أحدث المقالات

نظرية استكراه الإسلام للشعر، الشواهد والمستندات

حينما نقوم بالبحث عن موقف النبيّ من الشعر والشعراء ونتصفّح كتب الأدب والتاريخ نرى أنه قد تعدّدت فيه أعمال الباحثين وتباينت آراؤهم؛ فمنهم من يزعم أن النبيّيستقبح الشعر وممارسته وينظر إليه بنظرة الاستكراه والازدراء، ومنهم من يرى أنّ النبيّيحب الشعر وإنشاده وينظر إليه بعين الإعجاب والتقدير، وكل فريق يحتجّ على إثبات دعواه بالأدلة النقلية والعقلية.

فأما الفريق الأوّل الذي يرى أن النبيّ’يستكره الشعر، فيحتجّ بالأدلّة التالية:

أولاً: جاءت آيات تستنكر الشعر والشعراء، ومنها قوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (*) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (*) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ} (الشعراء: 224 ـ 226)، ويفهم من ظاهر هذه الآيات أن القرآن الكريم يعارض الشعر ويذمّه، ولذلك لما نزلت هذه الآيات ذهب حسّان بن ثابت (553 ـ 674هـ) وعبد الله بن رواحة (631م) وكعب بن مالك الأنصاري (598 ـ 670م) وهم يبكون([1])، وأيضاً قال الله تعالى: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} (يس: 69)، ويفهم من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى قد نزّه نبيّهعن إنشاد الشعر.

ثانياً: وردت أحاديث صحيحة في ذمّ الشعر وممارسته مما يدلّ على أن النبيّلم يحبّ الشعر ولا إنشاده، كما روي عن سعد بن أبي وقّاصt عن النبي’أنه قال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير له من أن يمتلئ شعراً([2])، وروي عن عمر بن الخطابt كذلك([3])، وروي عن أبي سعيد الخدري عنه قال: بينما نحن نسير مع رسول الله(ص) بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد فقال النبيّ(ص): خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له…([4])، وهذه الأحاديث تدلّ على مدى استقباح النبي للشعر والشعراء.

ثالثاً: يؤكّد بعض المستشرقين مثل كارل بروكلمان([5]) وغيره من رجال الفكر والنقد القولَ بكره النبيّ للشعر وعدم ارتضائه به. ويقولون في سبيل إثبات رأيهم: إنّ النبيّ كان ينظر إلى الشعر بوصفه عادة من عادات الجاهلية ينبغي أن تتجنب، ولذلك نرى أن قويت في نفوس المسلمين الأولين كراهية الشعر. وأن الشعر لم يتأثر بالإسلام والشعراء الذين تأثروا بالإسلام قد سكتوا عن نظم الشعر وإنشاده كلبيد بن ربيعة (661م) وسويد بن عدي وغيرهما. كما أصبح الشعر ضئيلاً قليلاً في عصر النبوّة والخلفاء الراشدين.

نظرية الترحيب بالشعر في الشريعة الإسلامية

الفريق الثاني هنا يستدلّ على إثبات دعواه بالأحاديث النبويّة كذلك، فعن عروة عن أبيه قال: قال رسول الله(ص): «إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحراً»([6]) وعن ابن عائشة التيمي قال: قال رسول الله(ص): «اللهم من هجاني فالْعنْه مكان كل هجاء هجانيه لعنة»([7])، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وكل نعيم لا محالة زائل»([8])وقد وَرَدَ في الحديث أنَّ رسول الله(ص) قال لحسان: «اهجهم أو قال: هاجهم وجبريل معك»([9]).

من هنا ناقش المؤرّخون والباحثون هذا الموضوع في العصر الحاضر في مؤلفاتهم باستفاضة، فذكر كلّ من الدكتور يحيى الجبوري في شعر المخضرمون وأثر الإسلام فيه والدكتور عبدالله الحامد في الشعر الإسلامي في صدر الإسلام ومحمد عثمان علي في كتابه في أدب الإسلام، كلاماً طويلاً في هذا الصدد يفتح أبواب البحث والتحقيق، وسوف نحدّد القول في هذا المقال في مسألتين رئيسيتين:

الأولى: بيان موقف النبيّ(ص) من الشعر.

الثانية: توجيه الأدلة وتحليل المواقف التي ساعدت على إشاعة الآراء الخاطئة حول النبيّ(ص)في هذا المجال.

لمحة خاطفة عن حالة الشعر قبل الإسلام وبعده

وقبل أن نخوض في تفصيلات الموضوع، يجدر بنا أن نلقي ضوءاً على حالة الشعر والشعراء عند العرب قبل مبعث الرسول وبعده، فإنّه كانت للشعر في نفوس العرب، كما هو معروف، منزلة سامية ومكانة مرموقة؛ لأنّه ديوان مآثرهم وسجلّ مفاخرهم، فكان يلعب دوراً خطيراً في إيقاد نار الحرب التي كانت تقوم بينهم، وفي إطفائها في الوقت عينه. وبالشعر كانت تنفتح مغاليقُ الأنفُس وتلين قساوة القلوب وتُنالُ العطايا والهبات، وبإنشاده تعمّر مجالس السمر ومحافل الأدب، ومع ذلك فإنّ رسالة الشعر قبل مبعث النبيّ(ص) كانت قد انحرفت في كثير من الأحيان عن الوضع الكريم الذي يليق بالإنسانية المهذّبة والخلق الكريم الذي تُهذّب به الحياة والمجتمع، فالعرب كانوا يستخدمون الشعر في وصف النساء بأقبح الأوصاف وانتهاك الحرمات وإثارة الحميّة وتحريض الناس على القتال والتشاجر ودعوتهم إلى الرذائل والمجون، فمن هذه الناحية كان عاملاً من عوامل الهدم والفساد وباعثاً من بواعث التدمير والتخريب.

ثم جاء النبيّ’ بدعوة الإخاء والمساواة والعفة في القول والفعل والأدب الذي يليق بالمجتمع البشري وفطرته السويّة، فحرّم على الناس الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وحذّرهم من أباطيل القول وزوره، ودعَاهم إلى أن يجتنبوا الرذائل وأن يتحلّوا بالفضائل وأن يكفّوا عن سيء القول والفعل مما يؤذي نفس الإنسان. كما قد حارب في الشعراء روح العصبية وحميّة الجاهلية ونهاهم عن كل ما يثير النفس ويحرّض على الخصومات ويوقد دفين الأحقاد وكمين الضغائن([10]).

والشعراء هم أسرى الانفعالات والمشاعر المتغيّرة، تتحكّم فيهم أحاسيسهم وتقودهم إلى التعبير عنها كيفما كانت، ويرون الأمر الواحد في لحظة أبيض وفي أخرى أسود، يرضون فيقولون قولاً، ويسخطون فيقولون قولاً ثانياً، فهم لا يثبتون على حال واحد، بل يتقلّبون بتقلّب الأحوال والأزمان ويخلقون في أذهانهم عوالم من الوهم يعيشون فيها فيقولون خلاف الواقع والحقيقة. وأما النبي فقد جاء بدعوة يريد تحقيقها في عالم الواقع، فله هدف ومنهج وطريق يختلف عن هذا الوضع السائد في عالم الشعراء، وهو يريد أن يسلك طريقه وفق منهجٍ واضح محدّد وسام، يسعى من خلاله إلى تحقيق هدفه المنشود وهو مفتوح العين بصير، بها ويسمع ويشاهد، يقظ العقل والقلب، لا يرضى بالوهم ولا يعيش بالرؤى، ولا يقنع بالأحلام، حتى تصبح الدعوة واقعاً ملموساً في عالم الناس([11]).

وإذا نظرنا بإمعان، فإن معظم الشعراء الجاهليين قد سلكوا منهجاً يختلف عن النبيّ(ص)، لذا عارض النبي هؤلاء الشعراء، لكنه لم يعارض الشعر والفنّ لذاته! كما يفهم من ظاهر النصّ، بل استنكر النهج الذي وجد عليه الشعراء من الأهواء الزائغة والانفعالات الطائشة، فقد أبدى النبيّ الإعجاب بهم، ونظر إليهم بعين التقدير والرضا.

كذلك نجد في الجاهلية بعض الأشعار حافلة بالأغراض السامية والمعاني النبيلة؛ حيث يكثر فيها ضرب الأمثال والحكم والقصد إلى المواعظ مما يحثّ على مكارم الأخلاق وفضائل الإنسانية؛ فالشعراء قد تغنّوا فيها بكريم الشيم، وكل ما يمكن اتخاذه مثلاً رفيعاً لهم في حياتهم وسلوكهم من كرم وضيافة ومروءة ووفاء ونجدة وإقدام وشجاعة وصبر وتحمّل، فالنبيّ’ قد أعرب عن إعجابه بهذا النوع من الشعر.

وملخّص القول: إنّ حالة الشعر كانت في عهد النبوّة غير ما كانت عليه في عهد الجاهلية، فنرى أن الشعر قد تنزّه في وجهته وسلم مما كان يدنّسه من هتك الأعراض، وكشف الأستار وصار من وسائل الدعوة الجديدة ولساناً من ألسنة الكفاح في سبيل تدعيم قوائمها، فرسالة الشعر إذن كانت رسالة لا تعرف الفحش ولا تحبّ السوء من القول والفعل وتأنف من الخوض فيما حرّم الله، فهي رسالة مستمدّة من روح الإسلام وتعاليمه الخالدة وآدابه الكريمة ودعوته الحقّة إلى معاملة خلق الله أكرم معاملة قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}.

يتضح مما سبق أن الشعر في عصر الجاهلية وعصر النبوّة على أنواع ثلاثة:

الأول: الشعر الملتزم بالإسلام دفاعاً عن الدعوة وذوداً عن الدين، وهذا الشعر أحبّه النبي(ص) وأقرّه الإسلام وسمح به عند الحاجة المُلِحّة.

الثاني: الملتزم بالقيم الإنسانية، وهذا شعر كرّمه النبيّ(ص) وقدّره الإسلام وأمر بتعلّمه لوفور الحكمة فيه. ولذلك أرسل عمرt إلى أبي موسى الأشعري قائلاً: «مُرْ مَنْ قِبَلَكَ بتعلّم الشعر، فإنه يدلّ على معالم الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب»([12]) وهذان النوعان هما من الشعر الطيّب المسموح به.

الثالث: الذي يدعو إلى الفحش والرذائل ويخالف التصوّر الإسلامي، وهو الذي كرهه النبيّ وحرّمه الإسلام كشعر المديح الكاذب والهجاء الفاضح وشعر الفخر القبلي الجاهلي والغزل الفاضح الفاحش والشعر الوثني، والشعر الذي هاجم الدعوة الإسلامية، فهذا من الشعر الخبيث في نظر الرسول الذي نهانا عنه.

وهكذا نجد الشعراء فريقين: فريق قد ابتعد عن الحق ووقف بشعره يصدّ عن سبيل الله ويهجو الرسول وصحابته، وفريق آمن بالحق ووقف يدافع عنه وعن مبلّغه، فأما الفريق الأوّل فممقوت ومأزور عند الله ورسوله، وأمّا الفريق الثاني فمقبول ومأجور([13]).

وخلاصة القول: إن الشعر إن لم يقع فيه ما نهى الإسلام عن الوقوع فيه من هتك الأعراض وإثارة الفساد، بل يوافق الحق فهو مقبول في نظر النبيّ’ وإلاّ فهو مرفوض ومحظور.

وفي ضوء هذا الموقف، جاءت أقوال النبيّ في الشعر؛ فقد روي عنه أنه قال: «إنّما الشعر كلام مؤلّف فما وافق الحق منه فهو حسن، وما لم يوافق الحق منه فلا خير فيه»([14])، وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله(ص): «الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه قبيح الكلام»([15]). وقال أيضاً: «إنما الشعر كلام فمن الكلام خبيث وطيب»([16]).

 

التجربة النبوية في التعامل مع الشعر

1ـ تسمية النبيّ الشعر الحق بأسلحة الجهاد

لما جاء الإسلام بدعوته إلى العرب اشتدت الخصومة بين الرسول وقريش، إذ كان اللسان إلى جانب السنان في ميدان الخصومة، وبالأخص إذا حمي الوطيس وكثر شعراء قريش واندفعوا يهجون النبيّ وأتباعه هجاء موجعاً، وعلى رأسهم عمرو بن العاص وعبد الله الزبعري وأبو سفيان بن الحارث، وأمام هذا الواقع ودرء الفحش للمشركين وشراسة هجومهم لم يكن للمسلمين من حيلة أو وسيلة يلجؤون إليها إلا الردّ المماثل، فوَدُّوا لو يأذن لهم الرسول(ص) لمواجهتهم فما هو إلا أنْ قال لهم: «ما يمنع الذين نصروا رسول الله بأسلحتهم أن ينصروه بألسنتهم»([17])، حتى نهض لهم نفر من الصحابة يدافعون عن الإسلام بألسنتهم وينصرونه بأشعارهم، وكان أشدهم وقعاً وأكثرهم إيلاماً حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، روي عن كعب بن مالك أنه قال للنبيّ: إن الله تعالى قد أنزل في الشعر ما أنزل، فقال النبيّ(ص): «إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما ترمونهم به نضح النبل»([18])، وأيضاً قيل: يا رسول الله! ماذا ترى في الشعر؟ قال: «إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه»([19]).

 

2 ـ تشجيع النبيّ الشعراء بالتهاني والجوائز والأدعية

إنّ النبيّ كان يتأثر بالأشعار التي ينشدها الشعراء من أتباعه وأنصاره، فيشجعهم، فقد قال فيهم: «هؤلاء النفر أشدّ على قريش من نضح النبل»([20])، وقال لحسّان بن ثابت: «اهجهم ـ يعني قريشاً ـ فوالله لهجاؤك عليهم أشدّ من وقع السهام في غلس الظلام، واهجهم ومعك جبريل روح القدس، وألْقَ أبا بكر يعلّمك تلك الهنات»([21]). وهكذا كان النبي يحثّ حسّاناً على النيل من المشركين ويدعو له كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله(ص) يقول لحسّان بن ثابت الشاعر: «إنَّ روح القدس لا يزال يؤيدك ما كافحت عن الله عزّ وجلّ وعن رسول الله<([22])، وعن الشعبي قال النبيّ(ص): «من يحمي أعراض المسلمين؟ قال كعب: أنا يا رسول الله، وقال عبد الله بن رواحة: أنا يا رسول الله، وقال حسّان بن ثابت: أنا يا رسول الله، فقال: نعم، اهجُهُم فإنه سيعينك عليهم روح القدس»»([23]). وحين جاوب حسّان بن ثابت عن النبيّ أبا سفيان بقوله:

هَجَوْت محمَّداً فأجبْتُ عنه

 

وعند الله في ذاكَ الجزَاءُ

دعا له النبيّ حيث قال: جزاؤك عند الله الجنّة يا حسّان، فلما قال:

فإنَّ أبِي ووّالده وعِرْضِي

 

لِعِرْضِ محمَّدٍ منكم وقاءُ

قال له: «وقاك الله حرَّ النار فضى له بالجنَّة مرتين في ساع واحدة»([24])، وإن النبيّ كان يعطي الشعراء العطايا على أشعارهم، كما روي أنه قد أوعد كعب بن زهير، فأتى إلى رسول الله متنكراً، فلما صلّى النبيّ(ص)صلاة الفجر وضع كعب يده في يد رسول الله ثم قال: يا رسول الله! إن كعب بن زهر قد أتى مستأمناً تائباً، أفتؤمّنه فآتيك به؟ قال: هو آمن، فحسر كعب عن وجهه، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، أنا كعب بن زهير، فأمّنه رسول الله وأنشد كعب قصيدته المشهورة التي مطلعها:

بَانَتْ سُعَادُ فقَلْبِي اليوم متْبُولُ

 

متيّم إثرها لم يفد مكبُولُ

فتجاوز النبي ووهب له بُرْدَتَهُ ([25])، ولما أنشد النابغة الجعدي النبيَّ قصيدته التي يقول فيها:

أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى

 

ويتلو كتباً كالمجرّة نيّرا

بلغنا السماء مجدنا وجدودنا

 

وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا

أحسّ في الشطر الثاني روح الجاهلية وقال له متسائلاً: إلى أين يا أبا ليلى؟ فأجابه النابغة إلى الجنّة! فسُرَّ النبيُّ(ص)وقال: إن شاء الله، ثم تابع النابغة إنشاده:

لا خير في حلم إذا لم تكن له

 

بوادر تحمي صفوه إن تكدرا

ولا خير في جهل إذا لم يكن له

 

حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا

فأتاح النبيّ’ بحسن الشعر وجودته ودعا له بقوله: «لا فضّ الله فاك»([26])وقَدِم عمرو بن سليم الخزاعي إلى رسول الله مستنصراً وقال:

يا رب! إني ناشد محمدا

 

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

نحن ولدناهم فكانوا ولدا

 

ثمت أسلمنا، فلم ننزع يدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا

 

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

ونصبوا لي في كداء رصدا

 

وبيتونا ركعا سجدا

وهم أذل وأقل عددا

 

فانصر، هكاك الله نصرا تجردا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

 

إن سيم خسفاً وجهه تربدا

فدمعت عينا رسول الله(ص) ونظر إلى سحابة قد بعثها الله فقال: «والذي بعثني بالحق نبيَّاً إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب»، وخرج بمن معه لنصرهم([27]).

إن قُتيْلة بنت النضر بن الحارث([28]) عرضت للنبيّ وهو يطوف فاستوقفته وجذبت ردائه حتى انكشف منكبه، وأنشدته أبياتاً مطلعها:

يا راكباً إن الأثيل مظنّة

 

من صبح خامسة وأنت موفّق

إلى أن قالت:

أمحمد ها أنت نجل نجيبة

 

من قومها والفحل معرق

ما كان ضرّك منَنْت وربّما

 

من الفتى وهو المغيظ المحنق

والنضر أقرب من قتلت وسيلة

 

وأحقهم إن كان عتق يعتق

فقال النبيّ(ص): «لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته»([29]).

وإن الشاعرة الخنساء وفدت مع بني سليم على النبيّ(ص) وأسلمت على يديه وأنشدته شعرها فأعجب بشعرها واستحسنه، وكانت إذا قدمت إليه استزادها من إنشاد الشعر ولربما قال لها: «هيه يا خناس»([30]).

3 ـ إظهار النبيّ إعجابه بالشعر بالإنشاد والاستنشاد والتمثّل به والاستماع إليه

كان النبيّ’ أفصح العرب ذواقاً لكل قول جميل، مدركاً لتأثير الشعر، وكثيراً ما أعرب عن رغبته في الشعر مع بعض الوافدين عليه؛ وإن لم يكن شاعراً فقد أُثِر عنه كلمات تدلّ على تقديره وارتضائه له وإعجابه به، كما قال: «إن من الشعر لحكمة»([31]) «وأصدق كلمة قالها شاعر: قول لبيد: ألا كل ما خلا الله باطل» وقد كان عليه الصلاة والسلام يحب كثيراً أن يسمع شعر أمية بن أبي الصلت لما فيه من ذكر الله والبعث، كما روي عن عمرو الشريد عن أبيه قال: «ردفت رسول الله’ يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتاً فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت»([32]).

وفوق ذلك أنه كان يستنشد وينشد ويتمثّل به ويستمع إليه ويصدقه، كما روي عن أمير المؤمنين علي أنه قال: قال رسول الله(ص) لبعض من حضر: أنشدني كلمتك التي تقول فيها:

وحَيِّ جميع الناس تسب عقولهم

 

تحيتك الأدنى، فقد ترفع النفل

فإن أظهروا بشراً فأظهر جزاءه

 

وإن ستروا عنك القبيح فلا تسل

فإن الذي يؤذيك منهم سماعه

 

وإن الذي قد قيل خلفك لم يقل([33])

وعن عبدالله بن مسعود قال: «بلغ النبيّ(ص) أنَّ قوماً نالوا أبا بكر بألسنتهم، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! ليس أحد منكم آمن على ذات يده ونفسه من أبي بكر، كلكم قال لي: كذبت، وقال لي أبو بكر: صدقت، فلو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، فنظر إلى حسّان، فقال: هات ما قلت فيّ وفي أبي بكر، فقال حسّان: قلت يا رسول الله فأنشد:

إذا تذكرتَ شَجْواً من أخ ثقةٍ

 

فاذكر أخاكَ أبا بكرٍ بما فعلا

حتى وصل إلى:

خير البريَّة أتقاها وأرأفها

 

بعد النبيّ، وأوفاها بما حملا

فقال النبيّ: «صدقت يا حسان، دعوا لي صاحبي! قالها ثلاثاً»([34]).

وعن أنس بن مالك قال: «جلس رسول الله(ص) في مجلس، ليس فيه إلا خزرجي، ثم استنشدهم شعر قيس بن الخطيم:

أتعرف رسماً كاطراد المذاهب

 

لعمرة وحشا غير موقف راكب

فأنشد بعضهم إياها، فلما بلغ إلى قوله:

أجالدهم يوم الحديقة حاسراً

 

كأن يدي بالسيف مخراق لاعب

فالتفت إليهم رسول الله(ص) فقال: هل كان كما ذكر؟ ([35]).

وحينما أنشد حسّان بن ثابت النبيّ الشعر التالي ضحك:

لقد غدوت أمام القوم منطقا

 

بصارم مثل لون الملح قطاع

يحفز عني نجاد السيف سابقة

 

فضفاضة مثل لون النهي بالقاعي([36])

وعن ابن عائشة قال: قال رسول الله(ص): الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلم به في نواديها وتسل به الضغائن بينها، قال: ثم أنشد:

قلّدتك الشعر يا سلامة ذا الـ

 

فضال، والشيء حيثما جعلا

والشعر يستنزل الكريم، كما

 

ينزل رعد السحابة السيلا([37])

وأن النبيّ(ص) أنشد عند حفر الخندق حين قال أصحابه:

نحن الذين بايعوا محمداً

 

على الجهاد ما بقينا أبدا

قال النبيّ: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة»([38]). وعن ابن عباس قال: أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار، فجاء رسول الله(ص) فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم، قال: أرسلتم معها من تغنّي؟ قالت: لا، فقال رسول الله(ص): إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول:

أتيناكم أتيناكم فحيّانا وحيّاكم ([39])

 

(ولولا الحنطة السمراء لم تسمن عذاراكم)

وعن جندبt أن النبيّ(ص)كان في بعض المشاهد وقد رميت إصبعه فقال:

هل أنت إلا إصبع دّمَيْت

 

وفي سبيل الله ما لقيت ([40])

وثبت في الصحيح أنه(ص) تمثّل يوم حفر الخندق بأبيات عبدالله بن رواحة ولكن تبعاً لقول أصحابه رضي الله عنهم فإنهم يرتجزون وهم يحفرون فيقولون:

والله لولا الله ما اهتدينا

 

ولا تصدّقنا ولا صلّينا

فأنزِلنْ سكينة علينا

 

وثبّت الأقدام إن لاقينا

إن الأولى قد بغوا علينا

 

إذا أرادوا فتنة أبينا

ويرفع’ صوته بقوله: «أبينا أبينا»([41]).

وورد في صحيح مسلم أنه’ قال يوم حنين وهو راكب على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث أخذ بلجامها: «أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبدالمطلب»([42]).

وعن عوف بن محمد قال: «قال النبيّ(ص) ليلةً وهو في سفر: أين حسّان بن ثابت؟ فقال حسّان: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال أحد، فجعل ينشد يصغي إليه النبيّ ويستمع، فما زال يستمع إليه وهو سائق راحلته حتى كأن رأس الراحلة يمس الورك حتى فرغ من نشيده، فقال النبيّ: «لَهَذاَ أشدّ عليهم من وقْع النَّبل»([43]).

وعن ابن عباس أن رسول الله صدّق أميّة في قوله:

رجل وثور تحت رجل يمينه

 

النسر للأخرى وليث مرصد

فقال رسول الله’: «صد»([44]).

4 ـ إبداء النبي(ص) بعض نظراته الصائبة في الشعر

أبدى النبيّ بعض نظراته في الشعر، فقد ثبت أنه قام في بعض الأوقات والمناسبات ببعض التغيير فيه، كما روي أنه استمع إلى كعب بن زهير في المسجد وهو ينشد قصيدة «بانت سعاد» فلما بلغ إلى قوله:

إن الرسول لنور يستضاء به

 

مهند من سيوف الهند مسلول

فغيّر النبيّ لفظاً منه حيث قال: «من سيوف الله» بدل من سيوف الهند([45]).

وأيضاً روي أنه’ استمع بعد يوم أحد إلى كعب بن مالك في قوله: «مجالدنا عن جزمنا كل فخمة» فقال له أيصلح أن تقول: مجالدنا عن ديننا؟ فقال كعب: نعم، فقال رسول الله’ فهو أحسن، فقال كعب: مجالدنا عن ديننا كل فخمة، ورويت هكذا في سيرة ابن هشام([46]).

وقفة نقدية مع نظرية رفض الشعر

ولما كانت نظرة النبيّ’ إلى الشعر والشعراء بهذا النقاء والصفاء والتسامح والرحابة، ولمّا عرفنا كيف تاهت الآراء في هذه القضية وشاعت الأقوال المضادّة والآراء الخاطئة حول موقفه من الشعر والشعراء، يجدر بنا فيما يلي أن نوضّح تلك الآراء ونردّ على أدلّة القائلين بكره النبيّ’ للشعر والشعراء، فنقول:

أما احتجاجهم بقوله تعالى: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ…} فليس بصائب، وقد ناقش ابن رشيق في العمدة هذه الآيات، وقال: إن المقصود بالشعراء في هذا النصّ هم الشعراء الذين تناولوا رسول الله بالهجاء ومسّوه بالأذى وهم شعراء المشركين والمنافقين، وأما من سواهم من المؤمنين فغير داخلين في شيء من ذلك([47]). ألا ترى كيف استثناهم الله عزّ وجلّ ونبّه عليهم فقال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} (الصافات: 36)؟ يريد شعراء النبيّ الذين ينتصرون له ويجيبون المشركين عنه كحسّان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم.

كما روي عن قتادة أنه لما نزلت هذه الآية: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ…}جاء عبدالله بن رواحة وحسّان بن ثابت وكعب بن مالك وهم يبكون، فقالوا: يا رسول الله! لقد أنزل الله تعالى هذه الآية وهو يعلم أنّا شعراء، هلكنا، فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، فدعاهم رسول الله فتلاها عليهم([48]).

أما ابتعاد القرآن عن أسلوب الشعر ونفي الله الشاعرية عن النبيّ وعدم روايته الشعر، فكل ذلك ليس بعيب في الشعر، بل هو لموقف خاص اقتضته طبيعة الدعوة والداعية، لأن كَوْنَ النبيّ يسلك مثل هذه المسالك مما يسيء إلى الدعوة، فالحكمة من ذلك ـ كما يبدو من قوله تعالى: {وَما يَنْبَغِي لَهُ}ـ هي صيانة الوحي عن الاختلاط بالشعر، ثم إن في ذلك لَحِكْمَة أخرى، وهي ما عرف به الشعر في الجاهلية عند العرب بصلته الموهومة بالشياطين، واستهتار كثير من الجاهلين واستخدامهم الشعرفي الفحش والبذاءة والتكسّب، كل ذلك جعل من المناسب للدعوة والداعية الابتعاد عن هذا الأسلوب الذي لا يليق لما يحيط به سوء السمعة، ولذلك نجد قريشاً تحاول إلصاق تهمة الشعر بالقرآنِ والنبيّ للغرض نفسه، وهو التشويش على الدعوة {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ}، {أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} (الطور: 30)، وأيضاً في كَوْنَ النبيّ أمّياً لا يقرأ ولا يكتب حكمة أخرى حتّى لا يقال: إنه قرأ كُتُبَ الأوّلين، كما قال تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتابَ الْمُبْطِلُونَ (*) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} (العنكبوت: 48).

فكون النبيّ على هذه الحال وتلك الكيفية مما يبعد عنه التخرّصات ولا يدع مجالاً للمعاندين أن يشوّهوا حقيقة الدعوة في أذهان عامة الناس، ولذلك نفى الله تعالى الشاعرية عنه.

أما قوله: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خيراً له من أن يمتلئ شعراً» فإن هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث التي وردت في ذمِّ الشعر إنّما ورد جميعها في نوع خاص من الشعر وهو أن يكون فيه فحش وخناء، وأيضاً فإن للحديث مناسبة وتكملة، فأما المناسبة فهي كما في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: بينما نحن مع رسول الله بالعرج إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله: خذوا الشيطان ([49]). فمن سياق المناسبة يتضح أن الشاعر عارضهم يهجوا أو يقول شرّاً، ولذلك في بعض الروايات وردت كلمة «هجيت به». ولما سمعت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث قالت: أراد النبيّ تلك الأشعار التي نظمت في هجائه([50]).

أما زعمهم أن الشعر لم يتأثر بالإسلام فهذا قول ينقضه الاستقراء العلمي والتتبع للشعر والإحاطة بمصادره، ومن أراد الوقوف على تأثر الشعر بالإسلام فليرجع إلى سيرة ابن هشام التي أرّخ فيها بضعاً وعشرين سنة من حياة الإسلام الأولى، وفيها من الشعر ما يدحض ذلك الرأي. وقد سجّل العديد من الباحثين المعاصرين في مؤلفاتهم كثيراً من الأشعار المتأثرة بالإسلام وخاصّة منهم الدكتور شوقي ضيف في >تاريخ الأدب العربي< والدكتور عبدالله الحامد في >الدعوة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين<.

وأمّا ترك بعض الشعراء قول الشعر وإنشاده بعد الإسلام فهو صحيح؛ ولكن في الوقت نفسه ترى أن شاعراً فذّاً مثل لبيد بن ربيعة لم يترك الشعر بتاتاً ولكنّه قلّل منه بعد إسلامه. والذين تركوا الشعر لم يتركوه لأنه شرّ وضلال أو كرهه النبيّ، بل لأنهم وجدوا أنفسهم أمام معطيات جديدة وقيم حديثة، لم يستطيعوا تحويلها من أفكار إلى أشعار لكبر وشيخوخة، ولتمام نضجهم في الجاهلية، ولانشغالهم بتعلّم فروض الدين([51]).

أما قولهم: إنّ الشعر قد ضعف في صدر الإسلام بسبب كراهية النبيّ فهو قول يبعد عن الحقيقة، لأن كثيراً من الباحثين المعاصرين قد ناقشوا هذه القضية بالتفصيل، فأثبتوا أن الشعر لم يضعف في صدر الإسلام ولم يتخلّف بل تطوّر فيه وازدهر، كما قال الدكتور شوقي ضيف: «إن الشعر ظلّ مزدهراً في صدر الإسلام وليس بصحيح أنه توقّف أو ضعُف»([52])، والذين زعموا أن الشعر قلّ في صدر الإسلام فإنّهم قارنوه بالجاهلية مع أن صدر الإسلام لا يزيد عن نصف قرن، فكيف نقارن مدته هذه بالعصر الجاهلي الذي لا يقلّ عن قرنين، فإنه لا تناسب بين العصرين، ومن يحكم بالمنطق الحق ويحاول أن يوازن بين ما سبق صدر الإسلام وما قيل فيه، يجده كثيراً وافراً.

وأما الصحابة والمسلمون والأولون فلم يكونوا يكرهون رواية الشعر، بل على العكس من ذلك كانوا يروون الشعر وأخباره حتى الشعر الذي هجي به الإسلام والمسلمون، وهو ما يدلّ على تقديرهم الشعر، وأيضاً أنشد الصحابة والتابعون منه شعر الغزل الذي يتحدّث عن المرأة دون أن يقدح ذلك في دينهم.

روي أن رجلاً سأل ابن عباس وهو في المسجد: هل ينقض الشعر الوضوء؟ فقال:

نبأت أن فتاة كنت أخطبها

 

عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول

ثم قام فأمَّ الناسَ([53])، وأيضاً كان ابن عباس يسخر ممّن يكره الشعر وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعراً([54])، وأن سعيد بن المسيب كان يعيب من يكره الشعر، وذلك حينما ذكر عنده أن قوماً بالعراق يكرهون الشعر فقال: نسكوا نسكاً أعجمياً([55]).

إضافة إلى ذلك، لم يكن الخلفاء الراشدون يروْن بأساً من أن يقولوا الشعر هم بأنفسهم وأن يتمثّلوا به، فقد نظم كل منهم الشعر([56])، وحرّض بعضهم بعضاً على قرضه

وروايته وحفظه؛ حيث قال عمر بن الخطابt: «أرووا من الشعر أعفّه، ومن الحديث أحسنه ومحاسن الشعر تدلّ على مكارم الأخلاق وتنهى عن مساويها»([57]). وأيضاً قال لابنه: «يا بنيّ انسب نفسك تصل رحمك، واحفظ محاسن الشعر يحسن أدبك، فإن من لم يعرف نسبه لم يصل رحمه، ومن لم يحفظ محسان الشعر لم يؤدّ حقاً»([58]). وقال علي: «الشعر ميزان القول»، ورواه بعضهم: «ميزان القوم»([59]). وكذلك لم يبق أحد من الصحابة إلا وقد قال الشعر وتمثّل به([60])، فلو كان نظم الشعر وإنشاده مكروها في نظر النبيّ لَمَا نظمه وقاله كل من الخلفاء وأجلةٌ من الصحابة والتابعين والفقهاء المشهورين، ولا سعى المسلمون كذلك في كل عصر من العصور يحاولون ـ وحتى القرن العشرين ـ ممارسة الشعر بكل لسان من ألسنة الدنيا ولغاتها.

من كل ما تقدّم من أمثال ونظائر، يتضح لنا موقف النبيّ من الشعر والشعراء، فالحق أنه لم يكره الشعر ونظْمه، بل إنّه اتخذه سلاحاً ضد خصومه وأعداء رسالته، ولم يثبط عن الشعر إلاّ حين وقف معارضاً، ولم يكن الشعر رجساً ولا فسوقاً في نظره بل كان منه بياناً وسحراً كما كان منه حكمة. فلو كان الشعر حراماً أو مكروهاً لدى النبيّ لما شجّع طائفةً من الشعراء من أصحابه يثيبهم على الشعر ويأمرهم بعلمه وتعلّمه ويسمعه منهم، وما خلع على كعب بردته. فكان النبيّ يحب الشعراء ويجيزهم ويحنو عليهم ولم يكن كارهاً لهم، كيف! وقد وضع لحسّان منبراً في المسجد([61])، وكان دائماً ـ كما تؤكّد الأخبار والروايات ـ يدعو الشعراء إلى القول ويسدّد خطاهم ويشرق وجهه بإنشادهم، أما الزعم الذي يزعمه الكثيرون أن النبيّ كان لا يحب الشعر بل يكرهه فهو قول ينقضه الواقع المدوّن والتتبّع لمواقف النبي والإحاطة بأحداثه، كما سبق ذكره.

ونختم مقالنا هذا استشهاداً بقول أبي حاتم الرازي: «إن النبي(ص) ما كان يحب الشعر فحسب،بل يستنشده وينصت له ويعفو ويصفح به عن المجرمين ويقبل التوبة والمعذرة منهم، ويستمع إلى الشعر ويثيبهم على الشعر الجيّد ويجيزهم ويحنو عليهم باستماع شعرهم»([62]).

الهوامش

(*) دكتوراه دولة في اللغة العربية وآدابها، وأستاذ مساعد في جامعة بيروت الإسلامية، كلية الشريعة، من فلسطين.

([1]) محمد علي الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير 2: 663، بيروت، دار القرآن الكريم، 1981م.

([2]) ابن رشيق، العمدة في محاسن العشر وآدابه ونقده 1: 32، تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد، بيروت، دار الرشاد الحديثة، 1934م.

([3]) في رواية جاء هذا الحديث بتغيير يسير: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه من أن يمتلئ فمُه شعراً» انظر: أحمد حسن الزيّات، تاريخ الأدب العربي: 78، بيروت، دار المعرفة، 1993م.

([4]) ولي الدين الخطيب، مشكوة المصابيح: 409، باكستان، ب ت.

([5]) عبدالحميد الندوي، تاريخ الأدب العربي 2: 145، أردو، دهلي، ترقّي أردو بيورد، 1987م.

([6]) أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، جمهرة أشعار العرب: 45، تعليق: الأستاذ علي فاعور، بيروت، دار الكتاب العلمية، 1986م؛ وورد في العمدة، «إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكماً»، ابن رشيق، العمدة: 27؛ وفي رواية أخرى: «إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمة» ولي الدين الخطيب، مشكوة المصابيح: 409.

([7]) المصدر نفسه: 45.

([8]) ولي الدين الخطيب، مشكوة المصابيح: 409.

([9]) المصدر نفسه.

([10]) د. عبدالمنعم خفاجي وصاحبه، الحياة في عصري الجاهلية وصدر الإسلام: 305، القاهرة، ب ت.

([11]) د. أنوار الحق خطيبي، الشعر ومكانته في نظر الإسلام، مجلة الدراسات الإسلامية، باكستان، مجمع البحوث الإسلامية، العدد 3، المجلد 28، يوليو ـ سبتمبر، 1993م، ص82.

([12]) د. خالد يوسف، في النقد الأدبي وتاريخه عند العرب: 85، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1987م.

([13]) محمد عثمان علي، في أدب الإسلام: 86، بيروت، دار الأوزاعي، 1986م.

([14]) ابن رشيق، العمدة: 27.

([15]) ولي الدين الخطيب، مشكوة المصابيح: 411؛ وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: ذكر عند رسول الله الشعر، فقال: هو كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح، المصدر نفسه.

([16]) ابن رشيق، العمدة: 27.

([17]) أحمد حسن الزيات، تاريخ الأدب العربي: 18.

([18]) ولي الدين الخطيب، مشكوة المصابيح: 410؛ وفي رواية أخرى عن عائشة أنّ رسول الله قال: «اهجوا قريشاً فإنه أشدّ عليهم من رشق النبل»، المصدر نفسه: 409.

([19]) المصدر نفسه: 410.

([20]) ابن رشيق، العمدة: 31.

([21]) جرجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية 1: 191، بيروت، دار مكتبة الحياة، 1978م، ط2.

([22]) أبو الفرج الإصفهاني، كتاب الأغاني 4: 149، تحقيق: الأستاذ سمير جابر، بيروت، دار الكتب العلمية، 1986م.

([23]) المصدر نفسه: 152.

([24]) ابن رشيق، العمدة: 53.

([25]) المصدر نفسه: 24؛ وهذه البردة اشتراها منه معاوية بثلاثين ألف درهم، وقيل: بعشرين ألفاً، ويتوارثها الخلفاء يلبسونها في الجُمع والأعياد تبركاً، وروي أن عمر بن عبد العزيز ذكر عطية رسول الله(ص) هذه كعباً: وقد توقف في عطاء الشعراء:

وقلبك ما أعطى هنيدة جلة

 

على الشعر كعباً من سديس وبازل

رسول الله المستضاء بنوره

 

عليه السلام بالضحى والأصائل

      ابن رشيق، العمدة: 42.

([26]) ابن قتيبة، الشعر والشعراء 1: 208 ـ 209، بيروت، دار الثقافة، 1980م؛ فبنو جعدة يزعمون أنه كان إذا سقطت لنابغة سن، نبتت مكانها أخرى، وغيرهم يزعم أنه عاش ثلاثمائة عام ولم تسقط له سنّ حتى مات، القرشي، جمهرة أشعار العرب: 49.

([27]) المصدر نفسه: 50؛ وكانت خزاعة حلفاء للنبيّ فلما كانت الهدنة بينه وبين قريش أغاروا على حيّ من خزاعة يقال لهم: بنو كعب، فقتلوا فيهم وأخذوا أموالهم، فقدِم عمرو إلى النبيّ متنصراً.

([28]) وكان أبوها قد أمر النبيُّ علياًt بقتله بعد أن كثر إيذاؤه له وأسر يوم بدر فقتله.

([29]) ابن رشيق، العمدة: 57؛ وجرجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية 1: 191.

([30]) أحمد حسن الزيّات، تاريخ الأدب العربي: 109.

([31]) جرجي زيدان، تاريخ الأدب العربي: 109.

([32]) ولي الدين الخطيب، مشكاة المصابيح: 409.

([33]) أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، جمهرة أشعار العرب: 52.

([34]) المصدر نفسه: 272.

([35]) أبو الفرج الإصفهاني، كتاب الأغاني 3: 9.

([36]) عبد الرحمن البرقوقي، شرح ديوان حسّان بن ثابت: 22، كراتشي، مكتبة مير محمد، 1368هـ.

([37]) أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، جمهرة أشعار العرب: 45.

([38]) ولي الدين الخطيب، مشكاة المصابيح: 409.

([39]) المصدر نفسه: 272.

([40]) المصدر نفسه: 409.

([41]) المصدر نفسه؛ وفي رواية: «اللهم» مقام «والله لولا الله»، «ورغبوا علينا» مقام «بغوا علينا»، فانظر: صحيح البخاري 2: 589.

([42]) صحيح مسلم 2: 101، ديوبند، شركة مختار، 1986م؛ وصحيح البخاري 2: 617، دهلي، 1936.

([43]) الأغاني 4: 149 ـ 150.

([44]) المصدر نفسه: 136.

([45]) عبد اللطيف البغدادي، شرح قصيدة «بانت سعاد»: 166، الكويت، دار الفلاح، ب ت.

([46]) ابن هشام، السيرة النبوية 3: 63، بيروت، دار الجيل، 1975.

([47]) ابن رشيق، العمدة 1: 31.

([48]) محمود الآلوسي البغدادي، روح المعاني 17: 248، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

([49]) ولي الدين الخطيب، مشكاة المصابيح: 411.

([50]) علي شاكر فهمي زادة، حسن الصحابة في شرح أشعار الصحابة 1: 15، استانبول، 1324هـ.

([51]) عبد الله الحامد، موقف الإسلام من الشعر، البعث الإسلامي، العدد، رمضان ـ شوال 1401هـ، ص92.

([52]) شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربي: 44، العصر الإسلامي، مصر، دار المعارف، 1963م.

([53]) ابن رشيق، العمدة: 30.

([54]) المصدر نفسه.

([55]) المصدر نفسه: 29.

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث

 

أرقت أوامر في العشيرة حادث

ومن شعر عمر بن الخطاب وكان من أنقد أهل زمانه للشعر:

هوّن عليك فإن الأمور

 

بكفّ الإله مقاديرُها

ومن شعر عثمان بن عفان:

وما عسرة فاصبر لها إن لقبتها

 

بكائنة إلا سيتبعها يُسْرُ

ومن شعر عليّ:

لمن راية حمراء يخفق ظلّها

 

إذا قلت قدمها خضين تقدّما

انظر: ابن رشيق، العمدة: 32، 34.

([57]) أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، جمهرة أشعار العرب: 52.

([58]) المصدر نفسه.

([59]) ابن رشيق، العمدة 1: 28.

([60]) جرجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية 1: 192؛ والقرشي، جمهرة أشعار العرب: 54.

([61]) عن عائشة أن النبيّ’ بنى لحسّان بن ثابت في المسجد منبراً ينشد عليه الشعر؛ فانظر: ابن رشيق، العمدة 1: 27.

([62]) عبد الحليم الندوي، تاريخ الأدب العربي: 154، أردوا.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً