أحدث المقالات
تشكل هذه الورقة على صغرها قراءة على السريع لحيثية خاصة في خطاب سماحة السيد القائد حفظه الله السيد علي خامنئي في افتتاح القمة السادسة عشر لحركة عدم الإنحياز بطهران، وتم التركيز على هذه الحيثية بوصفها آلية تدبير عظمى لكل ما أثير من قضايا.
تناسلت الأبحاث والدراسات للحديث عن الحوكمة العالمية كما لو أنها فتح أخلاقي وسياسي كبير للعالم في ظل القيادة الأمريكية، وقد تم السعي لذلك بالتمهيد لإواليتين أساسيتين: ظهور الطابع الكوسموبوليتي حيث انهار مفهوم " الدولة ــ الأمة " لفائدة " الدولة الكوسموبوليتية المعولمة " وهو ما يصطلح على تسمية باللحظة ما بعد الويستفالية وخيرية العالم " الحر" على غيره من الجغرافيات، والكل تحقيقا للأمن والسلام العالميين طبعا وفقا القراءة الأمريكية.
وحتى نوضح معالم قراءتنا لهذه التفصيلة في خطاب سماحة السيد القائد نريد أن نبين معالم أساسية سوف تشكل لنا منبنى حيوية الإدارة التشاركية للعالم بدلا من الحوكمة العالمية.
ثمة أساسيات لا بد من التركيز عليها ليس فقط بوصفها مقدمة قراءة بل أيضا بوصفها مبرر قراءة، لأن مجتمع المخاطر الذي لا طالما دبجت به الكتابات السياسية الأمريكية والأوربية في العشرين سنة الأخيرة لم يكن إلا مقدمة نفسانية للاحتماء بالأقوى، يعني هي تنويعة واقعية جديدة أريد لها أن تكون آلية قراءة كلية لمجمل الموجود الإنساني، وطبعا هذه لعبة مكشوفة لأن مصدر الخطر الوحيد هي هذه الدولة الأقوى أي الولايات المتحدة الأمريكية.
العنوان الأول: الأسس المبنائية للقراءة – العين الثالثة كمدخل:
ما سوف نعمد إلى تفكيكه في هذا العنوان هو مناقشة نظرية معرفية جديدة نصوغها لقراءة الأحداث والمتحولات الدولية، والغاية الأساسية منها بشكل تفصيلي أسميناها " نظرية العين الثالثة ".
المنطلق المعرفي الأساسي لا يمكن أن يخرج عن دائرة الهوية بوصفها محددا محوريا في التدافع الحضاري، وبوصفها محددا لل " أنا " ومائزا عن " الآخر " وطبعا هذا المائز ليس ثقافيا وحسب، بل أيضا معرفي في إطار " عوارض المرآة المقابلة " والتي تساعد في استقراء الموجودات الفكرية الدولية بشكل أكثر فاعلية، وطبعا هذان الإواليان على أهميتهما لا يمكنهما أن يشكلا مرتكزا ناجعا في الوجود الدولي للأمة الإسلامية في غياب الروحية الاستراتيجية
إوالية الهوية بوصفها ثابت رؤيوي:
ثاني مصاديق التوطين هو تشخيص مواطن الهوية الصلبة والهوية المرنة في العقلية الإسلامية، والاشتغال عليهما بشكل تكاملي، بمعنى أن هناك مواطن للتعامل الديبلوماسي ومواطن للتعامل الجاد والحاسم.
صحيح أن السمة الغالبة في المجتمعات العالمثالثية هو تمسكها بالهوية رغبة في الحفاظ على تميزها واستقلالها وكأنه صار آخر قلاع الدفاع أمام الآخر والذي لا يتورع في صنع حصان كحصان طروادة، بل وأضحت الإشارة إلى الهوية بالشكل المرضي الذي ظهر أخيرا في كثير من الكتابات كما لو أنه الملاك الوحيد للحفاظ على " الأمن الاستراتيجي " فإلى أي حد هذا الإرتكاز يظل معللا بشكل علمي ومقنع، وهل من المعقول التحدث عن الهوية في عالم يعيش حضارة عالمية أبى ذلك المرء أو كره ؟.
وقد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى المجهود الفكري الذي تقدم به السيد داريوش شايغان بخصوص الهوية وهو مجهود سوف ينفعنا كثيرا في الموضوع الذي نحن بصدد التعاطي معه.
نجد السيد شايغان أعطى لعمله الفكري اسما معبرا ألا وهو " أوهام الهوية " مركزا في المجمل على الطابع التوهيمي لخطاب الهوية بلحاظ المنتوج الغربي الذي يتوفر عليه، ذلك " أن التغيرات المتسارعة التي سببت الإنقلابات الإجتماعية أتت لتفسد، بقوة الأمر الواقع، العادات المتأصلة وتشوش التقاليد العلمانية، مما أدى مباشرة إلى بروز الإرتكاس القديم، ارتكاس الدفاع الذاتي. وجرت إزاحة القضايا عن سياقها التاريخي وتوجيهها نحو المؤسسات الدينية بدل العمل على نقد الجذور التي تحملها. وأعيد أيضا تقويم فكرة التجديد ( البدعة ) وحكم عليها بأنها أكثر الأمور سوءا." ( [1] ) فالمستنبط من مجمل كتاب هذا المفكر أن الهوية ما هي إلا غطاء إيديولوجي ارتكاسي تعتمده المجتمعات الضعيفة أمام المتحولات الدولية، لرأب الصدع الداخلي أمام الإكتساح الغربي، وأن هذا الإرتكاس دائما يكون لا تاريخي، متناسيا أن المعطيات المعرفية والإيديولجية المشكلة للهوية ما هي إلى متحولات طرأت في الزمن السالف، وطبعا اعتماد الهوية هو اعتماد إيتوبي مناقض لقوانين الواقع تم خلقها قصد التخندق وراء قناع الخصوصية والتميز الداخلي، وبالفعل قد أفلحت المجتمعات المتخلفة في الحفاظ على وحدتها الوطنية بالوقوف أمام المتغيرات الدولية وإن ظرفيا، لكنها في نفس الوقت وقفت أمام الإصلاحات الدينية الجذرية والكفيلة برأب الصدع في نسق الأمن الروحي المرجو.
إلا أن هذه الملاحظات لم تعد سليمة، وخصوصا أن خطاب الهوية انفتح على جميع المستويات ولدى مجموع الدول في العالم، وأضحت المقاربة في العلاقات الدولية مؤسسة عليه، مما يجعل من أصل استشكال داريوش شايغان منقوض على مستوى العلوم السياسية والعلاقات الدولية، وإن ظل قائما على المستوى الفلسفي.
إذ أنه لم يعد من المستغرب أن يكون آخر كتاب ألفه صامويل هنتنغتون هو " من نحن " بوصفه سؤال كبير يهم الهوية الأمريكية، فسؤال الهوية الجماعية كمنظومة فكرية انبعثت من الرماد وانقلبت على كل الموازين الفكرية الليبرالية، لتفرض نفسها كغريزة بقاء أممية وخصوصا في بعدها الأمري " إن الهوية الجماعية أيضا هوية آمرة، بمعنى أنها لا تحدد فقط من نكون، بل ما يجب علينا فعله "، ( [2] ) على أي وحتى لا ندخل في نقاشات هامشية، لا بأس من الرجوع إلى الموضوع.
عرفت الهوية في البيئة الأمنية تضاربا في الأفكار والتصورات في العلاقات الدولية، مع اختلاف المدارس الفكرية المستحكمة، ففي اللحظة التي نحت المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية إلى بحث ميزان القوة بين الدول، وتشخيص مصدر التهديد لأمنها " عليها أن تبحث عمن هي الدولة الأقوى، وأن ما يدفع الدول لتتحالف مع بعضها هو مواجهتها للتهديد نفسه " ( [3] ) بمعنى أن مفاعيل الصراع الدولي ووحدة المخاطر هي من تؤدي إلى خلق تحالفات، لكن التوجه البنائي سرعان ما نقض هكذا تحليل لمجانبته الصواب في قراءة تعقد العلاقات الدولية.
فقد عمد هذا التوجه إلى مراجعة خلاصات المدرسة الواقعية وأعلى " من أهمية الهوية في تعريف البيئة الأمنية للدولة، حيث رأى تيد هوبف أن الهوية المشتركة قد تقلل أزمة الأمن التي تحدثت عنها المدرسة الواقعية، ورأى كولين كال أن الهوية المشتركة آلية ثالثة إلى جانب القيم والهياكل التي تدعم فكرة السلام الديموقراطي. وترى ليزبيث أجيستام أن هناك ارتباطا بين مفهومي الهوية والأمن، وذلك لأن الهوية تعرف الذات، وتعرف الآخر الذي يواجه الذات، وبالتالي تحدد ما يعد مصدر تهديد، وترى كذلك أن ديناميكيات الهوية الوطنية يفترض فيها تداخلها مع المدركات الخاصة للأمن " ( [4]CORPORATE IDENTITY بوصفها هوية شخصية PERSONAL IDENTITY للدولة، عندما جعلهما شيئا واحدا ففي تحديده للهويات نجده يركز على أربعة أنواع، 1 – شخصية أو تشاركية 2 – النموذج 3 – الدور 4 – والجماعية، صحيح أنه جعلها حصرية، لكنه تعريفه ليس بنهائي بعد. ( [5] ) ) ولعل أعظم من يمثل هذا التوجه هو المفكر أليكسندر ونت، عندما ركز على خصوصية وأهمية محدد " الأنا " و " الآخر " في تحديد السلوك الدولي، وتكثير التحالفات ومحوريتها حتى في رسم معالم الرؤية الأمنية، وأن هذا المحدد وإن كان للوهلة الأولى قد يكون معامل عدم استقرار، فإنه يؤدي حتما إلى سلم عالمي وأمن مشترك يؤدي إليه حتما، فقط يجب تصويب النظر في مفهوم " الهوية التشاركية "
والهوية الشخصية أو التشاركية عندما يتعلق الأمر بمنظمة أو مؤسسة تتأسس من: التنظيم الذاتي، والبنى الثابتة التي تسمح بفرز الأدوار، والدولة بوصفها وحدة أعلى من الفرد فإنها محكومة بنفس الدينامية الخاصة لهوية الأفراد، حيث يقول: " الناس كيانات منفصلة في إطار علم الأحياء، ولكن من دون وعي أو ذاكرة – الشعور بالأنا – إنهم ليسوا فاعل وربما حتى ليسوا بإنسان، وهذا التعريف هو الأقرب لمفهوم الدولة التي لا تملك " أجساد " ولا يتوفر أعضاؤها على سرد مشترك بوصفهم كائن تشاركي. وأنه لإضافة الهوية التشاركية يفترض أفراد بهوية جماعية.
فالدولة هي " مجموعة الأنا " من مستوى معرفي جماعي خاص، فهذه الأفكار عن الأنا لديها ميزة جينية ذاتية، ولذا فإن الهوية الذاتية أو الهوية التشاركية هي خارجية المنشأ عن الغيرية. " ( [6] )
وحتى لا نخوض مطولا في مباحث الهوية الدولتية وأهميتها في مقاربة العلاقات الدولية، نرجع إلى صلب الموضوع.
فنقاشنا بخصوص الهوية واستدلالنا على توجه بنائي قوي وقف في وجه المدرسة الواقعية والواقعية الجديدة، ليعطي للهوية حقها في تحديد معالم الصراع الدولي، ليس من باب الترف المعرفي بقدر ما هو إراءة إلى أن المسألة هي عامة وشاملة، ولا بد من أن يكون تعاطينا في هذا الموضوع مع حساسية الهوية الإسلامية، وإن كنا سنركز على البعد التكاملي والأمري في نفس الآن، فنقاشنا ليس فقط بغرض التحصن في مواجهة المد الفكري الاستراتيجي الغربي، بقدر ما نرمي إلى الندية في التعاطي مع الموضوع، ولم لا خلق تحالفات منبنية على الهوية الكلية بدلا من تعقب القوى العظمى.
إلا أن أكبر إعضال يمكن أن يعيشه العالم الإسلامي هو ظهور " نخبة رأس الجسر " THE BRIDGEHEAD ELITE وهو مصطلح صاغه المفكر السياسي الألماني يوهان كالتونغ لتوصيف ظهور نخبة وطنية تفكر بطريقة تخدم مصالح دول أخرى وبالتالي تلعب دور الجسر بين الدولتين لكن في اتجاه خدمة رأس الجسر أي الدولة الأجنبية، وفي مفروض البحث هو ظهور نخبة عالية الجودة تفكر بالطريقة الأمريكية وللمصلحة الأمريكية، وربما لمصالحها الخاصة، دون أن تعي لزوما بأن ما تقوم به يدخل ضمن مصالح الدولة الأمريكية، وهذه النخبة هي إحدى مصاديق القوة الناعمة كما دافع عنها جوزيف ناي في بحثه المعنون ب " قوة الولايات المتحدة الأمريكية وإستراتيجيتها بعد العراق " حيث فسر أفهوم " القوة الناعمة " بأنه قدرة أمة معينة على التأثير في أمم أخرى وتوجيه خياراتها العامة وذلك استنادا إلى جاذبية منظومة قيمها ومؤسساتها بدلا من القوة والإكراه.([7] )
وهذه من أخطر المنظومات الفكرية الوطنية لأنها تشتغل ولو بدون وعي على حماية المصالح الأمريكية، وهذا راجع سواء إلى التكوين الجامعي حيث يتبنون نفس المنظومة القيمية والمؤسساتية الحاكمة على الدولة الأمريكية، أو إلى تشبع بالمثل الأمريكية كما لو أنها خير مطلق أو حياة فكرية أفضل.
وطبعا خطورة هذه النخبة أمر لا يخفى على مستوى أمن العالم الإسلامي، فعقلهم يشتغل في رحم النسق الأمريكي دون كبير استيعاب لهذا الوضع، لتتحول إلى براديغم فكراني بمعنى أنها تتحول إلى منطق داخلي متفق على حدوده ومحدداته في زمان ما ومكان ما، ويركن إليه في الغالب بدون وعي به لرسوخه في الأنفس كما العقيدة DOXA، لأنه طريق اليقين المبحوث عنه أو على الأقل هكذا يتصور، وهو على هذا الأساس يشكل الأرضية التحتية للبت بخصوص نقطة ما لذلك كثيرا ما يتم وصفه على أنه الأنموذج TYPE الكفيل بحل جميع المعضلات المعرفية على ضوئه.
وهو على هذا الأساس يتحول إلى عقل مركزي حاكم على مجموع الإنتاجات الفكرية وعلى جميع المستويات، متحكم في العقول الجهوية والفردية دون أن تعي هذه العقول بأنها تعمل داخل صواميل عملاقة حددت سلفا.
قد يكون هذا الطرح يتفق في عدة جوانب مع النسقية الفوكالدية، لكن هذا ليس عيبا ما دامت الأعمال الفوكالدية المنصبة مبدئيا في نفس الإتجاه قد قدمت الأدلة الكافية على صحة وجود نسق كبير متحكم في مجموع العطاءات الفكرية بل حتى في الممارسات الأكثر حميمية.
لكن المدماكية لا تتجلى فقط في تحديد المعالم الكبرى للعقول الجهوية والفردية، بل تذهب إلى حدود تطويع هذه العقول والعطاءات بشكل يجعلها غير قادرة على التفكير خارجه، ربما هذا الكلام فيه كثير من التشييء للعقل الإنساني ولا تنقصه السوداوية، لكن لو صرحنا بأن البراديغم في حد ذاته أي بما هو هو ليس عيبا لأنه موجود معرفي لا بد منه في تأثيث المشهد الفكري في عالم الشهادة قد ترتفع هذه السوداوية، وخصوصا أن المعضلة هي في المحمول لا في الموضوع أي أن العيوب المعرفية تهم مضمون البراديغم لا قالبه، والذي يظل في جميع الأحوال حياديا وحيويا في نفس الآن.
مما يؤدي إلى محورية خلق براديغم هوياتي إسلامي أصل معرفي، سنعمل على تعميقه في إطار عرض النظرية بعده، لأن الأساس مبنائي لا منهجي.
إوالية الرؤية الاستراتيجية القروسطية في الألفية الثالثة مع باراغ خانا:
يرى الخبير الاستراتيجي خانا أن العالم أجمع بدأ يعرف نفس خصوصيات العصور الوسطى، من قبل اضمحلال مؤسسة الدولة الأمة حيث أن الأزمات المالية إذا مست دولة كالولايات المتحدة الأمريكية تنعكس بالسلب على مجموعة من الدول في العالم، أو أنك عندما تنظر إلى جمهورية الصين فإنك تنظر إليها على أنها أكثر من دولة.
The nation-state has just about passed away in terms of exclusivity. Now, when people talk about countries and international relations, they have to acknowledge that what they’re talking about is, at best, a particular slice of what’s going on in the world, and is not at all representative of the entirety of what’s happening. But there are some exceptions. When you look at China, you don’t exactly say that it is disappearing as a state. When you look at the financial crisis, all of a sudden, the United States is more of a state than ever. It has decided to take over practically the entire financial-services industry. ([8])
أو أنك عندما تنظر إلى أفغانستان فإنك لا تنظر إليها كدولة، وقد دافع عن هذا التصور في سلسلة مقالات لا تعدو أن تكون تكرارا لمجموعة ملاحظات يبديها هنا وهناك، لكن المحصلة هي أن العالم لم يعد قرية صغيرة، بل عاد عالما قروسطيا، حيث ثمة صراع على السلطة وتفكيك للإمارات الضعيفة، في ظل العولمة حيث المشروع أكبر من دولة واحدة، بل أكبر من أجل أن يهتم بدولة واحدة.
The key principle is overlap. Many people think that because a company isn’t a country, it falls beneath some jurisdiction. But more and more companies fall into all jurisdictions and under none at the same time, because all they do is regulatory arbitrage. They just move around wherever is best for them. Why did Halliburton go to Dubai? Changing this would never work because globalization is more powerful than any one country. Globalization creates perpetual, universal opportunities for nonstate actors to exploit. And governments can’t control globalization. No one can.([9])
فالمنظومة الفكرية التي يدافع عنها باراغ خانا أن الشرعة الدولية وغيرها من الموازين الدولية لم تعد ذات قيمة تذكر، كما أن العصور الوسطى لم تكن منضبطة لهكذا تصور، وأن سياسة التقسيم الجغرافي لمجموعة من الدول خدمة لمصالح العولمة هي سائرة وغير متوقفة بتاتا، ففي مقالة له حديثة جعل من التقسيم شيئا من الجميل فعله Breaking Up Is Good to Do، حيث جعل من تقسيم السودان مجرد خطوة في اتجاه تقسيم العالم الأجمع، وطبعا ليس من المستغرب أن يركز على منطقة الشرق الأوسط، جاعلا منها قدرا لا يرد.
This growing cartographic stress is not just America’s challenge. All the world’s influential powers and diplomats should seize a new moral high ground by agreeing to prudently apply in such cases Woodrow Wilson’s support for self-determination of peoples. This would be a marked improvement over today’s ad hoc system of backing disreputable allies, assembling unworkable coalitions, or simply hoping for tidy dissolutions. Reasserting the principle of self-determination would allow for the sort of true statesmanship lacking on today’s global stage.([10])
طبعا ليس الغرض هو الغوص في مجمل أفكار هذا الباحث، بل فقط التنويه إلى مسألة حساسة جدا، وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر إلى نفسها كإمبراطورية وباقي العالم رعاياها، ولهذا هي لا ترى نفسها ملزمة بأية شرعية دولية، وهو ما تم التثبت منه خلال إعلان الحرب على العراق دون الرجوع إلى مجلس الأمن، بل نجد بأن الإدارة الأمريكية ذهبت أبعد من ذلك عندما أعلنت بأنها غير معنية بأمم المتحدة إذا ما رأت مصلحتها في التدخل العسكري في أي قطاع ترابي في العالم، في إطار ما أسمته بالحرب الإستباقية.
طبعا ما نريد التنويه إليه الآن هو أنه في الاستراتيجيات العالمية لم يعد ينتبه للأمم المتحدة على أساس أنها رمز الشرعية، بل فقط ينظر إليها على أساس أنها أداة تخدم غرضا مرحليا وإلا فإنه يتم تجاوزها بكل سهولة.
فالمضيق النظري هو أن العقل الاستراتيجي الأمريكي أضحى أحادي البعد لحل المشاكل التي تراها تقف في وجهه، وهي إعادة ترسيم خارطة جديدة للعالم، عن طريق التقسيم.
مما يفتح الباب مشرعا لمساءلة التصور العولمي لمسألة الأمن القومي، فما دامت الرؤية الإستراتيجية الأمريكية تنطلق من مقدمة المنظور الإمبراطوري العائد إلى العصور الوسطى، فإنه يكون من الأسلم التعامل بحذر شديد مع هكذا رؤية، بوصفها ذات حمولة إمبراطورية.
لأن العقلية الأمريكية الحالية الآن وهنا مرتهنة إلى رؤية " السامري الشهم " وقصة هذه التسمية راجعة إلى مقالة كتبها الصحافي الأمريكي هنري لوس خلال الأربعينات من القرن المنصرم مستحثا الأمريكيين على " السعي لإظهار صورة لأمريكا تقدمه كقوة عالمية ، وهي صورة حقيقية وصادقة … أمركيا كمركز دينامي لمجالات متسعة دوما من المبادرات والمشاريع. أمريكا كمركز تدريبي للعاملين المهرة من أجل صالح البشرية، أمريكا " السامري الشهم " أمريكا المؤمنة من جديد بأن الرب يبارك لك حين تعطي ولا تأخذ شيئا بالمقابل، أمريكا ك " محطة توليد " لمثل الحرية والعدالة " ( [11] ) فهذا التصور ليس وليد الخمسين سنة الأخيرة، بل شملت حتى عقلية الأباء المؤسسين للولايات المتحدة، ذلك الهجاس لامتلاك إمبراطورية من نوع آخر، فمعضلة عقلية الإمبراطورية أنها لا ترى تنوعا إلا في إطار الاستتباع.
وطبعا هكذا تصور يتداخل مع مفهوم المصلحة القومية للدولة كما نوه إلى ذلك المفكر أليكسندر ونت، الذي حددها في أربع: البقاء المادي، والاستقلالية، والرفاه الاقتصادي، والاعتداد بالنفس الجماعي، بعد أن أضاف الركن الرابع لتحديد المصلحة القومية ومتبنيا في نفس الآن ثلاثية الفقيهين جورج وكيوهان. ( [12])
فالمدرسة البنائية تتأتى أهميتها في أنها لم تكتف كتوجه فقهي بمتابعة الوقائع الخارجية للدول والمنظمات الفوق دولية لوضع نظريات كالواقعية والواقعية الجديدة، بقدر ما رأت في الحراك الدولي ثقافة اجتماعية يتناسب التعاطي معها معرفيا، ورفعا إلى بنى فكرية عميقة تسمح بوضع نظريات أصلب.
وإذا ما اكتفينا ببحث صيغة الإعتداد بالنفس كمكون للمصلحة القومية للدولة نجد الفقيه ونت يعرفها " بحاجة الجماعة للإحساس بالرضى عن نفسها، إن من جهة الإحترام أو من جهة المكانة، فالإعتداد بالنفس حاجة بشرية أساسية على مستوى الأفراد كما على مستوى الجماعات." ( [13] )
وبالتالي رأس معالم نظرية العين الثالثة هي أنها تتأسس على الاستعداد بالنفس، بوصفه مقوم بنيوي يضمن الكرامة وعزة النفس، دونما خنوع لعلمية الاستقواء. لأنه أول ما يتهاتر أمام تعملق الدور الأمريكي بوصفه إمبراطورية.
فإذا ما اهتز عنصر وركن الإعتداد بالنفس الدولتي فإنه يؤدي إلى ضياع معالم الدولة القوية، لتتحول إلى دولة ضعيفة فاقدة للمشروعية الداخلية، مما يدفع بمصادر القرار إلى التعامل بشكل عنفي وفي إطار انعدام الديموقراطية في مواجهة الاحتجاجات، وربما حتى مشاريع انقسام قد ترتفع في وجه هكذا دول.
فما يصرح به الفقيه هولستي فيما أسماه " معضلة الدولة الضعيفة " أن " الدولة الضعيفة مقحمة في حلقة مفرغة، فهي لا تملك الإمكانيات لخلق المشروعية بضمان الأمن وخدمات أخرى، وأنها في محاولة امتلاك القوة، تتبنى سلوكات افتراسية واختلاسية بين القطاعات الإجتماعية، فكل ما تحاول كسبه من القوة يؤدي إلى دوام ضعفها " ( [14] )
فإنه يظل من الخطأ القاتل اعتماد الأركان الثلاثة والتركيز عليهم، دونما الركن الرابع لأنه سيؤدي حتما إلى عدم الاستقرار، واهتزاز صورة النظام السياسي في مواجهة شعبه.
هذا المبحث على صغره أردناه مائزا معرفيا في جسم هذا البحث، ومحاولة منا لإراءة ما يراه الغير وما يحسب له ألف حساب في ثقافته الاستراتيجية.
إوالية عوارض المرآة المقابلة:
ثمة قراءة للوضع الداخلي يتأسس بالمطلق على المعارف الغربية دون انتباه للخصوصية الدولتية، ونحن في هذا المقام نريد أن نقحم أفهوما جديدا أسميناه " عوارض المرآة المقابلة " كإوالية معرفية تساعدنا على استيعاب التصورات وغربلتها عن طريق إجراء قراءة نقدية للمنتوج العقلي بشكل نسقي، وحتى نقارب المعنى بشكل يفهمه المتلقي، سوف نرجع إلى بحث أنجزه جاك لاكان أسماه " مرحلة المرآة كمشكٌل لوظيفة ال ( أنا ) " حيث أوضح بأن الإنسان تتشكل شخصيته بالأساس عند عمق مطالعته للمرآة وذلك التصور الذي يخرج به عن نفسه، بعدها تتشذر الأنا إلى خلفيات ذهنية محورية تلعب دورا في ترتيب وإعادة صياغة التصورات الذهنية للمرء منذ نعومة أظافره. ( [15] )
ونحن هنا سوف نعطي قيمة لهذه الخلاصة ليس لأنها تتوافق جزئيا مع حقيقة الشخصية، لكن لأنها تخدم غرضنا في مفروض البحث وخصوصا أن البعد المرآتي يظل كاشفا للنواقص يقول الرسول عليه الصلاة وعلى آله وسلم " المؤمن مرآة لأخيه المؤمن " بمعنى أن المرآة تلعب دورا كشفيا للنقص والعيوب، لكن المؤمن بطبيعته مرآة ناطقة، مهما يحاول المرء أن يخفي وجهه عنها إلا أنها تنطق في وجهه ما هو مخفيه.
وخلاصة المقالة اللاكانية هي أنه في اللحظة التي يقضيها الطفل أمام المرآة ويتمعن في تفاصيل وجهه، يكون ثمة تصور ينشأ عنده على ضوء ما يراه وهي مرحلة أساسية في تكوين الشخصية والتي على أساسها يمكن للطفل وخصوصا مع تقدمه في السن أن يكون قاعدة سلوكية على أساسها يتعامل مع الغير، دون أن ينكر البعد التكاملي في السلوك، بعد تجاوز مرحلة المرآة بوصفها المكون الأولي للشخصية وللأنا.
وعليه فإنه وتطبيقا لهذا المقصد في موضوعنا يجب أن يكون العقل النظري رائيا ومكونا لتصور مرآتي مرحلي، بقراءة الأفكار في الخارج والتطورات التي عرفتها في مجموع العالم والمنطقة، بعدها يجعل من الناطقية للمرآة البشرية – لأن الموجود المعرفي مدخول بالتصورات البشرية القارئة والمنفعلة مع الواقع الخارجي – مدخلا نقديا يخدم تصورا أنطولوجيا مؤسسا على واقعه، يعني أن الجغرافية الفكرية تظل هي الحقيقة المعرفية الوحيدة الموجودة في هذا العالم، وما سواها مجرد أشباح معرفية تحتاج للتشخصن. فالمرحلة المرآتية هذه تعاني من معضلة معرفية لا تنكر، وهي أن المرآة هي أداة كشف محايدة، بخلاف المبنى المرآتي الدولي، كما أن السقف الإيماني يظل مضمحلا في هكذا واقع، مما يجعل من الكاشفية قد تنقلب تدثيرا وتشويها، لأنه إن كان المؤمن مرآة لأخيه المؤمن، فإن الفاسق يكون مرآة مشوهة لغيره، ودواليك مع قاعدة المرآة الناطقة.
لهذا لا يكون المقطع الخارجي إلا تصورا نقرأ به الأفكار والبنى المعرفية دون أن نجعل منه مسلمات، بل يجب أن يكون مصداق خارجي لا بد من تجاوزه، بمعنى أن القراءة المعرفية المبنينة يجب أن تضع استراتيجيا تتجاوز هذه العقلية وهذا الواقع الخارجي لأنه بالضرورة طارئ وليس أصيل في الثقافة الدولية، لا أن تتحرك داخله بنفس هواجسه وتصوراته المشوهة عن المسيرة الحضارية، وهنا رأس الإعضال لأن العقل النظري المتلقي بدلا من أن يتحول إلى مرتكز معرفي أقوى وأصلب وأكثر حقانية، بدأ يتتلمذ على النظريات الصدامية من نظرية توازن القوى إلى نظرية لعبة النرد إلى نظرية رقعة الشطرنج وغيرها من النظريات التي لا تتحرك إلا على أساس صدامي ونفعي، ومؤسسة على قانون الغلبة لا قانون العدالة.
وعليه فإن الضرورة العقلية تحتم استقراء البنى الفكرية بموضوعية وحيادية وإستراتيجية حتى، لأن إغفال هكذا مواطن في الفكر يكون جلابا للأزمات.
إوالية الروح الاستراتيجية:
طبعا البعد الروحي يظل في قلب الفكر الإسلامي إذا ما تم نزع هذه الجنبة تتهدم الأركان المعرفية. وهو عين ما يتم السعي إليه من جانب قوى الاستكبار لأن نزع الروحية يؤدي حتما إلى تحول الدين إلى أفكار تؤخذ وترد وطقوس تحترم ولا تحترم، لذا ليس من المستغرب أن نجد أبحاثا تصب في هذه الخانة.
وعليه يظل من الحيوي جدا رفع سقف المعرفة الاستراتيجية إلى بعدها الروحي دون خفضها لتوازن القوى أو شيء من هذا القبيل، لأن التداخلات الإقليمية دون ضابطة روحية سوف تؤدي إلى حالة من التيه والغوص في الصغائر ومحاولة الرد عليها.
فيكون من المناسب في هذا المقام رفع مجموعة من المؤسسات السياسية إلى السقف الروحي، لأن هكذا مؤسسات عرفت انتكاسات عقلانية راجعة لتسقيطها إلى مبحث سياسي أو اجتماعي، والحال أنها من الثوابت الوجودية للدولة، ويجب أن تتمعير إلى درجة عالية من التعاطي.
وربما هناك ثمة جهد معرفي ـ يتوافق مع تصورنا بوصفه جزئية ـ عند الأستاذ إدريس هاني بخصوص سعيه لإعطاء دواء لتجاوز الأمة العربية لمعامل كبوتها، أسماه بالتبني الحضاري والتجديد الجذري، يحدده كالآتي:
– التبني الحضاري: هو مشروع يتعدى السؤال: كيف يكون المسلم مسلما وكفى، في كل الظروف والشروط الممكنة. فهذا خلاص فردي وأخروي. ليصل إلى السؤال : كيف نجعل ، مسلما نموذجيا متقدما ناميا سيد دورته الحضارية، في ظروف معينة وشروط محددة، فهذا خلاص جماعي دنيوي وأخروي، برسم معذرية أمة وكائن مستخلف. بخلاف المعذرية الفردية الغالبة على التصور السابق.
وهو عين ما يصطلح عليه في القاموس الديني بالتمكين في الأرض.
– التجديد الجذري: مقتضاه إعادة تفكيك الأنساق التاريخية إلى مستوى التعاليم، أن نعيد الظاهرة إلى مستواها الغير المنظوم، فهو تحرير للتعاليم من كل أشكال الفهم المتركزة على نمط معرفي، لعله لم يعد له حضور فاعد زماننا.
مما يفيد أن هذا الأساس هو بحث عن إيجاد مقاربة معيارية للتعاليم بعيدا عن تشكلاتها التاريخية والسياسية، حتى يتسنى تحقيق التفاعل المبحوث عنه مع الواقع.
وعليه فإن هذه المنهجية يمكن اعتبارها عن حق صامولة في ماكنة الروحية الاستراتيجية لسببين:
أولها، أنها مدخولة بالبعد الجماعي في التكليف وغير مرتهنة بعنصر الفردانية، محك الفكر الليبرالي، ذلك أنها توسعت في مقام العرض بعنوان الإنتهاك لأصالة الفرد لمصلحة أصالة المجتمع بمعنى أن الفردانية لا حق لها إلا بالقدر الذي يكون لها من دور إيجابي داخل المجتمع، ولا يسمح للحقوق الفردية أن تنقلب أزمة للحقوق الإجتماعية، كما عليه الحال في الجغرافيا الليبرالية، وبذلك يتحقق قلب في القراءة يؤدي بالضرورة إلى إعادة ترتيب الأولويات والرؤى الإستراتيجية الكبرى، ولنا عودة بهذا الخصوص لكن بعد أن ننتهي من بسط السبب الثاني.
وثانيها، أنها لا تقبل بالمجريات التأريخية إلا بعنوان أقنمتها للأحداث المحورية والتعامل معها على هذا الأساس، بمعنى أن المباني المعرفية التأريخية والأحداث تتحرك معياريا، حيث لا يكون للمكان أو الزمان من دور في بحث القيمة، وهو عين الإستحضار الحضاري للبعد التأريخي الديني.
ولا بأس من إعادة إجراء قراءة فلسفية للتأريخ الديني للخروج بالزبدة الكونية في هذا المقام، فمثلا في مقام بحث المبدأ السنني في التأريخ وقانون العلية حيث أوضح الشيخ محمد باقر الصدر في مقام تفصيل البحث في الأبعاد المحركة حيث جعل أن الفعل الإنساني الفرد المؤسس على بعدين وحسب علة فاعلية وعلة غائية يظل عملا فرديا، أما العمل الذي يتأسس على بعد ثالث إضافي < علة مادية > فهو العمل التاريخي السنني والذي على أساسه تتم مساءلة الأمة، يصرح السيد " في القرآن الكريم نجد تمييزا بين عمل الفرد وعمل المجتمع. والقرآن الكريم تحدث في استعراضه للكتب الغيبية الإحصائية عن كتاب للفرد وكتاب للأمة، عن كتاب يحصى على الفرد عمله، وعن كتاب يحصي على الأمة عملها. وهذا تمييز دقيق بين العمل الفردي وعمل الأمة، بين العمل الذي له ثلاثة أبعاد والعمل الذي له بعدان العمل ذو البعدين لا يدخل إلا في كتاب الفرد، وأم العمل ذو الأبعاد الثلاثة فهو يدخل في الكتابين. يدخل في كتاب الأمة، ويعرض على الأمة، وتحاسب الأمة على أساسه " ( [16] )
فالسنن التاريخية تتركز على ثلاثة حقائق دافع عنها السيد باقر الصدر وهي:
الحقيقة الأولى: هي الإطراد والسير على خط معين فهي ليست بالعشوائية ولا رهينة الصدفة ومجرد الإتفاق، يقول السيد باقر الصدر بأنها ّ علاقة ذات طابع موضوعي لا تتخلف في الحالات الإعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة، وكان التأكيد على طابع الإطراد في السنة تأكيدا على الطابع العلمي للقانون التاريخي ". ( [17] )
الحقيقة الثانية: ربانية السنة التاريخية، يوضح السيد باقر الصدر "إن السنة التاريخية ربانية مرتبطة بالله سبحانه وتعالى، سنة الله، كلمات الله على اختلاف التعبير، بمعنى أن كل قانون من قوانين التاريخ، فهو كلمة من الله سبحانه وتعالى، وهو قرار رباني، هذا التأكيد من القرآن الكريم على ربانية السنة التاريخية وعلى طابعها الغيبي، يستهدف شد الإنسان حتى حينما يريد أن يستفيد من القوانين الموضوعية للكون بالله سبحانه وتعالى، وإشعار الإنسان بأن الإستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والإستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات، ليس ذلك انعزالا عن الله سبحانه وتعالى لأن الله يمارس قدرته من خلال هذه السنن، ولأن هذه السنن والقوانين هي إرادة الله، وهي ممثلة لحكمة الله وتدبيره في الكون". ( [18] )
الحقيقة الثالثة: وهي حقيقة اختيار الإنسان وإرادته، " والتأكيد على هذه الحقيقة في مجال استعراض سنن التاريخ مهم جدا ". ( [19] )
فالظواهر التي تدخل في نطاق سنن التأريخ حسب أعلاه ثلاثة: السبب < علة فاعلة > " ذلك أن الظواهر الكونية والطبيعية كلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب، علاقة مسبب بسبب " ( [20] ) و " هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر، وهي علاقة ظاهرة بهدف " ( [21] ) وهي < العلة الغائية > و " أن يتعدى هذا العمل الفاعل نفسه ويتخذ من المجتمع الذي يكون الفاعل أحد أفراده، أرضية له، ويخلق موجا ذا درجة معينة " ( [22] ) وهو < العلة المادية >، فالسيد باقر الصدر يبني السنن التاريخية على قاعدة العلية المتحكمة في السبب والهدف وكذا الأرضية، ولا يمكن بتاتا التفكير في السننية خارج عن هذا القانون.
وعليه فإن الروحية الإستراتيجية تنبني بما هي مسؤولية أمة على ثلاثة أبعاد أساسية ومحورية علة فاعلية وعلة غائية وعلة مادية.
علة الفاعلية: يجعل الشيخ من الظواهر الكونية والطبيعية كلها تحمل علاقة ظاهرة بسبب، علاقة مسبب بسبب، بمعنى أن العلة الأولى التي يجب أن تنطلق منها الصحوة الإسلامية هو تشخيص الحركية الكونية وازدحام المصالح فيها، كآلية نظر لا كغاية بحث، وهنا بالذات ما يحدث خلط في القراءة بمعنى أن العقل الباحث يتيه في العلة الأولى وينسى البعد الغائي من الوجود الإنساني.
علة الغائية: يجعل الشيخ من هناك ظواهر على الساحة التاريخية تحمل علاقة من نمط آخر، وهي علاقة ظاهرة بهدف، وهذا مستوى آخر من النظر ليس بجزئية مستقلة بقدر ما هو نظر مرحلي في الظواهر، وهذا البعد كما سبق التنويه إليه كثيرا ما يغيب عن الأبحاث التحليلية، ويجب تدارك هذا النقص بالتركيز على غاية الظواهر بما فيها الرؤى الدولية في المنطقة وإعادة قراءتها بالمستويين معا، للوصول إلى البعد الأعمق وهو العلة المادية.
العلة المادية: يجعل الشيخ من تعدي هذا العمل الفاعل نفسه ويتخذ من المجتمع الذي يكون الفاعل أحد أفراده، أرضية له، ويخلق موجا ذا درجة معينة، وهنا حيوية البحث لأنها تتحرك ذهابا وإيابا بين العلة الفاعلية والعلة المادية، بمعنى أن الظواهر الكونية تقرأ على حقيقتها ويعاد النظر فيها لتتوافق مع المنظور الغائي لتحقق شروطه المادية.
فيكون البعد الروحي الاستراتيجي إحدى الأسس الفكرية اللازم أخذها بعين الاعتبار في ترسيمة معالم نظرية العين الثالثة.
كانت هذه بعض الإواليات المعرفية المنهجية، كمدخل بنيوي لعرض نظرية العين الثالثة بوصفها آلية منهجية أكبر في قراءة المتحولات الدولية، وأسميناها بالعين الثالثة لأنها عين الحكمة، فلا يتيسر تعقب الأحداث الدولية بالتحليل بقدر ما يجب تعقبها عن طريق توطين الذات.
والإواليات المعرفية هاته هي عين الهندسة المعرفية للعين الثالثة، وطبعا لن نستفيض في عرض النظرية لأنها لا زالت تختمر في الذهن وتحتاج إلى كثير من الوقت لرسم معالمها النهائية، هي أقرب لصندوق أدوات في القراءة من مبنى فكراني متكامل.
فأساس العين الثالثة هو الهوية الكلية، ومعامل الاعتداد بالنفس، والعودة للحظة القروسطية في تدبير الأزمات، وسوف نمتحن هذه الأدوات في القراءة التي سنقوم بها على عجالة لخطاب سماحة السيد القائد.
العنوان الثاني: قراءة في حيثية الإدارة التشاركية في الخطاب:
بدأ سماحة السيد القائد كلمته بهذه العبارات العميقة " لقد اجتمع ضيوفنا هنا من مناطقبعيدة و قريبة جغرافياً، و هم ينتمون لشعوب و أعراق متنوعة و ذات ميول عقيدية وثقافية و تاريخية و تراثية شتى، و لکن کما قال «أحمد سوکارنو» أحد مؤسسي هذه الحرکةفي مؤتمر باندونغ المعروف سنة 1955 م فإن أساس تشکيل عدم الانحياز ليس الوحدةالجغرافية و لا العرقية و لا الدينية، بل وحدة الحاجة. في ذلك اليوم کانت البلدانالأعضاء في حرکة عدم الانحياز بحاجة إلى أواصر تستطيع أن تحميها من هيمنة الشبکاتالمقتدرة و المستکبرة و الجشعة. و اليوم فإن هذه الحاجة لا تزال قائمة مع تطوّرأدوات الهيمنة و اتساعها.
و أريد أن أثير حقيقة أخرى..لقد علّمنا الإسلام أنللبشر رغم تنوّعهم العرقي و اللغوي و الثقافي فطرة واحدة تدعوهم للطهر و العدالة والإحسان و التعاطف و التعاون، و هذه الطبيعة المشترکة هي التي إن افلتت بسلام منالدوافع المُضلّلة فستهدي البشر إلى التوحيد و معرفة ذات الله تعالى. " ( نص الخطاب ) فكما سيتبدى للقارئ الكريم على أنه تم التركيز على هويتين كبيرتين لحركة عدم الإنحياز.
هوية الحركة في بعدها الإنساني بوصفها حمائية من الهيمنة كيفما كان شكلها دولتيا أو عن طريق شبكات المصالح.
الهوية الإسلامية ببعدها الإنساني التشاركي بوصفها متطابقة مع الفطرة الواحدة.
فسماحة السيد القائد قام بتمرير معطيين موضوعيين كهويات مستحكمة في حركة عدم الانحياز، الأولى طاقة تنظيمية والثانية طاقة إسلامية تشاركية تجمع العالم أجمع في بعد قيمي لا ينكر.
وهكذا إشارة هي من عناوين الهوية الكلية التي يجب التركيز عليها ليسهل التواصل والتعاون بين مجمل مكونات حركة عدم الانحياز، فهي حقا رصيد رصين في هكذا مشروع، ولن تكون ثمرته إلا علاقات دولية قائمة على العدالة والإنصاف " متى ما قام التعاون الدوليعلى مثل هذا الأساس فسوف تشيّد الدول العلاقات في ما بينها لا على رکائز الخوف والتهديد، أو الجشع و المصالح الأحادية الجانب، أو سمسرة الخونة و البائعين لأنفسهم،بل على أساس المصالح السليمة و المشترکة، و فوق ذلك المصالح الإنسانية، و يُريحوابذلك ضمائرهم اليقظة و بالَ شعوبهم من الهموم.
هذا النظام المبدئي يقف على الضدّمن نظام الهيمنة الذي اطلقته القوى الغربية المتسلّطة في القرون الأخيرة، و روّجتله و کانت السبّاقة إليه، و تفعل ذلك في الوقت الحاضر الحکومة الأمريکية المعتديةالمتعسّفة. " ( نص الخطاب )
وما تم الإشارة إليه أعلاه هو عين ما دافع عنه باراغ خانا عندما وصفه باللحظة القروسطية الجديدة، حيث المرغوبات الدولية تتجاوز حسن التعايش بين الدول، وتأتي الأخلاق الإمبراطورية لتحكم العالم.
بعد هذه الكلمة نجده يصرح في مقام آخر من الخطاب " الظروف الراهنة في العالم فرصة قد لا تتکرّر لحرکة عدم الانحياز. ما نقولههو أن غرفة عمليات العالم يجب أن لا تُدار بدکتاتورية عدة بلدان غربية. ينبغيالتمکّن من تشکيل و تأمين مشارکة ديمقراطية عالمية على صعيد الإدارة الدولية. هذههي حاجة کل البلدان التي تضرّرت و تتضرّر بشکل مباشر و غير مباشر من تطاول عدةبلدان تسلطية متعسّفة. " ( نص الخطاب ) وطبعا الظروف الراهنة التي ركز عليها سماحة السيد القائد هي أنه " لحسن الحظ فإن أفق التطورات العالمية يبشّر بنظام متعد[د الوجوه تتركفيه أقطاب القوة التقليدية مکانها لمجموعة من البلدان و الثقافات و الحضاراتالمتنوعة ذات المنابت الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية المختلفة. الأحداثالمذهلة التي شهدناها طوال العقود الثلاثة الأخيرة تشير بوضوح إلى أن انبثاق القوىالجديدة کان مصحوباً بضعف القوى القديمة. و هذا التغيّر التدريجي في القوة يمنحبلدان عدم الانحياز الفرصة لتتولى دوراً مؤثراً و مناسباً في الساحة العالمية، وتوفّر الأرضية لإدارة عادلة و مشترکة حقاً للعالم. لقد استطعنا نحن البلدان الأعضاءفي هذه الحرکة الحفاظ على تضامننا و أواصرنا في إطار المبادئ و الأهداف المشترکةلفترة طويلة من الزمن على الرغم من تنوّع الميول و التصوّرات، و هذا ليس بالمکسبالصغير أو البسيط. هذه الأواصر بوسعها أن تکون الرصيد للانتقال إلى نظام إنسانيعادل. " ( نص الخطاب ) بمعنى أن الشرط الموضوعي لإيقاف عجلة الحوكمة العالمية متحقق واقعا ولا بد من تصيد الفرصة التأريخية لتحقيق المشروع التشاركي في تدبير العالم والقضاء بسرعة على المشروع الإمبراطوري.
طبعا من خلال الخطاب يمكننا استجلاء المرتكزات الأساسية لنظرية العين الثالثة، وهي الهوية والاعتداد بالنفس لأن مجمل ما قيل لا يدخل إلا تحت عنوان الإعتداد بالنفس، وتشخيص أننا أمام لحظة قروسطية جديدة، مما يعطينا دليلا إضافيا على صحة ما ارتكزنا عليه في آلية القراءة للأحداث الدولية، والكل في إطار روحية استراتيجية عالية تقلب أزمة إوالية المرآة المقلوبة.
سوف يعاين القارئ الكريم على أن الجزء الثاني أقصر من الجزء الأول، لكن القراءة على السريع دائما ما تركز على البعد النظري وتبحث عن دلائل لها في النص موضوع التعليق.
فشكرا لسماحة السيد القائد علي خامنئي على أنه أوضح لنا بأن النهج الفكري الذي نسير فيه صحيح مائة بالمائة.
عبد العالي العبدوني
 
 
 
 
 
 
 

 

[1] – داريوش شايغان:أوهام الهوية ترجمة محمد علي مقلد، منشورات دار الساقي في إطار بحوث اجتماعية عدد 18 الطبعة الأولى سنة 1993 الصفحة 71
 
[2] ـ حسن رشيق: دينامية الهويات الجماعية بالمغرب، سلسلة الدروس الافتتاحية الدرس الثالث وعشرون، جامعة ابن زهر كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، سنة 2008، الصفحة 6.
[3] ـ إيمان أحمد رجب: الهوية أم المصلحة ـ ما الذي يتحكم في علاقات الدول الخارجية، الملحق اتجاهات نظرية في تحليل السياسة الدولية لمجلة السياسة الدولية عدد أكتوبر 2011 الرقم 182، الصفحة 16.
[4] ـ إيمان أحمد رجب: ن.م ن.ص.
[5] – Alexander Wendt : social theory of international politics, Cambridge studies international relation, Cambridge university press 1999. He said “ I shall discuss four kinds of identity: 1 personal or corporate, 2 type, 3 role, and 4 collective. This list is not axhaustive, nor do I pretend that my definitions are definitive” p 224.
[6] – Alexander Wendt: op cit « people are distinct entities in virtue of biology, but without consciousness and memory – a sense of « i » – they are not agents, maybe not even « human ». this is still more true of states, which do not even have “bodies” if their members have no joint narrative of themselves as a corporate actor, and to that extent corporate identity presupposes individuals with a collective identity, the state is a “group self” capable of group-level cognition. These ideas of self have an “auto-genetic” quality, and as such personal and corporate identities are constitutionally exogenous to otherness. » p 225.
 
[7] Joseph S. Nye : u.s power and strategy after Iraq, foreign affairs, 1 July 2003.
 
[8]Parag khanna : Neo-Medieval Times in good politics review december 2008.
 
[9]– parag khanna ; op.cit.
[10]-paragh khanna ; breaking up is good to do, foreign policy, January 13, 2011
 
[11] – نيل فيرجيسون: الصنم ـ صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية ترجمة معين محمد الإمام الصفحة 109 عن دار العبيكان سنة 1427 للهجرة.
[12] Alexander Wendt : op cit « george and Keohane identify three national interests – physical survival, autonomy, and economic well-being – which they describe informally as “life, liberty, and property”. I will add a fourth, “collective self-esteem” p 235.
[13] – Alexander Wendt : op cit « collective self-esteem refers to a group’s need to feel good about itself, for respect or status. Self-esteem is a basic human need of individuals, and one of the things that individuals seek in group membership.”
[14] – Jean-jacques Roche :Théories des relations internationales, clefs politiques, 5 éditions Montchrestien.2004, p 110.
[15]– jacques Lacan : le stade du miroir comme formateur de la fonction du JE, in Ecrits tome 1 PP 89 – 100. Éditions du seuil 1966.
[16] الشيخ محمد باقر لصدر: المدرسة القرآنية عن دار الكتاب الإسلامي الطبعة الأولى سنة 2004 ن.م الصفحة 71.
[17] الشيخ الصدر: ن.م الصفحة 55.
[18] الشيخ الصدر: ن.م الصفحة 57.
[19] الشيخ الصدر: ن.م الصفحة 61.
[20] الشيخ الصدر: ن.م الصفحة 68.
 
[21] الشيخ الصدر: ن.م ن.ص.
[22] الشيخ الصدر: ن.م الصفحة 70.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً