما على شاكلته، فيكون لدينا طرفان في هذه العلاقة، هما: المرجع والمقلد، بينما تفترض الإمامة مفهوم الاقتداء كطرف آخر تحقّق من خلاله الهدف المنشود، فالإمام من الناحية اللغوية هو الذي يُقتدى به، والاقتداء يفيد التأسّي كما يفيد الاحتذاء، وهو معنى الاتباع، حيث الاتّباع في اللغة هو الولاء.

والرابط بين الإمامة والاتّباع هو الهداية، حيث تشكّل هذه الأخيرة بالنسبة إلى الأولى الوظيفة التي تتحقّق من خلالها الغاية من الاتّباع والتأسي؛ فهي وظيفة للإمامة كما يظهر من قوله تعالى: >وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات<. كما أنها غاية للاتباع، مثلما جاء في قوله تعالى: >فآمنوا بالله ورسوله النبيّ الأميّ الّذي يؤمن بالله وكلماته واتّبعوه لعلّكم تهتدون<، وقوله: >يا أبت إنّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتّبعني أهدك صراطًا سويًّا<.

وبهذا يتيسر فهم كون الإمام أولى بالتابعين من أنفسهم، وذلك بما من شأنه تحقيق الهدف المطلوب من الهداية والإصلاح، ففضيلة التابعين تتجلّى بالاقتداء والتأسّي بإمامهم: >لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا<، فعند ذاك يتحقق الولاء والمولوية، حيث الاتباع هو الولاء كما أسلفنا. وقد يكون للحديث: «من كنت مولاه فعلي مولاه» هذا المعنى. فلعلي % الولاية والإمامة، وهو أولى بالآخرين من أنفسهم، وأهل البيت لهم مثل هذه الولاية بالتبعية، لكنها ــ بالمعنى المتقدم ــ غير محدّدة بأشخاص معينين، وقد يدلّ عليه قوله تعالى: >والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر<، وأنّ النبي أولى بهم من أنفسهم، فهي بذلك درجات ومقامات: (كلكم راع وكلّ راع مسؤول عن رعيته)، فمنها ولاية النبي، وولاية علي، وولاية المؤمنين، وولاية أولى الأرحام، كالذي يشير إليه قوله تعالى: >النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض<.

ولا أظنّ أنّ هناك إشارة قرآنية أقوى دلالة على المعنى العمومي والكسبي للإمامة من النصّ القائل: >وعباد الرحمن الّذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا… والّذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرّيّاتنا قرّة أعين واجعلنا للمتّقين إمامًا<، ومثله النصّ الذي يقول: >وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون<، حيث المعنى الكسبي للإمامة ظاهر في هذه الآية وما سبقها.

ثانياً: ليس مفهوم الطاعة كمفهوم الاتّباع في مضايفته للإمامة؛ ذلك أنّ الطاعة عبارة عن الانقياد لما يقوله الآمر من الأمر والنهي، وهي تقع رغبة أو رهبة، وبهذا تصلح للمعنيين: السياسي والديني؛ من حيث إنها تؤدّي فعل الانقياد والإذعان، لكنّها خلاف الاتباع الذي يفيد الولاء والتأسّي والاقتداء؛ فالفارق بينهما أنّ الاتّباع لا يتحقق رهبةً وإلا تحوّل إلى طاعةٍ وانقياد، ومع أنّ الطاعة واردة في الشأن الديني، مثلها في ذلك مثل الاتّباع، لكنها ليست بدرجته، فالاتّباع أقرب إلى الدين من الطاعة، مثلما أنّ هذه الأخيرة أقرب إلى السياسة من الأول.

والذي يسرد الآيات الخاصّة بالاتباع، وآيات الإمامة، كلفظة إمام وأئمة، وكذا آيات الولاية كلفظة ولاية وولي وأولياء، لا يجد فيها دلالةً صريحة على المعنى السياسي، وحتى لفظة (أولي الأمر) فإنّ لها دلالة واسعة تخصّ الأمور العامة، وكذا فهي غير محدّدة بأشخاص معيّنين بقرينة ما اقترن معها من كلمة (منكم أو منهم)، مثلما جاء في سورة النساء في الآيتين: 59 و83.

وعليه؛ فما أورده العلماء ــ شيعةً وسنّة ــ من تعاريف للإمامة لا علاقة له بما جاء في القرآن الكريم، حيث إنّ كلا الفريقين ربط المعنى بالرياسة في أمور الدنيا أو السياسة، فبعض التعاريف أضفى عليها البُعدين: الديني والدنيوي ــ السياسي، كالذي قاله علماء الشيعة، كما أنّ بعضها الآخر جعل الإمامة مختصّةً بالرياسة للأمور الدنيوية لا الدينية، فالمعنى السياسي للإمامة كما يتحدّث عنه الناس ليس من صلب الدين وضروراته، بل تخالفه الكثير من القرائن والشهادات، وذلك بخلاف ما لو أخذ بالمعنى الديني المشار إليه سلفاً؛ فنحن نعلم أنّ الأنبياء لم يطلب منهم أن يكونوا قادةً سياسيين، مثلما طلب منهم التبليغ بدواعي النبوة والرسالة، أو هم غير مكلّفين بهذا الأمر ما لم يبايعهم الناس، خاصة أن بعض الأنبياء والرسل لم يتولوا هذه المهمة ولم يطلبوها، وقد جاء في بعض الآيات ما يفصل بين النبوة والملك أو الزعامة السياسية، كقوله تعالى: >اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً<.

وفي الإسلام، لم ترد نصوص دينية تبيّن كيفية النظام السياسي، فمثلاً ليس هناك ما ينصّ على آليات التنصيب ولوائح الدستور العام وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذا صلاحيات الحاكم وشروط استمراريّته في الحكم. فنحن نعلم ــ مثلاً ــ أن عملية التنصيب التي جرت مع الخلفاء الراشدين بعضها يختلف عن البعض الآخر، فما جرى من تنصيب للخليفة الأول يختلف عمّا جرى مع الخليفة الثاني، وهما غير ما حدث مع الثالث، وكذا ما جرى مع الثلاثة مختلفٌ عمّا جرى مع الرابع، وليس جميع العمليات السابقة قائمة على مبدأ الشورى، كما أنّ هذه الأخيرة التي حدثت بفعل قرار الخليفة الثاني لم تكن بين جميع المؤمنين ولا جميع أهل الحلّ والعقد، وكذا يقال بخصوص البيعة حيث لم تحدث على وتيرة واحدة، وبالتالي فليس هناك آليات ثابتة ولا مفصّلة في التنصيب، فضلاً عمّا يتعلق بطبيعة العلاقة التي تحكم الحاكم بالمحكوم، ونعلم كم الفارق بين الطريقة التي سار عليها الخليفتان: الأول والثاني، وبين ما أحدثه الخليفة الثالث من تغيير.

أمّا بخصوص فكرة الشيعة عن الخلافة، فمن الواضح أنه رغم ما ظهر من نزاع بين الصحابة بعد النبي حول الخلافة، إلا أنه لم يرد عنهم أي ذكر للوصية والنصّ عليها، ولا يعقل أنّ المهاجرين والأنصار تجاهلوها بإجماع، خصوصاً وأنّ خسارة الأنصار أمام المهاجرين يوم السقيفة يجعلهم في أمسّ الحاجة لتوظيف مثل هذا السلاح إن كان موجوداً، وبحسب بعض الروايات فهم بعد خسارتهم تشبثوا بالقول: (لا نبايع إلا علياً)، كما أنّ الإمام علياً هو الآخر لم يحتجّ بالنص على حقّه في الخلافة، بل روي أنه احتجّ على حقه تبعاً لاعتبارات فضله في الإسلام ومكانته من النبي، وفي بعض المناسبات روي أنه كان يذكر مناقبه ويعدّدها في مناشداته لغيره، ويذكر من بينها قول النبي فيه: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» دون أن يراد به المعنى الخاصّ بالخلافة، كما هو واضح من سياق تلك الروايات والردود التي ترد من المقرين بالحديث من الصحابة، ومن ذلك ما روي يوم الشورى قبيل وفاة عمر، وأيام عثمان، ويوم الرحبة في الكوفة. وأيضاً فإنّ تنازله عن حقّه في الخلافة ومبايعته لغيره وقبوله أن يرضى أن يكون واحداً من أعضاء الشورى المرشحين للخلافة بعد عمر بن الخطاب من غير اعتراض يتعلّق بالنص ــ سوى ما كان يذكّر به من مناقبه ــ رغم ما آلت إليه النتيجة من عدم اختياره للحكم، ذلك كلّه يجعل أمر الوصية في الخلافة مستبعداً، هذا بالإضافة إلى الروايات التي دلّت على ما أبداه من مرونة فائقة عند إلحاح الناس عليه بالبيعة بعد مقتل عثمان، حيث فضّل أن يكون لهم وزيراً من أن يكون عليهم أميراً، لكنه مع ذلك أذعن للإلحاح واستجاب لرغبة الناس، وذلك كلّه لا يتسق مع مبدأ التعيين والوصية.

وهناك أمارات أخرى تتسق مع ما ذكرنا، مثل عدم وجود دلالة صريحة في القرآن الكريم تتعلّق بأمر الخلافة وما على هذه الشاكلة من الزعامة الإلهية، إذ لو كان حالها بالغ الأهمية من حيث التعيين كالنبوّة لكانت بيّنةً مثلها، أو على الأقل لكانت لا تقلّ ظهوراً عن ضرورات الدين من الصلاة والصوم والحج.. وأيضاً فإنّ فرض التعيين وإبلاغ الحجّة على المسلمين، ومن ثم تجاهلهم له على ما هو عليه من عظيم الأمر يفضي بهم إلى الكفر أو النفاق كما يقول الإخباريون وغيرهم، وهو أمر غير معقول، لتضاربه مع نصوص القرآن الكريم في الكثير من المواضع.

هكذا، فجميع الأمارات السابقة لا تنفي الإمامة بالمعنى السياسي فحسب، بل كذلك معناها الآخر المضفى عليه صفة التعيين المنزل كرديف للنبوة كما هو واضح.

3ـ مسألة التحريف

هناك إشكالات جوهرية تتعلّق بكتاب الكافي تجعل من غير الممكن الاعتماد عليه، رغم أن علماء المذهب حسبوه أهمّ الكتب المعتبرة وأوثقها وأتقنها، وأنه ليس هناك من كتاب يدانيه في مجاله، ونحصر إشكالاتنا في هذه الفقرة حول موقفه من القرآن تفسيراً وتنزيلاً.

فقد حشد الكليني ــ حاله حال الكثير من القدماء ــ مجاميع كبيرة من الروايات تجعل من الولاية قطباً تدور حوله المعاني القرآنية، بحيث تصور لنا أنّ الآيات لا تتحدّث إلا عن الأئمة وعلاقاتهم، وذلك كبنية لا يضاهيها غيرها من بنى القرآن بما فيها التوحيد، وعقد الكليني بهذا الصدد عدداً من الأبواب، أبرزها باب كبير أطلق عليه: (نكت ونتف من التنزيل في الولاية)، حيث حشد فيه أكثر من تسعين رواية تشير إلى إسقاط فكرة الولاية على معاني القرآن، سواء بالتحريف أو التأويل والاستبطان.

مع هذا، فقد اعترف الكليني أنّ من بين المرجّحات المعتمدة في الرواية هو العرض على القرآن كما في مقدّمة كتابه، ووضع بابين ضمن الجزء الأول من أصوله؛ أطلق على أحدهما: (الردّ إلى الكتاب والسنّة)، وعلى الآخر: (الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب)، وجاء فيهما عددٌ من الروايات التي تأمر بعرض الحديث على القرآن وترك ما ينافيه واعتباره زخرفاً. الأمر الذي حيّر عدداً من المحققين لما في القضية من تناقض؛ إذ كيف يمكن العمل بما حشده من روايات دالّة على التحريف، هل يضرب بها عرض الحائط؟ مع أنّه رواها بكثرة ودلّل عليها بما أورده من روايات مفسّرة للآيات تصبّ في ذات الهدف، وأنه أبدى في مقدّمة كتابه أنه أخذ بما وسع له الأمر. والغريب أنه صرح في المقدمة أنّ العلم بمصاديق الترجيحات، ومنها الترجيح بالقرآن، هو علم قليل، وقد توحي عبارته هذه أنّه لا يعدّ ما أورده من روايات التحريف هي ممّا يصحّ عرضها على القرآن، فهي على هذا الفرض مستثناة، بل وحاكمة على القرآن لا العكس.

قد يقال: إنّ تشبّث الكليني بروايات التحريف، رغم التناقض المشار إليه، يعود إلى كثرتها. وهو تعليل صحيح، لكنّ الأهم منه أنّه بدون هذه الروايات يصعب تماماً تقبّل نظرية كون الولاية تمثل أساس الدين وجوهره؛ إذ كيف يمكن أن تكون بُنية الدين بنيةً إمامية ومع ذلك لا يُشار لها بآيات صريحة مثلما يشار إلى النبوة وما على شاكلتها؟ وهذا يعني أنّ هناك اتساقاً بين القول بجوهرية الولاية للدين وبين القول بالتحريف، وأنّ التعويل على الأول دون الثاني متهافت وغير معقول، والعكس بالعكس، حيث إنّ نفي التحريف يقتضي نفي البُنية الولائية للدين.

بل إنّ هذين الركنين يكمّلهما ثالثٌ بنحوٍ من العلاقة العضوية، وهو تجريم عموم الصحابة بتواطئهم ورضاهم، فهذه الأركان الثلاثة بعضها يدعو إلى بعضها الآخر، وانتفاء أحدها يدعو إلى انتفاء الآخرين، وقد استقطب هذا الثالوث روايات العقائد، حيث إنها تؤكّد على الولاية بجنب النبوة، وأنّ الصحابة لم يعجبهم ذلك فارتدّوا بعد النبي إلا عدد قليل؛ كأن يكون ثلاثة رجال أو أربعة أو أكثر، كما أنّ ذلك استدعى تحريف الآيات الدالّة على الإمامة صراحةً أو إزالتها كلية. وهذا ما تمسّكت به الإخبارية باتساق، حيث القول ببعضه يفضي إلى القول بالآخر، مثلما أنّ إنكار أحدها يدعو إلى إنكار البقية؛ فالقول بسلامة القرآن يعني إنكار أن تكون الولاية هي أسّ الدين؛ لأن القرآن لا يدلّ عليها، كما يعني الشهادة بالثناء على المهاجرين والأنصار؛ لأن القرآن يدلّ عليها، وكذا فإنّ الشهادة بالثناء على هؤلاء يبرؤهم من الجرم العظيم في التحريف وإطماس معالم الولاية، وكذا فإن إنكار الولاية بالشكل المطروح لا يجد مساغاً للقول بالتحريف المتعمّد، كما لا يجد مساغاً لاتهام الصحابة بارتكاب الجريمة العظمى التي أقلّ ما يقال فيها أنّهم قد كفروا وارتدوا كما يقول الإخباريون وتؤكّده الكثير من الروايات.

وعموماً، إن روايات التحريف كثيرة لدى كتب الحديث القديمة، ولدى عدد من العلماء أنها متواترة، وبلغت أكثر من ألف رواية، وأنّ القدماء قد أطبقوا على صحّتها والتصديق بها، وأنّ طرحها جميعاً يوجب رفع الاعتماد على الأخبار رأساً، بما في ذلك تلك الخاصّة بالامامة، حيث الأخبار في كلتا الحالتين متواترة، كالذي أكّد عليه الشيخ المجلسي في (مرآة العقول).

ولعلّ أعظم خطأ يقع به المحقّقون هو ظنّهم أنّ الكثرة في الأخبار الموثقة تفيد التواتر، وهو خطأ، إذ قد يكون منشأ الكثرة بسبب الدسّ في الكتب، أو لوجود مصلحة غالبة تدفع إلى الكذب في الحديث، كالذي كان يفعله الزهّاد من العلماء السنّة على ما تعرّضنا إليه خارج هذه الدراسة، أو لغير ذلك من الأسباب التاريخية التي نجهلها، ولو صحّ التواتر بهذا المعنى الاعتباطي لحصل التناقض في الكثير من القضايا المتعارضة التي يستشهد عليها بكثرة الحديث، ومن ذلك التعارض الحاصل بين تواترات أهل السنّة، وتواترات الشيعة، وكلا الطرفين يدّعي أنّ رواته ثقات، مع أنّ التحقيق الوارد لدى علماء الحديث هو تحقيق تاريخي مختزل ضعيف وغير مباشر، فهو بالصورة المتاحة لنا من وجود السلاسل الرجالية الطويلة يمنع أن يفضي إلى قطع في الأقوال المنقولة هنا أو هناك، بل يمكن أن ينحصر القطع أو الاطمئنان في حدود القضايا المجملة للحوادث الكبرى والممارسات المتعدّدة الكثيرة التي تشهد عليها قرائن مختلفة كثيرة، وبشرط العلم بعدم وجود مصلحة مشتركة في النقل، وكذا أن لا يعارضها معارض يعتدّ به، كأن يكون المنقول ممّا يثبت كونه مستحيل الحدوث؛ لذلك كان الشهيد الثاني ينفي تحقّق خبر خاص بلغ حدّ التواتر، لكنه استثنى من ذلك حديث النبي 2: (من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، وكذا كان ابن الصلاح من أهل السنّة يرى أنّ من أراد مثالاً للحديث المتواتر غير هذا الحديث أعياه الطلب، مع أنه لا علم للمتأخرين إلا بما دوّنه المتقدمون، فالصلة بين الطرفين غير مباشرة، والتواتر المذكور هو تواتر نقلي وغير حسي، فاحتمالات الدسّ والوضع في كتب الأوائل واردة، مثلما أنّ احتمالات الكذب ودوافع إشاعة الحديث واردة هي الأخرى، وذلك كلّه يقف مانعاً عن القطع، بخلاف ما لو كان التواتر تواتراً حسياً؛ حيث كل شيء فيه ظاهر بلا خفاء.

*     *     *

الهوامش



([1]) رجال النجاشي: 221.

([2]) الفهرست: 71، 191.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً