أحدث المقالات



تقديم

إن للتاريخ أهميته وتأثيره في حياة الشعوب والأُمم، ففي التاريخ عبرة لأُولي الألباب. بل إن التاريخ مختبر الحياة العظيم، الذي يمكننا من خلاله تقييم مختلف القضايا الاجتماعية ودراستها، واستخلاص النتائج والعبر منها ولا سيما إذا تعلق الأمر بسيرة الرسول الأعظم|، وبصراع المسلمين مع اليهود الذي لا يزال مستمراً إلى يومنا هذا، تارة تحت عناوين دينية وفكرية، وأخرى تحت عناوين سياسية وجودية، كما هو الحال في فلسطين المحتلة من قِبَل الصهاينة اليوم.

والإسلام يدفعنا إلى الإفادة من تجارب الأمم والشعوب، ومن فهم سنن الحياة وأخذ الدروس والعبر. وها هو الإمام عليّ× في وصيته لابنه الإمام الحسن× يقول: «أي بني إني وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عدت كأحدهم. بل كأني بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عمّرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله()، وتوخيت() . ولكن المؤسف أن كتب التاريخ تعاني من نقص كبير من حيث الإشارة إلى العِبر والدروس الدينية والاجتماعية والسياسية المفيدة، ومن حيث إبراز العلل الحقيقية الكامنة وراء الحوادث المتنوعة والوقائع المختلفة.

فالتاريخ علم عميق الأغوار لـه أدواته ووسائله، وهو يستلزم كسائر العلوم تجرداً وحياداً ووعياً بالمقاصد . ولا شك أن كتابة التاريخ تحتاج إلى النقد والمقارنة والتحليل والتفسير، فلقد عانى تاريخ البشر عموماً وتاريخ الإسلام خصوصاً من تأريخمن ليس بمؤرخ، ونقد من لا يمتلك أدوات النقد، وفلسفة من لم يتوغل في أعماق طبائع البشر. وقد لفت انتباهي عبارةً للمحقق الشيخ جعفر السبحاني يقول فيها : «إن التاريخ يذكر لنا كيف وجدت الحضارات المشرقة والمدنيات العظمى في العالم، وكيف سلكت بعد مدة طريق السقوط والانقراض، حتى إنها محيت عن صفحة الوجود بالمرة، وأصبحت خبراً بعد أثر. وبالتالي، ما هي العوامل التي كانت وراء سيادة الشعوب ثم اندحارها»().

إن القرآن الكريم قد فتح الباب على مصراعيه امام عموم المسلمين لتدارس حياة الأُمم السالفة والغابرة، لتلافي موارد العطب ومواضع الهلكة، كما اشار إليه قوله تعالى: {قَدْخَلَتْمِنقَبْلِكُمْسُنَنٌ فَسِيرُواْفِيالأَرْضِفَانْظُرُواْكَيْفَكَانَعَاقِبَةُالْمُكَذَّبِينَ} (سورة آل عمران: 137)، وقوله أيضاً: {أَفَلَمْيَسِيرُوافِيالأَرْضِ فَتَكُونَلَهُمْقُلُوبٌيَعْقِلُونَبِهَاأَوْآذَانٌيَسْمَعُونَبِهَافَإِنَّهَا لَاتَعْمَىالْأَبْصَارُوَلَكِنتَعْمَىالْقُلُوبُالَّتِيفِيالصُّدُورِ}( سورة الحج: 46)، وغير ذلك من الآيات الكريمة، فقد أوقد القرآن في مخيلة المسلم المتدبر في آياته فكرة البحث والتنقيب عن حياة الأمم السالفة .

فالقرآن الكريم من أوثق الوثائق الباقية عن الرسول | وأكثرها يقينية . إنه يتبوأ موقع الشاهد الثقة على عصر الرسالة من ناحية علمية وموضوعية للحقائق التالية:

يرجع عصر ظهوره كنص ونقل محفوظ ومدون إلى عصر الرسالة نفسه ومنذ بدئها. فهو يتناول حوادث عصر النبوة الخاتمة منذ بدئها.

2ـارتباط آياته وسوره بنفس الحوادث، أي أن الآية المعينة أو السورة المعينة كانت تنزل بعد الحدث مباشرة أو مقترنة به، وهو ما يسمى في علوم القرآن بأسباب النزول.

كما أنه لا توجد لدى المسلمين على الرغم من تعدد الفرق والمذاهب نسخ أخرى يُدَّعى فيها الاختلاف، وما يذكر في بعض كتب الحديث من حذف أو نسخ تلاوة بعض الآيات، لم يعبأ به أحد من المسلمين خلال هذه القرون العديدة . وكذلك فإن ما يتناول في علم القراءات القرآنية، لا يعدو كونه قراءة أخرى للفظة لا تؤثر على المعنى إطلاقاً، كما لو قرآنا >مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ<، >مَلِكِ يَوْمِ <.

وبذلك يكون القرآن الكريم أعظم الوثائق التاريخية إتقاناً وأقدم النقول الإسلامية وأوثقها على الإطلاق، وأكثرها قطعية بالنسبة إلى بعض ما حدث للرسول | أثناء حياته. ولذلك فإنه لا يمكن الحديث عن سيرة خاتم الرسل والأنبياء بعيداً عن القرآن الكريم .

و    لقد حازت سيرةخاتم الأنبياء | على اهتمام العلماء والمؤرخين والباحثين والأدباء، فأدلوا بدلائهم في معينها. فهناك من كتب فيها ليحفظ التراث ويبيِّن عظمة محمد بن عبد الله|، وهناك من كتب فيها لينال من شخصية الرسول الأكرم| بشكل مباشر، محاولاً الاستهزاء بنبوته ورسالته من خلال إلقاء بعض الشبهات فيما يتعلق ببعض جوانب حياته المباركة، سواء على مستوى أُمّيته، أو على المستوى الاجتماعي كتعدد زوجاته، أو على المستوى السياسي والعسكري، كخوضه الحروب والغزوات وإقراره حكم سعد بن معاذ على يهود بني قريظة.

إن ادعاءات وشبهات بعض المستشرقين()، ستشكل محوراً رئيسياً من محاور بحثنا العلمي فيما يتعلق بصراع الرسول مع يهود المدينة عموماً وبني قريظة خصوصاً. فقد استغل المستشرقون والباحثون من اليهود هذه الحادثة التاريخية المهمة والحسَّاسة ليشوّهوا صورة الإسلام والمسلمين في أعين الشعوب الغربية والإسلامية. فقد اعتبروا أن مقولة (العفو عند المقدرة) لا تتعدى كونها خرافة تنفيها وقائع التاريخ الإسلامي، وأن ما يسمونه غزوات وبطولات إنما هي في الحقيقة عمليات نهب وسلب وقطع سبيل وسفك دماء واضطهاد أقليات كانت تقطن في جوارهم. ومن المذابح البشعة التي يندى لها جبين التاريخ ـ بحسب ادعائهم ـ مذبحة بني قريظة()، حيث تم فيها ذبح أكثر من سبعمئة ذكر، وأما النساء والأطفال فقد تم تقسيمهم بين الجنود كغنائم حرب.  فقد أمر محمد| بأن يُقتل كل من أنبت()من الذكور، ويقصد بهذا أن يقتل كل الذكور ابتداءً من الصبيان وحتى الشيوخ، فضربت أعناقهم في خنادق بسوق المدينة وكانوا قرابة التسعمئة رجل، وأما من لم يكن أنبت فقد تُرك.

أما من ناحية المنهج، فقد تم الاعتماد على المنهج التاريخي التحليلي مع لحاظ السياق العام ورؤية الحدث بالنسبة إلى الأحداث الأخرى. فالرؤية الشمولية مطلوبة ولكنها لا تغني عن المعرفة التفصيلية، ولا تتعارض مع التفسير الموضوعي الذي يأخذ بعين الاعتبار كل المعلومات المتعلقة بالموضوع في حقبة زمنية محددة. فلم يتم الاكتفاء بسرد الوقائع والأحداث، بل العمل أيضاً على تحليل تلك الأحداث واستقراء الآراء المختلفة والمتنوعة، بل والمتعارضة أحياناً، بعين الباحث الذي يتوخى الحقيقة ويتخذ البديهيات والمسلمات العقلية والعلمية منطلقاً لـه، ويعتمد على المشتركات والوقائع، وعناصر التحقيق، والمنطق السليم، وأدوات البحث العلمي، محاولاً الوصول إلى نتائج جديدة يلتمس منها الدروس والعبر. كما تم تجنب الخوض في الحساسيات المذهبية الإسلامية والتوجه مباشرة إلى الصراع الذي فرضه اليهود على الرسول| بعد هجرته من مكة إلى المدينة.

أما هذا البحث، فقد تم التطرق فيه إلى الصراع مع اليهود، وأسباب عدائهم للإسلام، وموقف النبي| منهم، ولا سيما بني قينقاع وبني النضير. كما تم استعراض آراء المستشرقين في ذلك وتفنيدها . وأخيراً تم التطرق لمعركة الأحزاب الشهيرة وموقف المستشرقة آرمسترونغ منها.

موقف النبي| من اليهود

ابتدأت المواجهة بين النبياليهود بعدما هاجر النبي إلى المدينة، حيث تعامل الرسول | مع اليهود في البداية على أساس أنهم أهل كتاب موحدين يؤمنون بنبوة موسى× ويرفضون الأوثان . فدعاهم إلى الإسلام بكل سماحة، وإلى الإيمان بنبوته وبدينه كدعوة عالمية، وإلى التقوى في العمل وهي ميزان التفاضل، وإلى تحليل الطيب وتحريم الخبيث في التشريع، وإلى التعاون والمعروف في بناء المجتمع، قال تعالى :{الَّذِينَيَتَّبِعُونَ الرَّسُولَالنَّبِيَّالأُمِّيَّالَّذِييَجِدُونَهُمَكْتُوبًاعِندَهُمْ فِيالتَّوْرَاةِوَالإِنْجِيلِيَأْمُرُهُمبِالْمَعْرُوفِوَيَنْهَاهُمْ عَنِالْمُنكَرِوَيُحِلُّلَهُمُالطَّيِّبَاتِوَيُحَرِّمُعَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَوَيَضَعُعَنْهُمْإِصْرَهُمْوَالأَغْلاَلَالَّتِيكَانَتْ عَلَيْهِمْفَالَّذِينَآمَنُواْبِهِوَعَزَّرُوهُوَنَصَرُوهُوَاتَّبَعُواْ النُّورَالَّذِيَأُنزِلَمَعَهُأُوْلَـئِكَهُمُالْمُفْلِحُونَ} (سورة الأعراف: 157). وقد أسلم جماعة من أحبارهم ووجهائهم وصدقوا في إسلامهم أمثال: عبد الله بن سلام()،ومخيريق من بني ثعلبة الفطيون(). زد على ذلك أن النبي | كان يضع في أولوياته القضاء على العدو الأول والأكبر وهم كفار قريش ومشركيها، ولم يكن يطمح أبداً لفتح جبهة أخرى مع اليهود، لكونهم أهل كتاب يدعون إلى التوحيد ظاهراً .

ولكن ممارسات اليهود التخريبية جعلت خطرهم يتفاقم على الإسلام والمسلمين، حيث حاولوا زعزعة إيمان المسلمين بدينهم، وإظهار الرسول| بموقف الضعيف، كما عملوا على تأجيج نار الجاهلية بين الأوس والخزرج من جديد بعد أن توحدوا ببركة الرسول| ونعمة الإسلام . أضف إلى ذلك مضايقتهم لبعض القوافل التجارية الخاصة بالمسلمين ونهبها، وتعرضهم للنساء المسلمات في الأسواق . زد على ذلك محاولة قتل الرسول| واغتياله، ولكن الإرادة الإلهية شاءت حفظه وإكمال تبليغه للرسالة الإلهية الخاتمة. وأخيراً وليس آخراً نقضهم لعهد الرسول| وصحيفة المدينة، وتحالفهم مع كفار قريش ومشركيها لاجتياح المدينة في معركة الأحزاب واستئصال الإسلام والمسلمين .

ولكن جميع محاولات اليهود للقضاء على الإسلام والمسلمين باءت بالفشل الذريع بسبب وعي القيادة الإسلامية العليا. ولقد صبر النبي| في البداية على مؤامراتهم وخياناتهم الكبيرة حتى طفح الكيل، حيث صعَّدوا من تحدياتهم وأصبحوا يشكلون خطراً حقيقياً، فهم يعيشون في قلب المجتمع الإسلامي، ويعرفون كل مواقع الضعف والقوة فيه . فكان لا بد من صياغة التعامل معهم على أساس الحزم والقوة بدلاً من العفو والتسامح والرفق الذي لم يجد نفعاً، فليس من المصلحة أن يُترك اليهود يعيثون في الأرض فساداً، وينقضون العهود والمواثيق، ويسددون ضرباتهم للمسلمين كيف وأنى شاؤوا، بل لا بد من الرد الحاسم والحازم والعادل على كل اعتداء ومواجهة، وعلىكل تحدٍّ وتآمر وكيد وخيانة، فواجههم النبي| بأسلوب الاغتيالات المنظمة بدايةً، ولما لم ينفع معهم هذا الأسلوب اضطر النبي| لاتباع أسلوب الحرب الشاملة .

لقد اتبع النبي| أسلوب الاغتيالات المنظمة لبعض أفرادهم ورموزهم الذين ظهر كيدهم وأعلنوا الحرب على الإسلام وتعرضوا لنساء المسلمين بالأذى، فتم اغتيال أبي عفك اليهودي الذي كان يحرض على رسول الله| ويقول فيه الشعر، والعصماء بنت مروان اليهودية حيث كانت تعيب الإسلام والمسلمين وتؤنّب الأنصار على اتّباعهم لرسول الله| وتقول الشعر في هجوه| وتحرض عليه . وفي السنة الثالثة بعد الهجرة تم اغتيال كعب بن الأشرف الذي كان قد ذهب إلى مكة بعد حرب بدر وحرَّض المشركين ولم يخرج منها حتى جمع أمرهم على حرب رسول الله|، وعندما سأله المشركون : أديننا أحب إلى الله أم دين محمد وأصحابه؟ أجابهم: بل أنتم أهدى منهم سبيلاً. وكان يهجو النبي في شعره ويتعرض بالأذى لنساء المسلمين .

وفي هذا السياق نذكر وجهة نظر إستشراقية، حيث تتفهم آرمسترونغ سلوك محمد| تجاه كعب بن الأشرف قائلة: ذهب كعب بن الأشرف، وهو شاعر يهودي من بني النضير، بعد بدر مباشرة إلى مكة، وبدأ ينظم أشعاراً لاهبة يحث القرشيين فيها على السير ضد محمد والثأر لقتلاهم، وقد أوضحت أشعار كعب للقرشيين أن سكان المدينة ليسوا إلى جانب محمد جميعاً . ولما كان الشعر يلعب دوراً كبيراً في الحياة السياسية في الجزيرة العربية، فقد ساعدت أشعار كعب في استنهاض قريش من حالة الإحباط والحزن اللَّذين نجما عن الهزيمة، وصار واضحاً أن القبائل اليهودية تشكل خطراً أمنياً، فإذا هاجمت قريش المدينة من الشمال، فإن باستطاعة القبائل اليهودية الانضمام إلى قريش التي اعتبرتهم حلفاءها ومهاجمة المسلمين من المؤخرة بحيث يصبحون محاصرين تماماً . وعندما رجع الشاعر كعب إلى المدينة أخذ يكتب أشعاراً تشويهية محرضاً على العصيان، وفي ذلك الوقت كان الشعر سلاحاً قاتلاً، ولم يكن بوسع محمد أن يسمح لـه بإلهاب الفرقاء الناقمين في المدينة، أو أن يحض القبائل البدوية للانضمام إلى تحالف أبي سفيان ضد المدينة . وبالتالي فإن آرمسترونغ تتفهم إقدام محمد | على إرسال من يغتال كعب، حيث كان للشعر قدرةٌ سحرية على إثارة الفتن وتقليب المواقف() . وهكذا تتابعت عمليات القتل لبعض أفراد اليهود فاغتيل ابن سنينة، وأبو رافع بن أبي الحقيق من يهود خيبر وغيرهما. لقد كانت هذه العمليات بمثابة جزاء عادل، وإنذار حازم لكل من ينقض عهداً ويتآمر على مصلحة الإسلام العليا، وقد نُظِّمت ونُفِّذت ببراعة فائقة وذكاء وعبقرية، فأرعبت اليهود وأخافتهم .

ولكن بالرغم من ذلك، فإن اليهود لم يتراجعوا عن الدس والتحريض والتآمر، واستمروا في عنادهم وتماديهم في إيذاء المسلمين ونشر الفساد، ونقضهم للمعاهدات التي وقّعوا عليها بملء اختيارهم، فكان لا بد من التعامل معهم بأسلوب آخر فكانت الحرب الشاملة والمصيرية ضدهم حيث لا يمكن اجتثاث مادة فسادهم بغير ذلك . لقد حاربهم النبي| في داخل المدينة في غزوة بني قينقاع، وغزوة بني النضير ، كما حاربهم في محيطها في غزوة بني قريظة، وحاربهم في خيبر التي كانت تمثل المعقل الأساسي لهم في شبه الجزيرة العربية.

1 ـ تمسُّك اليهود بدينهم

يتطرق ولفنسون إلى سبب النزاع المباشر بين اليهود والمسلمين، فيعتبر أن تعاليم الرسول | التي لم تقف عند حدّ محاربته الدينية للوثنية، بل تعدتها إلى أن يعترف اليهود برسالته، هي التي سببت الصراع بين الرسول| واليهود، ولولا هذا الطلب لما وقع النزاع بينهم، ولكان اليهود قد نظروا بعينٍ ملؤها التبجيل والاحترام لتعاليم الرسول|، ولأيدوه وساعدوه بأموالهم وأنفسهم حتى يحطّم الأصنام ويقضي على العقائد الوثنية . فالعقلية اليهودية لا تلين وما شيء يزحزحها عن دينها، وتأبى أن تعترف بأن يوجد نبي من غير بني إسرائيل، بل يعتقد اليهود أنه بعد أن ختمت صحف التوراة وكتب العهد القديم انقضى عهد بعث الرسل وظهور الأنبياء سواء كانوا من بني إسرائيل أو من غيرهم().

والجواب على ما قاله ولفنسون بيِّن واضح، حيث يتناقض ولفنسون مع نفسه بعد ما ذكره من أن الرسول| لم يجبر اليهود على اعتناق الإسلام، بل دعاهم إلى الإسلام وترك لهم حرية الاختيار بين دينهم القديم وبين الدين الجديد، وهذا ما تقره الصحيفة أو المعاهدة التي عقدت فيما بين الطرفين: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم».

ويرد عليه أيضاً أن اليهود لم يقفوا مع النبي| لمحاربة الوثنية، بل وقفوا إلى جانب كفار قريش ومشركيها العدو الأكبر للنبي|، وباركوا وثنيتهم عندما قالوا لهم وهم يحزّبون الأحزاب ضد محمد| أن دينهم خير من دين محمد| الذي دعا إلى التوحيد ونبذ الشرك وإلى الإيمان بكل الرسل والأنبياء السابقين.

2 ـ الآيات القرآنية التي نزلت في اليهود

ويقول ولفنسون: إن السبب الآخر لهذا النزاع هو الآيات القرآنية التي نزلت في ذلك الحين متضمنة الطعن باليهود، حيث تذكرهم بما ارتكبه أجدادهم من الجرائم كعصيانهم لموسى×، وقتلهم أنبياء بني إسرائيل، وسجودهم للعجل. ولكن العجيب أن ولفنسون يزيد على ذلك قائلاً: إن كل هذا لم يضعف من عزيمة اليهود فاستمروا على مناقشة الرسول| ومخاصمة الأنصار، فنجم عن ذلك أزمة سياسية وشعر النبي| أنه لم يوفق في إيجاد أمة مؤلفة من جميع عناصر يثرب().

3 ـ ولفنسون والمزيد من تبرئة اليهود

ويسعى ولفنسون إلى المزيد من تبرئة اليهود من خلال قوله:

أ . إنّ هناك طائفة معتدلة من اليهود أرادت أن تصلح بين الفريقين المتخاصمين وتزيل ما بينهما من أسباب النزاع، ولكنها أخفقت في مسعاها وأن مخيريق اليهودي رفيق الرسول| من أنصار هذه الطائفة().

ب . وإنّ هناك عنصراً آخر لعب دوراً خطيراً في الحوادث اليثربية وهو العنصر الذي يضم أعداء اليهود السياسيين من بين الخزرج، فكان همُّهم أن يصبوا الزيت ليزيدوا في إشعال نار العداوة بين الرسول | واليهود، وقد عُرف بعضهم باسم المنافقين وكان عبد الله بن أُبي من زعماء هؤلاء المنافقين() .

ج. إنّ اليهود لم يكونوا يرغبون في محاربة الأنصار مع أن يوم بدر كان فرصة مناسبة لمن كان في مركزهم، وأنّهم في الواقع يفضلون السلام والسكينة على المشاحنات والمخاصمات؛ لأن السلام والسكينة أساس النجاح في الأعمال التجارية والصناعية().

د. إنّ اليهود لم يشتركوا مع الرسول| في محاربة قريش يوم بدر؛ لأنه لم يكن مشترطاً عليهم في المعاهدة أن يشتركوا في الغزوات الخارجة عن دائرة المنطقة اليثربية، وأن عدد الأوس والخزرج في هذه المعركة كان قليلاً، وأن أغلب المحاربين كانوا من المهاجرين().

هـ . إنّ اليهود رفضوا الاشتراك مع الرسول| في غزوة أُحُد؛ لأنها كانت في يوم السبت، فأبى اليهود أن يحملوا السلاح في ذلك اليوم، إضافة إلى أن المعاهدة التي كانت بينهم وبين النبي| تسمح لهم بالتخلف عن المعارك التي تقع بعيداً عن المدينة().

والجواب عليه

1 ـ إنّ مخيريق اليهودي الغني الذي كان يملك الكثير من النخيل، كان يعرف رسول الله| بصفته وما يجده في علمه، قد أسلم ودعا قومه إلى الإسلام، واشترك في واقعة أُحُد()، حيث قال لليهود لا سبت لكم، فأخذ سيفه وقال: إن أُصِبت فمالي لمحمد يصنع فيه ما شاء، ثم غدا إلى رسول الله| فقاتل معه حتى قُتل() .

2 ـ الثابت في معاهدة المدينة: أنه لا تُجار قريش، وأن بين المسلمين واليهود النصر على من دهم يثرب، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين . وهذا كله يثبت أن على اليهود أن يقفوا إلى جانب المسلمين ضد كفار قريش يوم بدر ويوم أُحُد، وأن عليهم ان ينصروا المسلمين أو على الأقل أن يدعموهم بالمال والسلاح إن لم يريدوا أن يحاربوا معهم بأنفسهم . وهذا كله لم يحدث . زد على ذلك أنه لا دليل على أن المعاهدة التي كانت بينهم وبين النبي| تسمح لهم بالتخلف عن المعارك التي تقع خارج المدينة وحولها، أضف أن عدد الأوس والخزرج في هذه المعركة لم يكن قليلاً.

3 ـ من قال أن واقعة أُحُد كانت يوم سبت؟! وما الدليل على ذلك؟ وإن صحت هذه المقولة، فلماذا لم يدعم اليهود المسلمين بالمال والسلاح؟

4 ـ لو كان اليهود يرغبون بعلاقة طيبة مع النبي| ولم يُبَيِّتوا العذر والخيانة، لما سمحوا للمنافقين ولا لغيرهم أن يكدروا صفو علاقتهم بالنبي| . ولكانوا بذلك قد حافظوا على مساكنهم وأموالهم وسلاحهم وتجارتهم وأراضيهم، ولعاشوا بكرامتهم جنباً إلى جنب مع جيرانهم المسلمين . إن ابن أُبي كان معروفاً بنفاقه عند الرسول| والمسلمين وكان منبوذاً من بينهم خصوصاً بعد أن ترك النبي| ومن معه في معركة أُحُد ورجع وجماعته من منتصف الطريق، حيث كانوا يشكلون ثلث الجيش تقريباً، فأرادوا أن ينهزم الرسول| وأن تتضعضع معنويات جيشه . وبالتالي فإن حِيَل ابن أُبي ما كانت لتنطلي على رسول الله|، زد على ذلك أن ابن أُبي كان يتدخل لصالح اليهود بعد أن تصل الأمور إلى حد السيف، كما حصل وتوسط لبني قينقاع عند النبي| طالباً منه أن لا يقتلهم بالرغم من فعلتهم القبيحة وجريمتهم النكراء.

أولاً ــ موقف النبي | من بني قينقاع

كانت معركة بدر بمثابة الطوفان الذي اقتلع بعض جذور الوثنية في قلب الجزيرة العربية القاحلة.

وكانت مخاوف القبائل الوثنية، ويهود يثرب الأثرياء، ويهود خيبر ووادي القرى، تزداد يوماً بعد يوم، حيث يتقدّم الإسلام وتتعاظم شوكته ويشتد أمر حكومته الفتية . وكان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة ويمسكون بخيوط اقتصادها أشد خوفاً من غيرهم وأكثر قلقاً على مستقبلهم، فقد كان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر ووادي القرى الذين يعيشون خارج المدينة بعيداً عن مركز سلطة المسلمين . ولا أدري ما هو منشأ هذا الخوف إن كانوا صادقين في معاهدتهم للمسلمين الذين برهنوا لهم بكل صدق ووفاء في التزاماتهم، ولم يتجنوا عليهم ولو بحادثة واحدة، ولم يستفزوهم أبداً ! 

ولكن، يهود بني قينقاع بدؤوا قبل غيرهم من يهود المدينة بتدبير المؤامرات، وإيذاء المسلمين، والقيام بالحرب الإعلامية ضدهم، وذلك عبر نشر الأكاذيب وإطلاق الشائعات والشعارات القبيحة، وإنشاد القصائد التي من شأنها تحقير المسلمين وإضعاف معنوياتهم . وبهذا يكون اليهود قد بدؤوا عملياً بنقض معاهدة التعايش السلمي التي عقدها الرسول| معهم في إبّان قدومه إلى المدينة . ولم يكن من مصلحة الإسلام والمسلمين تفجير الموقف في عاصمة الإسلام يومئذٍ، ولهذا حذَّرهم قبل أن يقدم على أي عمل ردعي، ولكن اليهود المغرورين المتكبرين لم يسكتوا، بل استمروا في تشدُّقهم الفارغ بقوتهم وقدرتهم على القتال والمواجهة. زد على ذلك أن اليهود ممن اعتنقوا الإسلام قد أخبروه أن بني قينقاع يضمرون العداء للمسلمين ويبيتون لهم شراً، وأنهم بعد بدر قرروا نقض العهد مع محمد وإحياء التحالف القديم مع ابن أُبي كي يعززوا حزب المعارضة ويطردوا النبي| ، فزارهم النبي| وحثّهم على قبوله كرسول باسم تراثهم الديني()،فاستمعوا إليه في عقر دارهم بصمت متمرّد، وأجابوه بالتهديد. وبعد أيام قلائل افتعل اليهود حادثة سوق بني قينقاع() ، فحاصرهم النبي|، فلم يفِ ابن أُبيّ بوعده لهم حيث انتظروا طوال أسبوعين أن يحارب معهم، فوجدوا أنفسهم مجبرين على الاستسلام دون شروط .

ولم تكن قريش بعيدة عن ساحة المواجهة، بل كانت تحرِّض اليهود على نقض العهد، وكتب كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود: إنكم أهل الحلقة والحصون، وإنكم لتقاتلن صاحبنا، أو لنفعلن كذا وكذا . ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم()شيء . فلما بلغ كتابهم اليهود أجمعوا على الغدر. ونحن نستقرب أن يكون بنو قينقاع هم أول من استجاب لطلب قريش هذا، وأن قريشاً قد كتبت لهم بعد بدر، وكان نقض بني قينقاع العهد بعد بدر أيضاً .

أما قضية بني النضير فقد كانت في السنة الرابعة بعد أُحُد. كما أن المؤرخين يقولون: «إن بني قينقاع لما كانت وقعة بدر، أظهروا البغي والحسد، ونبذوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي|: أن لا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه عدوه. وكانوا أول من غدر من اليهود»().

ولم يكتف بنو قينقاع بذلك، بل عملوا على تصعيد التحدي؛ لأنّهم كانوا أشجع وأكثر اليهود أموالاً()وأشدَّهم بغياً، وكانوا حلفاء لعبدالله بن أُبي، وعبادة بن الصامت(). قال ابن هشام: «كان من أمر بني قينقاع أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد يهودي الى طرف ثوبها فعقده الى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا منها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الفاعل فقتله، فشدَّت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستنصر أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون. فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع»(). وقال |: «ما على هذا أقررناهم»، فتبرأ عبادة بن الصامت من حلفهم، وقال: «يا رسول الله، أتولى الله ورسوله، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار». وتمسك ابن أُبي بالحلف، وأصر على الرسول| بتركهم، فجمعهم النبي | في سوقهم، وقال لهم : «يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم». فردوا عليه قائلين : «يا محمد، إنك ترى أنا قومك ؟ ! ولا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب ، فأصبت منهم فرصة . إنا والله، لو حاربناك، لتعلمنَّ أنَّا نحن الناس»(). فأنزل الله تعالى :{قُل لِّلَّذِينَكَفَرُواْ  سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَإِلَىجَهَنَّمَوَبِئْسَالْمِهَادُ *قَدْكَانَ لَكُمْآيَةٌفِي فِئَتَيْنِالْتَقَتَافِئَةٌتُقَاتِلُفِيسَبِيلِاللّهِ وَأُخْرَىكَافِرَةٌيَرَوْنَهُممِّثْلَيْهِمْرَأْيَالْعَيْنِوَاللّهُ يُؤَيِّدُبِنَصْرِهِمَنيَشَاءإِنَّفِيذَلِكَلَعِبْرَةًلَّأُوْلِي الأَبْصَارِ}( سورة آل عمران: 12ـ 13). كما أنزل أيضاً :{وَإِمَّاتَخَافَنَّمِن قَوْمٍخِيَانَةًفَانبِذْإِلَيْهِمْعَلَىسَوَاءإِنَّاللّهَلاَيُحِبُّالخَائِنِينَ} (سورة الأنفال: 58).

لقد تحصن بنو قينقاع في حصونهم، فاستخلف| على المدينة أبا لبابة، وسار إليهم ولواؤه راية العقاب السوداء يحمله أمير المؤمنين× . وحاصرهم النبي | خمس عشرة ليلة، ابتداءً من النصف من شوال السنة الثانية للهجرة، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا أربعمئة حاسر وثلاثمئة دارع، فسألوا رسول الله| أن يخلي سبيلهم، ويجليهم عن المدينة، وأن لهم نساءهم والذرية، ولـه الأموال والسلاح. فقبل | منهم وفعل بهم ذلك، فأخذ أموالهم وأسلحتهم، وفرقها بين المسلمين بعد أن أخرج منها الخمس، وأجلاهم عن المدينة إلى أذرعات(). ويقال : أنه لم يدر عليهم الحول حتى هلكوا . وفي نص آخر: أنهم أُنزلوا من حصونهم وكُتِّفوا، وأراد| قتلهم ، فأصرَّ ابن أُبي على النبي | أن يتركهم لـه بحجة أنه امرؤ يخشى الدوائر فلا يستطيع أن يتركهم، وهم أربعمئة حاسر، وثلاثمئة دارع، قد منعوه من الأحمر والأسود، على حد تعبيره، فاستجاب النبي| إلى طلبه وإصراره، وأجلاهم.

وأما استجابة النبي | لابن أُبي في بني قينقاع ، فكانت تهدف إلى الحفاظ على الجبهة الداخلية من التصدع . ولولا ذلك فلربما كان ينتهي الأمر إلى النزاعات المكشوفة، والمواجهات العلنية، الأمر الذي لم يكن في صالح الإسلام والمسلمين في تلك الفترة، فإن الإبقاء على العلاقات الحسنة مع المنافقين في تلك الظروف كان أمراً ضرورياً، لكسب أكبر عدد منهم ومن أبنائهم في المستقبل، عن طريق التأليف والترغيب، ثم توفير الطاقات لعدو أشدُّ وأعتى . أضف أن إجلاء بني قينقاع يعتبر ضربة روحية ونفسية لغيرهم من اليهود، وإضعافاً لابن أُبي ومن معه من المنافقين.

أما على مستوى أهداف ونتائج الحرب مع بني قينقاع وهم أشجع اليهود وأكثرهم مالاً ، فالقضاء عليهم معناه ():

1 ـ أن النبي | لا يريد أن يفسح المجال لهم لأن يطمعوا به، ويكتلوا المنافقين والأعراب؛ لأنّ صبر النبي | عليهم، وأمره للمسلمين بالتحمل مهما أمكن، جعل اليهود يظنون أن هذا ناتج عن ضعف وخور، فاستمروا في تحرشاتهم.

2 ـ أن يسهِّل القضاء على الآخرين من الأعداء، ممن هم أقل منهم قوةً وعدداً، وعدةً ومالاً لأنهم إذا رأوا: أن أصحاب الشوكة لم يستطيعوا أن يأتوا بشيء، فإنهم سوف يقتنعون بأنهم، وهم الأضعف، أولى بأن لا يأتوا بشيء أيضاً.

3 ـ أن ما غنمه المسلمون من بني قينقاع، من شأنه أن يزيد من طموحهم للقضاء على أعدائهم، ويسهِّل عليهم الوقوف في وجههم، حيث يرتاح بالهم من جهة معاشهم .

4 ـ كما أن ذلك يعني التخلُّص من عدو داخلي، يعرف مواضع الضعف والقوة، وربما يكون أخطر من العدو الخارجي بكثير.

5 ـ ثم إن القضاء على اليهود كان يتم على مراحل، وذلك بطبيعة الحال أسهل وأيسر من القضاء عليهم فيما لو كانوا مجتمعين دفعة واحدة، وفي صعيد واحد ، يعين بعضهم بعضاً ، ويشد بعضهم أزر بعض.

6 ـ والمسلمون أيضاً، إذا رأوا أنهم قد استطاعوا القضاء على أشجع اليهود، وأكثرهم قوة ونفوذاً، فإنهم سوف يتشجعون للقضاء على من سواهم ، ولا يبقى مجال للخوف ولا للتردد.

أما لماذا تجرأ بنو قينقاع على نقض العهد، فالظاهر أن ذلك يرجع إلى غرورهم واعتدادهم بشجاعتهم وبكثرتهم، ولعلَّهم كانوا يتوقعون نصر حلفائهم من الخزرج لهم، كما يظهر من قولهم له | : لتعلمن أنا نحن الناس . ثم هناك اعتمادهم على ما يملكونه من خبرة عسكرية ومعرفة بالحرب، وقد عبَّروا عن ذلك أيضاً بقولهم لـه|: لا يَغُرَّنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب . وإلاّ فلا مبرر لأن تعلن قبيلة واحدة الحرب على كثير من القبائل في المدينة، إن كانت لا تملك شيئاً من مقومات النصر المحتمل . ولكن كثرتهم وخبرتهم الحربية لم تغنِ عنهم شيئاً، كما أن حلفاءهم من الخزرج لم يفعلوا لهم شيئاً؛ لأنّ المؤمنين منهم تخلوا عنهم، لأن الوفاء لهم خيانة لعقيدتهم الإسلامية وإيمانهم الذي يبذلون أرواحهم في سبيل الحفاظ عليه .

 وأما المنافقون منهم فلم يتمكنوا من نصرهم، بسبب ما قذف الله في قلوبهم من الرُّعب، وكون ذلك سوف يتسبب لهم بانشقاقات وخلافات داخلية . وأقصى ما استطاع ابن أُبي أن يقدِّمه لهم، هو أن يمنع من استئصالهم، مع الاكتفاء بإجلائهم إلى مناطق بعيدة لن يمكنهم الصمود فيها أكثر من سنة ، وليواجهوا من ثم الفناء والهلاك .

وأما لماذا لم يهبّ اليهود لنصرة بني قينقاع، فإن ذلك يرجع إلى أنه قد كان بينهم وبين سائر اليهود عداوة، وذلك لأن اليهود كما قال ابن اسحاق : «كانوا فريقين، منهم بنو قينقاع ولفهم() حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة ولفهم حلفاء الاوس، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم. وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الاوثان، لا يعرفون جنةً، ولا ناراً، ولا بعثاً، ولا قيامةً، ولا كتاباً، ولا حلالاً، ولا حراماً . فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم، تصديقاً لما في التوراة، وأخذ به بعضهم من بعض، يفتدي بنو قينقاع من كان من أسراهم من أيدي الأوس، وتفتدي النضير وقريظة ما في أيدي الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوه من الدماء وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، مظاهرة لأهل الشرك عليهم»() . وكانوا بذلك مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِذْأَخَذْنَامِيثَاقَكُمْلاَتَسْفِكُونَدِمَاءكُمْوَلاَتُخْرِجُونَ أَنفُسَكُممِّندِيَارِكُمْثُمَّأَقْرَرْتُمْوَأَنتُمْتَشْهَدُونَ ثُمَّأَنتُمْهَـؤُلاءتَقْتُلُونَأَنفُسَكُمْوَتُخْرِجُونَفَرِيقاً مِّنكُممِّندِيَارِهِمْتَظَاهَرُونَعَلَيْهِمبِالإِثْمِوَالْعُدْوَانِ وَإِنيَأتُوكُمْأُسَارَىتُفَادُوهُمْوَهُوَمُحَرَّمٌعَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْأَفَتُؤْمِنُونَبِبَعْضِالْكِتَابِوَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (سورة البقرة: 84 ـ 85).

1 ـ أسباب البدء بمحاربة بني قينقاع بنظر ولفنسون

يستعرض ولفنسون النواحي التي تعامل معها الرسول| بذكاء أو الفرص التي اغتنمها للقضاء على أعدائه، كقولـه مثلاً: إنّ النبي| صبر على اليهود ولم يدخل معهم في حرب دموية حتى صارت الظروف ملائمة()، أو كقوله إنّ الأسباب التي حملت النبي| على البدء بمحاربة بني قينقاع من بين جميع اليهود عديدة وهي:

أ. إنّ بني قينقاع كانوا يسكنون داخل المدينة في حي واحد من أحياء الأقوام العربية .

ب. إنّ بني قينقاع كانوا أغنى طوائف اليهود في مدينة يثرب، فكانت بيوتهم تحتوي على الأموال الطائلة والحلي الكثيرة من الفضة والذهب، وكان العرب يطمعون في ذلك . 

ج. إنّ بني قينقاع لم يكونوا كثرة، فكان من السهل مقاتلتهم واستئصال شأفتهم.

د. كانت هناك عداوة بين بني قينقاع وبقية اليهود، سببها أن بني قينقاع كانوا قد اشتركوا مع بني الخزرج في يوم بعاث، وقد اثخن بنو النضير وبنو قريظة في بني قينقاع ومزقوهم كل ممزق، وقد استمرت هذه العداوة بين البطون اليهودية بعد يوم بعاث حتى وقعت الحرب بين الأنصار وبين بني قينقاع فلم ينهض أحد من اليهود في محاربة الأنصار . ويظهر أيضاً أن بني قينقاع كانوا أصحاب مزارع فأخرجهم ابناء جلدتهم منها وأرغموهم على الالتجاء إلى حي واحد في داخل المدينة .

هـ . إنّ بني قينقاع كانوا من موالي بني الخزرج وكانت أغلب بطون بني الخزرج قد دخلت في الإسلام ما عدا بطن عبد الله بن أُبي الذي كان يظهر الإيمان ويبطن الكفر، فقد كانت بطون بني الخزرج توافق على مشروعات النبي| بدون معارضة().

والجواب عليه: إنّ جزءاً من هذا الكلام جزاف من الكاتب، والحق أن الرسول| بدأ بحرب بني قينقاع؛ لأنهم أول من نقض العهد من اليهود وحاربوا، وسبب ذلك المرأة المسلمة التي حاولوا كشف وجهها فأبت ذلك، ثم دبروا حيلتهم الخبيثة حتى كشفوا عورتها، وقتلوا الرجل المسلم الذي حاول الدفاع عنها. ولم يكتفوا بذلك، بل هددوا الرسول| واستفزوه بقولهم إنهم هم الرجال عند الحرب . أضف إلى ذلك أن اغتنام الرسول| للفرص في مواجهة أعدائه سواء كانوا من كفار قريش أم من اليهود أم من المنافقين أمر طبيعي وبديهي، فالتوقيت الزمني الصحيح والظروف الملائمة والعوامل المساعدة كلها أمور يأخذها بعين الاعتبار كل إنسان واعٍ وحاذق ومتدبر ينظر إلى عواقب الأمور، إذا كان محاطاً بالأعداء من كل حدبٍ وصوب، والمؤمن كيّس فطن، فكيف بالرسول| الذي يحمل همَّ الأمة، بل البشرية جمعاء، وهمَّ نشر الرسالة الخاتمة.

نعم، لقد واجه الرسول| اليهود بعدما وجد أنه لم تعد تنفع معهم سياسة الرحمة والعفو والوعظ والإرشاد، فكان لا بد من سياسة العين بالعين والسن بالسن التي أتت أُكُلها . ويعترف ولفنسون بذلك حيث يقول: «يظهر أن أمر إجلاء بني قينقاع كان لـه وقع عظيم في نفوس اليهود، فقد امتنعوا بعد ذلك عن المجادلة الدينية وكفوا عن رمي المسلمين بقوارص الكلم، ودخلت هيبة المسلمين في قلوب البطون العربية التي لم تكن دخلت في الإسلام، فانفسح المجال أمام النبي| لنشر دعوته»() .

2 ـ آرمسترونغ: سلوك محمد| والتقاليد العربية القديمة

تتفهَّم آرمسترونغ سلوك محمد| تجاه اليهود عموماً وبني قينقاع خصوصاً، أنه بعد معركة بدر أخذ موقف محمد| يتحسن، لكن عقلاء المسلمين كانوا يعلمون جيداً أنه قد لا يكون من السهل إلحاق الهزيمة بقريش في مرة قادمة، وأن القبائل اليهودية كان لديها مقاتلون كثر ومقدرتها القتالية مؤثرة، وفي حالة هجوم مكي محتمل كان بالإمكان إقناع اليهود بالانضمام إلى قريش من أجل الخلاص من هذا الذي قالوا عنه أنه مدعي . وتصرح كارين آرمسترونغ أن القبائل اليهودية كانت تدعم ابن أُبي الذي أعلن أنه على استعداد لإطاعة الوحي، لكنه رفض أن يطيع محمداً شخصياً .

 وتزيد آرمسترونغ أن محمداً كان يعرف، طبقاً للتقاليد العربية القديمة، أنه يملك حق قتل أفراد القبيلة كلها، لكنه أبقى على حياتهم شرط أن يغادروا الواحة حالاً، وهذا ما فعلوه، حيث غادروا الواحة دون احتجاج؛ لأنهم كانوا مدركين أن الحظ حالفهم؛ لأنهم نجوا بأرواحهم. فأثناء الحروب كانت القبائل تُطرد من الواحة في الفترة التي سبقت الفترة الإسلامية، فجميع سكان المدينة كانوا يعرفون هذا العقاب، ولا بد أن بني قينقاع قد توقعوا الرحيل().

وتضيف آرمسترونغ أن محمداً لم يكن لديه رغبة في جعل المدينة خالية من اليهود، كان صراعه مع بني قينقاع صراعاً سياسياً محضاً، ولم ينتقل إلى عشائر يهودية أخرى في المدينة، حيث بقي وفياً لهم؛ لأنهم بقوا في تلك الفترة أوفياء للمعاهدة، وعاشوا مع المسلمين في سلام. وتكمل آرمسترونغ توصيفها، حيث تقول: إنّ محمداً لم يكن بوسعه التستر على عدو في الداخل، في تلك الفترة التي كانت شديدة الخطورة على الأمة، حيث كان أفرادها يتوقعون هجوماً كبيراً من مكة. وأن إخراج بني قينقاع كان تحذيراً للمنشقين البارزين مثل ابن أُبي، وبني النضير ().

ثانياً ــ صراع الرسول| مع بني النضير

لقد توقَّع اليهود أن يواجه النبي| والمسلمون نقض بني النضير للعهد، وقد عاش بعض المسلمين حالة من القلق وعدم الارتياح، بل وحتى الخوف والارتباك والتزلزل. ولكن النبي| والمسلمون معه قابلوا ذلك بموقف الحازم العاقل المصمم على التصدي وبسرعة غير متوقعة، مما أضعف من قدرة اليهود والمنافقين على التأثير في خلخلة الوضع الداخلي . ونجد أن النبي| قد اعتبر تآمرهم على حياته ومحاولتهم اغتياله، وإن لم ينجحوا في مجال تنفيذ ذلك، نقضاً للعهد يُسوّغ مواجهتهم بالموقف الصارم والحازم . وواضح أن اغتيال القيادة الإسلامية هو أجلى مظاهر الخيانة وأخطرها، ويجب أن لا ننتظر من الخائنين إعلانهم للحرب.

فقد نقل الطبري عن ابن إسحاق أنه قال: «خرج رسول الله| إلى بني النضير يستعينهم في دية ذينك القتيلين من بني عامر، اللذين قتلهما عمرو بن أُميّة الضمري، للجوار الذي كان رسول الله| عقد لهما .. وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعقد، فلما أتاهم رسول الله| يستعينهم في دية القتيلين، قالوا: نعم، يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت مما استعنت بنا عليه. ثم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا هذا الرجل على مثل حاله هذه، ورسول الله| إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد، فقالوا: مَن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيقتله فيريحنا منه.. فأتى رسول الله| الخبر من السماء بما أراد القوم،فقام وقال لأصحابه لا تبرحوا حتى آتيكم، وخرج راجعاً إلى المدينة. ولما رجع أصحاب رسول الله| انتهوا إليه وهو جالس في المسجد، فقالوا: يا رسول الله| انتظرناك ومضيت، فقال: همت يهود بقتلي وأخبرنيه الله عزّ وجلّ، ادعوا إليَّ محمد بن مسلمة، قال: فأتى محمد بن مسلمة، فقال: اذهب إلى يهود فقل لهم: أخرجوا من بلادي ولا تساكنوني وقد هممتم بما هممتم به من الغدر.. فقالوا: نتحمل، قال: فأرسل إليهم عبد الله بن أُبي يقول: لا تخرجوا فإن معي من العرب وممن انضوى إليّ من قومي ألفين فهم يدخلون معكم وقريظة تدخل معكم.. فقال سلام بن مشكم لحيي بن أخطب: يا حيي إقبل هذا الذي قال محمد، فإنما شرفنا على قومنا بأموالنا قبل أن تقبل ما هو شر منه، قال وما هو شر منه؟ قال أخذ الأموال وسبي الذراري وقتل المقاتلة، فأبى حيي، وأرسل إلى رسول الله|: إنا لا نريم دارنا فاصنع ما بدا لك، قال: فكبّر رسول الله| وكبر المسلمون معه، وقال: حاربت يهود ..»().

أما اليهود في نقضهم لعهودهم فكانوا يزِنون الأمور بموازين الربح والخسارة في الدنيا، كما كانوا واقعين تحت تأثير التصورات والأمور التالية:

أ ـإنهم يرون أن الخطر الذي يتهددهم من جهة المسلمين، عظيم وشديد وحتمي، فقد كانت الحرب نفسها تخضع لاحتمالات إيجابية بالنسبة إليهم لاحتمال مساعدة المشركين والمنافقين لهم. كما أنهم كانوا يرون أن الوضع العام للمسلمين لا يسمح لهم باتخاذ قرار الحرب، الأمر الذي يجعل ارتكاب أخطار الحرب أهون عليهم .

ب ـ{وَظَنُّواأَنَّهُممَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُممِّنَاللَّهِ}(سورة الحشر: 2)، حيث إنّ المسلمين لم يثبتوا بعد أن لديهم قدرات وكفاءات عسكرية لمواجهة حصون اليهود .

ج ـ إنّ اليهود يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم شعب الله المختار، ومعنى ذلك هو أن دعوة محمد| سوف تصبح خطراً أكيداً على امتيازاتهم .

لقد كان من المتوقع بعد نقض بني النضير للعهد وخيانتهم الظاهرة، أن يكون قرار النبي| هو حربهم وقتالهم وإبادة خضرائهم، فإن ذلك هو الجزاء العادل لكل خائن وغادر، إذا كان يخطط ويتآمر لضرب مقام النبوة والقيادة في أعلى مستوياتها، ولكن الملاحظ هو أنَّ الرسول الأعظم| قد آثر أن يعامل بني النضير كما عامل بني قينقاع قبلهم بمزيد من التسامح ، ولعل ذلك يرجع إلى الأمور التالية :

ألف ـإنّ الإسلام دين تسامح ومسؤولية، وبالتالي فإن إعطاء يهود المدينة فرصةً ثانية لكي يُعيدوا حساباتهم ويعودوا إلى جادة الصَّواب يعني إلقاء المزيد من الحجة عليهم .

ب ـ إنّ هؤلاء القوم قد عاشوا دهراً في هذه المنطقة، وأصبحت لديهم الكثير من العلاقات الاقتصادية والتجارية، إلى جانب علاقات الصداقة مع سائر أهل البلاد.

ج ـ إن رؤية ما يصدر منهم خلال ذلك ومراقبته من مواقف ماكرة وغادرة، ومن مخالفات صريحة للأعراف ولأحكام العقل والفطرة والضمير، لسوف يُسهم في كشف زيفهم وخداعهم وغشهم للإسلام وللمسلمين.

لقد جاء قرار إجلائهم عن المدينة ليكون القرار الحكيم والصائب، وقد أبلغهم النبي الأعظم| بقراره هذا عن طريق رسول أرسله إليهم، ليرى ماذا يكون جوابهم ويعلم الناس حقيقة موقفهم . لكن لماذا اختار النبيّ | رسولاً أوسياً ؟ فنقول : إن الأوس كانوا حلفاء لبني النضير، ولربما كان يدور بخلدهم أن يكون للأوس دور إيجابي لصالحهم، ولا أقل من أن يكون لهم موقف فيه شيء من العطف، وعدم القسوة تجاههم . إذا عرفنا ذلك ، فإن اختيار رجل الأوس ليحمل رسالة النبي| إليهم يأمرهم فيها بالجلاء، لسوف يزيد من يأسهم، ويضاعف من تخوفاتهم، وهو يمثل ضربة روحية موفقة ساهمت في المزيد من إضعاف معنوياتهم، وجعلتهم يراجعون حساباتهم بجدية، ثم يرضخون للأمر الواقع .

لقد «زحف إليهم رسول الله| فحاصرهم خمسة عشر يوماً، حتى صالحوه على أن يحقن لهم دماءهم، وله الأموال والحلقة(). فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يُخرجهم من أرضهم وأوطانهم ويسيرهم إلى أذرعات الشام، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء.. وقد كان رهط من بني عوف بن الخزرج منهم عبد الله ابن أُبي بن سلول.. قد بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنَّعوا فإنا لن نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم فتربَّصوا، فلم يفعلوا وقذف الله في قلوبهم الرُّعب..ولم يسلم من بني النضير إلاّ رجلان: يامين بن عمير بن كعب، وأبو سعد بن وهب أسلما على أموالهما فأحرزاها، واستخلف رسول الله| إذ خرج لحرب بني النضير فيما قيل ابن أم مكتوم. وكانت رايته يومئذٍ مع علي بن أبي طالب×»().

3 ـقطع نخل بني النضير

فعل يهود بني النضير فعلتهم وهم يظنون أن النبي| لن يستطيع مواجهتهم . وإذا كانت قضية بني النضير قد حصلت بعد وقعة أُحد، فلا بد أن يكون اليهود قد فكروا : أن محمداً| وأصحابه قد أصبحوا الآن في موقف الضعف والتراجع، ولعل في تسويف الوقت معهم يحس المسلمون بالفشل وبالكارثة، ويفكرون في انتهاج سبيل السلامة والانسحاب من موقع التحدي إلى موقع المساومة. وأما إذا كانت قضية بني النضير قد حصلت قبل ذلك، وبعد ستة أشهر من حرب بدر، فلعل يهود بني النضير قد فكروا: أن المسلمين سوف لا يفرِّطون بهذا النصر الكبير الذي حققوه، وبالتالي فهم على استعداد لمداراة هؤلاء وأولئك . ولعل اليهود يعتقدون أن حرب بدر كانت أمراً اتفاقياً صنعته المصادفة، والحظ السّيء للمشركين، وليس نتيجة قدرات حقيقية كانت لدى المسلمين.

وتذكر الروايات أن النبي الأكرم| قد أمر المسلمين بقطع نخل بني النضير والتحريق فيه، فناداه اليهود: أن يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من صنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها، فأنزل الله: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَاقَائِمَةً عَلَىأُصُولِهَافَبِإِذْنِاللَّهِوَلِيُخْزِيَالْفَاسِقِينَ} (سورة الحشر: 5). ونحن نشك في أن يكونوا قد قطعوا عدداً قليلاً من النخل أو أحرقوه، فإنّ قطع نخلة واحدة، وحتى ست نخلات، لا يوجب خضوع بني النضير وقبولهم بالجلاء وخزي الفاسقين، كما أنه لا يوجب نزول آية قرآنية تتحدث عن هذا الأمر، وتخلده كأسلوب ناجح في إرعاب العدو وإرهابه، فإنه لا بد أن يكون القطع قد بلغ حداً جعلهم يجنحون إلى الاستسلام، والقبول بما يريده الرسول|. وقد استعمل النبي| ابن سلام على قطع نخل يهود بني النضير؛ لأنه كان من علماء اليهود، مما ساعد على بث اليأس في نفوسهم وإذلالهم وخزيهم وكسر شوكتهم، وهم ذوو الغطرسة والعنجهية والخيلاء . فمن الواضح أن الهدف من هذا الإجراء كان الضغط على هؤلاء القوم وإغاظتهم نفسياً.

ولكن رسول الله| يقول : «من قتل صغيراً، أو كبيراً، أو أحرق نخلاً، أو قطع شجرةً مثمرةً، أو ذبح شاةً لاهياً بها، لم يرجع كفافاً»(). زد على ذلك أن بعض الفقهاء يُحرِّم قطع الشجر أثناء الحرب، وبعضهم يفتي بكراهة ذلك، وبعضهم الآخر يُجوِّزه في حال الضرورة فقط. أضف إلى ذلك كله: أن اليهود أنفسهم قد اعترضوا على النبي| بأنه ينهى عن الفساد، فلِمَ يقطع النخل؟! ومع ذلك فقد تحدث القرآن عن هذا القطع بأسلوب الرضا والقبول، كما رد على الذين عابوا قطع الأشجار وأكد أن ذلك إنما كان بإذن من الله سبحانه، تماماً كما كان ترك ما ترك منها بإذن الله تعالى.

إذن، فلا بد لنا من التعرف على السر الكامن وراء تجويز هذا العمل وصيرورته مقبولاً بعد أن كان مرفوضاً، فنقول : إن الذي يبدو لنا هو أن بني النضير أهل الزهو والخيلاء والعزة، كانوا يحسون في أنفسهم شيئاً من القوة والمنعة في قبال المسلمين، ويجدون أن بإمكانهم مواجهة التحدي فيما لو أتيح لهم إطالة أمد المواجهة، حيث يمكنهم أن يجدوا الفرصة لإقناع حلفائهم بمعونتهم، إذا تحرك أهل خيبر الذين كان لديهم العدة والعدد الكثير. كما أن ابن أُبي ومن معه قد يراجعون حساباتهم ويتمكنون من إحداث بلبلة داخلية، ويفون لهم بما وعدوهم به من النصرة والعون، ولا أقل من أن يتمكن ابن أُبي وأتباعه من إرباك المسلمين وزعزعة ثباتهم من الداخل .

وقد يمكن لقريش ولمن يحالفها من قبائل العرب أن يتحركوا أيضاً لحسم الموقف لصالح بني النضير . ولا أقل من أن يتمكن يهود بني النضير من الاحتفاظ بمواقعهم وبأرضهم وديارهم، حين يجد المسلمون أن مواصلة التحدي لهم لن يجدي نفعاً ما داموا قادرين على الاحتماء بحصونهم والدفاع عنها مدة طويلة، فيتراجعون عن حربهم، ويتركونهم وشأنهم من أجل التفرغ إلى ما هو أهم وأولى.

إذن، فقد شخّص النبي| مصلحة في ذلك، فاعتبر أن مفسدة قطع شجر النخيل أقل من مصلحة كبرى وهي إلحاق الهزيمة ببني النضير الذين كانوا يراهنون على عامل الوقت . فإذا استطاع النبي | والمسلمون، كسر عنجهية اليهود وغزو بني النضير قبل أن يستفحل الأمر، وإفهامهم مدى التصميم على المواجهة والتحدي، حتى يفقدوا الأمل بجدوى المقاومة، وليفهموا أنهم إذا كانوا يطمعون بالبقاء في أرضهم، فإن عليهم أن يقبلوا بها أرضاً محروقة، لا تستطيع ان توفر لهم حتى لقمة العيش التي لا بد منها . هذا فيما لو قُدِّر لهم أن يحتفظوا بالحياة، ويخرجوا أو بعضهم سالمين من هذه الحرب التي جرّوها على أنفسهم.

فكان قطع النخيل يمثل قطع آخر آمالهم، وتدمير كل أمانيهم، وغاية ذلهم وخزيهم . ولرأوا حينئذٍ أن لا فائدة من الاستمرار في اللجاج والتحدي إلاّ تكبد المزيد من الخسائر، ومواجهة الكثير من النكسات . فقد كان قطع النخل ضرورياً ولازماً من أجل قطع آمال بني النضير، وكل آمال غيرهم أيضاً، وخزيهم وخزي سائر حلفائهم، وعلى رأسهم ابن أُبي ومن معه من المنافقين، ثم كل من يرقب الساحة ويطمع في أن يستفيد من تحولاتها في تحقيق مآربه ضد الإسلام والمسلمين() .

 وبعد كل ما تقدم، فقد جاء موقف الإسلام المتمثل في موقف رسوله الأعظم|، في دقته وفي ثاقب بصيرته، على خلاف ما يتوقعون، وبغير ما يريدون ويشتهون . فقد رأى المسلمون، من خلال الموقف النبوي الحازم والقوي، أن عليهم من الآن فصاعداً أن يطردوا من آفاقهم كل مظاهر الضعف والتشرذم والتشتت، فالتحدي كبير والمسؤوليات جليلة وخطيرة ولا بد من الاستعداد والتصدي. فقد وصل المسلمون إلى نقطة اللارجوع، وأصبح الثمن غالياً وهو دماء زكية . وقد اتضح لدى المسلمين أن أي تراجع أمام التحديات الكبيرة الراهنة، لسوف تلحقه تراجعات أعظم، ويستتبع انحساراً أكبر عن كثير من المواضع والمواقع الحساسة لصالح كل الأعداء والطامعين . وأما بالنسبة الى أولئك الذين يميلون إلى الدخول في هذا الدين الجديد، فإنهم حين يرون ضعفه وتراجعه وقوة خصومه وشوكتهم، سوف يجدون في أنفسهم المبررات الكافية للتأني والتريث بانتظار المستجدات، وما ستؤول إليه الأمور . ولربما يتشجع الكثيرون أيضاً على نقض تحالفاتهم، التي كانوا قد عقدوها مع المسلمين ما دام أن ذلك لن يستتبع خطراً، ولا يصطدم بصعوبات ذات بال . 

4 ـ تحقيق أسباب النصر

للنصر شروطه الموضوعية ومنها : الصبر والتقوى والشجاعة والثبات والاستعداد والأخذ بأسباب القوة وإطاعة القيادة الإلهية الحكيمة التي كانت متمثلة في ذلك الزمان بشخص الرسول الأكرم |، وحسن التوكل على الله عزّ وجلّ. فالمسلمون انتصروا في بدر حينما كانت الشروط الموضوعية بحسب منطق سنن التاريخ تفرض أن ينتصروا . ولم ينتصر المسلمون في أُحُد؛ لأنهم خالفوا شرطاً أساسياً من شروط النصر، وهو إطاعة القيادة الإلهية الشرعية الحكيمة . والقرآن لم يقل بأن رسالة السماء خسرت المعركة في أُحُد بعد أن كانت ربحت المعركة في بدر، فرسالة السماء فوق مقاييس النصر والهزيمة بالمعنى المادي، والذي يُهزم هو الإنسان حتى لو كان مؤمناً؛ لأنه خاضع للسنن الكونية التي أجراها الله تعالى على عباده في هذه الحياة الدنيا . أضف إلى ذلك أن ليقظة القائد الفذ وتنبهه للأمور ورصدها بدقة ووعي، ولقدرته على استشراف المستقبل، دوراً كبيراً في إحكام الأمور، وفي ترسيخ قواعد الحكم والحاكمية، ثم في إبعاد الأخطار عن المجتمع الذي يرعاه، وحسن تدبير شؤونه .

وعلى هذا الأساس، نستطيع أن نتفهم بعمق ما نشهده من مبادرات متكررة للرسول الأعظم| لضرب أي تجمع أو تحرك ضد المسلمين قبل أن يشتد عوده، ولا يعطيه أي فرصة ليتماسك ويقوى ويستفحل أمره . وذلك لأن الانتظار إلى أن تحتشد جموع الأعداء معناه أن يواجه المسلمون صعوبات كبيرة وربما خطيرة للتخلص من شرهم وتفويت الفرصة عليهم . وهذا ما يفسر لنا ما نجده من رصد دقيق من قبل المسلمين لكل القوى المعادية التي كانت معنية بالوجود الإسلامي في بلاد الحجاز، ثم نعرف سر السرعة التي كان يظهرها المسلمون في ردة الفعل .

5 ـالمهاجرون وأموال بني النضير

لقد قسَّم النبي| أموال بني النضير بين المهاجرين ليرفع مؤونتهم عن الأنصار، إذ كانوا قد قاسموهم في الأموال والديار، قال تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَالَّذِينَأُخْرِجُوامِندِيارِهِمْوَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَفَضْلًامِّنَاللَّهِوَرِضْوَانًاوَيَنصُرُونَاللَّهَوَرَسُولَهُأُوْلَئِكَ هُمُالصَّادِقُونَ}( سورة الحشر: 8 ) . غير أنه أعطى أبا دجانة، وسهل بن حنيف لحاجتهما. فقد كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله|، لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله| حبساً لنوائبه، ولم يخمسها()، ولم يسهم فيها لأحد . وقد أعطى ناساً من أصحابه، ووسَّع على بعض الناس منها .  وكان ينفق على أهله منها نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع() والسلاح، عدة في سبيل الله عزّ وجلّ().

ونقول : لو صح ذلك من فعل النبي |، فإنه يكون تبرعاً منه| بما هو له. قال تعالى :{وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة الحشر: 6).

6 ـ موقف بعض المستشرقين من حادثة بني النضير
أ ـ تفهّم آرمسترونغ لسلوك محمد|تجاه بني النضير

أما فيما يتعلق بحادثة بني النضير فتتفهَّم آرمسترونغ تصرف النبي بل تسوّغه قائلة: «في الواقع لم يكن كبير حاجة لتحذير الوحي، فقد كان بعض أفراد بني النضير يريدون أن يثأروا لمقتل الشاعر كعب بن الأشرف.. جرّب اليهود التفاوض مع محمد| للتوصل إلى تسوية، لكن ابن أُبَيْ وجد فيها فرصة ممتازة لـه للقيام بمحاولة أخرى للخلاص من محمد|، فأخبر اليهود أنه سيضم قواته إلى قواتهم إذا كانوا على استعداد للخلاص من المسلمين، فانسحب بنو النضير إلى قلعتهم وراقبوا المسلمين وهم يحيطون بهم، وانتظروا مجيء ابن أُبي وجماعته كي يُخَلِّصوهم، لكن شيئاً من هذا لم يحدث.. بعد مضي أسبوعين أعلن محمد| أن ليس باستطاعته الانتظار لمدة أطول فأمر بقطع نخيلهم، فكان ذلك بمثابة إعلان الحرب الشاملة، فأرعب ذلك اليهود الذين استسلموا لـه متوسلين أن يبقي على حياتهم فوافق محمد| على ذلك شرط مغادرتهم الواحة حالاً.. لم يكن مركز محمد يتحسَّن في المدينة فحسب، بل كان المد قد بدأ يتحوَّل لصالحه في بقية الجزيرة»().

ب ـ رأي ولفنسون في الحرب على بني النضير

المستشرقون ينكرون صحة رواية دية القتيلين، ومحاولة اغتيال الرسول| عبر رمي الصخرة عليه، ويستدلون على ذلك بعدم وجود ذكر لها في سورة الحشر التي نزلت بعد إجلاء بني النضير.

والجواب على ذلك من خلال

1ً. إنّ الدية على القاتل أو على عشيرته، وإن كان لا بد من التوسع فعلى عشيرته ومن حالفهم بناء للوفاء بالعهد .

2ً. إنّ النبي| كان الوفي دائماً سواء مع اليهود أو مع غيرهم، وهذا ما صرحوا هم به مراراً، أضف أن القرآن يوحي بالوفاء بالعهد ويؤكّد عليه بقوة، والرسول| هو القرآن الناطق والإنسان الكامل، ولا يخالف تعاليم الإسلام، فلماذا ينقض العهد معهم الآن وهو الصادق الأمين؟

3ً. أنه لو نقض عهداً بدون مسوّغ لثارت ثائرة الجميع في البلاد العربية، سواءً العرب المشركين أو اليهود، حيث كان الرسول| مستهدفاً إعلامياً ومراقباً بدقة، وأعداؤه ينتظرون منه أي هفوة أو خطأ يتناقض مع تعاليم الإسلام وشريعته التي أتى بها، بل حتى المسلمون لم يكونوا ليرضوا بذلك . ولكننا لم نرَ أثراً لذلك لا في الشِّعر ولا في النثر ولا في المراسلات . وإنما هو مجرد تشكيك يخالف سير الوقائع .

4ً. أضف إلى ذلك أن التاريخ أنصف اليهود ولم يكن متحاملاً عليهم، بل إنّ اليهود أنفسهم لم يدَّعوا أن النبي| ظلمهم ونقض العهد معهم. ومن المفيد أن نذكر  أن تاريخنا الإسلامي لم يُخْفِ الحقائق والوقائع، بل حكى سقطات الخلفاء واجتهاداتهم المصيبة والخاطئة وسياساتهم مع الإنسانية وضدها .

إشكال آخر

ويطرح ولفنسون إشكالاً آخر على ما ورد في المصادر التاريخية الإسلامية في شأن هذه الحادثة قائلاً: «لو سلمنا بصحة هذه الرواية، فإننا لا نجدها كافية لإشهار الحرب على جميع بطون بني النضير، إذ نعلم من نص المعاهدة الكبيرة بين الرسول| واليهود، أن كل جرم من جهة فرد أو عدة أفراد يقع عقابه على فاعليه وأهل بيتهم دون أن يمس غيرهم بشيء من الأذى»().

ويرد عليه

1ً. إنّ هذا البطن موجود في حصن بني النضير، وإنّ اليهود تشاوروا فيما بينهم قبل أن يحاولوا اغتيال الرسول| .

2ً. ثم إنّهم تحصنوا في حصونهم وواجهوا المسلمين، وقالوا للرسول|: إفعل ما شئت، ولم يطرحوا عليه تسليم الجناة على فرض أنهم كانوا مجموعة أفراد فقط، ولم يستنكروا هذا الفعل القبيح وهذه الخيانة الكبيرة .

3ً. ثم إنّ النبي| أجلاهم أي رحّلهم فقط، وسلب منهم أسباب الحرب، ولم يقتلهم .

ويحاول ولفنسون أن يسوّغ عمل اليهود وخياناتهم بطريقة أخرى بقوله: إنّ ضرورات الحرب أباحت للأُمم استعمال الحيل والأكاذيب والتوسل بالخدع والأضاليل للتغلب على العدو.

ونقول: إنّه لو صح ذلك فإنه مُسوّغ مع العدو وليس مع الحليف والصديق الذي عقدت معه المعاهدات .

ج ـ المستشرق وات وقصة بني النضير

أما وات فيشير إلى الحدث المهم ويعتبر أن ادعاء محمد|، بأنه تلقى إنذاراً من السماء بأن النضير كانت تتآمر للغدر به باسقاط حجر على رأسه وهو جالس إلى الحائط، غامض ولا يشكل دليلاً على خيانة يهود بني النضير الذين أُهينوا من قبل محمد| عندما اتهموا بمحاولة قتله، حيث كانوا يعدّون له الطعام وهو يستريح مع أصحابه وظهورهم إلى حائط أحد بيوتهم . وأن بني النضير كانوا على استعداد لإعطاء جواب مرضٍ، ولكن محمداً استنفر وذهب دون أن يعرف أحد السبب واتهمهم بمحاولة قتله دون دليل، وطلب منهم أن يغادروا المدينة تحت طائلة الموت في مدة عشرة أيام على أن يحتفظ اليهود بملكية نخلهم وبأخذ نصف المحصول .

وعندما رفض اليهود أن يخضعوا لمطالب النبي| حاصرهم خمسة عشر يوماً، وهم ينتظرون مساعدة عبد الله بن أُبي الذي وعدهم بمحاربة محمد ولكنه لم يفِ بوعده. زد على ذلك أن المسلمين بدؤوا بقطع النخيل فأعلن بنو النضير عندئذٍ أنهم على استعداد للخضوع للشروط المطلوبة سابقاً، غير أن النبي| استغل فرصة خضوعهم لـه وفرض عليهم شروطاً أشد وأقسى، فأوجب عليهم التخلي عن أسلحتهم، وأن لا يأخذوا شيئاً من محصول النخيل، فاضطروا للقبول أيضاً() . ولربما فكَّر محمد بأن على اليهود أن يدفعوا أكثر مما يدفعه متوسط سكان المدينة، فراق لليهود أن يدفعوا أقل().

ثم يتابع هذا المستشرق، بمزيد من التجني، كلامه عن ذكر إرسال النبي | إليهم يأمرهم بمغادرة المدينة، تحت طائلة الموت في مدة عشرة أيام، على أن يبقى نخلهم لهم ويحتفظوا بنصف المحصول، فيقول : «إن هذا الإنذار لا يتناسب مع الإهانة، أو الادعاءات الغامضة ، بصدد خيانة مقصودة».

ويرد عليه

1ً. إنّ المستشرق يعتبر أن الوحي الذي نزل على محمد| هو ادعاء غامض، بالرغم من أنه يعرف جيداً سيرة محمد المشهور بالصدق والنزاهة والأمانة والوفاء بالعهد .

2ً. كما أنه من المعروف أيضاً، وبحسب الآراء السائدة آنذاك في شبه الجزيرة العربية، أنه إذا سنحت الفرصة المناسبة لاغتيال النبي| لانتهزها أعداؤه وقتلوه، خصوصاً بعد عملية اغتيال كعب بن الأشرف .

3ً. ونتساءل هل أن النبي| كان يطلب من بني النضير، دفع شيء لم يكونوا ملزمين بدفعه؟! وهل أنَّ بني النضير وقعوا ضحية أطماع مالية لا مسوّغ لها، ولا يصح مطالبتهم بها لا واقعاً ولا أخلاقياً ؟! وهل أن اليهود مظلومون، ومع ذلك فقد استسلموا لهذا الظلم وأعلنوا أنهم على استعداد لإعطاء جواب مرض؟!

4ً. إننا نتساءل عن  حجم الإنذار الذي يتناسب برأي المستشرق مع إهانة اليهود للنبي| وخيانتهم له ونقضهم للعهد ومحاولة قتلهم إياه . ثم لماذا اعتبر هذا الباحث : أن ما يذكره النبي| والمسلمون من تفصيلات وافيه  عن خطط اليهود ومواقفهم، وخيانات بني النضير وتآمرهم، ونقضهم العهد مجرد ادعاءات؟! في الوقت الذي لم يستطع اليهود أن يدفعوا التهمة عن أنفسهم، ولا حاولوا ذلك ولو مرة واحدة. هذا كله ، عدا عما تقدم من أن أخبار المؤامرة والخيانة التي قد وصلت إلى المسلمين أيضاً عن طريق بعض اليهود أنفسهم.

الحديث عن معركة الأحزاب يحتاج إلى تتبع أحداث، إضافة إلى وقفات تحليلية سريعة، لذا من المهم جمع شتات المطالب وربط بعضها ببعض ولو في حدود الخطوط العامة للحدث.

ولأجل ذلك رأينا أن نستعرض، ولو بشكل موجز، معركة الأحزاب أو ما يصطلح عليه بغزوة الخندق، والأهداف التي كانت تتوخاها قريش، واليهود، وبعض قبائل الأعراب من هذا الإجماع والتحالف على شن هذه الحرب، وعوامل التجييش، وخطة الدفاع، وعوامل النصر.

وبما أنّ الارتباط وثيق بين معركة الأحزاب وغزوة بني قريظة، لما اختصهما الله تعالى في كتابة العزيز بالكثير من آيات سورة الأحزاب، فقد رأينا ـ نظراً
لاتساع البحث في غزوة بني قريظة ـ أن نكتفي هنا بمعركة الخندق، ونحيل القارئ الكريم الذي يود الاطلاع على تفاصيل ما جرى على بني قريظة، وملابسات هذه الغزوة، وما أُثير حولها من إشكاليات وجدل، إلى مجلة الاجتهاد والتجديد، وقد ألمحنا إلى عددها آنفاً، فانظر الهامش رقم(6).

1 ـموجز عن غزوة الخندق

سار عدد من اليهود إلى مكة في السنة الرابعة للهجرة، واستنفروا أهلها لقتال النبي| واستئصال المسلمين. واتصلوا أيضا بقبيلة غطفان وقبائل عربية اخرى، وحرضوهم على حرب محمد| ووعدوهم بالأموال. فساروا وهم ألوف كثيرة إلى المدينة لإنجاز هذه المهمة . فبلغ النبي| خبرهم، فحفر خندقاً حول المدينة من الجهة المكشوفة منها . وجعل للخندق أبواباً، وجعل على الأبواب حرساً . وقد شارك النبي| بنفسه في حفر الخندق، وظهرت له| حينئذ كرامات ومعجزات، وقد عسكر| إلى جنب جبل سلع، وجعل الخندق بينه وبين الأحزاب، وجعل النساء والصبيان في بعض حصون المدينة، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم. وكان لواء النبي| مع علي×.

ولما وافى الأحزاب فوجئوا بالخندق، ونزلوا في الجهة الأخرى منه. وحاصروا المسلمين وذهب حيي بن أخطب اليهودي إلى بني قريظة، ولم يزل بهم حتى نقضوا العهد مع المسلمين، فلما بلغ النبي| ذلك أرسل إليهم من يثبت له الأمر فرجعوا إليه وأخبروه بأن ما بلغه صحيح، فاشتد الأمر على المسلمين وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وعظم البلاء، ونجم النفاق، وكثر الخوض، وبلغت القلوب الحناجر. قال تعالى: {وَإِذْيَقُولُالْمُنَافِقُونَوَالَّذِينَفِيقُلُوبِهِم مَّرَضٌمَّاوَعَدَنَااللَّهُوَرَسُولُهُإِلَّاغُرُورًا}( سورة الأحزاب: 12).

وقد سُمّيت سورة قرآنية باسم غزوة الأحزاب أو (الخندق)، بسبب أهميتها البالغة.

ويبدو أن جماعات من المسلمين قد تركوا النبي| وفرّوا، وقد كشفت عائشة أمرهم، وذلك بعد إصابة سعد بن معاذ بسهم. كما أن النصوص تؤكد على أن النبي| قد بقي في ثلاثمئة من المسلمين.

ومهما يكن من أمر فقد انتُدب فوارس من المشركين فأتوا مكاناً ضيقاً من الخندق، وأكرهوا خيلهم على عبوره، فعبره عكرمة بن ابي جهل، وعمرو بن عبد ود، وضرار بن الخطاب الفهري، وهبيرة بن أبي وهب، وحسل بن عمرو بن عبد ود، ونوفل بن عبد الله المخزومي . فخرج أمير المؤمنين في نفر من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموها وطلب عمرو بن عبد ود البراز فلم يبرز إليه أحد من المسلمين، وخافوا منه خوفاً شديداً، لما يعرفون من شجاعته وفروسيته، وكان يُعَدُّ بألف فارس. وطلب علي× من النبي| أن يأذن لـه بمبارزته، فلم يأذن لـه. فكرر النداء، وأنشد الشعر، وعيَّر المسلمين المحجمين عنه، فطلب علي× الإذن مرة أخرى فلم يأذن له الرسول|، فلما كان في المرة الثالثة، ولم يبادر إلى ذلك سوى علي×، أذن لـه النبي| وعمَّمه ودعا لـه، وقال: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله». فبارزه علي× فقتله . وقتل ولده حسلاً، ونوفل بن عبد الله، وفر الباقون . فقال |: «ضربة علي يوم الخندق تعدل (أو أفضل من) عبادة الثقلين إلى يوم القيامة»().

وتقول بعض الروايات أن نعيم بن مسعود قد أسهم في إحداث الفتنة بين بني قريظة وبين المشركين، ولكن الظاهر أن النبي| الذي ألقى فيما بينهم بذور الخلاف والشك، ثم أرسل الله سبحانه الريح على المشركين فكانت تكفأ قدورهم، وتطرح خيامهم، وتعبث بكل ما يحيط بهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فعادوا بالخزي والخيبة، والرعب يلاحقهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وقال النبي| حينئذ الآن نغزوهم ولا يغزوننا، فكان كما قال.

لقد جاءت حرب الأحزاب المفاجئة لتبدد كل آمال المسلمين بتحسّن أوضاعهم المعيشية، ولتزيد من قسوة الظروف ومرارة المعاناة، ولتكون الكابوس المخيف جداً بما تميزت به من حشد بشري هائل، وإعداد واستعداد، وإجماع على العداء لهم من مختلف القبائل والديانات والشعوب التي تعيش في المنطقة. إن حركة الأحزاب قد جاءت محرجة للمسلمين إلى درجة كبيرة وخطرة من الناحية العسكرية والإستراتيجية الحربية؛ لأنها اتخذت صفة هجوم شامل عليهم، من مختلف المواضع والمواقع، قال تعالى:{إِذْجَاؤُوكُممِّنفَوْقِكُمْوَمِنْأَسْفَلَ مِنكُمْوَإِذْزَاغَتْالأَبْصَارُوَبَلَغَتِالْقُلُوبُالْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَبِاللَّهِالظُّنُونَا * هُنَالِكَابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً} (سورة الأحزاب: 10 ـ 11). يقابل ذلك ضعف ظاهر لدى المسلمين، في العدة وفي العدد، واختراق خطير من قبل الأعداء لصفوف أهل الإيمان من خلال قوى النفاق التي كانت تتغلغل داخل جسم هذا المجتمع الإسلامي الصغير والناشئ . هذا كله اضافة إلى المشاكل المعيشية، والحياتية على مستوى الفرد والجماعة . سواء تلك المشاكل الناشئة عن الحروب والمواجهات السابقة مع الأعداء، أو المشاكل التي تنشأ عادة من صياغة حياة اجتماعية لفئات تعاني أصلاً من تناقضات كثيرة فيما بينها، أضف إلى ذلك وجود الكثير مما هو من مُخَلَّفات الجاهلية الرَّعناء . ولا ننسى هنا الإشارة إلى ضعف تأثير العامل القبلي() لدى الفريق الاسلامي، فالحالة الإيمانية والدينية وحدها هي التي توحدهم وتشد من أزرهم وتشحذ فيهم الهمم وتبعث فيهم روح الإباء والشمم . وقد كانت هذه الروح في بدايات تكوينها لدى الكثيرين منهم، فلم تكن مؤهلةً للصمود كثيراً وطويلاً في المواضع الصعبة والخطيرة.

بينما انطلق تحزيب الأحزاب من خلال قناعة تامة وشعور أكيد بأن قوة المسلمين قد بلغت حداً لم يعد يمكن القضاء عليها إلاّ بحشد كامل وشامل لكل القدرات والقوى المادية والمعنوية على مستوى المنطقة بأسرها . وهذا ما حصل بالفعل، ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين .

ومن الواضح أن اليهود هم الذين خططوا لحرب الخندق، واتصلوا بقريش وبغطفان وسائر القبائل وحرضوهم وشجعوهم وساعدوهم على التفاهم والإتفاق ثم المبادرة الى غزو النبي محمد| والمسلمين في المدينة، وبذلوا لهم من أموالهم ثلث ثمار خيبر أو أكثر من ذلك . فأرسلوا إلى أبي سفيان ووعدوه النصر، فوجد أنها فرصة وطلب منهم أن يعلنوا للناس بتكذيب محمد لأن الناس يركنون إليهم لأنهم أهل كتاب . فمضى وجوههم وساداتهم الى مكة وشهدوا للمشركين بأنهم أهدى من محمد| سبيلاً، فوثقوا بهم ومشوا معهم الى قبائل العرب ليقنعوهم بحرب محمد| واستئصاله وتعاقدوا على ذلك .

لقد أراد اليهود استئصال المسلمين الذين بقوا أوفياء بعهدهم حافظين لمواثيقهم، ولم يحدث أن خانوا أو ترددوا في عهد مع أي فريق منهم . واليهود يرتكبون هذه الخيانة رغم أنهم قد رأوا بأم أعينهم عواقب خيانة بني قينقاع، ثم خيانة بني النضير . واليهود بذلك يفقدون صفة الأخلاقية والمبدئية في مواقفهم، وفي مجمل تحركهم في مواجهة الإسلام والمسلمين.

لقد أثبت اليهود أنهم لا يتورعون عن ارتكاب جريمة التضليل الإعلامي ومخالفة قناعاتهم وأصول دينهم ، فهم يقررون للمشركين أن الشرك أهدى من التوحيد وأن دعوى الجاهلية خير من الهدي الإلهي إذا صحت الرواية التي تقول : إن أبا سفيان قد طلب من اليهود أن يسجدوا للأصنام؛ لأن قريشاً خافت من مكرهم، فاستجاب اليهود وسجدوا للأوثان . هذا كله عدا عن استخدامهم المال أيضاً كوسيلة لتحريك بعض الفئات لحرب محمد| ومن معه .

وإنه لمن الواضح أنه لم يكن لقوى الكفر قيادة موحدة ترسم الخطة، ثم تتخذ القرار، ثم تعمل على تنفيذه، بل كانت لهم قيادات متعددة ومختلفة . وذلك من شأنه أن يُضعِف أمرهم ويُوهِن وحدتهم،  مع وجود ظروف تساعد على إلقاء الخلاف فيما بينهم، وإذكاء روح التنافس، وإشاعة روح التشكيك ببعضهم البعض كما حصل لبني قريظة . كما أنه لم يكن بإمكان كل قبيلة أن تستقل بعداوة محمد| وقتاله .

أما المؤمنون بنصر الله، لما رأوا الأحزاب وقد أحاطوا بالمدينة وضيَّقوا عليها الخناق، فلم ينهزموا أمام كل تلك الحشود وما وهنوا لما أصابهم، بل واجهوا ذلك بكل صلابة وعزم وتصميم . وقد تحدث الله عنهم سبحانه حينما قال : {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَالأَحْزَابَقَالُواهَذَامَاوَعَدَنَااللَّهُوَرَسُولُهُ وَصَدَقَاللَّهُوَرَسُولُهُوَمَازَادَهُمْإِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (سورة الأحزاب: 22). أما المنافقون، فاتخذوا ما أخبر به النبي| ذريعة للمزيد من السخرية والاستهزاء الذي يعبر عن انهزامهم النفسي والروحي أمام القوى الغازية. قال تعالى:{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌمَّاوَعَدَنَااللَّهُوَرَسُولُهُإِلَّاغُرُوراً} (سورة الأحزاب: 12).

وأما النساء والذراري فقد جعلهم النبي| في مواضع حصينة، وهو إجراء حكيم لأنه يوفر على المسلمين معاناة التشتت، ويركز اهتماماتهم في نقاط محددة من أجل توفير الرعاية الأمنية، وتسهيل تقديم المعونة الفاعلة والمؤثرة والسريعة وفق خطة مرسومة .

أما عدة وعدد الجيش الإسلامي الذي واجه الأحزاب في حرب الخندق، فقد اختلفت كلمات المؤرخين فيها وكذلك في عدد الأحزاب من مشركين ويهود(). قال ابن إسحاق: «ولما فرغ رسول الله| من الخندق أقبلت قريش..في عشرة آلاف من أحابيشهم، ومن تبعهم..وخرج رسول الله| والمسلمون.. في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب هنالك عسكره والخندق بينه وبين القوم»().

2 ـأهداف الحرب

لقد اختلف الأحزاب في أهدافهم للحرب، ولكنهم اجتمعوا على قتال محمد|، فاليهود يريدون أن ينتصروا على محمد| والمسلمين بواسطة قريش والقبائل العربية، وقريش تريد أن تحقق هذا الهدف بالذات بالإفادة من خيانة اليهود ومساعدة قبائل غطفان وغيرها . إنهم مصمِّمون على تحقيق هذا الهدف بأسلوب الحرب حتى آخر رجل منهم . أما غطفان وغيرها من القبائل العربية فتريد الحصول على المال ولكن بالاعتماد على جهد القريشي وكيد اليهودي.

إن أهداف الحرب كما يظهر من كلامهم تتلخص باستئصال محمد| ومن معه، إلاّ أن استئصال جميع من مع النبي| من الأوس والخزرج وقبائل العرب أمر عسير . ولا يمكن لهم أن يُقدموا على إذكاء نار قد لا يمكنهم إطفاء لهيبها على مدى أجيال، ولسوف ينالهم منها الشيء الكثير والخطير . أما قتل محمد| وبني عبد المطلب، فهو الأسهل والأيسر وبه يتحقق المطلوب، فلماذا يذهبون إلى أبعد من ذلك ؟! غير أن هذا لن يقنع اليهود، لأن هدفهم هو استئصال محمد| وجميع من معه. ولعل ذلك يفيدهم في إعادة بسط هيمنتهم ونفوذهم على يثرب وعلى المنطقة. أما غطفان وسائر القبائل فيهمها تمر خيبر بالدرجة الأولى، ولم يكن اهتمامهما باستئصال شأفة الإسلام والمسلمين يصل الى درجة اهتمام قريش واليهود بذلك، ولكنها لا ترى في ذلك أية سلبية، بل هو أمر محبوب ومستحب .

3 ـ عوامل التجييش

كانت الوعود المالية سخية للناس إذا نفروا لحرب المسلمين . فقد جعل اليهود تمر خيبر سنة، أو نصفه كل سنة لغطفان لتوافق على المشاركة في الحرب ضد الإسلام . ولما كان البخل من عادتهم فإننا نتساءل إن كان هذا يستبطن غدراً كما هو معروف عن اليهود، أي أنهم بعد أن يتخلصوا من عدوهم الأقوى والأخطر بنظرهم يرفضون الوفاء بما تعهدوا به لغطفان . وكيف نفسر هذا السخاء الذي لا نظير له من قوم لم نعرف عنهم إلاّ الشح والبخل والمزيد من الحرص على المال وعلى الدنيا؟!

إن التفسير الوحيد المعقول لذلك هو أنهم يشعرون أن الإسلام يمثل خطراً يتهدد دنياهم وامتيازاتهم، وهو يتناقض بصورة عميقة وأساسية مع ما يفكرون به ويخططون لـه من استغلال لثروات البلاد وإذلال واستعباد للعباد، فلماذا إذاً لا يضحون ببعض المال من أجل إزاحة هذا الكابوس الجاثم على صدورهم .

أما العامل الثاني فهو الإرهاب الفكري، حيث عملوا على خداع السذج والبسطاء من الناس بالاستفادة من حالة الانبهار بأهل الكتاب. لقد كان عامة الناس في المنطقة العربية يعانون من الجهل الذريع، فقد صوَّر لهم أهل الكتاب أنهم مصدر العلوم والمعارف، والمرجع والمفزع للناس فيما يهمهم من أمور الدين ، وذلك من أجل سوق الناس بالاتجاه الذي يريدون. أضف إلى ذلك اللعب على عواطف الناس لنبش الأحقاد القديمة ونتائج المعارك السابقة.

4 ـخطة الدفاع وعوامل النصر

إن النبي  | قد جمع بين جعل جبل سلع()خلف ظهر المسلمين، وبين أن خندق على المدينة من الجهة الأخرى، فيكون بذلك قد استفاد من الموانع الطبيعية، ثم أحدث مانعاً مصطنعاً، لتكتمل خطته بحرمان العدو من أي فرصة للنيل من صمود المسلمين، أو إحداث أي إرباك أو تسلل في صفوفهم . كما أنه حرم العدو من استخدام سلاح فعال جداً في المعركة وهو الخيل. وفيما يلي سنستعرض ونحلِّل أهم مرتكزات خطة الدفاع المصيرية التي اعتمدها |في مواجهة هذه الجيوش الجرارة :

أ ـ حفر الخندق

كان سلمان الفارسي يرى رسول الله| يهمُّ بالمقام بالمدينة ويريد أن يترك الأحزاب حتى يردوا ثم يحاربهم على المدينة وفي طرقها، فقال سلمان: «يا رسول الله، إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة . قال : فما نصنع ؟ قال : نحفر خندقاًً يكون بيننا وبينهم حجاباً، فيمكنك منعهم في المطاولة، ولا يمكنهم ان يأتونا من كل وجه . فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق، فيكون الحرب من مواضع معروفة. فنزل جبرئيل× على رسول الله | فقال: أشار سلمان بصواب(). وأعجب رأي سلمان المسلمين، وأحبوا الثبات في المدينة.

وفي مقابل ذلك نجد ابن إسحاق وغيره ينسب حفر الخندق إلى رسول الله ولا يشير الى مشورة سلمان لا من قريب ولا من بعيد، بل إن النبي قد كتب في رسالته الجوابية لأبي سفيان: «وأما قولك من علَّمنا الذي صنعنا من الخندق ، فإن الله ألهمني ذلك»() . النبي | هو الذي بادر الى اقتراح حفر الخندق، ثم لما اختلف المسلمون تكلم سلمان الفارسي بطريقة بيَّن لهم فيها وجه الحكمة في اعتماد إجراء كهذا، فأعجبهم ذلك حينئذ، فقبلوه واجتمعت كلمتهم عليه. ولكن كلمات كثير من المؤرخين قد أظهرت أن سلمان هو المشير بحفر الخندق ().

ولا نخفي هنا إعجابنا بهذا الوعي من سلمان المحمدي، حيث بادر في الوقت المناسب إلى تقديم تبرير لأولئك الناس الذين اختلفوا على رسول الله|، يتوافق مع طريقة تفكيرهم، حيث قرَّر لهم أن الخندق المقترح من شأنه ان يحد من فاعلية الخيل في الحرب ويدفع غائلتها، ويصبح الجهد الشخصي للأفراد هو الذي يقرر مصير الحرب ونتائجها فكان أن استجاب المسلمون لاقتراح حفر الخندق وأعلنوا موافقتهم عليه، وتحملوا مسؤولية اختيارهم وهذا بالذات هو ما أراده . فدور سليمان كان بيان وجه الحكمة من حفر الخندق .

وقد أعطى الخندق المسلمين القدرة على ممارسة التسويف في الوقت، وهو الأمر الذي لم يكن المشركون قادرين على تحمله بسبب بعده عن مصادر الإمداد البشري والتمويني، مع ملاحظة محدودية طاقاتهم التموينية، لعدم امكان توفير مدَّخرات كافية لهذا العدد الهائل من الناس ولكل ما معهم من خيل. فالمشركون لم يفكروا مسبقاً بإيجاد خطوط تموين لحرب طويلة الأمد، ولا خططوا أبداً لمثل هذه الحرب التي لم يعتادوا عليها ولم يألفوها . فمن الطبيعي إذاً أن يمَِِلّوا حرباً كهذه وينصرفوا عنها . كما أن هذا الخندق قد استطاع أن يحفظ لهم وجودهم وكرامتهم، فلم يسجل عليهم أعداءهم نصراً، بل ردَّهم الله بغيظهم لم ينالوا شيئاً مما كانوا يحلمون به دون أن يكلف ذلك المسلمين خسائر تذكر، وحرم المشركين بذلك من إمكانية إشراك أعداد ضخمة في المواجهات مع المسلمين. وذكروا أيضا أنه قد «بلغ طول الخندق نحواً من خمس آلاف ذراع وعرضه تسعة أذرع، وعمقه سبعة أذرع»().

ونحن إذا راجعنا الواقع الجغرافي للمدينة، فإنه يتضح أن الخندق قد ضرب على المدينة في مواقع من الجهة الغربية والشمالية . أما الجهة الشرقية والجنوبية فقد شبكت بالبنيان ولم يخندق المسلمون عليها، ولعل ذلك يرجع إلى المواقع التي تستوعب ألوف الفرسان، وتصلح أن تكون ساحة حرب ونزال هي المنطقة الواقعة بالقرب من ثنيات الوداع شمال غرب المدينة حتى تنتهي بجبل أحد . وهي منطقة واسعة ومسطحة ومكشوفة وليس فيها عراقيل مهمة، وهي المنطقة التي حفر الخندق فيها . أما سائر المناطق حول المدينة فلم تكن تصلح لذلك، بالنسبة لجيوش كبيرة تعد بالألوف . ثم جعل للخندق ابواباً، وجعل على الأبواب حرساً، بطريقة تمنع من التسلل ومن التواطؤ عليه.

أما الوقت الذي احتاجه المسلمون لحفر الخندق فقد اختلف فيه المؤرخون()، فمنهم من قال ستة أيام، وقيل بضع عشرة ليلة، وقيل شهراً أو قريباً من شهر، وقيل قريباً من عشرين ليلة، وقيل اربعاً وعشرين، وقيل خمسة عشر يوماً. وكان الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة لا بد منها يستأذن رسول الله| فيقضي حاجته ثم يعود، فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَاالْمُؤْمِنُونَالَّذِينَآمَنُوابِاللَّهِوَرَسُولِهِوَإِذَا كَانُوامَعَهُ عَلَىأَمْرٍجَامِعٍلَمْيَذْهَبُواحَتَّىيَسْتَأْذِنُوهُإِنَّالَّذِينَيَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(سورة النور: 62). وقد شارك| كل العاملين في أعمالهم وأذاق نفسه الشريفة مبلغ جهدهم، فتجلت المواساة بأبهى صورها. وكان لمشاركة النبي| هذه تأثير كبير في إثارة الحماس لدى العاملين في حفر الخندق، وظهرت له كرامات ومعجزات. قال ابن هشام: يُقال: إن سلمان الفارسي أشار به على رسول الله|. وقال أيضاً: وحدَّثني بعض أهل العلم: أن المهاجرين يوم الخندق قالوا: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال رسول الله|: «سلمان منّا أهل البيت»().

ب ـ معرفة العدو

إن معرفة الإنسان بنقاط قوة وضعف عدوه تجعله أقدر على التعاطي معه . إن معرفة خصائص شخصية العدو وطبائعه وأخلاقياته ومبادئه ومفاهيمه وعاداته وتقاليده ومستواه الفكري والعلمي، وما إلى ذلك، لـه دور وتأثير في اتخاذ القرار العسكري، أو تسجيل الموقف على الصعيد السياسي، أو التعامل معه في مجال السلوك . ونبينا الأكرم| كان يعرف تماماً حقيقة ما يفكر به المشركون واليهود والمنافقون وسائر القوى التي تحيط به . ثم هو يعرف طبيعة تركيبتهم السياسية والاجتماعية وواقعهم الثقافي والاقتصادي. ثم هو يعرف نهجهم وأساليبهم وطموحاتهم وطريقتهم في الحياة، وقد أثبتت لـه التجربة الحسية في أكثر من موضع وموقع ما ينطوون عليه من غدر وخيانة، ومن روح أنانية وتآمرية . ولا تقتصر هذه المعرفة المؤثرة على معرفة عناصر الضعف والقوة في العدة وفي العدد وسائر النواحي العسكرية والامتيازات الحربية . بل تتعداها إلى رسم الخطة السليمة في كل مراحل المعركة، ثم التنفيذ الدقيق والواعي.

ج ـ الحذر وبث العيون

بث رسول الله| عيونه وأرصاده في طول البلاد وعرضها في الجزيرة العربية، هذا بالإضافة إلى ما كان يلمسه| من التسديد بالوحي والألطاف الإلهية به| وبالمسلمين في الفترات الحرجة والخطيرة . وهذا ما يفسر لنا ما نشهده من معرفة النبي| التامة بواقع ما يجري حوله، فلم يكن ليفاجئه أمر داهم، بل كان هو الذي يفاجئ أعداءه ويباغتهم، إما يسبقهم لتوجيه الضربة الأولى لهم، وإما يواجههم بالخطة التي تبطل كيدهم وتفشل مؤامراتهم . وهذا بالذات هو ما حصل في حرب الخندق، حيث فاجأ المشركين بحفر الخندق حول المدينة وتحصين سائرها . الأمر الذي أحبط خطتهم وتسبب لهم بالفشل الذريع والخيبة القاتلة والمريرة.

د ـ مشاورة الأصحاب

أصحاب الرسول| وإن كانوا يعرفون نبوته وصدقه وأمانته، إلاّ أنه كان يشاركهم في التفكير ويوضِّح لهم الأمور ويبيِّن لهم الأخطار ويعتمد عليهم في كثير من المهمات الصعبة والحرجة، وبذلك يشركهم في تحمل المسؤولية وفي اتخاذ القرار .فعندما أتى خبر زحف الأحزاب نحو المدينة، ندب رسول الله| الناس ، وأخبرهم الخبر وشاورهم في أمرهم وأمرهم بالجد والجهاد، ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله وكان يكثر من مشاورتهم في الحرب، فقال : أنبرز لهم من المدينة ؟ أم نكون فيها ونخندقها علينا ؟ أم نكون قريباً ونجعل ظهورنا إلى الجبل ؟ ! فاختلفوا .

لقد لعبت الشجاعة والبطولة التي تحلَّى بها المؤمنون الحقيقيون من أصحاب النبي| والمسلمين دوراً حاسماً في تحقيق النصر، فقد كانوا أكثر ثباتاً وقوة وعزيمة وثقة بالله من أي وقت مضى، فهم قادمون على النصر أو الشهادة . ولا ننسى إمام المتقين وأسد الله الغالب علي بن أبي طالب × وضربته لعمرو بن عبد ود العامري بطل الكفار والمشركين، حيث قال النبي| حين برز علي× لعمرو بن عبد ودالذي وضع المشركون فيه كل آمالهم : «برز الإيمان كله إلى الشرك كله»() .

إن النبي | كان يعلم قدرات علي×، ومدى ما عنده من استعداد للتضحية والإقدام في سبيل الله سبحانه وهو الذي ربى علياً ×، وعلَّمه وهذَّبه ودرَّبه . ولكنه| أراد أن يفسح المجال أمام الآخرين، فكان يأمره بالجلوس انتظاراً منه ليتحرك غيره . وليُعلم بذلك فضله، ولكي يظهر للجميع أن غير علي× قد أحجم عن مبارزة عمرو خوفاً وجبناً . ولولا أنه| أمره بالجلوس ثلاث مرات لكان من الممكن للبعض أن يدعي أن كل واحد من المسلمين كان قادراً على مبارزة عمرو وقتله . ولا بد من التنويه بجهاد علي×، وتعريف الناس بمن يضحي ويبذل نفسه في سبيل الله سبحانه، وبمن يستثمر تضحيات الآخرين ويسرق جهدهم وجهادهم . فالإقدام من علي× ليس مجرد نزوة طائشة، بل كان هذا الإقدام منه عن علم وتثبت واطلاع تام على شجاعة عمرو ومكانته بين فرسان العرب . وبادر أمير المؤمنين× إلى دفع غائلة هذا الظالم المتجبر فكان النصر على يديه، وكانت ضربته لـه التي تعدل عبادة الثقلين، لما كان لها من أثر في العدو. نعم ، لقد عادلت ضربة علي× عمل الثقلين إلى يوم القيامة وكانت عاملاً رئيسياً في تفرُّق الأحزاب وتشتت أمرهم .كيف لا، ومصرع فارسهم الأكبر عمرو ابن عبد ود الذي علّقوا عليه الآمال في الانتصار، أدى إلى زعزعة معنوياتهم وهزيمتهم النفسية .

و ـ عوامل أخرى للنصر

العامل الأول إلهي حيث سلَّط الله عليهم الريح، واشتد البرد، وأنزل ملائكة يخذلونهم، فقلعت خيامهم، وأطفأت أضواءهم، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: «يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة، ولقينا عندهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا إني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فوالله ما أطلق عقاله إلاّ وهو قائم،.. وسمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم»().  

أما العامل الثاني فهو التفرقة بين أعداء الإسلام، حيث تمكّن (نعيم بن مسعود) بدهائه من التفرقة بين يهود بني قريظة وجيش الأحزاب وإيقاع الخلاف بينهم، وكان قد أسلم حديثاً، حيث أقنع اليهود بأن يأخذوا رهائن من العرب ليكونوا ضماناً في مقابل تعاون اليهود مع المشركين قائلين : حتى نناجز محمداً، فإنّنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه . وفي نفس الوقت طلب من قريش عدم إعطاء اليهود أحداً من رجالهم إذا طلبوا منهم ذلك، فإنّهم سيرسلونهم إلى النبي ليقتلهم . هكذا فقد جرى الأمر كما رسمه ابن مسعود، إذ إنّ الأطراف المتحالفة تأكدت من النوايا السيئة لبعضها على بعض، فانسحبت بنو قريظة، وتفرق الشمل ورجع الكفّار خائبين .

وهناك عوامل أُخر أدت إلى نصر المسلمين وهزيمة الأحزاب، كاختلاف قبائل غطفان وفزارة مع قريش وتخاذلهم في الهجوم، وخاصة عندما اتصل بهم النبي| للاتّفاق على عودتهم وتراجعهم في مقابل مساعدتهم مادياً . زد على ذلك عامل الوقت، بعد أن طال الحصار، فواجهوا ظروفاً صعبة من قلّة الطعام والعلف والبرد، فالأحزاب لم يتوقعوا أن يروا الخندق يحول بينهم وبين المسلمين في المدينة، وقد حاولوا مراراً كسب الوقت وكسر الجمود في المعركة واجتياز الخندق ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك .

5 ـ موقف آرمسترونغ من معركة الأحزاب

أما بالنسبة إلى معركة الأحزاب فتذكر آرمسترونغ أنها وقعت في آذار 627م، وأن المسلمون حصَّنوا أنفسهم داخل المدينة التي كانت محاطة بجروف صخرية وسهول مليئة بالصخور البركانية من جهات ثلاث، بينما لم تكن المدينة منيعة من جهة الشمال، فقام محمد| بحيلة()، وجدها معاصروه أمراً خارقاً . فبعد أن جمع المسلمون المحاصيل من حقول المدينة البعيدة، وبذلك لم يجد الجيش المُحاصَر علفاً لخيوله وإبله، إنهمكت الأمة الإسلامية بأجمعها في حفر خندق ضخمحول الجزء الشمالي من الواحة، وكان إنهاء الخندق في الوقت المناسب بحاجة إلى جهد مركز وكبير. وتصف آرمسترونغ حالة المسلمين المؤمنين ومعنوياتهم العالية وكيف أن محمداً| كان بالغ السرور ونشيطاً حيث كان يعمل ويمزح ويضحك مع الرجال الآخرين وأنه كان يشارك في الأناشيد الحماسية:

الله لولا أنت ما اهتـدينا           ولا تصـدقنا ولا صلينـا
فأنـزِلْ سكينــة عـلينـا           وثبّت الأقدام إن لاقينا()

وتصرّح آرمسترونغ بأن اليهود كانوا السبب في تجييش الأحزاب، حيث ذهب حيي بن أخطب زعيم بني النضير() التي كانت تعيش في خيبر، إلى أبي سفيان في مكة، ووعده بالدعم في صراعه ضد محمد| وأقسم لـه بذلك، وبأنّ دين كفار قريش عبدة الأصنام خير من دين محمد | وأنهم أولى منه بالحق(). وقد استاء المسلمون عندما سمعوا أن حيي دافع عن الوثنية(). كما أن يهود خيبر قد أرسلوا جيشاً كبيراً إلى المدينة، وتمكنوا من استنهاض القبائل العربية في الشمال ضد المدينة بعد أن وعدوهم بأن يعطوهم نصف محصولهم من التمر . وهكذا أرسلت قبائل أسد وغطفان وسليم المحاربين إلى المدينة للانضمام إلى تحالف أبي سفيان . وتزيد آرمسترونغ بأن يهود النضير وخيبر لم يكتفوا بكل تلك الخيانات والأحقاد والجرائم، بل خططوا لفتنة أكبر أيضاً، حيث حاول حيي إقناع بني قريظة، إما بالهجوم على المسلمين من الخلف أو السماح لنحو ألفي مقاتل من بني النضير وغطفان الدخول إلى المستوطنة، حيث يتمكنوا من البدء بهجومهم بذبح النساء والأطفال المتحصنين في القلاع المنتشرة في المدينة .

كان اليهود مترددين؛ لأنهم كانوا يعرفون ما حدث لبني قينقاع وبني النضير الذين عارضوا محمداً، لكن عندما رأوا الجيش الجرار الذي أحضرته قريش إلى المدينة يملأ السهل حتى الأفق وافق كعب بن أسد زعيم قريظة على مساعدة الأحزاب(). وعندما علم النبي| بخيانة بني قريظة، بدا عليه الضيق لأنه كان دائماً يخشى هذا الاحتمال، وكان يعرف أن جيش المسلمين لن يكون قادراً على مواجهة هجوم كهذا من جميع الجهات . فأرسل سعد بن معاذ الذي كان الحليف العربي الرئيس لبني قريظة قبل هجرة النبي| إلى المدينة، كي يتحرّى حقيقة الأمر في منطقة اليهود، ولما اجتمع بهم علم أنهم نقضوا العهد، فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه.. فقال لـه سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة، ثم رجع ابن معاذ وابن عبادة ومن معهما إلى رسول الله|، فسلموا عليه ثم قالوا: عضل والقارة، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، خبيب وأصحابه، فقال رسول الله|: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين().

ويبدو أن حفنة منهم بدأت هجومها من الجنوب الشرقي للواحة، فأحاطوا بإحدى القلاع التي كانت تضم نساء وأطفال المسلمين، لكن هذه المحاولة أخفقت . فبدأ النبي| هجومه الدبلوماسي وسط بني قريظة محاولاً نزع الثقة بينهم وبين القرشيين. وبالفعل فقد نجح النبي| في محاولته هذه، حيث إن يهود بني قريظة بدؤوا يشكّون بالمكيين فأصروا على أخذ رهائن قرشيين لضمان إخلاصهم.

نعم، كان يفترض ببني قريظة في هذه الظروف الحاسمة والبالغة الخطورة، أن يقفوا إلى جانب النبي| والمسلمين بناء على العهد والحلف والعقد، ووفاء للوطن الواحد الذي يعيش فيه المسلمون واليهود أحراراً في عقيدتهم وممارسة شعائرهم الدينية، وأحراراً في تجارتهم المالية في ظل قوانين عادلة وحكيمة وثّقها النبي| معهم في صحيفة المدينة .

أما قريش فقد بدأت تنهك حيث كان استمرار الحصار أمراً صعباً، حيث لا مؤونة، وكان الرجال والخيول قد أخذوا يعانون من الجوع . ويبدو أن عزيمتهم تراخت عندما تغيَّر الطقس فجأة، فقد ورد في القرآن ما يفيد عن هبوط في درجة الحرارة وهبوب رياح قوية ونزول المطر وأن ذلك كله من فعل الله عزّ وجلّ . أما أبو سفيان فقد اتخذ قراره وبالرحيل، وما إن قال قولته حتى قفز إلى ظهر جمله وساقه دون أن يدرك أن الجمل كان مقيّداً، وتبعته قبيلته والبدو الذين كانوا قلقين منذ مدة وتفرقوا بسرعة. وبينما كانت الأحزاب تلملم أذيال الخيبة قال خالد بن الوليد لأبي سفيان: «قد علم كل حليم أن محمداً لم يكذب قط»(). وفي صباح اليوم التالي وجد المسلمون السهل الشاسع خلق الخندق خالياً من المقاتلين .

 
* * *
الهوامش




(*) باحث وناشط في مجال الإعلام الإسلامي، من لبنان.



() النخيل : المختار، المصفَّى.

() توخيت : تحريت.

() محمد عبده، نهج البلاغة: 560-561، ط الخامسة، بيروت، دار البلاغة ـ بيروت، 1412هـ /1992م.

() جعفر السبحاني، سيرة سيد المرسلين 1: 12، الثالثة، بيروت، دار الأضواء ـ بيروت، 1423هـ / 2003م.

() إن بعض المؤرخين المستشرقين يدعي الإنصاف والموضوعية، إلا أنه من وقت إلى آخر يرمي بسهامه الخفية التي تنال من العقول والقلوب، سهام لا يراها إلاّ من يقرأ بين السطور، فهو يمرّر من خلال كتاباته أفكاراً عميقة واتهامات خطيرة تصوّر لنا الرسول| على أنه رجل عبقري يسعى وراء طموحاته الشخصية وزعامته السياسية، وقائد عسكري همُّه أن يجعل من الضعف قوة ويحقق الانتصارات ويبسط نفوذه ويسيطر على شبه الجزيرة العربية. هؤلاء يعتبرون أن النبي محمداً| تفوَّق على النبي عيسى× سياسياً وعسكرياً، إلاّ أنه| لم يتفوق عليه× روحياً ومعنوياً. فقد ركب النبي عيسى× على الحمار وحمل غصن الزيتون ونادى بالمحبة، بينما ركب النبي محمد| على الفرس وحمل السيف ونادى بالقتال !!! ومع ذلك فإن هناك أقوالاً لبعض المستشرقين الذين أُعجبوا بشخصية الرسول العظيم| وصفاته الجليلة، ومنهم سانت هيلر: «كان محمد رئيساً للدولة وساهراً على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها، فكان النبي داعياً إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما: العدالة والرحمة».

راجع: www.islamonline.net/arabic/in-deph/mohamed/1424/eye/article01

() تناولتُ هذه الغزوة بإسهاب وتفصيل في بحث علمي تحليلي وموضوعي، وأشرتُ إلى أسبابها الحقيقية ونتائجها الخطيرة والإستراتيجية، وسلّطت الأضواء على آراء المستشرقين غير المنصفين في استغلال هذه الحادثة لتشويه صورة الإسلام والمسلمين، وذلك في مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد المزدوج 8 و9 لخريف وشتاء 2007 / 2008م.

() أي من نبت له شعر العانة، وهي من علامات البلوغ.

() إسمه الأول الحصين، من يهود بني قينقاع، كان من أحبار اليهود وعلمائهم، حيث قال عنه اليهود عندما سألهم رسول الله| عنه ليختبرهم، إنه سيدهم وابن سيدهم وخيرهم وعالمهم . ولكن عندما خرج عليهم عبد الله قائلاً لهم : يا معشر اليهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة باسمه وصفته، كذّبوه ودافعوا به. ولما أسلم سماه الرسول| عبد الله، وأسلم معه أهل بيته، وكتم بداية إسلامه عن اليهود ثم جاهر به، بعد أن ألقى عليهم الحجة أمام الرسول| .

() الفطيون كلمة عبرانية تطلق على كل من تولّى أمر اليهود . وقد جاء في كتب السيرة والتاريخ أنه كان حبراً كبيراً، وعالماً من علمائهم، وغنياً يملك الكثير من النخيل وغيره. بقي وفياً للإسلام ملتزماً بعهد رسول الله| حتى كانت الحرب في أُحُد فأخذ سلاحه وقاتل مع الرسول| حتى استشهد . وكان قد أوصى بأمواله من بعده لمحمد| يصنع بها ما يريد. وقبض رسول الله| أمواله وكانت منها أكثر صدقاته في المدينة .

() كارين آرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب: 216.

() إسرائيل ولفنسون، تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام: 164 .

() المصدر السابق: 166.

() المصدر السابق: 167 .

() المصدر السابق: 167 -168 .

() المصدر السابق: 168 .

() المصدر السابق: 169 .

() المصدر السابق: 173-174 .

() المصدر السابق: 173 .

() المصدر السابق: 174 .

() فقال لهم: «يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم». فأجابوه: «يا محمد إنك ترى أنا كقومك؟! لا يَغُرَّنَّك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، وإنُّا والله لئن حاربناك لتعلمن أنَّا نحن الناس». فانسحب محمد | إثر هذا التهديد منتظراً التطورات. ابن هشام، السيرة النبوية: 402 .

() وهذا يدل عى أنهم فكروا وخططوا مسبقاً لهذه الخطوات التصعيدية ضد محمد | حيث نقضوا العهد وهددوه واعتدوا على عرض المسلمين وكرامتهم بهذه الحادثة المشينة

() وهي الخلاخيل، الواحدة: خَدَمَة، أي الخلخال. وهذا وعيد منهم لهم إن لم يقالتوا رسول الله|.

() جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم| 6: 57.

() كانوا صاغة أغنياء .

() كلِّف بأن يعلِّم الفقراء والمهاجرين المحرومين الكتابة وقراءة القرآن بعد أن انتهى النبي | من بناء المسجد بعد هجرته إلى المدينة . كما كلَّفه النبي | بإجلاء بني قينقاع من حصونهم وترحيلهم بعد أن تم قبض أموالهم وأسلحتهم .

() عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية: 403 .

() المصدر السابق: 402 .

() بلد بالشام .

() الصحيح من سيرة النبي الأعظم| 6: 64 ـ 65 .

() لفهم : أي من يُعدّ فيهم .

() السيرة النبوية لابن هشام: 276 .

() ولفنسون، تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام: 169.

() المصدر السابق: 171 .

() المصدر السابق: 173 .

() كارين آرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب: 212- 215.

() المصدر السابق: 216.

() محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك 2: 223- 224 .

() أي السلاح.

() محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك 2: 226.

() المتقي الهندي، كنز العمال15: 35، مؤسسة الرسالة بيروت، 1409هـ ـ 1989م.

() ومن هنا نعرف السر في قوله تعالى: {ليخزي الفاسقين} بدل: (الكافرين)، من أجل ان يشمل الخزي كل من يسوؤه ما جرى لبني النضير، حتى أولئك الذين يتظاهرون بالإسلام، أو بالمودة الكاذبة للمسلمين. وهذا ما يفسر لنا الاهتمام الكبير الذي أولاه سبحانه لموضوع قطع النخل، حتى لقد خلَّده في آية قرآنية كريمة . فإن القضية كانت أكبر من بني النضير وأخطر، حسبما أوضحناه.

راجع مرتضى، جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم| 8: 124- 125.

() ودعوى تخميسها لا تصح، فإن الثابت هو أنها لم تفتح عنوة، وأنها مما أفاءة الله على رسوله، والفيء لا يخمس، وإنما تخمس الغنيمة المأخوذة عنوة في الحرب .

() الكراع: الخيل.

() النووي، شرح مسلم12: 70، دار الكتاب العربي، بيروت، 1407 هـ / 1987 م.

() كارين آرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب: 226 ـ 227.

() مونتغمري وات، محمد في المدينة: 178ـ 179 .

() مونتغمري وات، محمد في المدينة: 321 ـ 324

() المصدر السابق:  322 . ونلاحظ أن هذا الباحث يريد أن يوحي لقرَّائه أيضاً بأن كعب بن الأشرف قد قتل مظلوماً أيضاً، وأن المسلمين قد عاملوه بقسوة لا يستحقها. وهل يستطيع أي نظام حكم غربي ـ يدعي لنفسه الحضارة والرقي ـ في هذا العصر، قد اطلع على سلسلة خيانات ابن الأشرف، ومواقفه الظالمة، وسعية الحثيث للايقاع بالمسلمين، أن يحكم على أمثال كعب بن الأشرف ويجازيه بأقل مما حكم عليه به المسلمون، وجازوه به ؟!

() المازندراني، شرح أصول الكافي12: 413، ط الأولى، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت 1421 هـ ، 2000م.

() لأن المسلمين كانوا لا يشكلون تياراً قبلياً زاخراً وهادراً ذا لون واحد ، فهم عبارة عن مجموعات صغيرة من قبائل شتى، لذا يبقى الشعور والعصبية للقبيلة هو العامل الأضعف تأثيراً على صعيد رصِّ الصف ، وتقوية البنية ، وتأكيد اللحمة الداخلية.

() فأما بالنسبة للعدة، فقد ذكر ابن سعد: «أنه كان مع المسلمين ستة وثلاثون فرساً». وأما بالنسبة إلى العدد فنشير إلى الأقوال التالية:

قيل كان المسلمون سبعمئة، وقيل تسعمئة، وقيل كانوا ألفاً، وذهب أكثر المؤرخين الى أنهم كانوا ثلاثة آلاف أو نحوها. وروي عن الإمام الصادق×: «أنه | وسلم شهد الخندق في تسعمئة رجل». ويرى البعض : أن المسلمين كانوا في أحد بعد رجوع المنافقين سبعمئة رجل، وبين أحد والخندق سنة أو أكثر بقليل . ويبعد أن يزيد المسلمون خلال سنة واحدة هذه الزيادة الكبيرة، بحيث يصلون إلى ثلاثة آلاف. ويحتمل أن تكون كلمة تسع تصحيفاً لكلمة سبع لتقارب رسم الخط في الكلمتين، وعدم وجود النقط في السابق، وما أكثر ما يقع الاشتباه والاختلاف بين سبع وتسع.

وأما بالنسبة لعدة أهل الشرك، فقد قال المسعودي: «أنه كان معهم ثلاث مئة فرس، وألف وأربع مئة بعير، وقائدهم أبو سفيان صخر بن حرب».

وأما بالنسبة إلى الأحزاب فقد اختلفت الأقوال في عددهم أيضاً ، قال المسعودي: «سارت إليه قريش وغطفان وسليم وأسد وأشجع وقريظة ونضير، وغيرهم من اليهود، فكان عدة الجميع أربعة وعشرين ألفاً، منها قريش وأتباعها أربعة آلاف"، وقيل أحد عشر ألفاً، وقيل أن عدد جيش المشركين بجميع فئاته كان عشرة آلاف، وقيل أنهم كانوا مع يهود بني قريظة والنضير زهاء اثني عشر ألفاً . ثم هناك من يقول أن عدد جيش الأحزاب كان أربعة آلاف فقط.

راجع : مرتضى، جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم|، 9: 178ـ185.
() السيرة النبوية لابن هشام: 498.

() جبل معروف بسوق المدينة .

() علي بن إبراهيم القمّي، تفسير القمي 2: 177، العراق مطبعة النجف، منشورات مكتبة الهدى 1387هـ .

() جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم| 9: 80.

() المصدر السابق: 79.

() وذكر البعض أيضاً أن طول الخندق نحو خمسة كيلومترات ونصف الكيلومتر، والعرض بمقدار خمسة أمتار، والعمق أيضاًخمسة أمتار، بحيث لا يتمكن الفارس الماهر من عبوره بالقفز عليه. وانتهي من العملفيه في ستة أيّام.

راجع: جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم| 9: 91 .

() المصدر السابق: 95ـ97 .

() السيرة النبوية لابن هشام: 500.

() راجع: جعفر مرتضى، الصحيح من سيرة النبي الأعظم| 9: 15-17.

()  السيرة النبوية لابن هشام: 505 .

() كارين آرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب: 226 .

() المتقي الهندي، كنز العمّال 13: 449.

() القبيلة اليهودية التي حاولت اغتيال الرسول الأعظم | واستسلمت لـه بعد حصارها، وقبلت نفيها بدل القضاء عليها وكان النبي| قادراً على إيادتهم واستئصالهم، لكن اليهود لا يجزون المحسن إليهم إلاّ بالإساءة، ولا يقدّرون العمل الأخلاقي .

() ورداً على ذلك نزلت الآية: {ألم ترى إلى الذين آوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين آمنوا}.

() ولكن ذلك يكشف عن زيف عقيدتهم، وأنهم باعوا توحيدهم لله، إن صدق ذلك منهم، بعنصريتهم على أول نبي وهو آدم× وبحقدهم على آخر نبي وهو محمد| . باعوا دينهم للوثنيين في موقف رخيص؛ لأجل أن يتحالفوا معهم على حرب محمد| واستئصال الإسلام والمسلمين .

() كارين آرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب: 238 .

() السيرة النبوية لابن هشام: 499.

() المغازي للواقدي 1: 491 .



Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً