أحدث المقالات

العالم والمثقف وأزمة الحضارة

 

إيمان شمس الدين

مقدمة:

لازالت هناك جدليات تدور رحاها بين طبقة من طبقات المجتمع وهي جدليات تسربت إلى ثقافتنا وعمق فهمنا من القادم الآخر إلينا وخاصة ذلك القادم الغربي المتلبس بلبوس الحضارة والتقدم مما أضفى على إشكالياته سحراً انبهرت به عقول الطبقات المثقفة وخاصة تلك الطبقات التي قطعت جسورها مع الدين ورجالاته واعتبرته غير صالح لقيادة الحياة البشرية لعجز رجالاته عن الإجابة على الكثير من الأسئلة الحياتية الطارئة أو لتقديمهم حلولاً لا تتناغم وواقع المشكلة بل وواقع الحياة بكل تطوراتها المتسارعة، فارتموا في احضان الحضارة الغربية بعد أن رأوا نتاج صراعها مع الكنيسة وما أدت إليه التجربة الغربية في قطيعتها للدين من تطور مادي هائل على كافة الاصعدة دفع بعجلة التطور الحياتي والاجتماعي إلى الأمام وأوجد حلولاً للمشاكل الاجتماعية إلا أنهم تناسوا أو غفلوا أن هذه الحلول آنية التأثير ومادية الأبعاد وأنها ستخلق إشكاليات مستمرة تحتاج معها إلى إيجاد حلول لأن المنطلق في نطرية المعرفة الإنسانية هو منطلق مادي اعتمد التجربة والحس وغفل عن العقل والوحي كمكملات معرفية ضرورية وأساسية في الحياة الإنسانية على الأرض. ولا ننكر أن اندفاع هؤلاء نحو التجربة الغربية جاء أيضا نتيجة تقصير العلماء في تأدية دورهم الذي أراده الله تعالى منهم نتيجة تفشي مفاهيم دخيلة على نمط التفكير المنهجي في الحوزات العلمية تأثيرا موجها ومتعمدا لإقصاء دور الحوزة والعلماء عن الحياة العامة وإحداث قطيعة حقيقية بينها وبين الناس من أجل أن يحل البديل الثقافي بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات وهي أحد أهم الخطوات الاستعمارية، فبعد عجز الاستعمار عسكريا في منطقتنا لجأ إلى خطة كي الوعي وإحلال بديل ثقافي قادر على تغيير وجهة الامة وتغييبها عن واقعها وإغماسها في واقع بعيد عن منطلقاتها وأهدافها وقيمها وأخلاقياتها ويقول الإمام الراحل الخميني قدس سره في ذلك "إنهم يعرضون الإسلام بشكل سيئ ويعرضون المعمم بشكل سيئ، لماذا؟ لأن ما يقف في وجههم هو الإسلام، ولأن من يريد تطبيقه هو المعمم، وأولئك لا يريدون أن يتحقق هذا الأمر، لهذا يريدون عرض الإسلام بشكل سيئ ليبتعد الناس عن الإسلام وليهمش المعمم، ويبقون هم فيفعلون ما يحلو لهم"

ولا ننكر أننا هيأنا الظروف لهذا الاستعمار الجديد وسمحنا أن يكون له موطئ قدم في مديات عقولنا وأفهامنا مع تقصير لافت لعلمائنا ومثقفينا الحقيقيين.

وفي هذه الاجواء انعقدت نطفة الجدلية القائمة بين العالم والمثقف، أجواء يشوبها انعدام الثقة وتبادل الاتهامات بطريقة أدت في كثير من الأحيان إلى قطيعة حقيقية كان ضحيتها الأولى الحقيقة التي غيبت عن واقعنا الحياتي من أجل المصلحة. وانعكس ذلك على مستوى الوعي لدى عامة الناس وتأطرت ثقافتنا بتراث هائل اختلط به الغث بالثمين والعرف بالدين، فتغيرت معالم الطريق وأوصافه، ولكن لايمكننا أن نرسم صفحة بهذا السواد وننكر أن هناك بقع بييضاء تتسع يوما بعد يوم في داخل هذا السواد بمحاولات جدية وحقيقية لعلماء ومثقفين امتلكوا من الوعي ما دفعهم نحو إعادة رسم معالم الطريق وترميم ما أتلفته تلك الجدليات وإعادة صياغة كثير من الأفكار والرؤى وقولبتها بإطار ديني كان قادراً على محاكاة العصر وطرح بديل حضاري قادر على الثبات والمواجهة. فنور الحقيقة عندما يخترق الظلمة يكون باهرا أكثر وهو ما نأمله من الحركة التصحيحية التي بدات جذورها تنمو كسيقان ونأمل أن تستمر هذه السيقان بالنمو لتحمل أوراقا وثمارا ينعكس أثرها على واقعنا المعاش.

ولعلنا في هذه الإطلالة السريعة سنكون أكثر تحديداً في تأطير العلاقة وجدليتها بين العالم والمثقف تأطيراً يتعلق بموضوعة الأسرة التي تعتبر النواة الأولى في تكوين المجتمع والنهوض به، حيث كانت ومازالت الأسرة ضحية الإفراط والتفريط، إفراط غربي مادي، وتفريط علمائي معنوي أدى إلى تهميش جانب كبير ومهم من الحياة الأسرية في الواقع الفقهي العلمائي لأسباب عديدة اهمها النظرة الفقهية التجزيئية الفردية.

في وقت تعيش فيه الأسرة عصر الانفتاحات والعولمة بطريقة باتت تهدد كينونتها ودواميتها مما يتطلب تظافر الجهود في تأسيس فقه أسري قادر على ملئ الفراغات وسد الثغرات والعيش في الزمان والماكن الحاليين بطريقة تنهض بمقومات الأسرة وتدعم مسيرتها واستمراريتها. والجهود يجب أن لا تقتصر على العلماء فقط إيماناً منا بنظرية التخصص التي باتت ضرورة ملحة في عالم الفقه، بل لبناء منظومة أسرية متكاملة لابد من تظافر وتوحيد جهود العلماء والمثقفين الحقيقيين والمتخصصين في هذا الجانب من أجل تسليط الضوء على أكبر بقعة ممكنة في الحياة الأسرية وتغطية أكبر قدر ممكن في هذا المجال.

ومن هنا سنسلط الضوء على دور كل فئة من هذه الفئات (العلماء والمثقفين) وضرورة النهوض والتعاون لدعم مسيرة الاستقرار الأسري المؤسس لعوامل الإبداع والنهوض المجتمعيز

ولعل الآية الكريمة أكبر دليل على أهمية الاستقرار الأسري في سعي الإنسان التكاملي ونهوضه بوظيفته الاستخلافية على الأرض إذ يقول الله تعالى: ﴿وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرياتِنَا قُرةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتقِينَ إِمَامًا([1]) وهنا قدم الدعاء بصلاح الزوجية والذرية لتكون مقدمة لاستقرار النفس في طلب الكمال والتقوى.

 

1- العلماء:

"… قديماً كان الفقيه من بين اصحاب المنظومات المعرفية يشكل العنصر المختص الوحيد الذي له تأثير بارز على الساحة الاجتماعية للأمة الإسلامية،… في حين أن الفقهاء هم الوحيدون الذين استطاعوا أن يجدوا مساحة واسعة من النفوذ داخل المجتمع، وذلك بحكم ما لديهم من الصنعة الفقهية التي وظيفتها التعامل مع الواقع بلا انقطاع، اذ كان للناس حاجتهم الفعلية لمعرفة الاحكام التي يجدونها في هذه الصنع… "([2]).

لقد تمايز علماء الدين من خلال روايات أهل البيت عليهم السلام – الثقل الأصغر – بدورهم الريادي في حفظ الأمة من الانحراف ودعم مسيرتها الوحدوية والمتماسكة في وجه أي عدو يريد الفتك بها. وقد حدد لنا علي بن أبي طالب ميثاقا بين الله والعلماء، ميثاق بأن يقفوا دائماً بوجه الطغيان، ميثاق بأن لا يسبغوا الشرعية على ظلم الظالمين، يقول علي(ع) في خطبة الشقشقية: "أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم"([3]).

وعن الإمام الهادي(عليه السلام):

"لولا من يبقى بعد غيبة قائمنا (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله"([4]).

 

1-1- حدود معرفة العالم :

رُوِيَ عَنْ الإمامِ جَعْفَر بْنِ محمدٍ الصادقِ(عليه السلام) أنهُ قَالَ: "إِن الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَ ذَاكَ أَن الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا دِرْهَماً وَ لَا دِينَاراً، وَ إِنمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ، فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهَا فَقَدْ أَخَذَ حَظاً وَافِراً، فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هَذَا عَمنْ تَأْخُذُونَهُ، فَإِن فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي كُل خَلَفٍ عُدُولًا يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَ انْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ"([5]).

الحديث أعلاه وسابقاته من الاحاديث تحدد لنا معالم مهمة في شخصية العالم في بحر تتطلاطم فيه المصطلحات بدلالات عديدة حتى غمرتنا أمواج هذه المصطلحات في عراكات فكرية حقيقية سببها حرب اسمها "حرب المصطلحات". فكلمة أو مصطلح عالم في عصرنا الحالي أصبح مصطلح ملتبس وذا دلالات عديدة نتيجة الواقع الممارس من قبل الكثير من العلماء الذين اختلطت ممارساتهم بسلوكيات لا تدل على علم نافع وجهد مبذول في الارتقاء بوعي الأمة لأننا ابتلينا بثقافة التقديس والشخصنة فأصبح من الصعب لدى عامة الناس انتقاد العالم أو سلوكياته حتى لو كان انتقادا في محله. إلا أن واجبنا الاخلاقي يحتم علينا إعادة صياغة معالم المصطلح من ضوء النص الصريح الواضح سواء كان نصاً حديثياً صحيحاً ومعتبراً أو نصاً قرآنياً محفوظاً من التحريف والتدليس. هذه الصياغة والمعالجة للمصطلح ستعيد بناء الدلالات المرجوة منه لكي نحدد كما أمرنا الإمام الصادق عليه السلام في الحديث أعلاه علمنا ممن نأخذه وهي إشارة منه واضحة وتحذير صريح لنكون على مستوى من الدقة في تحديد المناهل الحقيقية المرشدة للطريق القويم. وهي مهمة نوكلها للمتخصصين في هذا الشأن.

ولكن نحن أمام حقيقة جاثمة أمامنا وواقع لا يمكن الهروب منه بل يجب مواجهته هو حدود معرفة العالم في هذا الزمان، ومدى قدرته على استيعاب كافة الاشكاليات في مجتمع قتكت في جسده العولمة بأبعادها الإيجابية والسلبية.

ولكي نكون أكثر دقة وتحديدا هو حدود معرفته الاجتماعية وكيفية استيعابه لمشكلات المجتمع المختلفة وقدرته على تشخيص الموضوعات بشكل يسهل استنطاق الحكم الشرعي من حظيرة الدين تشخيصا يحاكي به كل الظروف الموضوعية المتعلقة به. وهل هو في هذا الزمان قادر فعليا على ذلك؟

 وليست حدود معرفته العلمية لأن الاخيرة يحددها مجتهدون ومراجع ثقاة وفق نظام حوزوي تدريسي متدرج ومرحلي يلزم المنتسب إليه في دراسته وفق خطة ومنهج دقيق يضمن إحرازه لأهم المقدمات والمتطلبات في الدراسة الدينية ليكون أهلا لكلمة عالم من الناحية المعرفية العلمية. وقد أيضا تكون هناك رؤى نقدية بخصوص المناهج وطرق التدريس الحوزوي إلا أنه ليس هنا محل بحثها وليست الهدف من هذه الوريقات ونوكل القارئ الكريم إلى الرجوع إلى هذا الموضوع عند المتخصصين الناقدين له([6]).

فالعالم فيما مضى وقبل دخول العالم في ثقافة العولمة والقرية الصغيرة كان قادراً على أن يتصدى للمشكلات الاجتماعية ويحلها بطرق بسيطة ومؤثرة في إعادة المياه لمجاريها الصحيحة لأن المشكلات ذاتها لم تكن بهذا التوسع وهذه الحيثيات لضيق حدود القابليات الذهنية لدى المجتمع وعدم وجود كل هذه الإغراءات والتغيرات الموجودة حاليا في عالمنا حيث وصف أحد العلماء أن ما يمر على عالم اليوم من إغراءات مادية وإثارة للغرائز والشهوات هو الأشد منذ بدء البشرية . إضافة إلى أن العالم في القرية وقدراته وقابليات من حوله يختلف عن ذلك الموجود في المدينة كما يختلف الأخير بقدرته وقابلياته عن عالم في مدينة أخرى وذلك لاختلاف الاعراف والبيئة الاجتماعية من مجتمع إلى آخر بل من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى أخرى.

هذا إضافة إلى عدم اطلاع كثير من العلماء على الكثير من النظريات الاجتماعية الحديثة وعدم دراستهم للعلوم الإنسانية وآخر التطورات الحديثة بهذا الصدد وبالتالي الاستفادة من ذلك بما يتماهى مع حدود النص والشريعة ويتماهى من القيم والثوابت الاخلاقية في مجتمعاتنا. أي الدمج بين النظريات الغربية المفيدة في هذا الصدد وبين النظريات الإسلامية بما يعود بالنفع على واقع المجتمع واستقراره.

ولكن الإمام الهادي عليه السلام حدد لنا في الحديث أعلاه وظيفة مهمة من وظائف العالم وهي:"… والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته..".

فالإنقاذ لعباد الله الضعفاء من شباك إبليس ومردته هي وظيفة مهمة من مهام العالم الحقيقي.

وشباك إبليس ومردته هي مفاهيم كلية لها مصاديق متعددة ومتغيره بتغير الزمان والمكان فما كان سابقا من شباك إبليس ومردته تغير اليوم واتسعت دائرته لتشمل مناحات حياتية اجتماعية كثيرة وصلت إلى بيوت الجميع وشكلت بذاتها خطرا إن لم نعمد إلى توجيهها بالطريقة السليمة.

وهذا يتطلب قدراًَ هائلاً من المعرفة بكافة النظريات والتطورات الخاصة بالمجتمع والفرد والتي تنهض به العلوم الإنسانية وهو ما يصعب على العالم في هذا العصر مع تفرع العلوم وتشعبها على النهوض به لوحده. ونحن لا ننكر أن حتى الفقه اليوم بات يحتاج إلى متخصصين من العلماء في كل باب نتيجية أيضاً تشعب المواضيع وتكثرها مما يؤدي إلى مضاعفة الجهد المبذول من قبل المجتهد في استنباط الأحكام وهو ما لا يقدر عليه في وقتنا الحاضر فقيه بعينه بل يتطلب تخصص الفقيه الواحد في باب أو بعض أبواب الفقه كل حسب قدرته وقابليته وهو ما طالب به كل من الشهيد مطهري وقلة من العلماء في تشكيل المجلس الفقهي.

يقول الشهيد مرتضى مطهري بهذا الصدد: "..بعد أن ظهرت الفروع التخصصية في جميع علوم الدنيا، فكانت سببا في تقدم العلوم تقدما محيرا للعقول، ظهر أمر آخر إلى حيز الوجود كان أيضا عاملا مهما من عوامل التقدم والتطور، ألا وهو التعاون الفكري بين العلماء من الطراز الأول والمنظرين في كل فرع. في عالم اليوم لم يعد لفكر الفرد وللتفكير الفردي قيمة تذكر، والعمل الفردي لا يوصل إلى نتيجة. إن علماء كل فرع من فروعرالعلم مشغولون دائما في تبادل النظر بعضهم مع بعض، ويضعون حاصل فكرهم وعصارة عقولهم تحت تصرف العلماء الآخرين. بل أن علماء قارة ما يتبادلون معلوماتهم مع علماء قارة اخرى ويتعاونون معهم… إنه لمما يؤسف له أننا لا نرى بيننا أي تقسيم للعلم والتخصص، ولا أي تعاون وتبادل نظر. ومن البديهي أننا بهذا الوضع لا يمكن أن نتوقع تقدماً وحلاً للمشاكل"([7]).

فإذا كان هذا حال الفقه والعلماء المتخصصين فيه فأيضا هذا هو حال العالم في تعاطيه مع الشأن العام والمشكلات الاجتماعية.

فهل يستطيع العالم منفرداً اليوم التصدي لهذا الكم الهائل من المشكلات الاجتماعية وخاصة الأسرية دون اللجوء إلى المتخصصين في هذه المجالات والمثقفين؟ في وقت اتسعت فيه جغرافيا الفكر والفهم والقابليات وطرق الحياة؟

وقد قال أو ارجأ بعض العلماء تنامي ظاهرة المشكلات الأسرية والاجتماعية ونسب الطلاق إلى بعض التفسيرات التبريرية حينما قارن بين بيئة الحوزات العلمية وقلة هذه المشكلات فيها وبين بيئات أخرى مفتوحة على كل المؤثرات الخارجية.

فلا يمكنني أن أقارن بين بيئة مفتوحة ومعرضة لكل الاحتمالات والتأثيرات الأجتماعية القادمة من الخارج إليها وبين بيئة الحوزات العلمية المغلقة أمام كل هذه التأثيرات والتغيرات لأضع أسباب تبريرية غير وجيهة ولا موضوعية من أجل أن اعالج أسباب ازدياد نسب الطلاق أو المشاكل الاجتماعية والأٍسرية. وهذا يعود لعدم اطلاع هؤلاء العلماء على كافة الدراسات والنظريات العلمية الحديثة في هذا الصدد وقدرتهم على تشخيص الواقع وحل مشكلاته بطريقة سليمة وعلمية وموضوعية تحافظ على تقدم المجتمع وصيانة نواته الأسرية.

فقد قال أحد العلماء بهذا الصدد:"!.. إن القضاة هذه الأيام يشتكون من ظواهر الخلاف المتأزم في الأيام الأولى من الزواج.. رغم أنها أجمل أيام العمر، وهي ما يسمى بشهر العسل.. والسر في ذلك واضح، إذ أن الزوجة تأتي إلى الزوج، وفي رأسها عشرات الرجال.. فهي كانت قد كلمت عشرات الرجال في المواقع، وفي العمل، وفي غيره.. لذا فإنها ترى الرجل وجوداً باهتاً، فهو رجل كالرجال.. ولطالما تعرفت على من هو أجمل، ومن هو أكمل، ومن هو أعلم، ومن هو أثرى!.. وكذلك بالنسبة للرجل الذي رأى ما رأى من النساء!..

ولهذا في عالم العلماء قلما نسمع حوادث طلاق أو انفصال زوجي؛ لأن العالم في الحوزات العلمية، لا شغل له بالنساء.. فأول امرأة يراها في حياته، هي زوجته المبجلة، وقد عقد عليها قبل أن يراها أصلا، فيقنع بما هو موجود"([8]).

هكذا تفكير نمطي وبعيد عن الواقع وغير موضوعي في وضع الأسباب الحقيقية عن هكذا ظواهر يشتكي منها القضاة والتعويل على سفر الباطن ونسيان الجسد وحاجاته الحلال هو لا يقدم للإنسانية أي خدمة للنهوض بها من مخادع الشيطان التي هي من وظائف العالم. إضافة إلى المقارنه الغير منطقية بين بيئتين وثقافتين مغايرتين تماما. نحن لا ننكر أبداً أن هناك أزمة أخلاقية وقيمية بدأت تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية نتيجة انتشار الثقافة المادية وأننا بحاجة فعلية لترسيخ المبادئ والقيم والأخلاقيات التي تربط الإنسان بخالقه وتميل به عن أهوائه المضلة ولكن هذا لايعني أبدا أننا لا نستنطق ديننا الحنيف وننهل من مناهله الصالحة لكل زمان ومكان ونستفيد من التجارب البشرية والعلوم الغربية الصالحة من أجل إيجاد الحلول المناسبة لمشكلاتنا الاجتماعية والأسرية لأن الجسد هو الآلة التي بها يمارس الإنسان دوره الخلافي على الأرض وقد وضع الله تعالى في الدين كل مقومات صيانة هذا الجسد بما تقتضيه المصلحة والمفسدة الإنسانية وجعل الدين في خدمة الإنسان وخدمةالبشرية وصيانة كل مقومات وجوده في الدنيا التي هي القنظرةالوحيدة إلى الآخرة . فما من شي في الأرض إلا ولله فيه حكم. ويقول الإمام الخميني مخاطبا مجموعة العلماء "اقتحموا الأمور، تدخلوا في الشؤون، لا يصح أن يقول أحدكم: أنا فقيه ولا شأن لي بغير ذلك، فأنت فقيه، ولكن يجب أن تتدخل في الشؤون، يجب أن تتدخل بمقدرات الناس، فأنتم حراس الإسلام، ويجب أن تحرسوه". والحراسة تتطلب من العالم والفقيه أن يطلع على كافة ما هو متعلق بالإسلام والذي جاء ليخدم الإنسان ويدير شؤونه في هذه الحياة لتكون تحركاته في كافة الازمنة والامكنة في دائرة الشرع كما أرادها الله تعالى وهذا يتطلب أن يتصل العالم بكافة العلوم المتعلقة بخدمة الإنسان ويطوعها وفق الرؤية الدينية السليمة وهو ما يتطلب منه تعاونا مع الآخرين من المثقفين والمتخصصين ويكون هو الحكم الفصل.

يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: ﴿وَالذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبهِمْ وَأَقَامُوا الصلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ([9]) وهذا هو الوصف القرآني الدقيق لحالة المؤمنين وأتباع الإسلام الذي يرى أن التعاون الفكري وتبادل النظر من المبادئ الأصيلة في حياة المؤمنين.

ويقول الإمام علي عليه السلام: "واعلموا أن عباد الله المستخفظين علمه يصونون مصونه، ويفجرون عيونه، يتواصلون بالولاية، ويتلاقون بالمحبة، ويستاقون بكأس روية ويصدرون برية"([10]) ويفسر الشهيد مطهري ذلك قائلاً "أي اعلموا أن الذين عهد إليهم الله بعلمه يحفظونه، ويجرون ينابيعه، أي أنهم يفتحون أبواب العلم بوجوه الناس، يرتبط بعضهم ببعض بروابط المحبة والتعاطف، ويتلاقون بالمحبة والبشاشة، ويرتوون من كأس العلم والفكر، يتعاطون كؤوس العلم والمعرفة التي يدخرها كل منهم، وتكون النتيجة أن يرتوي الجميع ريا"([11]).

إذا ما نخلص إليه هو عدم قدرة العالم بالقيام بوظيفته التي حددها الإمام الهادي عليه السلام والتي تعتبر من وظائفه المهمة منفرداً وبعيداً عن الاستعانة بالمتخصصين والمثقفين من أجل النهوض بمستوى المجتمع وحل معضلاته برؤى دينية سليمة لكي نثبت حقيقة مهمة وهي أن الدين دين الحياة فيكون العالم قائداً مستنيراً بعلمه من جهة وبعلم الآخرين المتخصصين من جهة أخرى أي أن استعانته بالمتخصصين والمثقفين لا تلغي دوره القيادي في قيادة الناس إلى بر رضا الله تعالى لأنه المعني الأساسي في استنطاق الشرع ومعرفة الإرادة الإلهية والاستخلافية التي على الإنسان تطبيقها وممارستها في هذه الدنيا فيكون العالم كالبحر الذي تصب فيه أنهر متفرعة متعددة ترفده وتزيد من منسوبه واستيعابه. وما يحدث من قطيعة حقيقية بين العلماء والمتخصصين والمثقفين لا يخدم أبداً الإنسانية ونحن هنا لسنا بصدد الدخول في البحث أوإثبات هذه القطيعة وتحديد أسبابها وكيفية وضع الحلول المناسبة لها([12]).

طبعا لن نخوض في مسألة عزلة العالم عن واقعه المعاش وعن هموم الناس وعن انحصار العلم في جهة معينة دون غيرها ولكن سأذكر مقولة قد تختصر كل المعاناة.

يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد:

"المستبد لا يخشى علوم اللغة التي تقوم اللسان إذا لم كين وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية أو سحر بيان يحل عقد الجيوش، المستبد لا يخاف من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة خاصة إذا اغتروا وصاروا لا يرون علما غير علمهم، ترتعد فرائض المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية، وحقوق الامم وطبائع الجتماع والسياسة المدنية ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوسوتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها وكيف الطلب والنوال، باختصار إن المستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين المرشدين"، ويقول محمد عبد المنعم الخاقاني في مقدمته لكتاب العدل الإلهي للشهيد مرتضى مطهري: "جهل الاميين بسبب: تعاظم المتعلمين وتحيزهم، ينبغي ان يكتسب طلاب العلم من المعرفة ما يغنيهم عن النظر إلى من فوقهم بعين الحسد ومن الحكمة ما يمنعهم من النظر إلى من دونهم بعين الازدراء، هذا التحيز وذلك التعاظم أقاما جداراً سميكاً بين المتعلمين والأميين جعل انتشار المعرفة من الاكثر تركيزاً إلى الأقل تركيزاً أمراً عسيراً بل أصاب الاميين بنفور بصفة عامة حيث استقر في أنفسهم أن هذه المعرفة التي لم تستطع تهذيب صاحبها لا تستحق أن يبحث عنها الإنسان". ومن هنا ننطلق من رحاب العالم وفضاء علمه ودوره إلى سماء المثقف وحدود دوره وعطائه.

 

2- المثقف

مفهوم المثقف هو من المفاهيم الحديثة التي شهدت الكثير من الجدليات والتعريفات والإضاءات حيث كانت نتاج ثورة التنويريين في القرون الوسطى،

فالثقافة بالمعنى اللغوي تعني الحذاقة والمهارة، فمصدر كلمة ثقافة ومثقف –على ما في لسان العرب – الفعل الثلاثي ثَقِفَ، ثقفَ الشيئَ ثقفاً وثقافاً وثقوفة: حذَقََهُ، ورجلٌ ثَقِفٌ: حاذقٌ فهِمٌ. ويقال ثَقِفَ الشيئَ بمعنى سرعة التعلم، وثقِفتُهُ إذا ظفرت به، قال تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، أي ظفرتم بهم وأدركتموهم. وتعنى أيضاً العمل بالسيف وتسوية اعوجاج الشيئ… هذا هو المعنى اللغوي لكلمة "ثقافة" في العربية([13]).

عندما واجه العاملون في ميدان العلوم الإنسانية لفظ Culture، اختاروا كلمة "ثقافة" كمرادف له. وCulture هي كلمة فرنسية قديمة مأخوذة من اللاتينية Cultura، وجذرها يعني الزراعة والتربية والحضارة بالإضافة إلى الإقامة والسكن… هذا هو المعنى اللغوي لكلمة "ثقافة" في اللغات الأوروبية.

أما التعريف الاصطلاحي حسب إدوارد تايلر (1871) "الثقافة هو ذلك الكل المعقد المتضمن المعارف والمعتقدات والفنون والآداب والأعراف والقوانين والعادات والمنجزات الأخرى التي عملها الإنسان كفرد أو كمجتمع"([14]).

وهناك فرق كبير بين المثقف والمتخصص الأكاديمي ، فليس كل من يحمل شهادة عليا هو مثقف لأن المثقف له تعريفاته، فهناك مثقفين استطاعوا أن يغيروا وجهة الامة ولم يكونوا يحملوا سوى شهادات عادية وليست متخصصة. فكثير من المتخصصين والاكادميين غارقين في تخصصاتهم ولا يستطيعوا أن يعوا مشاكل مجتمعهم ويحددوا السبل الناجعة في حلها. فليس كل مثقف يحمل شهادات عليا كما أنه ليس كل من يحمل شهادات عليا مثقفاً.

".. ألا نرى أناسا نعرفهم ونلتقي بهم كل يوم تلعموا تعليما عاليا ونالوا أرقى الشهادات بل ويشغلن مناصب علمية ويقومون بأعمال عقلية لكنهم مع كل ذلك لا يفهمون حوا من لو؟ فهؤلاء لا يعدون مثقفين لأنهم لا يتميزون بوضوح الرؤية والقرار العقلاني.."([15]).

إذا من هو المثقف: "كلمة مثقف في اللغة الفرنسية هو كلمة: clairvoyant ومعناها بعيد النظر أو مستنير، وتعني ذلك الذي لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، بل يفكر بوضوح وسعة أفق، ويميز عصره والأرض التي يقف عليها، وموقع البلد الذي ينتمي إليه والمشاكل التي تطرح في مجتمعه ويستطيع تحليلها وتقديم الأدلة لها"([16]).

"وهناك اقتراحات متعددة لتعريف "المثقف"، قبل أن أستعرضها أود أن أبدأ بالتعريف الذي أقترحه، لكن لابد أن نتذكر بأن اختيار تعريف معين لـ "المثقف" هي مسألة اختيار، ولا يخلو هذا الاختيار من جانب اعتباطي، ومن الصعب جداً الظفر بتعريف جامع مانع لهذا المصطلح. تعريفنا للمثقف هو التالي: "المثقف هو الإنسان العقلاني الذي يعي مشاكل عصره ومجتمعه، ويعتبر الطغيان أساس المشاكل وأعني بـ"العقلاني" الإنسان الذي يبنى اعتقاداته على أسس موضوعية، وأعني بـ "مشاكل عصره": المشاكل العامة التي تعانيها البشرية في العصر الذي يعيش فيه المثقف، وأعني بـ "مشاكل مجتمعه": المشاكل الخاصة بالبيئة التي يعيش فيها المثقف، سواء كانت تلك البيئة ضيقة كالقرية أو المدينة، أو واسعة نسبياً كالوطن أو الأمة. وأريد بـ "الطغيان" التجاوز على حقوق الآخرين، سواء كان الطغيان صادراً عن سلطة سياسية أو تيارات اجتماعية أو أفراد"([17]).

وهناك مواصفات يمكنها أن تختصر حقيقة وماهية المثقف:" . يتصف المثقف بأنه ذو قدر واسع من الاطلاع والمعارف الفكرية المتنوعة. وبالتالي فان مفهوم المثقف يقف في قبال مفهوم المختص نسبياً. فالمختص صاحب علم ذي موضوع محدد، وله منهجية دقيقة وصارمة بفعل الصنعة العلمية، أما المثقف فصاحب معارف لا تتحدد بموضوع معين بالذات، ولا تحمل منهجية دقيقة كتلك التي تفرضها الصنعة العلمية والتخصص. مما يعني انه بقدر ما يضيق الموضوع لدى المختص؛ بقدر ما يتسع في القبال لدى المثقف ليشكل موضوعات متنوعة عديدة. وبعبارة اخرى، ان معارف المثقف تعبر عن مبادرات فردية لم تتحدد ضمن أُفق علمي تخصصي ذي مناهج وقواعد معرفية محددة. فهي بالتالي ليست كالمعارف التخصصية الناتجة عن الهيئات العلمية العامة

1- ان معارف المثقف مستمدة في الاساس من النظر والاطلاع على شؤون الواقع وممارسة التحليل العقلي. وبالتالي فان المثقف ذو مقدرة عالية على النقد والتفكير والتمييز بين الاراء التي لها علاقة بالواقع ومجرى الاحداث العامة

2- ينصب اهتمام المثقف على قضايا المجتمع، باعتباره كائناً معرفياً فاعلاً يمكنه ان يؤثر على حركة الوسط الذي يتفاعل معه بما يبتكره من افكار وما يقدمه من معارف، ومن ثم بما يساهم به في صنع الرأي العام باعتباره يوجه خطابه الى الجمهور. فهو من هذه الناحية لا يقع ضمن طبقة سياسية او اجتماعية او اقتصادية محددة في قبال نظيراتها في المجتمع، بل يمكن لبعض من اعضاء تلك الطبقات ان تشكل فئة المثقفين، كما ويمكن ان تنتمي الى نفس الرؤى الثقافية رغم وجود الاختلاف الطبقي بينها. وواقع الامر ان هذا الشرط المشار اليه حول اهتمام المثقف بالمجتمع انما يعبر عن الحالة الطبيعية من ارتباط المثقف المعرفي والمتعدد الوجوه بقضايا الواقع، ذلك ان هذا الارتباط من شأنه ان لا يجعل الفرد في عزلة عن القضايا التي هي اكثر اثارة ومساساً وتشويقاً، واقصد بها قضايا المجتمع العام"[18]

وهناك تعريفات كثيرة ومتعددة للمثقف لا نريد أن نلج فيها ونقتصر على هذين التعريفين.

إلا أننا لا بد أن نشير إلى أن المثقف أيضا ينطلق من منطلقات معرفية وإيديولوجية تكون المحرك والدافع الأول نحو أهدافه التي يسعى لتحقيقها.

 

 

1- 2- تقسيمات المثقف:

ينقسم المثقفون وفق توجهاتهم إلى عدة أقسام لا تخرج عن اثنين من وجهة نظرنا:

1- المثقف الحضاري

2- المثقف التجديدي

 وكل قسم ينقسم أيضا إلى تيار مثقف علماني أو ديني فالفارق بين التيارين يتحدد بحسب الموقف من الدين كمشروع يراد له التطبيق على العلاقات الاجتماعية "مع هذا فهناك اطار مشترك يجمعهما هو الاطار الثقافي ولو بمعناه العام من الاحتكام الرئيسي الى الواقع والعقل الانساني في توليد المعرفة، بغض النظر عن الاعتراف او عدم الاعتراف بوجود مصدر آخر غيبي يعمل على رفد المعرفة الانسانية طالما ان هذه المعرفة لا تأتي – ولا ينبغي ان تأتي – على حساب المعرفة الاولى"([19]).

إلا أننا نريد أن نسلط الضوء على المثقف الديني ليصبح لدينا التقسيمة التالية في داخل حظيرة المثقف الديني.

1- المثقف الديني التجديدي

2- المثقف الديني الحضاري

والمثقف الديني هو: "الذي يلتزم بمبدأ الاسلام ويعمل على حمل المشروع الديني"([20]).

 

1- 1- 2- المثقف الديني التجديدي:

ينتمي هذا المثقف إلى التيار التجديدي الإسلامي وهو التيار "الذي يعتقد أن الحداثة الغربية خصوصا في جوانبها العملية والإجرائية تجتمع مع قيم ومبادئ الإسلام"([21]).

بعد اطلاع هذه الفئة على الحضارة الغربية بنتاجها الفني والعلمي والاجتماعي، لم يجدوا في ثقافتنا ومجتمعاتنا الإسلامية ما يضاهي أو يستحق المقارنة مع ذلك النتاج، ونتيجة للركود في المجتمعات الإسلامية على مستوى الفكر الفلسفي والتنظير الاجتماعي والانحطاط السياسي أدى بمجموعة من جيل الشباب والباحثين المسلمين إلى التسليم بأصول وأطر الثقافة العلمانية، وأن يجعلوا جهودهم منصبة على قراءة للإسلام تتلاءم ومكونات الثقافة الحديثة، وكان نتيجة هذا الجهد الدؤوب للحداثة الدينية في القرن الاخير تطويع المفاهيم الإسلامية وتقليل المقاومة الثقافية للمسلمين أمام المد العالمي للحضارة الغربية([22]).

فهناك عنصران أساسيان يعتبران من لوازم الاعتقاد بخاتمية الدين الإسلامي وخلوده وهما:

1- الأصالة

2- الخلود

وكان تقديس الماضي والتراث وامتزاج التعاليم الدينية بالعادات والتقاليد والأعراف الخارجة عن دائرة وحظيرة العقل والشرع من جهة وعدم اطلاع هذه الفئة على عمق الفكر الإسلامي الصافي من جهة أخرى أديا إلى أن التنظير والتحليل الصحيح للعلاقة بين الدين والحداثة الغربية خافيا على هذه الفئة ، لذلك وجدنا تأثراً كبيراً من هذه الطبقة المثقفة بالثقافة والفكر الغربيين من محورية الإنسان أي النزعة الإنسانية، إلى تقديس العلم والاعتماد على العقلانية إلى نسبية الفهم والتاريخية وهي نظريات أثرت بشكل كبير على توجهات هذه الطبقة الفكرية بطريقة فرطت فيها هذه الطبقة بكثير من المسلمات حيث تخلت عن أصالة الشريعة واستمرارها حفاظا على خلود الإسلام، ولسنا هنا بصدد تحليل كل هذه النظريات وتفنيدها لانها خارجة عن أهداف بحثنا ولكن هي إطلالة تبين مبتنيات هذا التيار الفكرية.

ولعل أحد أهم أسباب نشوء هذه الطبقة المثقفة هو التيار الديني التقليدي الذي أفرط في تقديس التراث وتغييب العقل مقابل النص وعجز عن عرض أي مخطط يثبت فيه حضور الإسلام كنظام في ميدان الحياة الاجتماعية البشرية فهو يضحي بخلود الإسلام في سبيل المحافظة على الأصالة فيه، وغيرها من الامور التي أدت إلى رد فعل عكسي من قبل طبقات المثقفين.

لذلك ظهرت إلى ساحات الفكر الإسلامي جدليات قائمة بين هذا التيار التجديدي والتيار التقليدي، كانت تنتفي فيها الموضوعية والعلمية وتبرز فيها الشخصانية بل تتعدى إلى وضع عدائي لا اخلاقي في كثير من المحطات الجدلية مما أثر على مسيرة الإثراء العلمي بين الطرفين وأدى في بعض الاحيان إلى قطيعة حقيقية بين المثقف ورجل الدين.

 

2- 1- 2- المثقف الديني الحضاري

وهو المثقف الذي ينتمي إلى الاتجاه الحضاري الإسلامي الذي يحافظ في رؤاه الفكرية والنظرية على أصالة الإسلام وخلوده، ليجمعها في نظرية واحدة، "لتكون على مسافة واحدة بين نسبة منطقية متساوية"([23]).

فالمثقف المنتمي لهذا التيار يرى أن الحل الوحيد للإشكالية الحالية في المجتمعات الإسلامية يكون في التحرك في سبيل إيجاد حضارة حديثة تعتمد على القيم الإسلامية وتهتدي بهداها من أجل إيجاد برامج تنموية وتطويرية تنهض بالمجتمعات الإسلامية وتطرح البديل الحضاري الإسلامي القادر على قيادة الحياة الإنسانية بل الذي يجعل من الدين منهاج حياة.

فمشروع المثقف الديني الذي ينتمي إلى التيار الحضاري الإسلامي يختصر ضمن خصوصيات ثلاثة هي:

1- السعي المستمر للحصول على الأصول والاحكام والقيم الدينية من المصادر الإسلامية المعتبرة.

2- الدفاع بشكل علمي عن هذه الاصول والقيم وأبعادها عن مخاطر الجهل والخرافات من جهة، وعن الانحراف من جهة أخرى.

3- التخطيط الدقيق لتحقيق حضور هذه الأصول والقيم في ميادين الحياة الفردية والاجتماعية بما يتناسب مع ملازمات الزمان والمكان"([24]).

وهذا المشروع وثوابته لا يمكن للمثقف الديني منفردا أن ينهض به، بل لابد من حضور فاعل لرجل الدين في تلك الميادين لانه المعني في استنطاق النص وإعمال العقل للخروج برؤية الشرع لما يمتلكه من ادوات معرفية تمنكه من ذلك يفتقر لها المثقف الديني.

وبما أننا سلطنا الضوء على المشاكل الاجتماعية والأسرية، والتي يتجلى فيها التقصير واضحا في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية وتكون فيها الضحية الاولى والاخيرة الاسٍرة هذه النواة المجتمعية الهامة في بناء وصيرورة المجتمع ككل.

وسبب هذا التقصير هو تقليدية رجل الدين في نظرته إلى تلك المشكلات من جهة وقطيعته للمثقف الديني القادر على تشخيص مشكلاته الاجتماعية من جهة أخرى. هذه القطيعة التي قد تكون في بعض الاحيان متعمدة أو أحيان أخرى غير متعمدة أدت إلى بروز مشكلات اجتماعية كثيرة نتيجة رياح العولمة التي كشفت لنا عورات مجتمعاتنا، وأدت إلى إحداث بلبلة كبيرة في ذهنية المرأة والرجل المكونان الرئيسيان للأسرة وبالتالي أثر ذلك على استقرار الأسرة بشكل عام.

ونتيجة لهذا الكم الهائل من المعلومات والثقافة التي وردت على مجتمعاتنا التي هي في واقع الامر ضعيفة المقاومة على المستوى الثقافي لعدم وجود مشروع إسلامي حقيقي يقف في وجه هذه الرياح العاتية كبديل قادر على أن يثبت جدارته وقدرته في الإجابة على كثير من التساؤلات والمشكلات والإشكاليات الاجتماعية والاٍسرية، أدى ذلك إلى ازدياد نسبة التفكك الأسري وانحراف خطير في صفوف الأجيال الشابة.

ولعل أبرز ما قام به المثقف الديني الحضاري هو استشعاره لهذا الخطر ونهوضه في مواجهته من خلال تلمس حاجات الأسر في مجتمعاتنا وقدرته على إعطاء الحلول التي عجز عنها رجل الدين التقليدي أو حتى الاكثر انفتاحا، فهناك مثقفين مازجوا بين أصالة الإسلام وخلوده وبين اطلاعهم الدقيق على آخر النظريات الاجتماعية في الحضارة الغربية وآخر المستجدات في الثقافة الأسرية المتعلقة بالنواحي العاطفية والنفسية والجنسية، وغربلوا تلك النظريات بغربال الفهم الإسلامي الحضاري وقدموا حلولا واقعية وعملية استطاعت أن تحافظ على كينونة أسر كثيرة واستقرارها في وقت عجز عن ذلك رجل الدين في كثير من الحالات.

ونحن هنا لسنا بصدد الهدم بل نحن في صدد تسليط الضوء على قدرة المثقف الديني الحضاري في أن يقدم الحلول المناسبة للمشكلات الاجتماعية والأٍسرية وكيفية استغلال هذه القدرات من قبل رجال الدين في سبيل النهوض بالمجتمع والمحافظة على نواته الأٍسرية من الانحراف والانهيار.

فرجل الدين هو المعني الاول والأخير في استنقاذ الضعفاء من الناس من مكائد الشيطان وحيله ولكنه منفردا لا يستطبع نتيجة اتساع دائرة المعارف الإنسانية وقصور المعنيين في تقديم مشروع إسلامي حضاري بديل يكون قادرا على النهوض والمواجهة، إضافة إلى ظهور علوم إنسانية ونظريات علمية جديدة في المجالات النفسية والعاطفية والجنسية قادرة على دعم ركائز الأسرة إلا أن عدم اطلاع رجال الدين في كثير من المجتمعات على هذه النظريات واقتصار دورهم على نمطية معينة في تثقيف المجتمع من دروس تفسير ودروس فقه وبعض المحاضرات هنا وهناك ولسنا هان بصدد التقليل من قيمة ما يقومون به ولكننا بصدد نقد اقتصار دور رجل الدين على هذه الامور.

ومن هنا أرى أن هناك حلولا قد تشكل منطلقا مهما في تشكيل مشروع حضاري إسلامي قادر على المواجهة والثبات والحفاظ على المجتمع ونواته الأسرية من خلال الطرح التالي:

1- تشكيل مؤسسة بإطار مدني تضم خيرة العلماء واكادميين متخحصصين في مجالات العلوم الإنسانية الحديثة ومثقفين حقيقيين.

2- تضم هذه المؤسسة المدنية النساء والرجال من أصحاب التخصصات في العلوم الإنسانية ومن المثقفين الدينيين.

3- تتبنى هذه المؤسسة النهوض بالمستوى الثقافي للمجتمع وتقدم برامج توعوية في ميدان الأسرة والتربية والطفل والمرأة تكون هذه البرامج خلاصة رؤى المتخصص والمثقف ورجل الدين لتكون شاملة وقادرة على تأدية الهدف الحفاظ على خلود الإسلام وأصالته.

4- تستطيع هذه المؤسسة تشخيص المشكلات الاجتماعية والاٍسرية وتقدم الحلول في دائرة العقل والشرع على أسس قيمية وأخلاقية ثابتة وتمازج فيها أيضا بين هذه الأصالة والخلود وبين الرؤى الحديثة في حل المشكلات الأسرية والمتناغمة مع القيم والثوابت وتكون متناغمة مع براغماتية الحياة وعملانيتها ومع الواقع.

5- تستطيع هذه المؤسسة أن تقنن كثير من الأحكام الخاصة بالأسرة وتقديمها كمشاريع حقيقية للدولة لتصبها في إطار قانوني يحمي الأسرة بمكوناتها والمجتمع أيضاً.

6- تكون هذه المؤسسة قادرة على تشخيص الحالات كل وفق ظروفه وتقديم الحلول كل وفق قابليته إضافة إلى قدرتها على تشخيص المشاكل الخاصة بالمرأة من خلال خبيرات متخصصات في هذا المجال منتميات إليها إذ ان هناك كثير من المشكلات النسائية في الأسرة على المستوى العاطفي والنفسي والجنسي لا يمكن إلا للمرأة فهمها وتشخيصها بشكل دقيق ونقلها إلى رجل الدين لوضع لمسات الشرع عليها بل هناك حالات تستطيع فيها المرأةالمتخصصة والمثقفة أن توضع لها حلول مناسبة من الناحية الشرعية والعقلية دون الحاجة للرجوع إلى رجل الدين.

7- تتصل هذه المؤسسة بالمرجعية في حال عدم قدرة رجل الدين فيها على تشخيص الحالة فقهيا فينقلها للمرجع بعد ان تشخص الحالة من قبل المتخصص والمثقف وتبلور من قبل رجل الدين في صياغة كموضوع يستطيع المجتهد أن يحدد حكمه فيها.

8- يعتبر فيها رجل الدين المحور ولكنه ليس محوراً مقدساً وإنما محوراً في قدرته بما يمتلك من أدوات معرفية في استنطاق الدين على بلورة رؤية شرعية في حال احتاج الأمر إلى ذلك فقد يستطيع المتخصص أوالمثقف أن يحل الكثير من الإشكاليات الاجتماعية والأسرية دون الحاجة إلى رؤية الشرع لأن حله يتوافق والتجربة الإنسانية والرؤية العقلية التي لا تحتاج أحيانا إلى الشرع نتيجة أصلاً تماهيها معه. فإمضاء الشريعة الإسلامية لبعض الأحكام في العصر الجاهلي لتماهي تلك الأحكام مع روح الشريعة ومقاصدها خاصة تلك التي تتعلق بالواقع المجتمعي والأسري يثبت ويدلل على أن العقل منفردا قادر على تمييز قوانين تتلاءم وروح الشريعة الإسلامية.

ومن ذلك نرى أن رجل الدين منفردا بات غير قادر في هذا الزمن على مواجهة المشكلات الاجتماعية والأسرية نتيجة اتساع رقعتها ومنطلقاتها بل اتساع قابليات مكونات الأسرة وفمهما للحياة وتغير نظرة كل من الرجل والمرأة للعلاقة الزوجية التي تمازج فيها المفهوم التقليدي للزواج مع فهم النظريات الدينية فهما مجردا من عنصري الزمان والمكان إضافة لتداخل ذلك مع الثقافة الغربية المادية التي اقتحمت كل مكوناتنا الثقافية نتيجة ضعف مقاومتنا لها لعدم وجود البديل الصالح القادر على المواجهة بل عجز كثير من رجال الدين أو المتدصين المتدينين التقليديين للمشكلات الاجتماعية والأسرية لإيجاد حلول تتماهى مع واقعنا المعاصر واقتصارها على الحلول التقليدية أو الترقيعية التي في كثير من الاحيان تزيد من حجم المشكلة وتفاقمها بدل أن تضع الحلول لها التي تتماشى مع قابليات الناس واتساع أفقهم المعرفي وفهمهم للحياة بل تطور نظرتهم لها من الناحية المادية مما زاد من حاجات الإنسان الجسدية والتي تتطلب ضبطا وفق أسس قيمية وأخلاقية التي تقع مسؤوليتها على رجل الدين والمثقف والمتخصص. وأيضا لا يستطيع أيضا المثقف ولا المتخصص أن يتصدى لهذه المشاكل منفردين دون وجود مظلة شرعية ليس لكل المشاكل الأسرية والاجتماعية، بل لبعضها الذي يتطلب اللجوء إلى الشرع، وهو أمر يدعو إلى دمج حقيقي بين معارف رجل الدين والمتخصص والمثقف لكي تتشكل رؤية متكاملة وقادرة على حل المشاكل الاجتماعية والأسرية بلغة تحفظ أصالة الإسلام وخلوده الذي يتماشي مع عنصري الزمان والمكان ويأخذ التجارب البيشرية والنظريات الغربية في العلوم الإنسانية بعين الاعتبار وبما يصب في صالح وخدمة البشرية جمعاء التي جاء الدين لخدمتها والارتقاء بها إلى مدارج الكمال.

إيمان شمس الدين

 

الهوامش:




[1]) الفرقان – آية 74

[2]) الفقيه وولادة المثقف الجديد – يحيى محمد http://yahya-mohamed. blogspot. com/2006/11/blog-post_7323. html

[3]) نهج البلاغة – صبحي الصالح – ص 50

 [4]) ميزان الحكمة جزء 3 صفحة 2087

[5]) الكافي : 1 / 32، للشيخ أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكُليني، المُلَقب بثقة الإسلام، المتوفى سنة : 329 هجرية، طبعة دار الكتب الإسلامية، سنة : 1365 هجرية / شمسية، طهران / إيران.

[6]) للمزيد من الاطلاع على هذا الموضوع يراجع:مسألة المنهج في الفكر الديني وقفات وملاحظات للشيخ حيدر حب الله –مؤسسة الانتشار العربي

ومشاريع التجديد والإصلاح في الحوزة العلمية – خطاب الإمام الخامنئي نموذجا –مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي

[7]) الاجتهاد في الإسلام المشكلة الأساس في جماعة علماء الدين – ص 35 – دار المحجة البيضاء

[8]) شبكة السراج في الطريق إلى الله – سلسلة محاضرات عن زاد البرزخ والقيامة – المحاضرة السادسة

[9]) الشورى 38

[10]) نهج البلاغة

[11]) مصدر سابق.

[12]) لمزيد من الاطلاع على هذا الموضوع مراجعة إصدرات المفكر يحيى محمد حول القطيعة بين المثقف والفقيه لدار الانتشار العربي

[13]) الدكتور الشيخ مرتضى فرج – المثقف ودوره

[14]) International Encyclopedia of the Social Science, vol. 3, the Macmillan Company & the Free Press, New York, p 527

[15]) المثقف ومسؤوليته في المجتمع د. علي شريعتي – دار الشهيد ص 8

[16]) دكنور علي شريعتي – مصدر سابق

[17]) الدكتور الشيخ مرتضى فرج – مصدر سابق

[18]) يحيى محمد – المثقف الديني والنماذج العلمانية http://yahya-mohamed. blogspot. com/2006/11/blog-post_7523. html

[19]) مصدر سابق

[20]) مصدر سابق

[21]) شخصية المرأة – دراسة في النموذج الحضاري الإسلامي – محمد تقي سبحاني- ص 34 مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي – سلسلة الدراسات الحضارية.

[22]) مصدر سابق بتصرف

[23]) مصدر سابق

[24]) مصدر سابق

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً