أحدث المقالات

فعاليات ونشاطات في المجالين العلمي والاجتماعي

حوارٌ مع: السيد محمود الهاشمي(*)

تمهيد ــــــ

لقد كان المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر بحقٍّ نجماً تألَّق في سماء الإسلام، سحبته يد الغدر إلى الأرض؛ ظنّاً منها أن قطع وريدها ودفنها تحت أكوام من التراب سيمنع نورها من الإشراق والتوهّج، لكن هيهات، أنّى لكفّ اليد أن يحجب نور الشمس!! لقد ظنّ صدام وأزلامه ومَنْ يدور في فلكه ممَّنْ يعيش على دماء المستضعفين أن حضور السيد الصدر بين الناس يغذّي شعورهم برفض النظام البعثي، وأن قتله هو السبيل الأوحد لإيقاف نار احتجاجات ونضال الشعب العراقي، ووأد الثورة في مهدها، حتّى لا يؤول الأمر إلى ثورة تشبه تلك التي قامت في إيران الإسلام، وأطاحت بعرش الشاه المقبور. لكن هذا النظام الحاقد عميت بصيرته، فلم يدرك ـ وأنَّى له أن يدرك؟! ـ أنّ دماء الشهيد الصدر المقدّسة، ودماء أخته الطاهرة، ستمتد إلى عروق المستضعفين ترويها، وتغذّي فيها روح الثورة على الظلم، وأن فكره الذي كتب الله له الخلود، من خلال كتبه ومؤلَّفاته، نورٌ سيسطع ليمزِّق طوق العنكبوت الذي طالما نسجته يد الظَّلَمة، ومَنْ سار في مسارهم من دعاة البَغْي والجهل، حول أعناق الناس، يريدون بذلك ليطفئوا نور الله بما خطَّته أيديهم، وما تفوَّهت به أقلامهم، لكنّ الله يأبى إلاّ أن يتمّ نوره ولو كرهوا.

بمناسبة حلول الذكرى السنوية لشهادة هذا العالم والفقيه الكبير نتشرّف بمقابلة سماحة السيد محمود الهاشمي ـ وقد كان واحداً من تلامذة وخاصّة هذا المرجع الكبير ـ؛ ليحدِّثنا عن دور الشهيد محمد باقر الصدر المؤثِّر في ساحتي العلم والجهاد.

في بداية هذا الحوار نقرأ جميعاً هذه العبارة: في ما يتعلّق بالنضال كان السيد محمد باقر الصدر يؤكّد على ركيزتين: ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية؛ وحاكمية خطّ الفقهاء (ولاية الفقيه).

_ سماحة السيد، كم سنة درستم عند الشهيد الصدر؟ وما هي المباحث التي حضرتم عليه فيها؟

^ بسم الله الرحمن الرحيم، لقد تشرّفت بالحضور في درسه في الفقه والأصول وأصول المنطق الاستقرائي حوالي اثنتي عشرة سنة.

_ هل كان درسه في أصول المنطق الاستقرائي عمومياً؟

 ^لا، لقد كان درساً خاصاً يشارك فيه الطلبة وتلامذته المبرَّزين، وذلك بسبب عمق مباحثه وتعقّدها.

_ لو تتفضّلون بالحديث عن دور الشهيد باقر الصدر في إحداث تحوُّلات في المجالين العلمي والاجتماعي في العراق خاصّة، في ما يتعلَّق بالحوزة العلمية.

^ إنّ أوّل ما يجب الإشارة إليه في الحديث عن دور الشهيد الصدر في إيجاد تحولات في الحوزة العلمية أنه أوّلاً أوجد نقلة نوعية في شكل إجراء الاستدلال ضمن المباحث الفقهية والأصولية، حيث نقل الاستدلال من الذاتي إلى أن يتّخذ شكلاً موضوعياً. ففي النوع الذاتي يعتمد الأستاذ على نظره الشخصي في ما يخصّ تفسير ظاهر الآيات والروايات، وبالأخص في المصطلحات، حيث يعمل على استخلاص نظره في جانبَيْها اللغوي والأدبي. وذلك بخلاف الاستدلال الموضوعي، حيث يكون لكلّ مدّعى مقدمات وأدلة يطرح من خلالها، مثله مثل علم الرياضيات والطبيعيات وكل العلوم الاستدلالية والمنطقية، والتي تعتمد على مقدّمات موضوعية. في الفقه عمل السيد الشهيد على تغيير الاستدلالات من اعتماد النظر الذاتي إلى اعتماد مقدّمات موضوعية، بحيث إن لكل ظهور أدلّة واستدلالاً خاصّاً؛ إذ لا يكفي ادّعاء الإطلاق في الظهورات، كأنْ يقول كلّ واحد من الأصوليين أو الفقهاء: «ظاهر الرواية كذا وكذا»، بل لا بُدَّ من الرجوع إلى تلك المقدّمات، وأن يبيِّن ما هي المباني التي يعتمد عليها في هذا المدّعى.

_ هل كان من العلماء المتقدِّمين مَنْ تبنى هذا المنحى في الاستدلال؟

^ يمكن القول: إنّه بشكلٍ عام قد وجدت بعض ملامح هذا المنهج بين المتقدّمين من فقهائنا الكبار بشكل كرٍّ وفرّ، لكنّ السيد الشهيد يعتبر بحقٍّ المؤسِّس الفعلي لهذا المنهج، وقد اعتمده فعلياً في استدلالاته، وجعله مبناه في الفقه والأصول.

_ هل وضع الشهيد الصدر أصولاً ومبادئ لهذا المنهج، بحيث يستطيع مَنْ أتى بعده إدامة هذا المسير، واعتماد نفس المباني؟

^ لقد كان هذا أسلوب تفكيره العلمي، وقد انعكس بكلّ شفافية ووضوح في كتبه الفقهية وأبحاثه المختلفة. لقد أحدث تطوّراً، بل طفرةً نوعية، في علم الفقه. وكان يمتاز بخصوصيات قلَّ أن توفّرت لفقيهٍ آخر مثله. هذه الخصوصيات نجملها في مسألتين: الأولى: سعة تفكيره، ونظرته الشمولية التي امتازت عبر مسيرته العلمية باتّساع الأفق، خصوصاً في ما يتّصل بالمباحث ذات البعد العقلاني والاجتماعي، نظير: القوانين والحقوق المدنية في باب المعاملات و… فأصبحت أكثر اتساعاً وأكثر شمولية من المبادئ الأصولية المتداولة عند الفقهاء.

الثانية: تتجلّى في تنظيمه لمباحث أصول الفقه. فالمباحث المقدّماتية في الفقه هي عبارة عن مباحث في الأدلّة العامّة التي يحتاج إليها الفقيه في أبحاثه في مختلف أبواب الفقه، كالأدلة اللفظية، والأدلة العقلية، أو ما يصطلح عليه بالأدلة العلمية، و… وقد دخلت ضمن أبحاث عديدة في علم الأصول، وهذا ما جعلها تحظى بنفس الأهمّية في الفقه، فكانت أدلة مختلفة يعتمد عليها في استنباط الأحكام الشرعية.

وقد تأثّرت الأصول العملية الشرعية بالعلوم والتخصّصات العلمية الأخرى. وجاء السيد باقر الصدر فطرح هذه الأصول بعنوان علم خاصّ ومستقلّ بذاته، واعتبر الزوائد غريبة عن هذا العلم، وسعى في جلسات درسه إلى أن يفصلها ويخرجها من دائرة هذا العلم، وتناول المسائل العلمية للأصول بأسلوب أصوليّ، وليس بأسلوب فلسفيّ وأدبيّ، كما كان سائداً في الحوزة العلمية. وقد استطاع بطريقته تلك أن يجرد المباحث الأصولية عن الزوائد الفلسفية والأدبية، فكان أن استقلّ علم الأصول، سواء من جهة موضوعه ومحموله أو من جهة أسلوب الاستدلال وطريقة البحث. وأصَّل لها كمباحث خاصّة بهذا العلم، وبطريقة البحث فيه. وقد بيَّن الشهيد الصدر كيفية إدخال هذه الأصول في المباحث الأصولية، وكذا طريقة إخراجها، وما هي المباحث المرتبطة بالأصول؟ وما هي الخارجة عنه؟ تخصيصاً وتخصُّصاً. وقد طرح مباحثه بالطريقة المعتمدة في الرسالة العملية، وكانت بذلك الأسلوب الخاصّ به بامتياز. وهذا عملٌ ينمّ عن قوة في التفكير، وإحاطة كاملة بالمباحث والمطالب العلمية؛ لأن فصل علمٍ عن غيره، وتمييز مسائله العلمية وتنقيحها عمّا ليس منه، عمل لا يتأتّى إلاّ لمَنْ وصل مرتبة متميّزة من النبوغ الفكري، والإحاطة العلمية التامة بالمطالب.

كذلك من الأمور التي قام بالتأسيس لها داخل الحوزة العلمية أسلوب ومنهج التدريس والتعليم. في الحوزة وفي ما يتعلَّق بالمقدّمات: الأدبيّات والمنطق و… هناك سلسلة من الكتب التي عيّنت لهذا السطح من التدريس. في علم الأصول، والذي يعتبر علماً دقيقاً ومعقداً لم يكن هناك كتبٌ مدرسية خاصة به، بل كانت مجموعة من الكتب لمؤلِّفين اعتبروا في زمانهم فطاحلة الحوزة العلمية وسادتها. مثلاً: كتاب المعالم، والذي هو في الحقيقة ملخَّص لأفكار صاحبه حسن ابن زين الدين، المتوفّى سنة 1011هـ، الذي يعتبر منذ زمنٍ أوّل كتاب في الأصول، وكذا كتاب قوانين الأصول، للميرزا القمّي، وهو تحصيلٌ لآخر أفكار هذا العالم، وقد حظي بتأييد ممَّنْ عاصره من العلماء، وشيئاً فشيئاً طُرح في وسط العلماء، ليصبح مع مرور الوقت مورد اعتمادهم ومصدراً يعتدّ به، وبنفس الأسلوب أصبح وبشكلٍ طبيعيّ كتاباً مدرسياً يطرح على طلبة العلوم الدينية في الحوزة العلمية، إلى أن جاء الشيخ الأنصاري فسجَّل إشكالاته عليه في كتابه الرسائل، ليأتي بعد هذا الأخير الآخوند محمد كاظم الخراساني فألّف كتاب الكفاية، مستشكلاً على الأنصاري، وهكذا وبالترتيب استمرّ درس الأصول.

_ إذن أين يكمن المشكل؟

^ أوّلاً هؤلاء العلماء حين ألَّفوا كتبهم لم يكن ذلك بهدف أن تصبح كتباً مدرسية. وهذا كان سبباً في وجود العديد من المشاكل، من قبيل: أن ذلك الشخص حين كان يؤلّف كتابه كان يضع أمامه على طرف النقاش شخصية علمائية، وليس طالباً ومبتدئاً يريد تربيته وتدريسه. فالكلام والنقاش مع العلماء وفيما بينهم يفرق بمراتب ودرجات عن الحديث ومناقشة الطالب والتلميذ. في الحديث مع العالم يفترض أنه على اطّلاع تامّ بالعديد من المسائل الخاصّة بهذا العلم، وهو يناشد انتقاداته وإشكالاته، بينما يفترض في التلميذ والطالب المبتدئ أنّه لا يعلم شيئاً، وكلّ طرحٍ أو دعوى لا بُدَّ من تبيينها وتفسير جوانبها وحيثيّاتها للتلميذ، مع انتفاء هذا الفرض مع العالم.

ثانياً: إن تلك الكتب في حقيقتها تتحدَّث عن مرحلةٍ تاريخية في ما يخصّ أسلوب التفكير العلمي، فإن العديد من أساليب الاستدلال فيها قد تعرَّض للنسخ من قبل العلماء الذين أتَوْا بعدها. وبشكلٍ عام فإن طريقة الاستدلال تغيَّرت عما كانت عليه في السابق. فمثلاً: العديد من الاستدلالات الواقعة في كتاب المعالم لم تعُدْ مقبولة في أوساط علم الأصول، إذن فالطالب الذي يقضي مرحلة ستّة أشهر في دراسة المعالم، وحين يتمكّن منها، ويصل إلى ما وصلت إليه من استدلالات، يدخل مرحلة أخرى يتبين له أن المعايير والوسائل التي اعتمدها الشيخ حسن في كتابه باطلة، وبالتالي يجب طرحها والتحلُّل منها، والإقبال على المعايير والأدوات الاستدلالية الجديدة. وهذا أسلوبٌ غير صحيح في ما يخصّ أسلوب التعليم؛ إذ المفروض والصحيح أن تكون المرحلة الثانية قائمة على المرحلة الأولى، حيث تكون المرحلة الأولى القاعدة التي يتأسّس عليها ما يليها من المراحل، لا أن تكون المرحلة الثانية لاغيةً للمرحلة الأولى وناسخة لها.

_ إذن بدل الفهم يكون الإطناب والإسهاب!

^ نعم، إسهاب. وفي كثير من الأحيان يكون سبباً في تشتيت الذهن، وبعثرة الأفكار، مما يجعل الاستدلال مجرّد إطناب. وإن الكثير من حالات تشتُّت الذهن، وبروز العديد من الإشكالات، كان نتيجة هذا الأسلوب التعليمي.

وهذا ما دفع بالشهيد الصدر إلى الإقدام على تأليف سلسلة من الكتب الدراسية؛ بهدف التعليم والتدريس. وقد طرح فيها خطوط النظريات التاريخية والمنهجيات الصحيحة في علم الأصول. وحتّى يتربّى عقل الطالب على النقد بيَّن فيها وجهات النظر المتقابلة للعلماء، وجعلها مورد الفحص والتحليل. فمثلاً: طرح آراء صاحب الكفاية والشيخ الأنصاري، حتّى يتجوّل فيها ذهن الطالب.

المسألة الأخرى التي أظهرت بحقٍّ إبداعات الشهيد الصدر، وكشفت عن مدى إدراكه الواسع لمتطلّبات العصر واحتياجات المعرفة، سعيه إلى تأسيس حوزة علمية تتَّسع لكل العلوم والمعارف مورد احتياج المجتمع الإسلامي. ففي حوزة النجف الأشرف لم يكن يدرَّس سوى الفقه والأصول، حتّى أن تدريس التفسير كان ينظر إليه على أنه بِدْعةٌ. وهذا كان سبباً في استبعاد العديد من العلوم الإسلامية، نظير: الفلسفة والتفسير وعلوم أخرى مثلها، مع أنّها مورد احتياجات المجتمع، من قبيل: ردّ الشبهات الجديدة التي تطرح في أوساط العامّة والخاصّة من الأمة، وكذلك نقد الفلسفات الإلحادية، كفلسفة الديالكتيك، ومبادئ الماركسية، وما ركب موجتها من الفلسفات الأخرى.

لقد فتح أبواب الحوزة العلمية حتّى يصبح العالِم على اطّلاع وعلم بأمور زمانه، وبسياسة وثقافة الغرب التي تقتحم حريمنا، وتسعى إلى التغلغل بكل الوسائل.

_ هو نفس الشيء الذي كان عندنا مع المرحوم العلاّمة الطباطبائي والأستاذ الشهيد مطهري؟

^ صحيح. وعلى أيّ حالٍ فالشهيد الصدر قد روَّج وحقّق الأمر عملياً، وفي عدة خطوات، إلى أن اصطدم مع العلماء الذين ما زالت تحكمهم العقلية السَّلَفية القديمة.

ومن خصوصياته الأخرى التي تجب الإشارة إليها هنا أنه أسَّس لنظام الحكم الإسلامي. فكما هو معلومٌ إنّ المصادر الإسلامية غنية كثيراً، لكنها تشبه بحراً عميقاً يحوي في داخله أعداداً كبيرة من الكنوز، ومَنْ يكون على إحاطةٍ بقيمة وكيفية إخراج النفيس منها يشبه مَنْ يستخرج المعاني والمفاهيم من تلك المصادر ويجمعها، فما يرتبط بالنظام الاقتصادي أو السياسي أو المالي في الإسلام يستجمعه ويضمّه إلى النظام القانوني في الإسلام، ويجعلها في وجه دعاة التوجُّهات والتيارات المادية، وبالتالي يملأ بها ذلك الفراغ الذي تعيشه جامعاتنا في مقابل تلك المدارس والأفكار المادية. وبشكلٍ عام الشهيد الصدر اتّبع أسلوباً في تجميع المعاني المشتتة بعضها إلى بعضٍ، وقام بترتيبها. فالنظام الاقتصادي الذي ألَّفه الشهيد الصدر لم يكن شيئاً آخر غير الروايات والأحكام وكتب الفقه، لكنّ قدرته على الإبداع والابتكار تجلَّتْ في طريقة عمله، حيث استطاع من كلّ تلك المصادر أن يؤسِّس نظاماً اقتصادياً إسلامياً أصيلاً.

_ المدارس المادية كانت تعتمد المنهجية والنظام، وعملت على تنزيل مناهجها وأساليبها في جميع الميادين.

^ نعم، هكذا أخذت الماركسية مكانتها بين الناس، ونَمَتْ. فقد اعتمدت الماركسية نظاماً ومنهجاً محكماً في تجميع المعاني والأفكار؛ لتخرج نظاماً موحّداً منسجماً، استطاعت من خلاله أن تجيب عن إشكالات الدولة المادية، وتسيّرها وفق مبادئها وعقيدتها. وقد وجدنا محمد مبارك، أحد علماء السنّة المعاصرين، يعترف في كتابه حول الاقتصاد الإسلامي أنّ الأمّة الاسلامية كانت تعيش في مأزق منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، وخصوصاً في ما يتعلَّق بالاقتصاد وتسيير النظام المالي للدولة، فجاء كتاب (اقتصادنا)، للشهيد الصدر، منقذاً ومخرجاً الأمة من هذه الدوامة، وفاتحاً فرجة النصر لها. ويقول: إن الجامعات في العالم الإسلامي، وفي بلاده شخصياً، كانت تعيش مرحلة صعبة، حتّى نفذت الأفكار الماركسية والمادية الإلحادية، وحيث إن الطلبة لم يجدوا في تفكيرهم الديني ما يجيب عن أسئلتهم في ما يخصّ النظام الاقتصادي كانوا كثيراً ما يتعاركون مع أساتذتهم، حيث إنه كلّما أراد أساتذتهم الحديث لهم عن الاقتصاد كانوا يواجهونهم بسَيْلٍ من الإشكالات، يقفون عاجزين أمامها، ولا يعرفون لها الجواب.

الشهيد الصدر كان له منهجية ونظام خاصّ. كما أنه اتَّبع منهجاً وأسلوباً خاصّاً في التبليغ والدعوة داخل الحوزة. فقد كان برنامجه وأسلوبه مع الطلبة من الفئة الشابة يجمع بين التبليغي والتحصيلي، بشكلٍ يشبه ما هو الحال عليه في الحوزة العلمية في مدينة قم في إيران، وهو سلوكٌ ونظام حديث بالنسبة إلى حوزة النجف، وسابقة تاريخية. فالحوزة كانت تعيش حالةً من الانفصال عن المجتمع، وليس كما هو الحال في حوزات إيران، حيث إن طالب العلوم الدينية، وأثناء عطلة شهر رمضان ومحرّم وصفر، وعطلة فصل الصيف، كان يرجع إلى محلّ سكنه، سواء كان في القرية أو في المدينة، ويصعد المنبر ويبلِّغ الناس أمور دينهم، أو يخطب فيهم بما درسه في الفقه والأصول، أمّا في النجف فإنّ الطالب لم يكن يجرؤ على صعود المنبر، فقد كان عيباً وقدحاً في شخصيته كطالبٍ. لذا لما صار هؤلاء الطلبة مراجع لم تكن لهم القدرة على مخاطبة الناس وجهاً لوجهٍ، والنفوذ داخل المجتمع. وجاء السيد الشهيد فغرس في طلبته حبّ المنبر، وعقيدة التبليغ. فقد كان أثناء مرحلة التدريس يعقد جلسات خاصّة يعلِّم الطَّلَبة كيفية الخطابة وأسلوبها، وكان بعد ذلك يرسلهم إلى قراهم ومواطنهم؛ ليُخرجوا ما تعلَّموه من طوره النظري إلى العملي، ويمارسوه بالفعل. وكان هذا الأمر يتَّخذ شكلاً تنظيمياً، الشيء الذي بثَّ الرعب في حزب البعث، ولم تكن سوى شهادة الشهيد الصدر حلاًّ للقضاء على مؤسِّس هذه الحركة، وإيقاف مدّها.

_ هل يمكنكم الحديث عن مميِّزاته وخصوصيّاته الأخلاقية؟ باختصارٍ لو سمحتم.

^ بالنسبة لأخلاقه كان يمتاز بالمحبّة والعلاقة الخاصّة مع طلبته وتلامذته، فقد كان يحترمهم كثيراً، ويرفع من قدرهم. لقد كان متواضعاً ورؤوفاً. كان في الحقيقة بمثابة الأب الحنون لهم. لقد كان أستاذاً وأباً في الوقت نفسه، مع احتفاظه بوقار المرجع، ومقام العالم. لقد أثَّر فينا كثيراً، حتّى أنّنا لم نكن نستطيع خلع لباس طالب العلم أمام العدوّ، لقد كنّا ننظر إليه كما ننظر إلى إمام الأمّة.

وهناك مسألة أخرى، وهي أنّه كان عاطفيّاً بقدر كبير، وكانت تجمعه بتلامذته عاطفة قوية.

_ كيف كان يعبِّر عن عاطفته تجاه تلامذته؟

^ كانت حالته خير معبِّر عن تلك العاطفة، وذلك الإحساس الداخلي السامي. فمثلاً: حين اعتقل حزب البعث أحد تلامذته لمدّة أربعين يوماً كان الشهيد الصدر يعيش حالةً من الغمّ والحزن، حتّى أنه كان يعطِّل دروسه خارج البيت، بل كان يعطّل حلقات الدرس.

وحين أقدم صدّام وأزلامه على إعدام أحد تلامذته، ووصل الخبر إلى السيد الصدر، أصيب بحالةٍ من الفلج، ولم يقدر على تحريك قدمَيْه لمدّة ثلاثة أيام. وهذا يبرز شدّة علاقته ومحبته لهذا الشخص.

كذلك عبَّر عن مشاعره تجاه تلامذته في أكثر من سلوك. فحين توفي تلميذه السيد عبد الغني الأردبيلي في حادثة سيرٍ أثناء عودته من إحدى القرى كان السيد الشهيد الصدر حينها يؤلِّف سلسلته (حلقات الأصول)، وقد حزن عليه كثيراً، وعبَّر عن تأثره العميق بكلماتٍ شاعرية دوَّنها بحبره على صفحة (الإهداء) في تلك السلسلة.

لقد كان الشهيد الصدر عاطفياً، ولا يخفي عاطفته تجاه الآخرين. وكان مؤدَّباً، لكنّه كان يحفظ هيبته، هيبة العالم الربّاني ووقاره.

_ هل كان يساهم شخصيّاً في حلّ مشاكل تلامذته؟

^ نعم، لقد كان ذلك من خصوصياته ومميزاته. فقد كان يعمل على رفع مشكلات تلامذته حتّى قبل أن يكونوا على علمٍ بها. لقد كانت أخلاقه وسلوكه مع الناس في مستوى عالٍ من اللياقة والطِّيبة، لدرجة أن المخالفين له والمعادين كانوا يعترفون له بحسن الخلق. فقد سمعتُ شخصيّاً أحد المخالفين له يقول: إنّني أحبّ الحضور في جلسات درس السيد الصدر، لكنّني متيقِّنٌ أنّني لو حضرتُ معه لجلستين فسأصبح من مريديه؛ لما له من قوة وجاذبية.

كذلك كان تعامله مع أساتذته يتَّسم بالاحترام والتقدير. فقد كان رغم سنِّه لا يمتنع عن تقبيل يدَيْ أساتذته؛ تعبيراً منه عمّا لهم من فضلٍ عليه، وما لهم من مقام…. وكان متواضعاً، لم يكن يأبه بالمادّيات، وظلّ يرفض أن يُشترى له بيتٌ رغم الإصرار المتكرِّر على ذلك، بينما في المقابل كان ينفق كثيراً على الحوزة، وأنا أتذكَّر جيداً أنه في أحد شهور رمضان تكفَّل بوجبتَيْ الإفطار والسحور لجميع طلبة الحوزة طيلة ذلك الشهر الفضيل.

لقد كان الشهيد الصدر يدرك بشكلٍ كامل أن التشجيع والمدح يبعث روح المبادرة العلمية، ويرفع من القدرات النفسية للطلبة. لهذا كان يشجِّع تلامذته كثيراً.

وكان يشجِّع الطلبة الجدد، ويُكْرمهم في المجلس العلمي، حتّى أن الجميع كان يقول: إن السيد الصدر بما له من مقامٍ وعظمة يكرم تلميذاً جديداً التحق بالدرس.

ولن أنسى أنه يوماً قال لأستاذي: إن فلان ـ وكان يعنيني ـ طرح من أوّل يوم إشكالاً مهمّاً، وكم أكثر في مدحي! حتّى ظننتُ حينها أنّني فعلاً شخصية علمية.

لقد كان يجذب الكثير من الناس، وكان يعطي للعلم والتعلُّم مكانةً خاصة، يشجع الجميع على الإقبال على التعلُّم، ويشجع الطَّلَبة على الدرس والبحث.

_ كيف كان على مستوى إلقاء الدرس، وتفسيره؟

^ لقد كان منهجيّاً في طرح مطالب الدرس، ويعتمد التنظيم والترتيب في عرض المباحث، في حين كانت مشكلة الكثير من الأساتذة أن لا تنظيم في دروسهم، وعدم التنظيم والترتيب في البيان والتفسير.

لم يكن على الإطلاق يطرح أيّ ادّعاء إلاّ ويأتي بالدليل، ولم تختلط في ذهنه المطالب أبداً. ولهذا السبب كان درسه دورة في التعليم والتربية، بحيث إن الطالب بمجرّد أن يتتلمذ على يديه الشريفتين لمدّة سنة أو سنتين تصبح له مَلَكة التنظيم، ويكتسب القدرة على ترتيب المطالب، والقدرة على الاستدلال، مع القدرة المنطقية والعلمية في البحث والتحقيق. لقد كانت له القدرة في بيان آراء مَنْ سبقه من العلماء، لدرجة أنه يظهر أكثر تحقيقاً واستدلالاً منهم، مع مراعاته للأمانة العلمية، حيث كان يرجع الآراء والأفكار إلى أصحابها مهما كانت صغيرة، وكان يحترم أفكار وآراء الجميع، ولم يقع في يوم من الأيّام أن استصغر أحداً، أو قلّل من قيمة آرائه وأبحاثه واستدلالاته، وحتّى حين كان يريد الإشكال على أحد المطالب كان يجري ذلك بكلّ تواضعٍ. وعموماً كان التواضع خصلة أخلاقية لديه، ولم يكن يذكر واحداً من أساتذته إلاّ معظِّماً له بقوله: «سيِّدنا الأستاذ»، ويذكر الكبار بقوله: «الأعاظم». وكان إذا أراد أن ينتقد نظريّات أحد العلماء يمارس ذلك بكلّ احترام وأدب. وكان في العديد من المواقع، وحيث يتعذَّر إثبات بعض النظريّات، يكتفي في نقده بقول: «لم أفهم»، ولم يكن يقذف بالاشتباه والخطأ صاحب النظريّة.

_ كيف كان الشهيد الصدر يتصرّف مع الطلاّب الذين يكثرون من الإشكال عليه، ولا يقتنعون بالجواب؟

^ لا أحد من الطلبة، ومن تلامذته، كانت له القدرة العلمية على الإشكال عليه. وحتى إذا طرح أحدهم إشكالاً سرعان ما يدرك أنه تلقّى الجواب الشافي والتامّ؛ لأن الشهيد الصدر كان حين يطرح المطالب يطرحها كاملة من جميع جوانبها، لا يترك منها شيئاً إلاّ تطرق إليه، وأجاب بما يغني. لقد كان يستجمع أطراف المسألة، ويجيب حتّى عن أدقّ نقاطها، بل كان يستحضر إشكالات ما كانت لتقع في ذهن الطَّلَبة، ويجيب عنها، لدرجة أن المخالفين له كانوا يُقرِّون أنهم لا يحضرون جلسات درسه لكونهم متّفقين معه سياسياً، ولكنْ لأنه عالمٌ وأستاذ، بما تحمله الكلمة من معنى. وفوق هذا كان درسه يجمع بين التعليم والتربية. وبشكلٍ عام كان درسه أفضل درس في الحوزة العلمية بلحاظٍ علميّ وتربويّ.

_ باختصار، ماذا عن نضاله ضد الطُّغْمة الحاكمة؟ وكيف كان يشكل نضال الشعب العراقي؟

^ في ما يخصّ خطّ النضال ضد الحزب الحاكم وأزلامه كان الشهيد الصدر يؤكِّد على منطلقين مبدئيين: إقامة الحكومة الإسلامية؛ وحاكمية الفقهاء (يعني ولاية الفقيه).

لقد دخل في مواجهة النظام الحاكم بواسطة تعبئة رجال الدين والعلماء، وكانت الاستراتيجية التي يعتمدها في هذا النضال هي استراتيجية رجال وطلبة العلوم الدينية. لقد كان يرى أهمّية التشكُّلات، وكان يرى أن تكون هذه التنظيمات والتشكُّلات تحت قيادة رجال الدين، وتابعة لهم. ولهذا أحسَّ النظام الحاكم بالخطر الذي يتربَّص به. وبعد مدّةٍ انخرط الناس في هذه التنظيمات، لتصبح مجموعات إسلامية، تطوَّرت في الجامعات، وأخذت أبعاداً تنظيمية وفكرية أكثر وأكبر. والعظيم في الأمر أن حركة الشعب العراقي كانت توأماً مع حركة المثقَّفين والمفكِّرين الإسلاميين؛ لأن أصل الانطلاقة كانت أفكار الشهيد الصدر وكتبه التي انتشرت بين جميع المكوّنات المثقّفة والمفكّرة في المجتمع العراقي، ولم تقع انتقائية، بحيث يظهر تكتُّلات مثلاً تقع تحت تأثير التوجّه اليساري أو اليميني؛ وعلّة ذلك أن الشهيد الصدر قد حطّم تمثال اليسار، وفضح ضعفه ومغالطاته، فلم يعُدْ هناك فرصة لتواجد مجموعة من المنافقين، حيث في المجتمع العراقي أصبح كلّ شيء واضحاً؛ إمّا شيوعي؛ وإما إسلامي، ولا مجال للجمع بينهما.

_ لماذا لم تكن شهادة السيد محمد باقر الصدر دافعاً لثورة الشعب العراقي؟

^ بالمناسبة شهادته كانت منشأ العديد من الصدامات الدموية بين الشعب والنظام المستبدّ الحاكم، لكنّ مشكلة العراق أنه كان تحت حكم نظام متوحِّش غارق في الوحشية. ولو قدر لهذه الشهادة أن تقع قبل الثورة الإسلامية في إيران لكانت جِدّ مؤثِّرة، كما كانت شهادة علمائنا، أمثال: السيد سعيدي، والشيخ غفاري، لكن ثورة إيران ونجاحها تحت ظلّ ولاية الفقيه أفهم العالم أن أيّ ثورة في العراق ستكون على نفس وتيرة أختها في إيران، فكان الاستكبار العالمي يعمل على استبقاء صدام في الحكم بأيّ ثمنٍ، ثم إن نظام صدام كان متمركزاً، مثل: النظام الشيوعي الاشتراكي في روسيا.

_ هل كان لهذا النظام أيديولوجيا، أو أجهزة؟

^ نعم، كانت له تنظيمات وأجهزة متمركزة على امتداد أرض العراق، وكلها تحت قبضة الحزب الحاكم. وفي الحقيقة كانت سلطة صدّام تشبه سلطة سْتالين. وهذا هو الذي منع أن يطيح دم الشهيد الصدر بهذا النظام. وعلى الطرف الآخر قدم إخوتنا دماء كثيرة في الحرب المفروضة، وكان بإمكان هذه الدماء أن تُسقط أعتى دولة في العالم لو كانت لوحدها، لكنّ مساندة الاستكبار العالمي، المتمثِّل في أمريكا والصهيونية ومَنْ يدور في فلكها، لصدّام وزمرته، والتي كانت تسانده سياسياً ولوجستياً، كانت مانعاً قوياً، وإلاّ لاستطاعت أيّ قوة مهما كانت صغيرة أن تصفّيه وتبيده. وفي الداخل العراقي كان صدّام بواسطة جهازه في المخابرات يترصد كلّ التحرُّكات، وكان الإعدام الحكم الأول الذي يصدره في حقّ كلّ مَنْ أراد الحديث عن كرامة الشعب العراقي، والدفاع عن حقوقه. فقد أقدم بكلّ جرأةٍ على إعدام 60 عالماً كانت أعمارهم ما بين 20 و95 سنة دفعةً واحدة، وهو سلوكٌ يعبر عن مدى وحشية ذلك النظام، ومدى تمركزه، واستعداده لفعل كلّ شيءٍ ضدّ كل ما من شأنه أن يهدِّد وجوده.

_ كيف كانت وضعية كتبه داخل العراق؟

^ لم يكن هناك وجودٌ لكتبه، بل الأمر أفظع من ذلك؛ إذ مجرّد وجود اسمه في بيت أحدهم فهذا يعني الحكم بالإعدام.

_ نشكركم مولانا. وفي الختام لو تتفضّلون بالحديث عن إحدى الذكريات الحلوة التي تحتفظون بها عن علاقتكم مع السيد الشهيد؟

^ من أحلى الذكريات التي أحتفظ بها في قلبي وذهني عن الشهيد الصدر& هي حادثة زواجي؛ لأن والدي قد توفي قبل ثلاثين عاماً ـ كما تعلمون ـ، وكان السيد الصدر بمثابة والدي. كان معي في هذه الفترة وملأ بكلّ محبةٍ وعشق مكان الوالد، فلم أشعر في مراسم الزواج باليتم، ولا بالوحدة، وخصوصاً أن العادة هنا تقتضي أن يأخذ الوالد يد العريس ويضعها في يد العروس، وقد قام هو بذلك رغم مقامه العلمي ومكانته في الأستاذية، فقد أغدق عليَّ من المحبة والعطف الأبويّ ما لا يقدر أبٌ أن يغدقه على ولده، وكنت أشعر بوجود أبي في شخصه، وهذا من شمائله وكمال سجاياه. فقد كان يسعى طوال فترة حياته الشريفة أن تتمثَّل الأخلاق الربّانية في قوله وفعله، وأن تتجسَّد فعليّاً في كلّ تحرُّكاته. وإنّني أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقني للسير على دربه، وانتهاج منهجه، وأن يحفظ إمام الأمّة، وأن يطيل في عمره، حتّى ينتقم للدماء الزكية لهذا الشهيد. وإنّ صبح انتصار الحقّ على الباطل في أرض العراق لقريبٌ، وحينها سيرفرف علم إمام الأمّة عالياً على أرضها، معلناً بدء صبحٍ جديد… وتاريخ جديد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
____________________

(*) أحد كبار الفقهاء المعاصرين. مرجعٌ دينيّ بارز. من أبرز تلامذة السيد محمد باقر الصدر. له أعمالٌ اجتهادية في الفقه والأصول و….

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً