أحدث المقالات

دراسةٌ تحليلية تقويمية تكميلية لرؤية المحقِّق الخوئي

د. الشيخ خالد الغفوري الحسني(*)

المقدّمة

في البدء ينبغي أن نعرف حالات قسمة التركة؛ فإنّ للوارث عدّة حالات؛ فهو تارةً ينفرد؛ وأخرى يتعدّد:

ففي حالة الانفراد إنْ كان الوارث يرث بغير فرضٍ [= بالقرابة] فإنّه يحوز جميع التركة، كالابن؛ وأمّا إنْ كان الوارث يرث بالفرض؛ فإنْ كان من ذوي الأنساب فيأخذ الباقي بالردّ، طبقاً للأدلّة، كالبنت الواحدة؛ وأمّا إنْ كان من ذوي الأسباب ـ كالزوج أو الزوجة ـ فإمّا أن يُقال بالردّ عليه؛ وإمّا يعود الزائد إلى الإمام، وحينئذٍ لا تبقى أيّ زيادة.

وأمّا في حالة تعدُّد الوارث فلذلك عدّة أقسام:

أـ إمّا أن يرث كلّ واحدٍ منهم بالقرابة، دون الفرض، فالمال بينهم، ولا يفضل شيءٌ من التركة، كاجتماع ابنٍ وبنت.

ب ـ وإمّا أن يرث بعضهم بالفرض، والآخر بالقرابة، فيأخذ ذو الفرض فرضه، والباقي للوارث بالقرابة، فلا يفضل شيءٌ من التركة، كاجتماع الأب والابن.

ج ـ وإمّا أن يرث جميع الورثة بالفرض، وفيه عدّة صور، تَبَعاً لنوع النسبة بين التركة والسهام([1]):

الصورة الأولى: وهي الصورة التي يستوي فيها مالها وفروضها، وذلك فيما إذا كان الورثةُ أصحابَ فروض، وكانت فروضُهم مساويةً للتركة([2])، فيقع التساوي بين التركة والسهام. وسُمِّيت هذه المسألة بالعادلة، كالزوج والأخت.

الصورة الثانية: وهي الصورة التي تزيد فروضها على مالها، وسُمِّيت بالعائلة، كبنتين وأب وأمّ وزوج، أي تنقص التركة عن السهام، وذلك لا يتحقَّق إلاّ بمزاحمة الزوج أو الزوجة إمّا للبنت أو البنات، أو للأخت أو الأخوات من قِبَل الأبوين أو الأب. والقول بالعَوْل ناظرٌ إلى هذه الصورة([3]).

وأمّا ما هو الموقف في معالجة هذا النقص؟

المعروف لدى المذاهب السنّية هو القول بالعَوْل؛ والمعروف عن أهل البيت^ القول بعدم العَوْل، وورود النقص على البنت أو البنات.

الصورة الثالثة: وهي التي يزيد مالها على فروضها، وسُمِّيت بالقاصرة([4]) أو العاذلة([5]) أو الردّ([6])، بل قد يُطلق عليها الناقصة([7]).

مثال (1): أبوان، وبنت([8]).

مثال (3): زوجة، وبنتان فصاعداً.

وليُعْلَم أنّه في صورة زيادة التركة على الفروض فإنّ هذا المقدار الزائد عن الفروض له ثلاث حالات:

الحالة الأولى: إذا كان ثمّة مَنْ يتّصل بالميّت بأنثى، وهي طبقة أولي الأرحام بحَسَب ما هو المصطلح في الفقه السنّي، كما لو كان الوارث أختين مع خالٍ. وهذه الحالة تُبحث مُفصَّلاً في بحث (إرث أولي الأرحام) المختلف فيه بين الفقهاء.

الحالة الثانية: إذا لم يكن ثمّة وارثٌ غير أهل الفروض. وهذا الزائد هل يُردّ عليهم أو لا؟ وهذه الحالة تُبحث في بحث (الردّ). وهو من المسائل الخلافية أيضاً أصلاً وفروعاً.

الحالة الثالثة: إذا كان ثمّة عاصبٌ ـ أو عَصَبة ـ بحَسَب اصطلاح الفقه السنّي. وهذا هو المراد بحثه هنا بالدرجة الأولى. وتجدر الإشارة الى أنّهم ذكروا للعَصَبة بعض التعاريف، منها: إنّها الوارث بغير تقدير([9])؛ أو كلّ ذكر ليس بينه وبين الميّت أنثى، وهم الأب والابن ومَنْ يُدْلي بهما([10])؛ أو كلّ ذكر لا يُدْلي إلى الميت بأنثى([11])؛ أو إنّهم القرابة الذكور الذين يُدْلون بالذكور([12]). كما أنّ البحث هنا ينصبّ على نوعٍ واحد من أنواع العَصَبة، وهو العَصَبة بنفسه.

مفاصل البحث

الموقف تجاه مشكلة زيادة التركة عن السهام

وأمّا ما هو الموقف تجاه زيادة التركة عن سهام الورثة؟

لقد اختلف موقف الفقه الإمامي عن موقف الفقه السنّي تجاه هذه الزيادة:

المعروف عند المذاهب السنّية القول بالتعصيب. فالعَصَبة يرثون هذه الزيادة.

والمعروف عن أهل البيت^ عدم القول بالتعصيب، بل يُرَدّ الفاضل على الورثة الذين يرثون بالفرض، كلاًّ أو بعضاً.

إذن، حُلَّت هذه المشكلة بشكلين، وهما: التعصيب؛ والردّ.

والشكل الأوّل في تقسيم الزائد من التركة هو ما اختاره أهل السنّة من إعطاء الباقي للطبقات أو الدرجات المتأخِّرة إذا كانوا من العَصَبة. ومن هنا جاء اسم التعصيب، أي دفع المال للعَصَبة.

والشكل الثاني في تقسيم الزائد من التركة هو ما اختاره فقهاء الإمامية من ردّ الفاضل من التركة على ذوي الفروض النسبيين من تلك الطبقة، دون سائر الطبقات أو الدرجات التالية؛ لأنّهم أقرب إلى الميت. نعم، لا يُرَدّ على الزوجين مع اجتماعهما مع الأنساب، وأمّا مع انفرادهما عن الأنساب ـ كما لو انحصر الوارث بالزوج فقط أو بالزوجة فقط ــ ففي ذلك اختلافٌ وتفصيل، كما هو مُبيَّن في بحث الردّ.

أدلّة الإمامية

لقد استدلّ الإمامية على ردّ الزيادة على الوارث ذي الفرض في هذه الحالة وعدم إعطائها للعاصب بعدّة وجوهٍ. وغاية ما يمكن استفادته من كلمات الفقهاء واستدلالاتهم سبعة أو ثمانية وجوه. ولكنّ الوجه الذي أفاده المحقِّق الخوئي& هو: إنّ أدلّة الإرث الدالّة على تعيين الفروض هي بذاتها يُستفاد منها توزيع كلّ التركة على ذوي الفروض، بحيث لا يبقى باقٍ كي نحار في كيفية التعامل معه ولمَنْ يُعطى، بل لا زائد ثمّة. وهذا الوجه في إثبات الردّ وإبطال التعصيب هو الذي ابتكره المحقِّق الخوئي&.

وهي وجهة نظر جديدة وقيِّمة، وتمثِّل قراءةً خاصّة وتفسيراً تجديدياً للنصّ القرآني؛ فإنّنا لو ألقينا نظرةً على الوجوه التي يُستَدَلّ بها عادةً، أو يُمكن انتزاعها من كلمات الفقهاء، فإنّها تخلو من ذكر هذا الوجه أو الإشارة إليه.

ونحن في هذه المقالة نتصدّى لتسليط الضوء على هذه الرؤية، وبيانها، وعرض أدلّتها أوّلاً، ثمّ تحليلها وتقويمها وتكميلها.

تبيين رؤية المحقِّق الخوئي&

لقد استدلّ المحقّق الخوئي& على إبطال التعصيب السنّي، وإثبات الردّ الإمامي، بهذه الآيات، وهي: قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمْ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ (النساء: 11)، وقوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمْ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ (النساء: 12)، وقوله تعالى: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ (النساء: 176)، حيث ادّعى أنّ ظاهر الآيات يُستفاد منه كون تقسيم الحصص في الإرث تقسيماً بالنسبة، لا على الإطلاق.

وهذا البيان هو أحد الجوابين اللذين قدَّمهما المحقِّق الخوئي& لما قد يتوجّه من الإشكال على تعيين سهام الإرث في الشريعة الإسلامية، من أنّ بعض السهام لا مصداق لها، كالبنت التي عُيِّن سهمها، وهو النصف، بَيْدَ أنّه لا توجد صورةٌ واحدة ترث فيها البنت الواحدة النصف([13]).

ثمّ قال&: «ولهذا التقسيم بابٌ في علم الحساب، ومنه: ما نُسب الى أمير المؤمنين× حينما أوصى رجلٌ له سبعة عشر بعيراً بأن يُعطى أحد أولاده نصفاً والآخر ثُلْثاً والثالث تُسْعاً، فأضاف× إليها بعيراً، فصارت ثمانية عشر، فقسَّمها بينهم: لصاحب النصف تسعة، ولصاحب الثلث ستّة، ولصاحب التسع اثنان، فبقي واحد فأخذه×. وهذا التقسيم هو التقسيم الصحيح بحَسَب موازين القسمة بالنسبة»([14]).

الفرق بين التقسيم المطلق والتقسيم بالنسبة

لقد ذُكر تقريبان لكلام المحقِّق الخوئي في بيان الفرق بين التقسيم المطلق والتقسيم بالنسبة:

التقريب الأوّل لرؤية المحقِّق الخوئي&

وهو ما يظهر من تقريرات بحثه المطبوع. وقد أوضح& الفرق بين التقسيم المطلق والتقسيم بالنسبة بأنّ للمال الواحد إذا جُعل لأشخاصٍ على حَسَب الحصص المشاعة بينهم، فكان المال زائداً على حصصهم؛ فإمّا أن لا يكون من الأوّل لهم، بل لهم الحصص فقط؛ وإمّا أن يكون المال من الأوّل لهم، ثمّ تبيّن كيفية التقسيم على الحصص المذكورة. إذن هنا حالتان.

ومثالُ ذلك في باب الوصية؛ فإنّه تارةً يوصي الميّت بأنّ لولده الأكبر نصف الأغنام، ولولده الأوسط ربعها، ولولده الأصغر ثمنها، فيبقى حينئذٍ ثمن الأغنام خارجاً عن مورد الوصية، فينتقل إلى الورثة.

وأخرى يُوصي أن تكون جميع الأغنام لهم، ثمّ يبيِّن كيفية القسمة، كما لو قال: ما أتركه من الأغنام كلّها لوُلْدي الثلاثة، نصفها للأكبر، وربعها للأوسط، وثمنها للأصغر، فإذا قسِّم المال بينهم يزيد ثُمْناً، وهذا الثمن أيضاً داخلٌ في الوصية، فنصفه للأكبر، وربعه للأوسط، وثمنه للأصغر، ويبقى ثمن الثمن أيضاً، فيقسَّم هكذا، وهكذا إلى أن تستوفى التركة.

ومورد التقسيم بالنسبة إنّما هو الثاني، لا الأول. والمستفاد من آيات الإرث أنّ الوارث هم أولو الأرحام والأقربون. فما تأخذه البنت إذا اجتمعت مع الأبوين ـ أو مع أحدهما ـ النصفُ بالنسبة إلى التركة.

فلو ترك الميّت (30) ديناراً كان لها (15)، ولكلّ واحدٍ من أبويها (5)، والباقي (5) أيضاً من التركة، فتأخذ البنت نصفه والأبوان سُدْسيه، ويبقى سُدْس السدس، وهكذا إلى أن تستوفى التركة.

وكذا لو انفردت البنت، فلها النصف (15)، ونصف النصف الباقي، وهو (7.5)، ونصف النصف الباقي، وهو (3.75)، إلى أن تستوفى الفريضة. فلا تتصوَّر هنا زيادةٌ أبداً؛ لأنّ التقسيم كما هو ظاهر الآيات المباركة تقسيمٌ بالنسبة، لا على الإطلاق([15]).

وبهذا البيان الفنّي والصناعي استطاع المحقِّق الخوئي& أن ينتصر لموقف الفقه الإمامي، ويؤكِّد صحّته، قال: «وبهذا يتّضح صحّة ما ذهب إليه فقهاؤنا الأعلام، تَبَعاً لما ورد عن أئمّتنا المعصومين، من بطلان التعصيب…»([16])؛ فإنّه لا يتصوَّر على هذا في الخارج موردٌ تكون فيه الزيادة على التركة؛ كي يُبحث عنه. فما ورد من أنّ العَصَبة في فيه التراب([17]) هو الموافق لظاهر الآيات المباركة([18]). وقد جعل& هذا الوجه أوّل الوجوه في إبطال التعصيب([19]).

تعليقٌ وتعميق وتكميل

أقول: لدينا بعض التعليقات على ما أفاده&:

أوّلاً: إنّ المثال الذي أورده&، وهو المحكيّ عن الإمام أمير المؤمنين× في قسمة الإبل الموصى بها، لا ينطبق على المقام من كون القسمة بحَسَب النسبة؛ وذلك لأنّ كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة الموصى إليهم قد أخذ أكثر من الحصّة المعيَّنة له بلحاظ كلّ المال، أي لا يصدق النصف على ما أخذه الأوّل، ولا الثلث على ما أخذه الثاني، ولا التسع على ما أخذه الثالث؛ فالأوّل أخذ أكثر من النصف كثيراً، والثاني أخذ أكثر من الثلث قليلاً، والثالث أخذ أكثر من التسع، وهذا يتّضح جليّاً لو بدّلنا الإبل بالقيمة، أي نبدلها إلى دنانير؛ تخلُّصاً من الكسور.

وبيان ذلك: إنّنا نفترض كون قيمة كلّ بعير (54) ديناراً، فيكون مجموع التركة = قيمة البعير الواحد (54) ديناراً × (17) بعيراً = 918 ديناراً.

أــ فلو كانت القسمة بالإطلاق لوجب تعيين الحصص كما يلي:

للأوّل (النصف) = 459 ديناراً، وللثاني (الثلث) = 306 دنانير، وللثالث (التسع) = 102 ديناراً.

والباقي (17)، لا يُعطى لأحدٍ من الموصى لهم.

ب ـ ولو كانت القسمة بالنسبة لوجب تعيين الحصص كما يلي:

للأوّل = 459 ديناراً، ونصف الباقي (8.5)، وهكذا، وهو لا يتجاوز (469) ديناراً.

وللثاني = 306 ديناراً، وثلث الباقي (5.666)، وهكذا، وهو لا يتجاوز (313) ديناراً.

وللثالث = 102 ديناراً، وتسع الباقي (1.888)، وهكذا، وهو لا يتجاوز (105) دنانير.

ج ـ ولكنْ بحَسَب ما ذُكر في المثال المنقول كان ما أخذوه كما يلي:

للأوّل (9) = 9 × 54 = 486 ديناراً، وهو أكثر من النصف النسبي بما يزيد عن (17) ديناراً.

وللثاني (6) = 6 × 54 = 324 ديناراً، وهو أكثر من الثلث النسبي بما يزيد عن (11) ديناراً.

وللثالث (2) = 2 × 54 = 108 دنانير، وهو أكثر من التسع النسبي بما يزيد عن (3) دنانير.

وأمّا بلحاظ الحصص المطلقة (وهي: النصف والثلث والتسع) فهي تفوق على الحصص المطلقة أيضاً. وهذه الزيادات استوفوها من الفائض من مجموع المبلغ، وهو (17).

وهذا ما يكشف عن وجود نكتةٍ في القسمة المذكورة في النصّ المأثور عن أمير المؤمنين×، وهي عبارةٌ عن وجود قرينةٍ خاصّة في المورد.

ثانياً: لا يخفى بأنّ هذا الوجه ـ الذي أفاده المحقِّق الخوئي& للاستدلال على ردّ الفاضل لأصحاب الفروض دون العَصَبة ـ لو تمّ فإنّما يتمّ في صورة اجتماع ذوي الفروض، وأمّا في صورة انفراد ذي الفرض بالإرث فلا يمكن الإفادة من هذا الوجه. فلو كان الوارث بنتاً فلها النصف بالفَرْض، وأمّا ردّ الباقي عليها فهو بحاجةٍ إلى دليلٍ آخر، كالتمسُّك بآية أولي الأرحام. وعليه فإنّ الآيات المعيّنة للسهام لوحدها لا تدلّ على ردّ الزائد على الورثة.

ثالثاً: قد اتَّضح ممّا ذكرناه في النقطة الأولى أنّ للقسمة أكثر من معنىً؛ فتارةً يُراد القسمة العُرْفية؛ وأخرى يُراد القسمة على الإطلاق؛ وثالثة يُراد القسمة بالنسبة.

ونحن إذا دقَّقنا النظر يتّضح عدم كون هذه الأقسام في عَرْضٍ واحد؛ لعدم كونها أقساماً لمقسم واحد. لذا فالأدقّ القول: تنقسم القسمة إلى قسمين: قسمة على الإطلاق؛ وقسمة بالنسبة.

وكلٌّ منهما تارةً يُلحَظ بالمنظار العُرْفي المسامحي؛ وأخرى يُلحَظ بالمنظار الرياضي الدقّي. وإنْ شئتَ قلتَ: إنّها تنقسم بلحاظٍ آخر إلى: قسمة عُرْفية مسامحية؛ وقسمة رياضية دقّية.

فالقسمة الملحوظة باللحاظ العُرْفي المسامحي من قبيل: قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ﴾ (المزّمل: 20)، وهي هنا قسمة عُرْفية مسامحية؛ فإنّ المرادَ من قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه قيامُ هذه الأزمنة على وجه التقريب، لا الدقّة والتحقيق، كما هو صريح الآية.

وأمّا القسمة الملحوظة باللحاظ الرياضي الدقيق فهي من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (الأنفال: 41)؛ فإنّ المراد استقطاع (الخمس) من المال كلّه، وحساب المال بصورةٍ دقيقة، من دون ترك شيءٍ منه، ولو كان يسيراً؛ إذ مع ترك شيء لا يصدق عليه أنّه أخرج الخمس من جميع ماله. وكذا في حساب الأنصبة في الخمس والزكاة.

وأمّا القسمة بالنسبة ـ لا على الإطلاق ـ فهي من قبيل: قسمة المال المشاع بين الشركاء، وقسمة الربح في المضاربة؛ فإنّ الملحوظ هنا المال كلّه وتقسيمه على أربابه بحَسَب حصصهم.

وأمّا القسمة على الإطلاق فهي من قبيل: أغلب موارد الوصية السائدة، فحينما يُوصي الموصي بأنّ لزيد الثلث، ولبكر الربع، ولعمرو الخمس، فيُلحَظ إعطاؤهم النسب المذكورة من المال فقط، من دون أيّ زيادةٍ، وأمّا الفاضل فيُدْفَع للورثة.

وهنا يبرز سؤال: كيف يمكن معرفة النحو المراد من القسمة في الأدلّة في ما نحن فيه ـ أي في باب الإرث ـ ما دامت كلّ هذه الأنحاء واللحاظات ممكنةً وواقعة؟

الجواب: إنّ الظاهر من بيانات المحقِّق الخوئي& في المقام أنّ المقصود هنا من تعيين السهام هو النوع الثاني من التقسيم، وهو التقسيم بالنسبة. قال&: «…إنّ ظاهرها ـ أي الآيات ـ كون التقسيم تقسيماً بالنسبة، لا على الإطلاق»([20]).

المناقشة

إنّ هذه مجرّد دعوى غير بيّنة، ولا مبيّنة، فتفتقر إلى الدليل.

فالصحيح هو أنّنا لو خُلِّينا نحن والآيات التي عيّنت الفرائض لاستفدنا منها التقسيم بنحو الإطلاق. وهذا مقتضى الظهور الأوّلي، كما هو واضحٌ. وهذا المعنى هو الذي يتبادر إلى الذهن، كما فهمه الجُلّ أو الكلّ من فقهاء ومفسِّرين، على اختلاف مذاهبهم.

وليس هذا من باب التمسُّك بمفهوم العدد([21])؛ لعدم حجّيته، بل لكون المقام مقام القسمة، فيُشكّل هذا قرينةً حالية على إرادة الاقتصار على الحصص المذكورة، دون زيادة عليها.

وأيضاً المتبادر من تعيين السهام عند الإطلاق هو اللحاظ الرياضي والدقّي، لا العُرْفي المسامحي؛ فإنّه المعنى الحقيقي لهذه الكسور، كالنصف والثلث والربع وغيرها.

وأمّا إرادة النوع الثاني من القسمة، وهو التقسيم بالنسبة ـ وكذا إرادة اللحاظ العُرْفي المسامحي ـ، فهو بحاجةٍ إلى نصب قرينةٍ تدلّ عليهما.

وهنا يُدّعى أنّه في باب الإرث قد قامت القرينة اللفظية المنفصلة على إرادة التقسيم بالنسبة، وهذه القرينة تتمثَّل بالكتاب والسنّة. أمّا الكتاب فآية أولي الأرحام([22])، أو ما دلّ على توريث الأقرب([23]). وأمّا السنّة فالمتواتر من الأخبار الواردة عن أئمّتنا^([24]) تواتراً معنوياً([25]). فنرفع اليد عن ذلك الظهور الأوّلي، وينعقد ظهورٌ ثانوي؛ بسبب القرينة التي تفيد انحصار الورثة بالأقرب. ومع وجوده لا تصل النوبة إلى توريث الذي يليه من الورثة. ومقتضاه استئثار الأقرب بالتركة، لكنْ بنسبة سهمه منها من جميع المال.

ثمّ إنّه لا مجال للتشكيك في هذه القرينة، ولا في ما تقتضيه من ظهور؛ لأنّه على أساس التسليم بهذه القرينة ثبت القول بالردّ، وعلى أساس التسليم بما تقتضيه من ظهورٍ ثبت القول بكون الردّ يكون على أساس السهام بالنسبة. أجل، لم تقُمْ القرينة هنا على إرادة اللحاظ العُرْفي المسامحي.

رابعاً: إنّ التفاوت بين اللحاظ الرياضي الدقيق وبين اللحاظ العُرْفي المسامحي واضحٌ دائماً؛ حيث يُغَضّ عن الزيادة فيه أو النقيصة منه إذا كانتا قليلتين.

وأمّا التفاوت بين القسمة على الإطلاق والقسمة بالنسبة فهو إنّما يتَّضح فيما لو تعدَّدت الكسور والنسب المئوية، وإلاّ لو اتَّحدت فلا تفاوت بينهما حينئذٍ. فصاحب النصف إذا انفرد فله نصف المال، والقسمة هنا لها صورةٌ واحدة لا أكثر، ولكنْ إذا تعدَّد أصحاب الحصص، كما لو كان لأحدهم نصفٌ وللآخر ثلث، أو كان لأحدهم ثلث وللآخر ربع وللثالث خمس، فهنا تختلف النتيجة بحَسَب اختلاف القسمة المقصودة. فلو كان المقصود القسمة على الإطلاق فيبقى فاضلٌ عن المال المقسوم، وأمّا لو كان المقصود القسمة بالنسبة فلا يبقى باقٍ، بل تتكرَّر القسمة بحَسَب الحصص عدّة مرّات حتّى يفنى المال حقيقةً أو تقريباً، أي يبقى منه شيءٌ حقير لا اعتداد به لدى العقلاء.

خامساً: وأمّا فى المثال المأثور عن أمير المؤمنين× فإنّ نوع القسمة بحَسَب القاعدة هي القسمة على الإطلاق، لا القسمة بالنسبة. وأيضاً لا بُدَّ أن تكون ملحوظةً باللحاظ الرياضي الدقّي.

ومن هنا ينبغي أن تُحْمَل فتوى أمير المؤمنين× على وجود قرينةٍ لفظية أو حالية تفيد إرادة الموصي في تلك الوصية بالذات القسمة بالنسبة، لا القسمة على الإطلاق، هذا أوّلاً. وثانياً: ينبغي افتراض وجود قرينة دالّة على أنّ الموصي قصد قسمة الإبل سالمةً، لا قسمة لحمها؛ فإنّ ما قصده الموصي ليس هو تقسيم الإبل ولو بتقطيع لحمها إلى أجزاء، بل قصد التوزيع مع حفظ سلامة الإبل؛ لينتفع بها الموصى له بما هي إبلٌ، لا بما هي لحمٌ وعظم. ولو فُرِض أنّ الموصي لم يكن يقصد ذلك لتمَّت القسمة بنحوٍ آخر، ولوجب التقسيم بحَسَب القيمة تقسيماً دقيقاً، من دون تسامح بالكسور والأعشار. وبحكم هذه القرينة يصحّ القول بأنّها كانت قسمةً عُرْفية مبنية على التسامح والتقريب، ولم يُرِدْ القسمة الرياضية والعقلية الصِّرْفة، وإلاّ فإنّه من البعيد جدّاً افتراض تساوى الإبل في القيمة والسنّ وفي الخصائص كافّة.

ومن الطريف أنّ الرواية التي عثرنا عليها تشتمل على هذه القرينة، وأنّ المشكلة بين الأشخاص الثلاثة تتعلَّق بانكسار الحصص، كما سوف تطَّلع عليه.

سادساً: إنّنا لم نعثر على الرواية المأثورة عن أمير المؤمنين×، التي أشار إليها المحقِّق الخوئي من أنّها كانت واردة في تقسيم مالٍ موصى به. والذي عثرنا عليه هو روايةٌ أخرى تشتمل على نفس الأعداد والحصص، لكن لم يُذْكَر كونها في الوصية، بل ذُكر نزاعُ ثلاثة أشخاص في المال. ونصّ الرواية كما يلي: «عن شرح بديعية ابن المقرئ: إنّه جاءه× ثلاثةُ رجالٍ يختصمون في سبعة عشر بعيراً، أوّلُهم يدّعي نصفَها، وثانيهم ثلثَها، وثالثهم تُسْعَها، وكان يَرِدُ على كلٍّ منهم الكَسْرُ. فقال× لهم: «أترضَوْن أن أضع بعيراً منّي فوقها وأقسمها بينكم؟»، قالوا: نعم، فوضع واحداً فوقها من نفسه، فصارت ثمانية عشر، فأعطى الأوّل نصفَها تسعة، والثاني ثلثَها ستّة، والثالث تُسْعَها اثنين، وبقي بعيرُه له×»([26]).

أقول:

1ـ لم أعثر على المصدر الأصلي الذي نقل منه التستري هذه الرواية. ومن المستبعد تمامية سندها.

2ـ إنّ المحقِّق الخوئي& لم يستند إلى هذه الرواية في رؤيته التي أفادها، بل اعتبر الرواية شاهداً ومؤيِّداً، ولذا لا يضرّ إرسالها أو عدم حجِّيتها؛ فإنّ مستنده كان هو ظهور الآيات.

3ـ الظاهر بحَسَب هذا النقل أنّ النزاع والخصومة بين أولئك الرجال الثلاثة لم تكن في أصل الشركة، بل كانت المشكلة في انكسار الحصص بسبب القسمة.

سابعاً: قد يُقال: إنّه بناءً على اعتبار السهام بالنسبة يلزم القول بصحّة العَوْل. فكما تُقسَّم الزيادة على الورثة بنسبة سهامهم إلى أن يفنى الزائد فكذلك لو فُرِض زيادة السهام على التركة يتمّ تقسيم النقص على الورثة بنسبة سهامهم إلى أن تُجْبَر النقيصة. ومن الواضح أنّ الالتزام بالعَوْل لا ينسجم مع ما هو الثابت عند الإمامية من بطلانه.

محاولةٌ للدفاع

لكنْ يُمكن أن يُقال: إنّ هذا التوهُّم غير صحيحٍ؛ لأنّ حالة كون السهام بمقدار التركة أو دونها أمرٌ معقول، وأمّا افتراض كون السهام أكثر من التركة فهو أمرٌ غير معقول في نفسه؛ كي نحتاج إلى علاجه. كما لو كان لديَّ دينارٌ، وأردْتُ أن أهب زيداً نصفه وبكراً ثلثيه، فهنا لا يُعْقَل هذا النحو من الهبة، لا أنّه معقولٌ، والمشكلة كامنةٌ في عملية التقسيم خارجاً.

التقريب الثاني لرؤية المحقِّق الخوئي&

وهو ما يظهر من أحد تقريرات بحثه غير المطبوع([27]). والفرق بين هذا التقريب والتقريب السابق يكمن في تصوير (القسمة بالنسبة)، وأنّ المراد بها هو القسمة بلحاظ نسبة كلّ حصّة إلى الحصص الأخرى، لا نسبتها إلى جميع المال، وبعبارةٍ أخرى: القسمة بحسب نسبة الكسر إلى الكسر، أي نسبة سهم كلٍّ من الشركاء من المال إلى غيره نسبة الكسر إلى الكسر من الواحد، فنسبة الثلث إلى النصف نسبة الثلثين إلى الكلّ، فيكون لصاحب الثلث ما يساوي ثلثي ما لصاحب النصف. ففي المثال الوارد في الخبر المأثور عن أمير المؤمنين عليّ×؛ حيث اجتمع فيه سهام النصف والثلث والتسع في سبعة عشر بعيراً، يكون لصاحب الثلث ستّة، وهي ثلثا التسعة التي هي لصاحب النصف، كما أنّ نسبة التسع إلى الثلث نسبة الثلث إلى الكلّ، فلصاحب التسع ثلث ما لصاحب الثلث، وهو اثنان. [إلى هنا انتهى بيان المقرِّر الفاضل، بتصرُّف يسير في العبارة].

المناقشة

إنْ كان هذا هو المقصود من (القسمة بالنسبة) فيَرِدُ عليه ما يلي:

1ـ إنّه لو لوحظت نسبة كلٍّ من الثلث والتسع بالقياس إلى النصف فنسأل في المقام عن المقيس عليه، وهو النصف: إلى أيّ شيء يُقاس هذا النصف؟

والجواب: لا شَكَّ بأنّ النصف يُقاس بلحاظ الأصل، وهو (17)؛ لأنّ النصف هو كسر، والكسر هو عبارة عن نسبةٍ، وفي المثال المأثور لا تكون التسعة من الإبل مساوية لنصف الأصل، بل هي أكثر من النصف. وهذا التفاوت في المقدار سوف يؤثّر على نتيجة الكسرين الآخرين، أي الثلث والتسع، فلا يكون مقدارهما مطابقاً مع النسبتين الواقعيتين، إلاّ إذا أريد النسبة والقسمة التقريبية المسامحية، لا الدقيقة.

2ـ إنّ الكسر ـ أيّ كسرٍ كان ـ دائماً يُمثِّل نسبةً إلى شيءٍ ما؛ باعتبار أنّ الكسر يتشكَّل من بسط (= صورة) ومقام (= مخرج)، فالبسط يُمثِّل السهم والحصّة والجزء، والمقام يُمثِّل الكلّ، فكلّما كان كسرٌ كانت هناك نسبةٌ مفترضة، أي نسبة الجزء إلى الكلّ، والقسم إلى المَقْسَم. وهنا نسأل: ما هو المَقْسَم في هذه الكسور؟

والجواب: إنّ المَقْسَم الملحوظ هو الأصل (= الكلّ) لا غير، وهو (17)، ويكون مقْسَماً لجميع الكسور، وهي النصف والثلث والتسع، فتُنسب كلّها إلى (17).

وأمّا الفرضيات الأخرى:

كافتراض لحاظ الأصل مقسماً لبعض الكسور، والكسور الأخرى يُلْحَظ فيها الباقي بعد فرز الكسر الأوّل، فهذا في حقيقته يعود إلى تعدُّد القسمة، وهو بحاجةٍ إلى بيانٍ زائد.

أو افتراض لحاظ نسبة كلّ كسر إلى الكسر الآخر فهذا لا يحتاج إلى لحاظ، فإنّه أمر واقعي، ككون الكلّ أكبر من الجزء، فإنّ أيّ ثلثٍ نفترضه هو دائماً يُمثِّل ثلثي النصف، ولا يصحّ جعل أحد الكسور مَقْسَماً إلاّ إذا تعدَّدت عملية القسمة لأكثر من مرّةٍ؛ إذ مع تعدّد القسمة يمكن اختلاف المَقْسَم حينئذٍ. والظاهر من القسمة في الإرث أو في الوصية وغيرهما إرادة اتّحاد القسمة، لا تعدُّدها؛ فإنّ التعدّد يحتاج إلى بيانٍ زائد، وليس موجوداً.

3ـ لو فُرِض إرادة هذا التفسير للتقسيم بالنسبة فنقول: إنّه إنْ أمكن تصوير القسمة بحَسَب الكسور المذكورة في المثال المأثور عن عليٍّ×، وهي: النصف والثلث والتسع، فما هو الحال لو افترضنا كسوراً أخرى غير ذلك؟ كما لو كانت الكسور كالتالي: نصف وسبع وتسع، فبحَسَب هذا البيان سوف يكون لصاحب النصف (9) من (17)، ولصاحب السبع ما يُعادل نسبة السبع إلى النصف، ولصاحب التسع ما يعادل نسبة التسع إلى السبع، فيا تُرى ما هي نسبة السبع إلى النصف؟! وما هي نسبة التسع إلى السبع؟!

4ـ لو فُرض إرادة هذا التفسير للتقسيم بالنسبة فنقول أيضاً: لو افترضنا تبديل المَقْسَم المذكور في المثال المأثور بعددٍ آخر، مع إبقاء الكسور على حالها، كما لو كان الأصل (18)، فلصاحب النصف (9)، ولصاحب الثلث ثلثا النصف، وهو (6)، ولصاحب التسع ثلث الثلث، وهو (2)، فيبقى واحد، لمَنْ يكون حينئذٍ؟

ولو افترضنا الأصل (16)، فلصاحب النصف (8)، ولصاحب الثلث ثلثا النصف، ولصاحب التسع ثلث الثلث، فيا تُرى كيف يتمّ تحديد الكسرين الآخرين؟!

فإمّا أن يُتوسَّل بالحيلة السابقة، فنضيف (2)، فيصبح المجموع (18)، ويكون التقسيم كالتالي: (9) و(6) و(2)، وحينئذٍ يكون المجموع (17)، وهو أكثر من الأصل بواحدٍ، فمن أين لنا به؟ فهذا الطريق مسدودٌ أمامنا.

وإمّا أن نعطي (8) للأوّل، ثمّ نضيف واحداً إلى (8)، وهو النصف، فيصبح (9) ونقسِّمه، فنُعطي للثاني (6)، وللثالث (2)، وهنا لا تكون مشكلة؛ إذ لا زيادة ولا نقصان عن الأصل. بَيْدَ أنّ هذا يستلزم تعدُّد القسمة لأكثر من مرّةٍ. وهذا ما يؤكِّد ما قلناه من أنّ هذا النحو من التقسيم يستبطن تعدُّد القسمة، وهو بحاجةٍ إلى بيانٍ زائد.

المقارنة بين رؤيتَيْ العَلَمين المحقِّق النجفي& والمحقِّق الخوئي&

إنّه من المحتمل العثور على جذور هذه الرؤية في كلمات بعض السابقين، ومنهم: المحقِّق النجفي& في جواهره، حيث قال ـ شارحاً لقول المحقِّق الحلّي: (وإن كان بعيداً لم يرث، وردّ الفاضل على ذوي الفروض، عدا الزوج والزوجة، مثل: أبوين أو أحدهما وبنت وأخ أو عمّ)([28]) ـ: «بل قد يُقال: في كلّ مقامٍ تُبقي الفريضة شيئاً إنّما يرث ذو الفرض فرضَه وغيرَ الفرض بالقرابة، كما يُومئ إليه جملةٌ من النصوص. وتكون فائدة ذكر الفرض بيان مقدار إرثهم ـ كما في مثال المتن ـ، الذي يُراد منه أنّ المال يُقسم بين البنت والأبوين أخماساً: ثلاثة للبنت وخمسان للأبوين. ومن ذلك يُعلم الوجه في ذكر الفرض، لا أنّ المراد منه عدم إرثه أصلاً، الذي هو مقتضى مفهوم اللقب، المفروغ من عدم حجّيته في الأصول، ومن الخروج عنه هنا ـ بعد تسليمه في خصوص المقام، ولو للقرائن الظاهرة في إرادة القيدية منه ـ بالمتواتر من الأخبار عن أئمّتنا^، التي هي عمدة أدلّة الشيعة في إثبات ذلك، وإنْ ذكر بعضهم زيادة عليه من طريق المجادلة مع الخصم»([29]).

وصدر العبارة ناظرٌ إلى تفسير نصوص السهام، وهي الآيات الكريمة، بأنّ المراد بالسهام فيها ليس استحقاق السهم فحَسْب، حتّى لو بقي شيءٌ من التركة، بل المراد أخذ السهام، واقتسام الفاضل بحَسَب السهام أيضاً؛ أمّا أخذ السهام فبمقتضى الآيات، وأمّا اقتسام الفاضل وفقاً للسهام فبمقتضى المتواتر من الأخبار الواردة عن أئمّتنا^. ومرادُه بالتواتر: التواتر المعنوي، لا اللفظي، كما هو واضحٌ. والمتحصِّل من مجموع ما أفاده أنّ آيات السهام تدلّ على أنّ القسمة تكون لجميع المال بحَسَب السهام، ومرجعه إلى القسمة بالنسبة، لا النسبة على الإطلاق.

أقول: إذن، فرؤيتَا كلا العلَمَين متَّحدتان في النتيجة، وهي كون مفاد آيات السهام القسمة بالنسبة. بَيْدَ أنّ المحقِّق الخوئي& يرى أنّ هذا هو المعنى الظاهر منها حَسْب ما أورده المقرِّر لبحثه، في حين أنّ المحقِّق النجفي& يرى أنّه مستفادٌ من المتواتر من الروايات، كما هو صريح ذيل عبارته المتقدِّمة.

وبهذا يتّضح الفرق بين رؤيتَيْهما ورؤية مشهور الإمامية، الذين يعتبرون الردّ ثابتاً بأدلّةٍ مستقلّة، ألا وهي: الإجماع، وضرورة المذهب، وآية أولي الأرحام، والروايات([30]).

أهمّية رؤية المحقِّق الخوئي&

إنّ هذه الرؤية التي طرحها المحقِّق الخوئي& مهمّةٌ وجديرة بالبحث؛ وذلك:

1ـ لكونها رؤية جديدة، بالتقريب الذي أفاده، لم يسبق إليها أحدٌ من قبل، بحَسَب الظاهر.

2ـ لكونها من حيث الجغرافيا الفقهية تقع في باب الإرث، وهو بابٌ محدود يصعب المناورة فيه، ومجال التجديد فيه يكاد يكون مُنْعدماً أو نادراً جدّاً.

3ـ قلّة البحوث الاجتهادية في باب الإرث بشكلٍ عامّ إذا ما قيست بسائر الأبواب الفقهية، كالطهارة والصلاة، بل سائر المعاملات.

4ـ لقد اعتاد الفقهاء غالباً في المسائل الخلافية القديمة بين الإمامية وبين السنّة تكرار الأجوبة والدفاعات التي ذكرها السابقون بحذافيرها، أو مع تعديل في العبارة، أو إضافات جزئية، في حين أنّ المحقِّق الخوئي حاول طرح دليلٍ جديد، وهو الاستناد إلى الظهور القرآني. ولا يخفى مدى أهمّية الاستدلال بالكتاب في المسائل الخلافية بين الشيعة والسنّة.

5ـ إنّ هذه الرؤية التي طرحها المحقِّق الخوئي& تُعبِّر عن قراءةٍ جديدة للنصّ القرآني. ومن الواضح أنّ النصّ القرآني لم يأخذ نصيبه الكافي في البحوث الفقهية، ولم يَلْقَ الاهتمام الكبير، فهذه الرؤية محاولةٌ لتفعيل دَوْر الكتاب الكريم في مجال الاستنباط الفقهي.

6ـ ومن الطريف أنّ هذا البحث قد طرحه المحقِّق الخوئي& في المراحل الأخيرة من عمره الشريف، الذي قضاه بالبحث والتحقيق والتدريس. ومقتضى ذلك أنّها تمثِّل آخر ما توصّل إليه بعد تلك الرحلة البحثية الطويلة من عمره العلمي، وبعد إشرافه وتسلّطه على البحث الفقهي وطريقة الاستنباط فيه. فالتقرير المطبوع لأبحاثه& في الإرث مؤرَّخ بـ (1413 ـ 1417هـ).

ورغم أهمّية هذه الرؤية القرآنية ودقّتها، لكنْ مع الأسف الشديد لم يُلتَفَت إلى هذه الرؤية المهمّة، ولم تُعْطَ حقَّها من البحث والدرس، ولم أعثر على بحثٍ مدوَّن تناولها أو أشار إليها.

 

أهمّ نتائج البحث

1ـ عَرَضْنا رؤيةً قرآنية فقهية مهمّة مطروحة من قِبَل المحقِّق الخوئي&، ومفادُها أنّ آيات سهام الإرث لوحدها كافيةٌ لإثبات ردّ الفاضل عن السهام على الورثة. وقد سلّطنا الضوء عليها، وشرحناها.

2ـ لقد ذكرنا تقريبين لبيان رؤية المحقِّق الخوئي، مقرونةً بالإيضاح والتحليل.

3ـ إنّ الرؤية القرآنية التي قدَّمها المحقِّق الخوئي تدعم موقف الفقه الإمامي القائل بردّ الزائد عن سهام الإرث على الورثة أنفسهم، من دون حاجةٍ إلى روايةٍ؛ لتبيين الموقف تجاه الزائد.

4ـ إنّ الرؤية القرآنية التي قدَّمها المحقِّق الخوئي تثبت بطلان التعصيب، الذي يتبنّاه الفقه السنّي، القائل بإعطاء الزائد عن سهام الإرث للعَصَبة.

5ـ ذكرنا بعض التعليقات التوضيحية على هذه الرؤية، وبعض التعليقات التكميلية، من قبيل: بيان أنواع القسمة ولحاظاتها، من كونها قسمة رياضية دقيقة أو عُرْفية مسامحية، وكونها قسمةً على الإطلاق أو بالنسبة.

6ـ اعترضنا على الاستدلال بالرواية التي أوردها المحقِّق الخوئي عن أمير المؤمنين× كمؤيِّد للقسمة بالنسبة، وذكرنا عدم انطباقها على محلّ البحث.

7ـ حاولنا تحليل هذه الرؤية التي قدَّمها المحقِّق الخوئي، وبيان ما تستند إليه من أدلّةٍ اجتهادية، وهي حجّية الظهور القرآني.

8ـ تصدَّيْنا لتقويم هذه الرؤية ونقدها، وبيان عدم تمامية الدليل عليها، وأنّ المفهوم عُرْفاً من الآيات المحدِّدة لسهام الإرث القسمة على الإطلاق، لا القسمة بالنسبة.

9ـ قارنّا أوّلاً بين رؤية المحقِّق الخوئي وبين رؤية المحقِّق النجفي. وأيضاً قارنّا بين الرؤيتين من جهةٍ وبين رؤية مشهور الإمامية من جهةٍ أخرى. وبيَّنّا التفاوت بين هذه الرؤى.

10ـ بيَّنّا مدى أهمّية الرؤية الجديدة التي قدَّمها المحقِّق الخوئي، من حيث كونها قراءةً تجديدية للنصّ القرآني.

11ـ إنّ هذه الدراسة للرؤية الجديدة التي قدَّمها المحقِّق الخوئي تعكس مدى إمكانية تفعيل الدليل القرآني في مجال الاستنباط الفقهي.

الهوامش

(*) عضو الهيئة العلميّة في جامعة المصطفى| العالميّة، ورئيس تحرير مجلّة فقه أهل البيت^. من العراق.

([1]) ابن قدامة، المغني 7: 32.

([2]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 39: 12.

([3]) انظر: المصدر السابق: 109 ـ 110، وانظر أيضاً: 13، 110.

([4]) انظر: محمد الجواهري، موسوعة الإمام الخوئي / مجمع الرسائل 49: 14 ـ 17؛ السرخسي، المبسوط 29: 160.

([5]) انظر: علاء الدين، تكملة حاشية ردّ المحتار 1: 380. وفسّر العاذلة بأنّها المسألة المنقسمة مع الردّ.

([6]) انظر: ابن قدامة، المغني 7: 31.

([7]) وهذا ما رُبَما يُستفاد من بعضهم. انظر: البهوتي، كشّاف القناع 4: 521.

([8]) النجفي، جواهر الكلام 39: 13.

([9]) ابن قدامة، المغني 7: 6.

([10]) النووي، المجموع 16: 97.

([11]) المصدر السابق: 100.

([12]) المصدر نفسه.

([13]) موسوعة الإمام الخوئي، مجمع الرسائل 49: 8 ـ 9.

([14]) موسوعة الإمام الخوئي، مجمع الرسائل 49: 9.

([15]) موسوعة الإمام الخوئي، مجمع الرسائل 49: 9 ـ 10.

([16]) موسوعة الإمام الخوئي، مجمع الرسائل 49: 10.

([17]) انظر: الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 26: 85، باب 8 من موجبات الإرث، ح1.

([18]) موسوعة الإمام الخوئي، مجمع الرسائل 49: 15.

([19]) المصدر نفسه.

([20]) موسوعة الإمام الخوئي، مجمع الرسائل 49: 9.

([21]) مفهوم العدد هو نفي الحكم عمّا زاد عليه أو نقص عنه. محمد حسين الحائري، الفصول الغروية في الأصول الفقهية: 157.

([22]) الأنفال: 75. الأحزاب: 6.

([23]) النساء: 7، 33.

([24]) انظر: النجفي، جواهر الكلام 39: 101.

([25]) انظر: وسائل الشيعة 26: 85 ـ 89، باب 8 من موجبات الإرث؛ 91، باب 1 من ميراث الأبوين والأولاد؛ 100، باب 4؛ 103، باب 5؛ 114، باب 8؛ 128، باب 17؛ 134، باب 19؛ وغيرها.

([26]) التستري، قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×: 121.

([27]) لقد نبَّهنا على ذلك سماحة الشيخ محمد القائيني، أحد تلامذة المحقِّق الخوئي، وتفضَّل علينا بمراجعة ما كتبناه، وأخبرنا شفوياً بوجود تقريرٍ لبحثه يتضمَّن تقريباً آخر، وأضاف بعض التعليقات، وقد أدرجناها في المقالة.

([28]) المحقِّق الحلّي، شرائع الإسلام 4: 823.

([29]) النجفي، جواهر الكلام 39: 101 ـ 102.

([30]) انظر: علي الطباطبائي، رياض المسائل 12: 493؛ النراقي، مستند الشيعة 19: 143.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً