أحدث المقالات

العرفان الإسلامي – بين الإشكاليّة المعرفيّة والآليّة التربويّة والمنحى الواقعي

حيدر حبّ الله

 

تمهيد:

تبدو – من جانبٍ – روعة الدين عموماً، والإسلامي خصوصاً، في ذلك التنوّع الفائق الذي يمنح هذا الدين جمالـه وبهجته، فمن زاوية فقهية، إلى أخرى فلسفية، إلى ثالثة كلامية، إلى رابعة تاريخية، إلى خامسة قرآنية… فأخيرة عرفانية روحية.

وإذا كان هذا التنوّع سرّاً من أسرار جمال الدين، وجمال الإنسان في تعاملـه معه، فإنّ حصر الدين في جانب وإقصاء الجوانب الأخرى واختزالـها أو تقزيمها، تفريطٌ بمخزون كبير، لا تُحمد عواقبه ولا تُستساغ.

من هنا، يبدو الدرس العرفاني مهمّاً إلى جانب بقيّة الدروس، ويبدو هذا المخزون الروحي الـهائل عبر الزمن جديراً حقّاً بالمطالعة والدرس الجادّين.

بدورنا، سوف نحاول مجرّد إثارة استفهامات، والإشارة إلى مفاتيح ومداخل قليلة، مما يدور في خلد الباحثين أو أصحاب السؤال حول هذا التيار الروحي، الذي ساد – وعلى فترات – نظم التفكير، وأساليب الحياة الإسلاميّة، أو ترك أثراً بالغاً فيها.

ونؤكّد بدايةً – على أنّنا نهدف لإثارة ملاحظات أحياناً على المنهج العرفاني في البُعدين المعرفي والتربوي، كما في البعدين: العملي والحياتي، لكي تُتفادى هذه الملاحظات حيث يمكن، أو تكون دليلاً – سيما على صعيد البعد المعرفي – لكي نمارس قراءة جادّة للعرفان من زاوية عقليّة عقلانية، بعيداً عن اعتقادنا أو عدم اعتقادنا النهائي بالمنهج العرفاني.

 

المدرسة العرفانية بين الرفض والقبول

الإشكاليّة المعرفيّة، وعقلنة العرفان:

حاول العلامة السيّد محمد حسين الطباطبائي (توفي 1983م) أن يشرعن العرفان من زاوية النص الديني في كتابه ((رسالة الولاية))(1) – تماماً كما حاوله بإيجاز تلميذه الشيخ مرتضى المطهّري في كتابه "الإسلام وإيران"(2) – ليحشد شواهد على هذا الموضوع، في خطوة تسعى لمواجهة تيار النص الذي كان يصارعه الطباطبائي في إيران وتواجهه المدرسة العرفانية في العراق أيضاً، حيث الحواضر العلمية الدينية للشيعة متمثّلاً في بعض المرجعيات الفقهية.

ولم يكن تيّار النص حديث عهد بمعارضة المنهج الصوفي والعرفاني، فقد هبّ العديد من العلماء – من بينهم بعض علماء التيّار الأخباريّ الشيعي – للردّ على الصوفيّة الذين تناموا بشكل كبير في العصر الصفوي، وقد كان عدم وجود دليل قطعيّ من عقل أو نصّ يدعم النـزعة الصوفية أحد أهمّ أدلّة التيار النصّي في معارضته هذه، فقد جعل الحرّ العاملي(1104هـ) – على سبيل المثال – عدم الدليل هذا أوّل أدلته التي يردّ فيها على الصوفية في دعواهم الكشف، وذلك في كتابه "رسالة الاثني عشريّة في الردّ على الصوفيّة"(3)، كما سعى السيّد هاشم معروف الحسني في كتابه "بين التصوّف والتشيّع" لتحقيق الغرض نفسه، بل اعتبر فريق من المحدّثين والفقهاء الذين يمثّلون التيار النصيّ الاتجاهَ الصوفيَّ والعرفانيَّ خارجاً عن الإسلام بالمرّة وأجنبياً عن الثقافة الإسلاميّة، في محاولة تشبه في نتيجتها ما قاله التيّار الاستشراقي عن العرفان والتصوّف، وفقاً لما يقولـه الشهيد مرتضى مطهّري(4).

وعلى أيّ حال، لا نريد أن ندّعي أن العلامة الطباطبائي قدّم خطوة إبداعية أو لا سابق لها بقدر ما قدّم – مع إضافة – عصارةً لمتفرّقات المحاولات النصيّة التي كان الفلاسفة والعرفاء قبله قد سطروها في كتبهم، كما لا نريد أن ندّعي أن هذه الرسالة حسمت الموقف، بل ما زالت الأسئلة تترى إزاء طبيعة فهم العلامة الطباطبائي للنصوص القرآنية والروائية في هذا الموضوع، إنما نريد التأكيد على جدّية الخطوة التي خطاها الطباطبائي في شرعنة العرفان نصيّاً.

 لكن المشكلة الأكبر أمام العرفان كانت مدرسة العقل من زاوية الشرعية المعرفية، فالسؤال الرئيسي الذي وجّهته المدرسة العقلية، وغيرها، للعرفان الإسلامي، والاتجاه الصوفي، سؤال معرفي، هو: إلى أيّ مدى تحظى المعطيات العرفانية بمصداقيّة؟ ومن أين تستمد مدرسة العرفان تلك المصداقية التي تضفيها على معطياتها؟

ولا نستهدف الخوض في تفاصيل موضوع شائك كهذا، بقدر ما نريد تأكيد أن العرفان، لا يمكنه أن يظلّ مكتوف الأيدي إزاء تساؤل كبير كهذا، وهذا ما يمكّننا من تفسير المحاولات المتكرّرة من جانب بعض العرفاء، لتقديم معطيات العرفان بلغة فلسفية، الأمر الذي أدّى إلى ظهور فريق العرفاء الفلاسفة، والفلاسفة العرفاء، حيث تكلّلت هذه الجهود في شخص ومدرسة محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي (ت: 1050هـ) المعروف بصدر المتألـهين بعد أن كانت شرعت مع صدر الدين القونوي (ت: 673هـ) وابن تركة الأصفهاني(ت: 835هـ) و…

إن ما فعلته مدرسة الحكمة المتعالية وغيرها من فلاسفة العرفان، كان محاولة للبرهنة – فلسفياً – على المعطى العرفاني المنكشف قلبياً وروحياً، وبهذا تمّت عقلنة العرفان في نتائجه، أي أخضعت تلك النتائج لأدوات التشريح العقليّة والفلسفية، لينكشف البُعد الصادق فيها، ويتمّ التأكّد من جدواها عقلياً.

وإذا كان اتجاه عقلنة العرفان بهذا المعنى، قد بدأ منذ قرون، فإن ثمّة حاجة شديدة ثانية لعقلنة العرفان من الزاوية المعرفية، فلا يكفي الاتجاه العرفاني أن يعمد إلى تجارب العرفاء التي هي في روحها وجوديّة، ثم يقوم بصياغتها فلسفياً ضمن منظومات من التصوّرات المعقولة والمفاهيم العقلانية، بل إنّ الأمر يتعدّى ذلك إلى دراسة الظاهرة العرفانية نفسها كمنهجٍ وأسلوب، بغية التحقّق من جدوى الاعتماد عليها أداةً لكشف الواقع وإدراك الحقيقة بنوعٍ من أنواع الإدراك، إن مجرّد تحويل المعطى / النتيجة إلى مفهوم عقلاني قابل للبرهنة عليه فلسفياً، لا يبرّر دائماً صحّة المنهج الذي قدّم لنا هذا المعطى، خصوصاً وأن هناك خلافاً واسعاً في عدد كبير من المعطيات العرفانيّة، ومن ثم، كان من المطلوب قراءة المنهج العرفاني نفسه قراءة نقديّة صارمة، لمعرفة مدى تماهي هذا المنهج مع الحقيقة، إذا أردنا أن نحدّد المنهج قبل الشروع في العمل على الطريقة الديكارتية.

وبذلك، ينفتح الحديث عن قدرة القلب على اكتشاف الواقع، وكيف يدرك العارف الواقع الخارجي؟ وما معنى العلم الحضوري هنا؟ وكيف نتصوّره؟

ولا يهمّ هنا سرد صور فنيّة وأدبيّة جمالية لتفسير الظواهر العرفانيّة كما هي مشكلة البعض، بل المهمّ وضع النقاط على الحروف وتقديم صور واقعية ذات طابع وصفي وَرَقمي تحملها لغة علميّة صارمة تجلي أجزاء الصورة وتميّزها عن غيرها بكلّ وضوح، دون أن نعيش سوريالية العلم نفسه وخياليّته.

وتستدعي هذه الأسئلة استفهاماً آخر يدور حول: هل العارف ممّن يلتبس عليه الأمر، فيحسب عمليّاته العقلية شهوداً، بينما هي تفجّر العقل الباطن واللاوعي في شكل غريب فحسب؟

أليس من الممكن أن يكون الحسّ المرهف للعارف والروح الأدبية الرقيقة عنده هما من أشعراه بأن نتائجه الفكرية اتخذت منحى شهودياً، تماماً كالأديب الذي يرى الطبيعة رؤية جمالية فيلبس نظّارات ملوّنة تضفي على قراءته للطبيعة لوناً آخر، فيشعر وكأنه يلتمس معطيات من نوع جديد، وليست سوى الأفكار عينها إذا حلّلناها؟

إن إثارة التساؤل يؤدّي إلى التشكيك في أساس وجود ظاهرة معرفية قلبيّة، بالمعنى الذي يرومه العارف، ومن ثم يغدو الدرس العرفاني ملزماً بشرح البنيات التي تقوم على أساسها ظاهرة معرفية من هذا النوع، لتميّزها عن المعرفيات العقلية الصرفة و…

وإذا كان العرفاء، قد أقرّوا بإمكان التباس الأمر على السالك نتيجة ما يسمّى عندهم بالالتباسات الشيطانيّة، أو ما يعبّر عنه ابن خلدون(808هـ) بقوله: "إنّ هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة"(5)، فإنّ السؤال يغدو أكبر حتى بالنسبة للعارف نفسه، عندما يستعيد قراءة تجربته بلغة داخلية عقلانية؛ إذ أنّى لـه أن يجزم موضوعيّاً بصحّة ما توصّل إليه، وأنه ليس وهماً أو خيالاً؟

إن مجرّد رؤية شيء لا يعني وجوده؛ لذا فمن الممكن أن يبلغ العارف شهوداً ما دون أن يكون ذلك مؤكّداً من الناحية الموضوعية، وبعبارة أخرى إن اليقين الذاتي الذي أحسّ به العارف من أعماق قلبه في تجربته العرفانية، لا مجال لمناقشته فيه من زاويته الذاتيّة هذه، إلا أن قراءته من الزاوية الموضوعية التي تتجاوز ذاتيّات الإحساس، ومن ثم يكون العقل فيها هو الحَكَم، يغدو مشوباً بشيء من التعقيد والصعوبة؛ لأنّ العقل قد لا يملك معطيات موضوعية تربط الوقائع ببعضها البعض في الأفق الإحساسي للعارف في تجربته حتى يخرج بتصوّرات عقلانيّة؛ لأنّ المعرفة العقلية الموضوعية لشيءٍ ما رهينة بعلاقات الواقع الخارجي بعضه ببعضه الآخر وليست رهينةً بالمعطيات الذهنية الذاتية فحسب، كما تؤكّده الدراسات الفلسفية، وهذا معناه أن اليقين الذاتي الذي بلغه العارف لا يمكنه أن يسعف العارف نفسه عندما يريد قراءة الحدث من زاوية عقلية، بل لابدّ لـه من يقين موضوعي يربط الوقائع في ما بينها.

والفارق بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي – كما يشرحه السيد محمد باقر الصدر(1400هـ) في "الأسس المنطقية للاستقراء"(6) – أنّ اليقين الذاتي غير رهين لعلاقات الواقع القائمة بل هو نتاج لتفاعلات داخلية إنسانية وسيكولوجية نفسية، مهما كانت المعطيات الموضوعية القادمة من الخارج. أما اليقين الموضوعي، فهو ذاك اليقين الذي لا يتكوّن إلا نتيجة معطيات مأخوذة من الخارج؛ أي أنّه يقين قائم على الملازمات الخارجية لا الذاتيّة الداخلية، وهو اليقين الذي طالما قصده المذهب الفلسفي العقلي.

وحصيلة ما نريد قوله: إن بلوغ العارف اليقين الذاتي حقّ طبيعي له، يمكنه على ضوئه أن يبتّ ويحكم، إلا أنّ قراءته هو نفسه لمعطيات هذا اليقين من زاوية عقلية لا تعرف سوى اليقين الموضوعي، تبدو عِسَرةً تواجه عقبات لا بدّ من حلّها لتكوين تصوّر عقلاني عن الظاهرة العرفانية.

وحتى لو افترضنا، أن اليقين نتاج عنصر ذاتي لا موضوعي، فإن السؤال يبقى مفتوحاً على صعيد القراءة العقلانية للتجربة، ومن ثم، فإن الخارجين عن التجربة نفسها غير قادرين على التثبّت من جدواها ما لم تقم أدلّة فلسفية محكمة عليها، الأمر الذي سيجعل المعيار المعرفي عقلياً من جديد، كما يؤكّده الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي(7)، ومن ثمّ لا يكون قول العارف حجةً على غيره دون الاستعانة بالدليل العقلي كما يقوله السيّد كمال الحيدري(8)، ونقصد بهذا الكلام، أن البرهنة على المعطيات العرفانية فلسفيّاً يجعل المعيار عقلياً حتّى لو كانت هذه البرهنة تخدم النتائج العرفانيّة الوجوديّة؛ لأنّ الشرعيّة في النهاية – بالنسبة لنا – تعود للمنهج العقلي لا لغيره.

ما نسعى إليه ونرومه هو أنّ المعيار المبدئي للدرس العرفاني هل هو القلب واليقين الذاتي مع تجاوز العقل كلّيةً حتى لتبرير النتائج القادمة قبل أن نشرع في السير والسلوك تبريراً عامّاً؟ أم العقل ولو من زاوية منهجيّة عامّة يشرعن أوّليات هذه المعرفة الشهودية ولو لم تقدر على مواصلة الطريق معها حتّى النهاية؟ أم النصّ الديني الذي يقدّم تصوّراً عاماً عن الحياة العرفانيّة من غير دون أن يدخل في تفاصيلها، كما حاولت فعله رسالة الولاية للطباطبائي؟ أم غير ذلك، وإذا كان القلب هو من يعطي شرعية نفسه، فلا بدّ من تفسير هذه الشرعية كما حاولته المدرسة العقلية عند تفسيرها عقلياً شرعية ذاتها في سياق صراعها مع الاتجاه السفسطائي أو مع المذهب الحسّي.

ولسنا بصدد وضع حلّ لهذه الإشكالية بقدر ما نحن بصدد شرحها وتعيين معالمها وكشف مدى جدّيتها، وأنّه لا يمكن تجاوزها بكلمات عابرة أو بادّعاء العلم الحضوري، فقد ظلّت أوروبا تمضي قروناً لكي تكتشف شرعية مناهج البحث بما فيه البحث الديني، فليس الموضوع بهذه البساطة التي يتناولـه بها البعض، بل تحتاج إلى وعي دقيق بالمشكلة وتحديد أبرز خطوطها، والأهم التعامل معها معاملة علمية دقيقة.

 

إيبستمولوجيا العرفان وإشكالية العلاقة التربوية

ثمّة مشكلة أخرى في السياق نفسه تقريباً، وهي أنه إذا كان السلوك نفسه بالإقرار بهذا الطريق شعاراً لبدء السير، فإن عنصر الاستسلام الذي ربما يستوحى من علاقة الشيخ بالمريد وفق الاصطلاح القديم، قد يكون مسؤولاً بعض الشيء عن الإقرار اللاحق بالمنهج، وهذا معناه، أن إمكانية التصديق بهذا المنهج تغدو عسيرة لمن لم يخض التجربة، الأمر الذي يُدخل الحركة العرفانية في منغلق شديد بطيء التفاعل مع غيره، ومن ثم تكون كاريزما الأستاذ هي اللاعب الرئيس في إدخال السالك مسار القناعة بما يستقبلـه من مشاهد وكشوفات.

إن تحليل طبيعة العلاقة التربويّة بين الشيخ والمريد، أو ما غدا يعرف اليوم بالأستاذ، له دور كبير في جعلنا نطلّ على طبيعة التكوين العرفاني في إطار المناخ النفسي والاجتماعي، إنّ هناك خلافاً في بعض الأوساط العرفانية – وفق ما يشير إليه العارف العلامة السيد محمد حسين الحسيني الطهراني وغيره(9) – حول ضرورة وجود أستاذ يسير السالك معه وتحت عباءته وفي ظلّ إرشاداته التربويّة والروحية، ورغم وجود تيار لا يقتنع بضرورة الأستاذ، إلا أنّ السيرة العرفانية والتاريخ العرفاني يؤكّد على أن محورية الأستاذ كانت وما تزال نافذة على صعيد واسع.

ويلعب الأستاذ دوراً نشطاً في تربية السالك، ويرى المؤمنون بضرورة وجود الأستاذ أنه لا بدّ من أن يكون عارفاً واصلاً، أو على الأقلّ تحت نظارة العارف الواصل والإجازة منه، ولا ينحصر دوره – وفق هذه العقيدة – بشكل ظاهري، تماماً كما هو حال الأساتذة في العلوم المختلفة، بل يذهب الكثيرون إلى القول بأن الأستاذ يمارس فعلاً روحياً عميقاً يقوم فيه بصوغ شخصية تلميذه ضمن إمكانات معيّنة، بل يرى البعض أن انجذاب السالك إلى هذا الأستاذ وتعرّفه عليه إنّما هو بواسطة جذب روحي وولاية باطنية يملكهما الأستاذ بهما يجذب الروح اللائقة بهذا السير والسلوك حتى لو لم يتمّ التعرّف الظاهري والتعارف المادّي بين الطرفين، وهو أمرٌ على علاقة وطيدة بنظرية الولاية الباطنية ومفهوم الولي في العقل العرفاني، ذاك المفهوم الذي يغاير تمام المغايرة مفهوم الولاية والولي في علوم الكلام والفقه والحقوق(10)...

وبهذا التصوّر المعمّق لمفهوم الأستاذ نستطيع أن نفهم معنى ما يقال من أن الأستاذ يتصرّف في روح المريد ونفسه، ويدرك خفاياها وخباياها، إن المريد عارٍ تماماً أمام أستاذه، وهذا معناه أنّه سوف يلج ميدان التربية الروحية شاعراً بأنّه فاقد لأيّ شيء وأنّ كل ما عنده هو من أستاذه، لا بالمعنى الجبري الجافّ للكلمة لكي لا نظلم في عرضنا هذا الاتجاه العرفاني، بل بمعنى التعرية التامّة والاستسلام الصرف وتسليم الذات لهذا العارف الواصل كي يكوّنها بجذباته الروحية وإشراقاته النورانية.

وإذا أردنا أن نتناول – بالتحليل والتأمّل المحايدين – هذا البناء التربوي في طبيعة علاقة الشيخ بالمريد، فسوف نفهم أنّ خارطة السير والسلوك لا تغدو خيوطها بيد السالك نفسه، إنّ انتقاء السالك هذا الأستاذ دون ذاك هو بداية الخيط الذي يبلغ بنا ما نريد بيانه، إن عملية الانتقاء هذه لم تقم على حكم مستوعب من جانب السالك نفسه؛ لأنّ المفروض أن خبراته العلمية والعقلانية غير قادرة على البتّ في قضايا الروح، ما دام العرفاء يؤكّدون على وجود حجب وسُتُر بين العقل والماروائيات المختصة بالشهود القلبي، ومن ثمّ يغدو السالك جاهلاً بما يميّز هذا الأستاذ عن ذاك، وإن كانت هناك مؤشرات يمكنها أن تضيّق عنده مساحة هذا التردّد كما في ما يقولـه البعض من ضرورة أن لا يكون الأستاذ في حياته العملية مخالفاً للشريعة.

وإذا دخل السالك مملكة أستاذ من الأساتذة بهذا النحو من الدخول، فإن أحد اللاعبين الرئيسيّين في انتقائه وفي سيره في درب أستاذه هو الكاريزما التي يتحلّى بها الأستاذ، وهذا معناه أن خارطة مسقطة من الأعلى سوف تنـزل للسالك حقيقةً مطلقةً تلزمه السير وفقها، ما يعني أن نتائجه العرفانية لن يكون هناك دائماً ميزان لتقويمها ما دامت تنتج بعد ذلك يقيناً ذاتياً؛ لأنّ المفروض عجز العقل الإنساني عن الحكم عليها من الزاوية الموضوعية كما أسلفنا، وهذا معناه أن هناك ثغرة ستبقى موجودة في البناء التربوي، ما لم تعط الحرية للسالك في بداية الطريق، أو يغدو من النضج بحيث يقدر في ما بعد على كشف الأوهام أو الالتباسات الشيطانية التي سقط فيها نتيجة أمرٍ ما.

إن العلوم البشرية العقلية ونحوها، يوجد ما يرشد العالِم إلى معيار يزنها بها كما هو الحال في العلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية، ما يفسح المجال للدارس بإعادة تقييم ما تلقّاه من قبل، بيد أن هذا المعيار غير واضح في المناخ العرفاني ما دامت الذاتية في اليقين والتي يسمّيها المنطق العرفاني بالشهود والعلم الحضوري هي الحَكَم لا المعايير الموضوعية التي يراها العقل، إن التداول الواسع للنشاط العقلي يجعل مرجعيّة العقل أقرب إلى الواقعية، وإنّ كون العرفان حالةً غير عامّة – كما يقول العلامة الطباطبائي(11) – يعيق عملية تداوله، ومن ثم يعقّد من آليات تحويله إلى مرجعية معرفية في الحياة الإنسانية، وهذه نقطة جديرة بالانتباه.

إن هذه الآلية لولوج هذا العالم، وهذه الطريقة التربويّة في السير والسلوك تجعلنا أمام علامات استفهام من الزاوية العقلانية، ونقصد بذلك أن القراءة العقلية لهذه الظاهرة تغدو مربكة أو متحفّظة إزاءها تماماً كالطفل الذي يجد الصراعات العقلية بين الكبار، فهو غير قادرٍ على الحكم عليها من منطلقاته الخاصّة ما دام غير قادر على فهمها كذلك، ومن ثم يغدو ملزماً بما يشبه حالة الانقياد لأحد الكبار إلى أن يحين أوان نضجه ووعيه، وهذه هي المشكلة في قضايا العرفان، إنّ العرفاء يقولون: إنهم يتكلّمون على ما يسمونه ((طورٌ وراء طور العقل))، فكيف يمكن دراسة ظاهراتهم دراسة عقلية تريد أن تخرج أيضاً بمعايير نهائيّة لا بتوصيفات مع معايير محدودة فقط؟! ومن ثم يغدو العقل أمام أمرين:

1-   إما أن ينفي نفياً باتاً، انطلاقاً من معطيات، ما سيخوّل الطرف الآخر إحداث ثغرة في نتائج العقل النافية هذه عبر القول: إن ما هو فوق طور العقل لا يمكن للعقل الحكم فيه، بل لا مجال للعلم الحصولي في حوزة العلم الحضوري على حدّ تعبير الشيخ الجوادي الآملي(12)، تماماً كما يقول المذهب العقلي لأنصار المذهب الحسّي: إن ما هو فوق طور الحسّ لا يمكن للحسّ نفيه، وإنما يمكن القول: إنني غير قادر على إثباته أو نفيه.

وعلى هذا الأساس، ربما يحقّ لقائل مثل ابن خلدون أن يقول: "وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق، ردّاً وقبولاً، إذ هي من قبيل الوجدانيّات"(13)، فكما لا يمكن للعقل النفي، كذا لا يمكنه الإثبات، مع قابليّة هذه القضية لمزيد من البحث والدراسة، لا مجال لهما فعلاً.

2-  أو أن يتوقّف، وهذا التوقّف على الصعيد المعياري لا الوصفي؛ لأننا ندعو لقراءة عقلانية وصفية تحليلية للعرفان كما تقدّم، استغلّه التيار العرفاني لصالحه، إذ استطاع إسكات خصم لدود هو العقل بواسطة ادّعاء أنّ ثمة شيئاً وراء طور العقل يدركه القلب، وحينما يتساءل العقل عن معنى الإدراك القلبي أو يحاول التشكيك من منطلقاته الموضوعية، وهو تشكيك محايد، يسعى التيار العرفاني لصفعه بالقول: إن عالمك سافل أو ظاهري أو … وأنّ ما عندنا أسمى من ذلك بكثير.

إن مجرّد توقّف العقل لا يعني شرعية النتاج العرفاني، بل يعني عدم الدليل على عدم الشرعية، والفرق بين الأمرين هام وأساسي، إنّ العارف محقّ أوليّاً في مطالبة غيره بعدم الإنكار كما ركّز على ذلك الإمام الخميني في "الآداب المعنويّة للصلاة" وغيره(14)، لكن لا يحقّ له استغلال سكوت العقل للتفلّت من ضوابط.

إنّ معركة العقل مع المعرفة القلبية معركة شائكة، ذلك أنّه يشكّك حيادياً في المنهج التربوي وطبيعة اليقين الذاتي في تكوين معرفة صلبة، وفي نفس الوقت لا يحقّ له رفض هذا الاتجاه، فليس من حلّ عملي يجمع الطرفين على أمرٍ سواء؛ لأنّ العقل سيبقى يحتمل كون هذه النتائج أو الحالات محض حالات نفسية أو عصبية محضة، أو أنها خيالات وأوهام فحسب، فيما سيبقى من يعيش هذه الحالة في نشوة اليقين الذاتي التي تجعله غير آبه بكلّ المعطيات العقلية.

نعم، إن محاولة مدرسة الملا صدرا الشيرازي ومن قبله صدر الدين القونوي وابن تركة الأصفهاني عقلنةَ المعطيات العرفانية خطوة جيدة، بيد أنّها لا تجعل العقل واثقاً مما سمّيناه وَهمَ شهود عرفاني ليس سوى انفجارات العقل الباطن وآليات التفكير نفسها في صور متداخلة.

وفي حصيلة ما نريد قولـه حول عقلنة العرفان والإشكالية المعرفية، أنّ محاولات العقلنة من الزاوية الوجودية بفلسفة النتائج العرفانية لا تبدو عقيمة أو مستحيلة، كما أن عقلنة العرفان بقراءته من وجهة نظر العقل توصيفياً أو إعطاء العقل حكمه فيه على مستوى طبيعة تعامله مع القضايا ولو كان حكمه هو اللاحكم معيارياً… يبدو هو الآخر خطوة ممتازة تحتاج أن تفتح بشكل جريء، لكن الكلام في تقييم العقل للتجربة العرفانية والحكم عليها نهائياً وهي حالة تتجاوز العقل حسب ادعاء أصحابها … هو الذي يعقّد الموقف، وهو الذي سمح للتيار العرفاني بخلق فوضى أحياناً نتيجة انسحاب العقل عن البتّ فيه معيارياً.

ولعلّ الدراسات التوصيفية العقلانية للعرفان بوجوده العالمي يمكنها – إذا ما تطوّرت – أن تقدّم لنا في المستقبل معطيات أكثر قد تغيّر من بعض قناعاتنا الأوليّة هذه.

وانطلاقاً من هذه الزاوية المنهجية المعرفية، يغدو تحليل الظواهر العرفانية أمراً هاماً، ودراستها دراسة ظاهراتية توصيفية منظّمة، تأخذ بعين الاعتبار آخر حقائق العلوم الإنسانية الحديثة سيما في علم النفس والاجتماع.

ولا يعني كلامنا هذا، إحالة معيار المنهج العرفاني إلى العقل بوصفه نهاية حاسمة، فالموضوع نفسه يُعاد تكراره في العقل، وهي إشكاليّة معروفة كانت هناك محاولات مشهودة لحلـّها في علم المعرفة، فنحن لا نريد التهويم ومصادرة الأمور بسرعة عبر هذه الطريقة، وإنما محاولة لملمة المعطيات لتكوين قناعات قائمة على أسس قادرة على الصمود على جبهات مختلفة، سيّما وأنّنا نعرف أن فريقاً من العرفاء تعاطى مع معرفيّة العقل بما يشبه الإشكاليات التي لوّحنا إليها سالفاً، وفقاً لما تتطلّبه طبيعة البيان العرفاني، أو على الأقلّ جرى اعتبار العقل حجاباً عن المعرفة الحقيقيّة، ومن بين هؤلاء – وهم كثر – السيّد حيدر الآملي (ق 8هـ)(15)، ومحي الدين بن عربي (638هـ)(16)، وابن الفناري(17) (834هـ)، والغزّالي (505هـ)(18)، الإمام الخميني(19) وغيرهم(20)، بل إنّ القول بعدم جدوائية الجهود العقلية في معرفة الحقائق تكاد تكون ثقافة عرفانية سائدة.

 

العرفان والدراسات المقارنة:

وانطلاقاً من ضرورة هذا النوع من الدراسات العقلانية للعرفان، ينفتح المجال أمام فكرة بالغة الأهميّة، ألا وهي وحدة الظاهرة العرفانية، فالعرفان والتصوّف ليسا حكراً على ديانة أو مذهب، بل هما مظهر من مظاهر الديانات كافّة، بما فيها الديانات الوضعية – بحسب الاصطلاح الشائع – كالبوذية وغيرها، ومن ثم هناك ما يستدعي نوعاً من التشابه ما بين الفلسفة والعرفان من هذه الزاوية؛ فحيث إن الفلسفة علم عقلي إنساني، لا معنى من حيث طبيعة بنيته لإسلاميّته أو مسيحيّته من زاوية معيارية لا توصيفية وتاريخية؛ لأنه أسبق العلوم رتبةً كما قالوا، ما يعني أنه يسبق ديانةً خاصة أو قوميةً معينة أو جماعةً ما، الأمر الذي يضعه في خانة تقع على تماس مع الجميع، كذلك العرفان ظاهرة إنسانية روحية أصيلة، لا تحتكرها جماعة أو فئة، وهي من ثم ذات بعد كلّياني شمولي إنساني عام، مع فارق – على بعض الآراء – أن الفلسفة لا ترتكز سوى على بديهيّات العقل وأولياته، الأمر المشترك ما بين البشر كافّة، أما العرفان فتلعب التصديقات الدينية القبلية دوراً فيه(21)، إلا أنه مع ذلك لا يغدو هذا الدور سوى قالب في غالبه مفهومي، أما روح الحالة والتجربة، فهي أمرٌ واحد.

فإذا صحّت هذه المقولة مع اختلاف الشدّة والضعف، فإن هذا يعني – إلى جانب الواقع القائم – ضرورة الحديث عن عرفان يتخطّى هذه الدائرة أو تلك، وهو ما يجعل من الدراسات المقارنة حاجة أساسية لفهم ظاهرة العرفان نفسها فهماً عميقاً وجادّاً من الزاوية العقلانية.

إن مقارنة عرفان يوحنّا إيكهارت(1327م) أو رودلف أتو(1937م) مع عرفان ابن عربي(638هـ) أو ابن الفارض(632هـ)، ليبدو هاماً لفهم الظاهرة العرفانية في أوسع أطرها، وهو ما يساعد على تفهّم الحقائق ذات الصلة بالبعد المفهومي نتيجة عنصري الزمان والمكان المحيطين بالعارف، وتلك التي على علاقة بنفس التجربة العرفانية.

فمثلاً عرفان ابن عربي عرفان وجودي، فيه نظرية وجودية متكاملة، أما عرفان رودلف أتو فليس كذلك، وهو أمرٌ على صلة بالمناخ الفكري العام الذي ساد عصر ابن عربي وعصر الحداثة مع أوتو(22).

إن هذه الدراسات المقارنة تبعد شبح الدوغمائية عن التصوّرات التي نحملـها إزاء مدرسة العرفان، وتجعلنا نطل أكثر فأكثر على الخصائص والميزات التي يتمتّع بها العرفان الإسلامي، سواء في نقاط ضعفه أو في نقاط قوّته.

إنّ غياب هذه القراءات المقارنة يؤدّي إلى رؤى مجتزأة عن الظاهرة العرفانية، بل – أحياناً – رؤى مؤدلجة مسقَطة من فوق، وهذا ما حصل فعلاً في أكثر من واقع ومجال، فقد تحوّل الدرس العرفاني إلى درس مؤطّر محصور بدوائر دينية خاصّة أو مذهبيّة كذلك، ما أحدث قطيعة بين تيارات العرفان الإنسانية، لا بل اتسع خرق هذه القطيعة حتى شملت المدارس العرفانية داخل الدين الواحد، أو حتّى داخل المذهب الواحد، فغدت المدارس العرفانية متنافرة متصارعة بدل أن تكمل الواحدة منها الأخرى.

ولا نقصد أنّ العرفان لا اختلاف فيه، بل نروم روحاً عرفانيةً تتجاوز القضايا الخبرية الدينية دون أن تهملها لتؤكّد – بشكل أكبر – على روح التجربة القلبيّة، فتثري المخزون الروحي في حياة البشر، وتكون صمّام أمان في مثل عصر الحداثة وما بعده من عصور جمود الروح، وانجماد القلب، وحاكميّة المادّة.

إنّ مراجعة المكتبة الإسلاميّة تدلّنا على وجود نقص كبير في الدراسات المقارنة على الصعيد العرفاني بأوسع معاني المقارنة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى حداثة تجربة قراءة العرفان والتصوّف قراءة ظاهراتية وصفية تحليلية، سيما على صعيد البُنية المعرفية، إننا نلاحظ شحّاً في هذا الدرس الهام، وأغلب ما كتب عن العرفان كان تراثاً أو تاريخاً وحصيلة تجارب فردية، ولم يكن درساً موسّعاً لهذه الظاهرة في الحياة الإنسانية المعرفية بقدر ما كان تحليلاً لتاريخ التصوّف وحركاته كتلك المحاولات التي قام بها أمثال زكي مبارك في ((التصوّف الإسلامي)) أو مصطفى الشبيبي في ((الصلة بين التصوّف والتشيّع))، أو أحمد توفيق عياد أو الدكتور عبدالرحمن بدوي أو … وما كتبه المستشرقون من دراسات هامّة نحسبها – مجازاً – على المكتبة الإسلاميّة(23).

لقد أدّى غياب القراءة المقارنة – كما أشرنا – إلى تكوّن عرفانيات وليدة للبنى المفهومية للإنسان بمعناها الخاصّ جداً، وهذه حقيقة سيظلّ العرفان مرتهناً لها، إن البناءات المفهومية للعارف هي التي تسوق تجربته العرفانية في أشكالها وصورها مع الاعتقاد بأنّ روح التجربة قد يبدو متشابهاً كما أشرنا إلى وجود خلاف في هذه النقطة بين الباحثين، فإذا تبنينا أن التجربة العرفانية والروحية تمثّل صنيعة للبناءات المفهومية، فهذا معناه ارتهان العرفان للعقل في نهاية المطاف، ولو بدرجة معيّنة، وإذا اختلفنا مع وجهة النظر هذه بالقول: إن البناءات المفهومية المسبقة للعارف لا تغيّر من واقع التجربة شيئاً بقدر ما تكون مساهماً أساسياً في صياغة التجربة صياغة عقلانية؛ أي في مرحلة النطق بالتجربة، فهذا معناه أنّ الدراسات المقارنة ستكشف لنا عن خيوط الاتصال التي تربط التجارب كلّها بمعزل عن لغتها، بل سيساعد العارف نفسه على تكوين لغة عرفانية له تقترب من خيوط الاتصال التي عرفها مسبقاً بالدراسات المقارنة الأمر الذي قد يوحّد الظاهرة العرفانية أو يقاربها في مستوى اللغة والتعبير.

 

العرفان ونظريّتي التربية والتعليم:

وإذا نجحنا في وضع آليات قراءة عقلانية للعرفان القائم على اللامعقول في روحه كظاهرة ذاتية، وإن أنتج معقولاً كما أشرنا، فإن دراسة العرفان – بوصفه مادّة علميّة – ستغدو أمراً ممكناً؛ لأن المفردات التي تلتئم منها تصوّراتنا عن العرفان هي مفردات معقولة، يمكن للعقل أن يدركها، لا بل إنه هو من ابتدعها وأنشأها، وهذا معناه أن هذا النوع من قراءة العرفان، هو درس نظري لـه قائم على فكرة التعليم، ومن ثم هناك ما يبرّر جعلـه مادّة دراسيّة تخضع لأساليب وطرق النقل والانتقال العلميّين، وهذا يعني أنه – في مستواه هذا – ليس أمراً تربويّاً، بمعنى أنه مجموعة أفكار منظّمة، لا معنى لجعلـها تربيةً في واقعها، وإن شكّلت تصوّرات قد تهيء للقيام بتربيةٍ ما.

وهذا العرفان المدروس، ربما تختلف مفرداته، فيتم توظيف المفاهيم والأفكار لكي تشرح – بتفصيل أو بإجمال – سير العارف العملي في أعماق الأنفس والآفاق، وهو ما يسمّى بالعرفان النظري، الذي يمثل محيى الدين بن عربي عماده وركنه.

وإذا استهدفنا من العرفان النظري هذا – دراسةً وتدويناً وتعليماً – الحصول على تصوّرات عقلية لظواهر غير عقلية كما يقول أصحابها، فليس ذلك بالأمر السلبي أو المحال، فبالإمكان خلق مفردات ونحت مصطلحات وابتكار سياقات لفظية للتعبير عن حالات روحية عميقة، وهو أمرٌ يتصاعد في عسره كلّما تعمّق الإحساس وغاص في دهاليز الروح، وهو إن دلّ على شيء فإنّما يدل على نضج عقلي وثراء لفظي و…

وهذا العرفان النظري، يخضع – هو الآخر – لنظام التعليم ونقل الأفكار وانتقالـها طبيعةً، ومن ثم فأحد أهداف هذا العرفان هو تكوين تصوّرات نظرية عقلية عن تجارب روحية، تماثل الدور الذي يلعبه علم النفس أحياناً.

لكن السؤال البارز هنا، والذي كان محطّ خلاف بين المشتغلين بالعرفان، هو هل أن جذب السالك إلى هذا الطريق يكون عبر خلق تصوّرات نظريّة عن التجربة، أم أن ذلك لا يتمّ إلا بأسلوب عملي ربما يكون قائماً على ممارسات طقسية وذكرية و…، أو على أنواع تربوية تهذّب النفس وتصفّيها؟

والإشكاليّة التي تبدو قائمةً هي: كيف يراد ولوج طريق يقال: إنه قائم على اللامعقول (بحسب التعبير الشائع) عبر مداخل عقلانية؟ وهل تقديم صورة نظريّة عن تجربة متعالية لعارف أو عرفاء كفيل برسم خارطة طريق للسير في هذا الدرب، بعيداً عن إيجابيّاته على الصعيد المعرفي العام كما أشرنا من قبل؟ أي هل أنّ العرفان النظري سبيل العرفان العملي حتى يكون الشروع فيه على نحو المقدّمة له أم لا؟

وهذا لا يعني فقدان هذا الدرس العرفاني التعليمي جدواه بالمطلق، وإنما يعني أن الركن الركين الذي تقوم عليه تجربة من هذا النوع هو الجذب العملي والبدء ميدانياً بما يقال: إنه مقدّمات لـهذا السلوك، وإلا فإغراق السالك أو من يطلب أن يكون سالكاً بموضوعات العرفان النظري، هو في الحقيقة تلبيس للأمر، ومحاولة فرض تأثير لخارطة معيّنة من الأحداث عليه، ربما يقع فريستها في اللاوعي في ما بعد، إذا أردنا أن نتكلّم من منطلق محايد.

ولكنّ الاستفهام المستدعى هنا، قد يتّسع ليتساءل: هل من الصحيح أو فلنقل هل من المطلوب إشاعة الثقافة العرفانية بتحويل العرفان إلى مادّة دينيّة يروّج لـها باستمرار، أم أن العرفان وطريقه أمرٌ باطني يتم الانضمام إليه بوسائل غير مرئية، ومن ثم فليس هناك دعوة في العرفان إلى الترويج؛ لأن العرفان ليس فقهاً يراد للجميع السير في إطاره، وإنما هو – كما يقال – نصيب الخاصّة من الناس؟ هل أن نشر العرفان النظري بدافع جذب الناس إلى العرفان العملي، واستخدام وسائل الاتصال الجماهيري لتحقيقه أمرٌ مرغوب فيه أو عنه؟

سؤال يبدو أن حولـه انقساماً، ففريق يرى الصلاح في ذلك، ويؤكّد حتى على تحويل العرفان إلى مادّة درسيّة في المعاهد والحوزات والجامعات الدينية، مادّة يراد منها جذب دارسها إليها، وليس التعرّف عليها تعرّفاً على ظاهرة فحسب، مما كنّا قد وافقنا عليه سابقاً.

أما الفريق الآخر، فيرى أن العرفان سبيل عملي، وأن هذا السلوك ليس من أمرٍ بنشره أو ترويجه، لا بل إن العرفان قائم على فكرة "الخاصّة" التي توحي في بعض مداليلـها بجانب القلّة مقابل كثرة عارمة لا تنضوي تحت هذا اللواء أصلاً.

وفي إطار تقييم أوّلي جداً، يبدو أنه يمكن الجمع بين وجهتي النظر هاتين حتى مرحلة معينة، فإذا تبنّينا العرفان واقتنعنا به، وأوضحنا لأنفسنا الفرق بينه وبين الأخلاق وتهذيب النفس و… وما يسمّيه الغزّالي في الإحياء: "علم المعاملة"(24)، خصوصاً في ما يرجع إلى الفضائل والرذائل، فإنّ الظاهر أن ترويج الأخلاق وتربية النفس وتهذيبها أمرٌ مطلوب، بل: "إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"(25)، وأما إذا ركّزنا نظرنا على العرفان النظري ومفاهيمه من الفناء، والبقاء، والصحو، والمحو، ووحدة الشهود و… وكنا هادفين نشر العرفان بوصفه قيماً متعالية، فإن ترويج هذه الثقافة عبر أدوات الاتصال الجماهيري، يشبه وضع الشيء في غير موضعه، ذلك أن من شروط هذا السير تصفية الباطن، ما يعني أن نشر ثقافة الدرس العرفاني، دون حصول هذه المقدّمات الروحية في الدارس نفسه، أمرٌ يتناقض والـهدف نفسه؛ ولذلك يتحوّل الدارس إلى دارس للعرفان حقيقي عندما يطوي تلك المراحل ويعبرها، وإلا فإن كلّ الصور التي تقدّم لـه حول الفناء والصحو و… لن تكون سوى مصطلحات غير مفهومة المعنى وإنما مُدْرَكَةِ المصطلحِ فقط، كمن يرجع إلى كتاب عبدالرزاق الكاشاني(735 أو 736هـ) "اصطلاحات الصوفية" ويقرأ فيه معاني الكلمات التي يستخدمها أهل التصوّف، فهل يصحّ البداية مع الطالب – أيّ طالب – من النهاية، أم أن المطلوب هو الشروع معه من البدايات؟ وماذا يفيده العرفان النظري حينئذٍ؟

وإذا كانت البدايات ليس تعلّم الشريعة وأخلاقيّات الاجتماع وتهذيب النفس، وإنما تمثّلـها في الذات والسلوك، فهذا يعني أن الانتقال في الدرس (الذي يراد منه تحقيق درجة عرفانية لا معطى نظري بحت كما أسلفنا) يغدو خطأ قبل إكمال الطالب المراحل المتقدّمة عملياً بالالتزام إلى أقصى الحدود بالشريعة، وتهذيب النفس بالأخلاق الكريمة، سيما أخلاقيّات الروح كتجنّب الحسد والحقد والرياء والعجب والغرور و… تماماً على الطريقة التي جاءت بها الرواية عن كيفيّة تعلّم صحابة الرسول(ص) للقرآن الكريم؛ حيث لم يكونوا ليشرعوا في مقطعٍ آخر من الآيات قبل امتثال المقطع الأول وتطبيقه حيّاً في حياتهم(26).

وهذه المعطيات، تنتج تلقائياً، قنوات خاصّة على صعيد الدرس العرفاني، ومن ثم يكون نشر العرفان أمراً مطلوباً لمن يؤمن بهذا الطريق، ولكن نشراً يتمّ عبر القنوات الصحيحة التي توصل إلى الأهداف المرجوّة، وهو أمرٌ لا يتم – كما أشرنا – إلا بعملية نشر منظّمة لقيم الشريعة والأخلاق مع تطعيم ذلك بإشارات بين الفينة والأخرى تهيء الدارس لما هو أرقى، فبهذه الطريقة تتمّ عملية نشر العرفان العملي، الذي هو المقصد الأخير لذلك الفريق الذي يروّج للعرفان النظري.

وبهذه الطريقة أيضاً، ربما نجمع إلى حدّ ما بين الرؤيتين، نحافظ على مبدأ الترويج للعرفان، وفي الوقت عينه استخدام أساليب منطقية تناسب تركيبة العرفان نفسه وفق ما يقوله أهلـه.

 

العرفان وإشكاليّات الواقع:

ومن الممكن أن يقال: لماذا هذا التحفّظ عند البعض على ترويج ثقافة العرفان؟ وما هو المحذور في ذلك؟ فلنروّج هذه الثقافة، ومن كان أهلاً أعانته، ومن لم يكن كذلك لم تضره، تماماً كعامّة العلوم الأخرى.

وهذه الفكرة صحيحة، وليس ما يمنع منها، إلا أن التجارب عبر الزمن أنتجت في هذا المضمار عيّنات مقلقة، حتى باعتراف أهل العرفان أنفسهم، واستخدام العرفان وسائل للعيش أحياناً، وللشعوذة والـهرطقة أحياناً أخرى، لتعمّ بين الفينة والأخرى شطحات هنا وهناك أربكت الواقع، وجعلت الشطحة الصوفية هي الأصل لا الاستثناء.

لكن هذا لا يعني التجنّي على العرفان، ووصفه بأنّه خلاّق مشكلات، فالفقه نفسه أيضاً أدّى في بعض الحالات إلى ظواهر مشابهة، وظهر عبر الزمن متفقّهة تلبّسوا لباس العلماء الكبار وتسنّموا مناصب الفقاهة والمرجعية، وخلقوا مشكلات في الواقع لطالما أربكته إرباكاً شديداً، فلكلّ علم سلبياته، ولكلّ علم شريحة من أبنائه تمثّل صورته المتطرّفة البشعة التي لا يجدر بنا أن نحمّلـها روح العلم وكينونته الجوهرية.

لكن العلم – كل علم – ونعني به المؤسسة العلمية، مُطالبة بوضع برامج تعليمية واضحة ومنظمة للحدّ، قدر الإمكان، من ظهور أشكال معوجّة تختلط عليها الأمور وتلتبس، أو تسيء – ربما – استخدام العلم لمصالح، وهذا ما تطالب به – إلى جانب العرفان – عامّة العلوم الإسلامية كالفقه والأصول والتفسير والحديث والفلسفة والأخلاق…

لكن ما يميّز العرفان، على صعيد الأشكال غير السليمة التي تظهر لدى كلّ جماعة علميّة، هو العجز العام عن التقييم، إن علوماً كالفقه مثلاً أو الفلسفة يُمكن اختبار أصحابها بالعودة إلى نتاجهم العلمي المدوّن، فيرتسم إلى حدّ ما مقامهم العلمي ومستواهم المعرفي. أما العرفان، فبابه مفتوح على الصعيد العام، يمكن فيه لأيّ إنسان أن يدّعي شيئاً ما دام غير مطالبٍ بدليل أو غير منظورٍ إلى مصداقيّة تجربته الروحية عندما يريد – كما هو الغالب في العرفان الإسلامي – تقديم معطيات وجودية، وهذا ما يجعل كاريزما المدّعي أحد الضمانات لديمومة تجربته على الصعيد العام (وكلامنا على الصعيد العام).

وحتى تلك المعايير الموضوعة مثل الانضباط بالشريعة يمكن اختراقها أيضاً بعض الشيء؛ لأن بإمكان هذا المدّعي القول – كما يراه البعض – بانكشاف الأحكام الواقعيّة لـه، ومن ثمّ يتحرّر بذلك من سلطة الاجتهاد والاستنتاج الفقهيّ المتداول، ولا يوجد من يحاسبه علميّاً ما دام بلغ الحقيقة – كما يقولون – لا أنّه عرفها فقط، أي وصل إلى مقام عين اليقين وحقّ اليقين لا فقط علم اليقين.

ورغم أن هذه المشكلة قابلة للتدارك أيضاً، إلا أن درجة الوعي لا يبدو أنها مؤهّلة لتفهّم الأمور بشكل عقلاني كما تفيده ظواهر عديدة، الأمر الذي يجبرنا على إجراء موازنة بين المصالح والمفاسد، تجعل قنوات الاتصال الجماهيري غير مضمونة فعلاً إلى أجل، وهو ما يحتاج إلى حذر شديد جداً في التعاطي مع هذه الموضوعات، وعدم ترويجها بالشكل غير المنظّم والمدروس، حتى لا تؤدّي – كما حصل في عصرنا الراهن أيضاً – إلى حالات تفلّت، تطال حتى نفس الالتزام بالشريعة، وتفضي إلى انحرافات أخلاقية وتربوية غير واعية.

ولا نعني بذلك أبداً تحويل العرفان إلى خلايا سرّية، أو العودة به إلى عصر القمع الذي مورس عليه وعلى الفلاسفة، وهو عصر لا يبعد عنّا كثيراً ونحن نقرأ للإمام الخميني(1989م) كلامه عن الحكم بتكفيره، لأنه كان يدرّس الفلسفة(27)، كما ونحن نطالع تجربة الدرس الذي فتحه العلامة الطباطبائي(1983م) وهو درس فلسفي، وما لاقاه هذا الدرس من معاناة ومشاكل قصّتها معروفة، وكذلك إيقافه تعليقته على بحار الأنوار للشيخ المجلسي(1111هـ) والتي كشفت عن اتّجاهين مختلفين اختلافاً جذريّاً في الفكر الإسلامي(28)، فنحن نعارض بشدّة أسلوب القمع هذا، والإقصاء، وندافع بقوّة عن حريّة هذا التيار الإسلامي الكبير في طرح نفسه في الساحة، مهما كان موقفنا المعرفي من قناعاته، لكن المقصود رعاية المقاصد العامّة الشرعيّة والعرفانيّة، وملاحظة المصالح التي تمسّ كيان المجتمع كلـّه، حتى لا يتحوّل العرفان – كما كان التصوّف في بعض الحقبات الزمنيّة السالفة – إلى ملجأ للفرار من المجتمع والتخلّي عن المسؤوليات، عندما تصاب الحركة الاجتماعية – السياسيّة بنكسات.

لا نعني ذلك أبداً، بل نعني أن يصار إلى اعتماد منهج منضبط على الصعيد التربوي، وإن كان باب السرد التحقيق العلمي مفتوحاً على مصراعيه؛ إذ هناك فرق بين دراسات أو كتابات تعالج أو تسرد تجارب عرفانية، وبين نتاج يراد أن يتحوّل إلى منهاج تربوي يتابَع عبره آحاد الناس.

إن مظاهر الفوضى التي شهدتها الساحة الإسلامية، قديماً وحديثاً، بحجّة المنحى العرفاني، والتلاعب المتعمّد وغير المتعمّد بعقل الناس ووعيهم، هو ما يجعلنا متحفّظين إلى هذا الحدّ، إنّ فوضى الادّعاءات، واختلاق الخلايا، وتجاوز المنطق والشريعة، والهرطقة بأفكار لا معنى لها من جانب البعض، والكذب والدجل المتعمّد من جانب آخرين، والتوهّم والخيال الزائد من جانب فريق ثالث… كلّ ذلك يساعد اليوم أيضاً على خلق نتوءات في المجتمع تربكه، وتعيد فيه معالم النكوص، ومظاهر عصر الانحطاط، كلّ ذلك بحجة أنّ العقل لا شأن له بهذا العالم، وأن الفقهاء وعلماء الشريعة وأصحاب الاختصاصات الإنسانية والطبيعة سطحيّون ظاهريّون لم يطعموا من لذيذ العرفان شيئاً، فلا يحقّ لهم الحديث أو حتّى النبس ببنت شفة.

إنّ هذا الواقع المضطرب الذي تعزّزه إخفاقات سياسية ما، أو نكسات اجتماعية، أو فشل تجارب إحيائية عديدة لا يسمح بآليات مفتوحة لأفكار من هذا النوع أو تعاطي، ولا يعني كلامنا ضوءاً أخضر لممارسة قمع لهذه الحركات، فإن القمع في مثلها لا ينتج، بقدر ما يكون المطلوب عملية توعويّة تربوية واسعة ترفع مستوى العقل والتفكير على مختلف الصعد. وما لم يحصل هذا الأمر نبقى قلقين من هذه المظاهر بهذا المعنى للقلق ما يجعل الآليات التربوية في هذا الموضوع على درجة خاصّة من الحساسية والدقّة.

وإنّما نشير إلى موضوع القمع؛ لأنّ التاريخ والحاضر يشهدان على استخدامه ضد أفراد من هذا النوع، بتهمة البدعة أو الكفر أو … إنّ هذه السياسة التي يتّبعها البعض اليوم لن تجدي نفعاً، بل ستُحدث ردّات فعل قاسية وربما غير متوقّعة، إنّ هذا التيار الذي نختلف معه ونختلف مع قمعه أيضاً، له الحريّة في طرح أفكاره مهما بدت لنا سخيفةً ضحلةً عبثيّة، وإذا كانت هذه الأفكار تأكل الناس وتلتهمهم فذلك؛ لأنّ مجتمعاتنا – مع الأسف – غير محصّنة من جهة، ولا مرشّدة من جهة أخرى على الصعيدين الفكري والثقافي، وهي المسؤوليّة التي قصّرنا نحن فيها، فلا يجوز لنا التعويض عن تقصيرنا بقمع غيرنا، فهذا هو قَدَرُنَا ما دمنا مقصّرين عن نشر ثقافة الوعي والإبداع والحريّة والبصيرة.

لا يمكن لك أن تعترض على اندلاع النيران في بساتينك إذا كنت أنت نفسك من قصّر في إطفاء النار التي أشعلها في تلك البساتين لأكله أو قضاء حاجته. يجب أن نعيد النظر في إنتاجنا للمفاهيم، فلا يوجد شيء يأتي من العدم، ويجب أن تكون عندنا الجرأة الكافية لنقد الذات حتّى لا نقبل بالملزوم ثمّ نصبّ جام غضبنا على اللازم أو نرضى بالعلّة ونمجّدها ثم ندعو بالويل والثبور على معلولها.

إنّنا بحاجةٍ إلى برامج توعية ترفع مستوى التفكير لا برامج شغلها الشاغل إضافة المعلومات وتخرينها ومراكمتها، فلم يعد تخزين المعلومات في عصرنا ذا بال أو أهميّة، بل المهمّ هو امتلاك مفاتيح العلوم والأفكار، ورفع مستوى الوعي والتفكير، واكتشاف الآفاق الجديدة الرحبة.

إنّ خطأ بعض برامجنا التوعويّة أنّها ظنّت أنّ حاجتنا الرئيسيّة تكمن في تكريس واقعنا خوفاً من تغيّرات ذات تأثير سلبي؛ لأنّ العقل الديني السائد في غالبه يعتمد مبدأ "دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة"، ولهذا فهو يتنازل ويتخلّى عن عشرات البرامج والمشاريع مهما بدت لـه الآثار الإيجابيّة فيها، خوفاً من مفاسد سترافقها، ولهذا غدا عقلنا الديني عقلاً مكرِّساً لا مغيِّراً.

والخطأ الآخر الذي وقعت فيه برامجنا التوعويّة والتربويّة كان وَهْمَ قيمة المعلومة، فصار التصوّر أنّ المعلومة هي التي تملك القيمة، ومن ثمّ كلّما ضاعفنا من معلومات أجيالنا وأكثَرنا من الخزن والتكديس كلّما تطوّر وعينا الديني، إنّ المعلومة اليوم ليست هي الأصل، وإنما الأفق الرحيب والعقل المنفتح الذي يخزن المعلومة نفسها، فمهما كانت المعلومات قليلةً يمكنها أن تحقّق قدر الحدّ الأدنى – على الأقل – من الإنتاجيّة عندما يكون العقل ناضجاً، ومهما كانت المعلومات كثيرةً مكدّسةً فلن تكون – غالباً – بقادرةٍٍ على دفع الواقع إلى الأمام إذا كان العقل الذي يوظّفها ويتداولها ليس بمستوى المرحلة فكريّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً..

ولهذا أكّدنا على أنّ الخلل في البرامج التوعوية والتربويّة هو ما أدّى إلى تنامي هذه التيّارات واكتساحها في بعض الأحيان وبعض الأماكن عقول الشباب المؤمن الصاعد، فالإصلاح يجب أن يبدأ من الذات ومن العقل نفسه لكي نرى بصماته على مرافق الحياة كلّها فيما بعد.

 

العرفان والحياة الدنيويّة:

وبمناسبة الحديث عن حالات النكوص، التي تنمّي عادةً التيارات الصوفية، يظهر ثنائي الدنيوي/الأخروي، في ثقافة العرفان والتصوّف.

وقبل أن نتحدّث بإيجاز عن هذا الموضوع، يعنينا أن نؤكّد تجنب استخدام مصطلح الصوفي مكان العرفاني في العرفان، سيما العرفان الشيعي السائد اليوم، ذلك أن كلمة ((الصوفي)) صارت تحمل معنىً سلبياً في الثقافة، أما العرفاني، فالأمر فيها مختلف، وهذه نقطة جديرة بالاهتمام، لكي نفتح عبرها باب الحديث عن الثنائي المتقدّم(29).

لقد سُجّل أكثر من إشكال على الدنيوي في الفكر الصوفي، وكان من أهمّها وآخرها ما كتبه الدكتور نصر حامد أبو زيد في أبحاثه حول الغزالي(505هـ)، سيما في كتابه ((مفهوم النص)) (30)، وقد كانت الفكرة الرئيسية كامنة في أن العقل الصوفي عقل أخروي فردي، يرى الـهدف في تحقيق الخلاص الفردي، ومن ثم فالدنيا عنده لا تعبّر عن شيء، الأمر الذي يجعل من عمارتها ربما مفسدة ومعيقاً عن بلوغ الآخرة.

ويترك هذا التفكير أثره في شلّ التقدّم الاجتماعي والسياسي والتكنولوجي أيضاً، بوصف هذه الاهتمامات تعلّقاً بالدنيا الفانية؛ لأن ما ينبغي للسالك أن يأخذه من الدنيا ليس إلا القدر اللازم لسدّ رمقه، وكلّ ما سوى ذلك، فهو محاسب عليه، ومسؤول عنه حتى لو كان من حلال.

وتشيع هذه الثقافة – إلى جانب العزلة – منطقَ الفقر والفاقة، وتكره تطوير الحياة نحو عيش مادّي رغيد. وهذه الإشكالية التي تواجهها تيّارات التصوّف، هي في الجملة حقّ، بعيداً عن نقطة الخطأ، هل هي تقسيم الغزالي للعلوم الإسلامية والقرآنية أو غيرها..؟

بل يمكن تشريح هذه الإشكاليّة أكثر عبر القول: إن بعض النـزعات الصوفية والمدارس الأخلاقية قد لا تربّي إنساناً سليماً في الحياة الشخصية والعائلية والاجتماعيّة، ولا تنتج شخصية سويّة تتمتّع بأوصاف الصحّة والسلامة من الزاويتين النفسيّة والاجتماعيّة، ولكي نرصد هذا الواقع المصنّع في بعض مدارسنا الأخلاقية والروحية – حتّى المعاصرة – بإمكاننا ملاحظة عيّنات دالّة، وعلى سبيل المثال ظاهرة الشخصية الانطوائية التي نلمسها عند البعض، وتمثّل نتاجاً من نتاجات الفعل الأخلاقي، إنّ الاستغراق في المناحي الأخلاقيّة والروحية أدّى إلى شبه قطيعة بين الإنسان ومجتمعه، ولهذا وجدنا عيّنات كثيرة لا تتحمّل أشكال الاختلاف الاجتماعي تحت ذرائع أخلاقيّة، ما يؤدّي إلى الانسحاب الاجتماعي، وبالتالي، تكوين شخصيات انطوائية.

ولسنا نقصد بذلك عدم الامتياز عن شرائح المجتمع الأخرى، فإنّ هذا الامتياز حقيقة مطلوبة، نظراً لكثير من مواقع الحرام أو المذموم في المجتمع عادةً، وإنما نقصد الفرار من المجتمع بحجّة أنّه السبيل الوحيد لتكوين هذا الامتياز، وليس من الضروري الفرار بمعنى العزلة في الجبال والكهوف والقفار، بل انخناق دائرة العلاقات الاجتماعية، بما يجعل الإنسان غير قادر على الارتياح أو التعاطي بعفوية مع من يختلف معه أو يمتاز عنه في نمط التفكير أو طريقة العيش، وبعبارة أخرى ضمورٌ وإعاقة في القدرة على التكيّف الاجتماعي، سببه الاعتقاد بأنّ هذا التكيّف سوف يفقده روحيّات كثيرة، وأخلاقيات عديدة.

وعادةً ما تحاوَل لملمة هذا الموضوع عبر القول: إن السالك سوف يمرّ في فترة اللاتكيّف هذه – كما سمّيناها – إلى أمدٍ محدود، ومن ثم يتجاوزها عندما يملك الحصانة الداخليّة الكافية تربوياً وروحياً وخلقياً، ليدخل غمار الاجتماع الإنساني من جديد، فاعلاً لا منفعلاً ومؤثّراً لا متأثّراً.

وهذه المقولة جديرة بالإقرار بها لولا مشكلة ميدانية لا يجدر التعامي عنها، وهذه المشكلة هي أنّ انتقال السالك أو المهذِّب ذاته من مرحلة الخلوة الذاتيّة إلى مرحلة الانفتاح على عالم الخلق لا تبدو لنا مطمئنة ومضمونة على الدوام؛ إذ أكّدت عيّنات كثيرة أن صاحب التجربة تنعكس على شخصيته تلك الأوضاع التربويّة الأولى التي خضع لها هنا، ومن ثم كانت أكثر العيّنات على عكس ذلك، وهذا معناه وجود خللٍ ما في النظام التربوي الروحي في الفكر الصوفي والأخلاقي الديني عموماً.

 

بين الأخلاق الباطنيّة والأخلاق الاجتماعيّة

وقد أدّى هذا الوضع، كما تسبّب، عن ظهور تيار بل نزعة واسعة في البناء الأخلاقي والروحي الإسلامي تُركّز جهودها على الأخلاق الروحية الباطنية، حتى بلغ الحال مع الغزّاليـ ومن بعده الفيض الكاشانيـ لكي يعرّف علم المعاملة بأنّه علم أحوال القلب(31)، وفي هذا التعريف ما فيه من دلالات؛ ولهذا نجد حديثاً موسّعاً عن الرياء والعجب وحب الذات والخوف والرجاء والأمل واليأس والغرور وحسن الظنّ بالله والخشية منه والحبّ لـه و… من المفاهيم التي تحتلّ مكانتها الرئيسية في إصلاح الباطن وإن تركت آثارها على إصلاح الظاهر، فيما وجدنا من طرف تيارات الأخلاق الصوفية انحساراً نسبيّاً لمفاهيم الأخلاق الاجتماعية كالصداقة، وزيارة الإخوان، ومعاشرة الزوجة، وتربية الأطفال، والابتسامة، والسلام، والتحية، والاجتماع، والضحك، والمزاح و… وكان ذلك بسبب طغيان النـزعة الباطنية التي راكمت هي الأخرى من الانطوائية وكرّست نحواً من أنحاء العزلة والفرديّة.

لقد أدّى هذا الوضع إلى ظهور ثقافة مميّزة في بعض المجتمعات التي طالما رزحت تحت وطأة النـزعات الصوفية؛ إذ يلاحظ وجود غلبة لأخلاقيات الباطن على حساب أخلاقيات الاجتماع، فيبدو الفرد في روحياته العميقة وأحاسيسه الدينية خائضاً في بحر متلاطم لجّيّ، ولكنّ هذا الواقع لا ينعكس تماماً على أولوياته الاجتماعية، بل لا يشعر بتلك الأولويات الاجتماعية في تصوّراته الأخلاقية، على العكس من مجتمعات أخرى لم تعرف بذلك، حيث نجد غياباً نسبياً لانفجارات الأحاسيس الروحية وإصلاح الباطن فيما نلاحظ حضوراً قويّاً وفاعلاً في الثقافة لمفاهيم الاجتماع وأخلاقيّاته، ولهذا لاحظنا نظماً تربويّة شبه راكدة في المجتمعات ذات النوع الأوّل نتيجة الركود الذي ينتاب النظرية التربوية الروحية انطلاقاً من طبيعة الركود الذي يسيطر على تكوين النفس الإنسانية، فيما لاحظنا حراكاً في النظم التربوية في العقل الجمعي للمجتمعات ذات النوع الثاني وتقبّلاً أكبر لمفاهيم نسبية الأخلاق، انطلاقاً من ارتهان النظم الأخلاقية في هذا النوع من المجتمعات لنفس البنية الاجتماعية، الأمر الذي يجعل الأمور على حركة دائمة نظراً للتحوّلات المستمرّة في السياسة والاجتماع.

ولسنا نفضّل تقديم أخلاقيات الاجتماع على أخلاقيات الروح للفرار من هذه المشكلات أو للخلاص من نزعات السكونية أو الانطوائية في الشخصية الروحية، وإنما نحاول التأكيد على إيجاد توازن بين هذه الأخلاقيات والقضايا الروحية، لكي لا يؤدّي فقدان التوازن هذا إلى بروز نتوءات كالتي أشرنا إليها.

وغرضنا من ذلك كلّه، تأكيد الإشكالية التي أثرناها ونقلناها عن أبي زيد عبر توسعتها والإطلالة عليها من جوانب عدّة، إشكالية الأخروي والدنيوي، الروح والمادّة، الثابت والمتغيّر، الباطن والظاهر، الفرد والاجتماع إلى غيرها من الثنائيات.

لقد تورّط العقل الصوفي في مشكلة كهذه، وقد تأثّر به العقل الأخلاقي الإسلامي عموماً بدرجة أو بأخرى من درجات التأثّر، وحيث كانت الأخلاقيات تتّجه نحو إطلاقية وركود كما أشرنا، صار هناك مجال لفتح بابٍ على مرجعية التراث؛ لأنّ هذه المرجعية كان بإمكانها مواكبة الدرس الأخلاقي الروحي لضآلة الحراك والتحوّل الموجود فيه، إنّ ما فعله الغزّالي في ((إحياء علوم الدين)) من بناء الأخلاق على النص وأخبار الصحابة والصالحين كان نتاجاً طبيعياً لهذه الظاهرة وسبباً لها في الوقت نفسه، أما أبو علي مسكويه الرازي(421هـ) فقد ركّز في ((تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)) على العقل أساساً لبناء النظم الأخلاقية، وكان اعتماد مسكويه بالدرجة الأولى على قراءة معمّقة للاجتماع البشري لم يُسبق إليها في الوسط الإسلامي، ولذا وصف بمؤسّس فلسفة الأخلاق في الإسلام(32).

إن هناك علاقة بين جبهات عدّة، بين أخلاق الفرد والاجتماع، وأخلاق الظاهر والباطن، وأخلاق النص والعقل، علاقة جدلية تفاعليّة، لكن حيث سيطرت أخلاق الغزّالي حتى غزت الشيعة الإمامية كما في ((المحجّة البيضاء)) و((الحقائق في محاسن الأخلاق)) للفيض الكاشاني(1091هـ)، لم نجد تطوّراً جذرياً في فلسفة الأخلاق بعد الغزّالي إلى القرن العشرين تقريباً.

نعم، إنّها إشكالية حقيقية وقع فيها تيار الأخلاق الصوفي والنـزعات الروحية في الإسلام، وكانت هناك مطالبة بتوازن يحدّ من إفراط العقل والنص، والفرد والاجتماع، والظاهر والباطن لتكوين صورة أكثر اعتدالاً وتلاؤماً.

لكن الكلام في مَدَيَات هذه الإشكالية، فهل تمتدّ للعرفان الإسلامي بأشكاله المتطوّرة؟ وإذا امتدّت له، فهل يوجد في هذا العرفان مقوّمات لاختراق الإشكالية أو تجاوزها؟

إنّ هذه الإشكالية – في ما نفهم – تعاني من نقص في استشراف تجارب العرفان كلّـها، وحتى في فهم المقصود أحياناً، دون أن نلج عالم الغزّالي في هذه النقطة بالذات.

إنّ العرفان مطالب بتجاوز هذه العقبة، وعندنا تجربة عرفانية تؤكّد القدرة على هذا التخطّي بدرجة عالية، وهي بعض مظاهر العرفان الشيعي الأخير بالخصوص، وأحبّ هنا أن آخذ ثلاث عيّنات تؤكّد قدرة العرفان الشيعي بأشكالـه الأخيرة على حلّ هذه المشكلة ميدانياً بنسبة جيّدة بقطع النظر عن الأصول النظرية لـهذه الحلول، وهل أنها موجودة في العرفان القديم سيما عند ابن عربي أو لا؟ كما وبقطع النظر عن حلّ العرفان الشيعي عبر العيّنات التي سنأخذها للإشكاليّة بجميع أبعادها خصوصاً الاجتماعيّة منها.

وهذه العيّنات هي: الإمام روح اللـه الخميني(1989م)، والعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي(1983م)، والشهيد الشيخ مرتضى مطهري(1980م)، فقد كان هؤلاء – سيما الأوّلين منهما – من أقطاب العرفان الشيعي في القرن العشرين أو من أقطاب المدافعين عنه والمنظّرين كالمطهري، وكتبهم – سيما الإمام الخميني(33) – تشهد على مدى غوصهم في هذا العالم، وفي الوقت نفسه، لم يثن العرفان شخصاً مثل الإمام الخميني عن أن يعمل في عمق الحياة السياسية، فيؤسّس دولة ويكون زعيماً لـها، إنها إحدى المرّات القلائل في تاريخ العالم، التي يكون فيها عارفٌ زعيمَ دولة، وهذا بنفسه شاهد قويّ على مدى قدرة العرفان من حيث نواته الداخلية على تجاوز إشكاليّة الدنيوي، بل والسعي لتشكيل دولة بكل ما تعنيه كلمة دولة من دلالات، لا بل قد نجد من يقول: بأن بعض المدارس العرفانية التي انتمى إليها الإمام الخميني والتي كانت تعتمد بناء النفس مقدّمةً للسير والسلوك – لا فناءها – هي التي كانت صاحبة الفضل في تشكيل شخصية جبّارة صلدة كتلك التي تمتّع بها الخميني، وهو أمرٌ يساعدنا أكثر على تحليل الموضوع ويقدّم شاهداً آخر(34).

أما العلامة الطباطبائي، فلا نجد حاجة للتأكيد على تجاوزه إشكاليّة الدنيوي بالنسبة لشخص طالع كتبه، سيما منها ((الميزان في تفسير القرآن))، فقد امتاز الطباطبائي بشخصية عقلانية، وحاول إقامة الفكر الإسلامي على ثنائي القرآن والعقل، وساهم مساهمة فاعلة في حركة التحرير الديني، ونقد العقل الديني السائد، مقدّماً معطيات بالغة الأهمية دون أن يسندها – في الخطاب الفكري والثقافي العام – إلى كشوفات القلب ومشاهداته، كما فعلـه أحياناً بعض العرفاء، وإنما قدّم كل التصوّرات عن الحياة في صورة عقلانية ليمثل امتداداً رئيسيّاً لمدرسة الشيرازي صاحب الحكمة المتعالية(35).

أما الشهيد مرتضى مطهري، فهو واحد من القلائل الذين يمكن تصنيفهم ضمن تيّار الإصلاح الديني، وقد كان إنساناً قائماً في عمق الحياة وأمواجها المتلاطمة على الصعيدين الفكري والسياسي معاً، وليس القارئ بحاجة الى كثير جهد وعناء ليرجع إلى أعمالـه الكاملة فيتأكّد من ذلك.

هذه العيّنات – وغيرها كثير كالميرزا جواد ملكي التبريزي، والحبوبي، وجمال الدين الأفغاني ومحمد إقبال اللاهوري و… – تؤكّد أن في العرفان نواة تجاوز إشكاليّة الدنيوي، بل والمزاوجة بين الفقه والعرفان كما حصل مع الإمام الخميني، وهو ما يجعل من تطوير هذه النواة أمراً هاماً لفصل العرفان عن المفاهيم التي حملـها التصوّف في تاريخه، مما تعبّر عنه كلمات العزلة والوحدة والفردية والانطواء.

 

العرفاء، الفقهاء، المتكلّمون.. مشروع مصالحة:

وأمام واقع التنوّع الخلاب الذي يضفي جمالاً على الصورة الإسلامية، تبدو الخلافات الحادّة بين تيارات ثلاثة في تاريخ الفكر الإسلامي، تيار القلب الذي يمثّلـه العرفاء والمتصوّفة، وتيار النص الذي يمثلـه الفقهاء والمحدّثون، وتيار العقل الذي يمثلـه الفلاسفة والمتكلّمون و…

لقد كانت هذه الخلافات أكبر مما نتصوّر، قاسية حادّة مفرطة، مورس فيها القمع، فقمع تيارُ النص تيارَ العقل حين قُتل الاعتزال في التاريخ الإسلامي، وقمع تيار العقل تيار النص في محنة خلق القرآن وفضيحة تحالف العقل مع السلطة في الخطأ الاعتزالي التاريخي، وعُلِّقَ القلب والعرفان على أعواد المشانق حينما صلب الحلاّج(309هـ).

واليوم، حيث هذا الصراع بأشكالـه المعاصرة ما يزال قائماً من الناحية الميدانيّة، ثمّة حاجة للتفكير لكي لا تتكرّر تجارب الماضي، لكي لا يبلغ تيار العقل والعقلانية مقاليد السلطة فيقمع الفقهاء والمحدّثين ناعتاً إياهم بتيّار التخلّف والرجعيّة، وأن لا يصل الفقيه إلى مصادر القرار ومراكزه فيصدر حكمه بالتكفير على الفيلسوف والعارف، فيقضي بفعلته هذه على روح العقل والتفكير، ويسحب الحاضر على الماضي بدل أن ينتج منه المستقبل، وأن لا يتسنّم العارف مقام القوّة والسطوة فيسخر من فرقائه، وينعتهم بأهل الظاهر والقشور، ويكيل لـهم الألقاب والأوصاف، ليكونوا عنده كفرعون موسى على حدّ تعبير ابن عربي.

يجب التفكير في حلّ لـهذا التناقض، ويجب السعي لعدم تكرار الماضي واستعادته كما يبدو أنه يحصل فعلاً، ويجب أن يدرك الجميع أن ليس من علم هو الأشرف إلا نسبياً، وأن ليس من معرفة ضحلة لا تنفع إلا نسبياً. إن المصالحة، لا تتحقّق سوى بتعديل المناهج وفق رؤى جديدة، على الأقل ما يتّصل منها بخطوط التماسّ، وإلا أيضاً بتعديل السلوك تعديلاً جذرياً، وذلك ليس بالأمر اليسير.

ثمة حاجة إلى كيان مستوعب يجمع القلب والعقل والنص، وهو أمرٌ على صعوبته، هناك تباشير فيه، منذ ابن رشد(595 هـ) تقريباً في محاولته الجمع بين العقل والنص، وإذا لم يكن بالإمكان تحقيق المصالحة الشاملة، فليس من بدّ لصالح الجميع في رفع شعار المهادنة، فهو أمرٌ واقع، لا مفرّ منه إلا إلى تجاذبات القمع ومحن التفكير القديمة الجديدة.

وما يعنينا هنا في هذه المناسبة التركيز على عدم التعامل مع تيار العرفان، تعاملاً قائماً على السخرية أو القمع أو التجاهل، وإنما – لا أقل – الإقرار به مهما كان الموقف النظري من المنهج. ونؤكّد على موضوع السخرية والاستهزاء، لأننا نلاحظ فريقاً كبيراً من تيارات الثقافة والمعرفة الدينية يتعامل مع العرفان بهذا الشكل، وهذا ما نلاحظه ينسحب على جماعة من الفقهاء تعاطوا بقسوة حادّة مع هذا التيار، ليس آخرهم صاحب كتاب ((تزكية النفس))(36).

إنّ هناك فرصة كبيرة لتحالف – لا مصالحة فحسب – بين تيار العقل والعرفان بالخصوص، ثمّة في العرفان منافذ حركيّة يمكنها أن تخرق بعض الجدران، إن التجربة العرفانية تمتاز في عمقها بدعوة – رغم بعض الإشكاليات – إلى بناء الدين بناءاً قائماً على الحريّة، دعوة تريد اختراق حرفيات النصوص، على نسق أبلغ مما فعله المعتزلة في نظريّة المجاز، وثمة في العرفان تجاوز لشكلانيات دينية وتركيز على روح الأشياء، أي نحو من المقاصدية العامّة، وثمة فرص يفتحها العرفان باعتقاده كسرَ آليات الدرس العلمي وبروتوكولات المعرفة، بل يمكنني القول: إنّ الاتجاه العرفاني كان من أسبق الاتجاهات التي عملت على التقريب الديني والمذهبي، ولولا سيطرة المفاهيم المكوّنة للغة العرفان على التجربة العرفانية وأسباب أخرى نعرض عن ذكرها لربما نجح تيار العرفان في تذويب جبال الجليد القارص ما بين فرقاء السفر الديني نحو الله سبحانه…

رغم الملاحظات كلّها، يسجّل لصالح العرفاء وأنصارهم المشاركة التأسيسية الإحيائية في النهضة الدينية في العصر الحديث منذ الأفغاني وإقبال وحتى الخميني مروراً بالطباطبائي والحبوبي والملكي والمطهري… وحتى تيارات التحديث الشيعية الأخيرة في إيران التي أخذت تقدّم جماعاً من العرفان ونظم التفكير الغربية تبدو قراءته في غاية الأهمية.

وحينما نشير إلى تيارات التحديث الإيرانيّة الأخيرة، نؤكّد أنّها استطاعت إلى حدّ جيد بناء تحالفٍ قويّ بين العرفان والثقافات الجديدة، مهما قيّمنا داخلياً هذا التحالف، وكان الشيخ محمد مجتهد شبستري والدكتور مصطفى ملكيان ومن بعدهما الدكتور عبدالكريم سروش أبرز من خطى هذه الخطوات، فهناك ضرورة لقراءة هذه التجربة ووعيها بدقّة لمعرفة مدى تقدّمها ونجاحها.

 نقلاً عن موقع معهد الرسول الأكرم(ص) – مجلة الخياة الطيبة – العدد السادس عشر.

الهوامش :

1 – تعالج رسالة الولاية موضوع العرفان معالجة أوّلية وتقرأه قراءة بنيوية، كما تعالج دراسة الطباطبائي ((العرفان الإسلامي)) المدرجة في مقالة ((الإسلام والأديان الأخرى)) الموضوعَ نفسه، راجع كتاب ((مقالات تأسيسية للعلامة الطباطبائي)) ترجمة جواد علي كسّار، مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، إيران، الطبعة الثانية، 1418هـ، ص61 – 72.

(2) مرتضى مطهّري، المجموعة الكاملة، انتشارات صدرا، إيران، الطبعة الأولى، 1996م، ج14، ص555 – 559.

(3) محمّد بن الحسن الحرّ العاملي، رسالة الاثني عشريّة في الردّ على الصوفيّة، نشر محلاتي، قم، الطبعة الثالثة، 1423هـ، ص81 – 82.

(4) مرتضى مطّهري، المجموعة الكاملة، مصدر سابق، ج14، ص552.

(5) عبد الرحمن بن خلدون، مقدّمة ابن خلدون، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2003م، ص464.

(6)محمد باقر الصدر، الأسس المنطقية للاستقراء، ، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، ص322 – 327.

(7)الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، محاضرات في الأيديولوجية المقارنة، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، مؤسّسة في طريق الحق، إيران، الطبعة الأولى، 1982م، ص24، وله أيضاً: المنهج الجديد في تعليم الفلسفة، مؤسّسة النشر التابعة لجماعة المدرّسين، إيران، 1407هـ، ج1، ص125.

(8) السيّد كمال الحيدري، دروس في الحكمة المتعالية، دار الصادقين، إيران، الطبعة الأولى، 1999م، ج1، ص 63.

(9) محمد حسين الطهراني، الروح المجرّد، ترجمة عبد الرحيم مبارك، دار المحجّة البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص 43 – 65، حيث ذكر الوجوه على عدم الحاجة إلى الأستاذ وردّها بأجمعها، ومن الكتب التي عنيت بدراسة مسألة الشيخ والمريد وشكل العلاقة بينهما، كتاب: خصائص التصوّف الإسلامي بين مؤيّديه ومعارضيه، عبدالعزيز أحمد منصور، 1417هـ، ج1، ص7 – 105.

(10) انظر حول هذا المفهوم موسوعة مصطلحات التصوّف الإسلامي، الدكتور رفيق العجم، مكتبة لبنان ناشرون، الطبعة الأولى، 1999م، ص1055 – 1059، ومعجم مصطلحات التصوّف الفلسفي، محمد العدلوني الإدريسي، دار الثقافة، المغرب، الطبعة الأولى، 2002م، ص205 – 208، والموسوعة الصوفية، الدكتور عبدالمنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 2003م، ص1008 – 1011، والمعجم الصوفي، د. سعاد الحكيم، دندرة للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1981م، ص1231 – 1241، ونقد صوفي(فارسي)، الدكتور محمد كاظم يوسف پور، ص209 – 234، ومعرفة الإمام، العلامة محمد حسين الطهراني، دار المحجّة البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى، 1996م، ج5، ص3 – 54.

(11) العلامة الطباطبائي، مجموعة مقالات، ج1، ص39.

(12) الشيخ عبد الله الجوادي الآملي، علي بن موسى الرضا والفلسفة الإلهيّة، دار الإسراء، قم، الطبعة الأولى، 1415هـ، ص106.

(13) عبد الرحمن بن خلدون، مقدّمة ابن خلدون، مصدر سابق، ص465.

(14) الإمام روح الله الخميني، الآداب المعنويّة للصلاة، ترجمة السيّد أحمد الفهري، دار الكتاب الإسلامي، إيران، ص301 – 307، وانظر أيضاً رسالة الإمام الخميني إلى ابنته السيدة فاطمة الطباطبائي في كتاب "وصايا عرفانيّة"، مركز بقيّة الله الأعظم، بيروت، ص121 – 122.

(15) السيّد حيدر الآملي، جامع الأسرار، ص473.

(16) محيي الدين بن عربي، رسائل ابن العربي، رسالة الشيخ إلى الإمام الرازي، ص30، وانظر: الفتوحات المكيّة، الطبعة الجديدة، ج4، ص316 – 317، وكذلك الفتوحات، الطبعة القديمة، دار صادر، بيروت، ج2، ص298، بل في بعض كلمات ابن عربي أنّ بعض العلوم العرفانية ليس فقط لا يدركها العقل بل يراها مستحيلة، انظر الفتوحات، ج1، ص228.

(17) محمد بن حمزة المعروف بابن الفناري، مصباح الأنس، انتشارات مولى، الطبعة الأولى، 1416هـ ، ص9.

(18) أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، دار ومكتبة الهلال، لبنان، الطبعة الأولى، 1993م، ص21 – 23 و27 – 28 و47 – 52، و..

(19) روح الله الموسوي الخميني، وصايا عرفانية، سبيل المحبّة، إلى السيدة فاطمة، ص134 – 135.

(20) جمع السيّد كمال الحيدري أبرز الأدلّة التي ساقها العرفاء نقداً على التيّار العقلي استنصاراً لدعواهم أفضليّة المعرفة العرفانية على العقلية، وجمع جملةً هامّةً من نصوصهم وإن لم يكن جمعه مستوعباً، وذلك في كتابه دروس في الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ج1، ص58 – 61.

(21) الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، محاضرات في الأيديولوجية المقارنة، مصدر سابق، ص24، وله أيضاً المنهج الجديد، مصدر سابق، ج1، ص127.

(22) انظر الدكتور علي شيرواني، الأسس النظرية للتجربة الدينية، قراءة نقدية مقارنة لآراء ابن عربي ورودلف أتو، ترجمة: حيدر حبّ الله، نشر دار الغدير، بيروت، الطبعة الأولى، 2003م، لا سيما القسم الثالث، ص341 – 402.

(23) انظر: زكي المبارك، التصوّف الإسلامي، ومحمد عابد الجابري، في نقد العقل العربي، ج1 و2، والصوفيّة لسميح عاطف الزين، والتصوّف الإسلامي تاريخه ومدارسه وطبيعته وأثره لأحمد توفيق عياد، نشر مكتبة الانجلو المصرية، وإن كانت لديه بعض التحليلات المعرفية المحدودة، والتصوّف منشأه ومصطلحاته للدكتور أسعد السحمراني، دار النفائس، والعرفان الإسلامي بين نظريات البشر وبصائر الوحي، للسيد محمد تقي المدرسي، نشر المركز الثقافي الإسلامي و… علاوة على مئات الأطروحات والرسائل الجامعيّة التي تناولت شخصيات المتصوّفة والعرفاء بالدرس والتحليل الفكري والتاريخي من أمثال ابن عربي والإمام الخميني والعلامة الطباطبائي والسيد حيدر الآملي و…، وانظر للمستشرقين والباحثين الغربيّين: العقيدة والشريعة لجولدتسيهر، وله أيضاً مذاهب التفسير الإسلامي، وآن ماري شيمل، الأبعاد العرفانية للإسلام، وهاملتون جب في كتابه دراسات في حضارة الإسلام و…، ولعلّ كتاب ((فلسفة عرفان)) للدكتور يحيى يثربي، الباحث الإيراني المعاصر من الكتب التي سعت بشكل رئيس لدراسة الظاهرة العرفانية دراسة معرفية، كما هو الحال مع كتاب ((الصوفيّة والعقل)) للدكتور محمد عبدالله الشرقاوي.

(24) يقسّم الغزّالي علم الآخرة إلى علم المكاشفة، وهو علم الباطن، وذلك غاية العلوم، والثاني هو علم المعاملة، ويرى كتابَه ((إحياء علوم الدين)) موضوعاً لعلم المعاملة، الذي لا يماهي العرفان الذي هو علم المكاشفة، انظر إحياء علوم الدين، دار الكتب العلمية، لبنان، الطبعة الأولى، 1986م، ج1، ص31 – 32، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا التمييز بين علوم الأخلاق وتهذيب النفس وبين علوم العرفان والكشف لم يرسخ بعدُ في أذهان الكثيرين، فظنّوا أنّ كلّ من عُرف بتعليم الأخلاق أو حسنها وقام الليل وصام النهار و… فهو عارف، والحال أنّ الكثير من هؤلاء كانوا خصوماً للصوفية أو العرفان ومناهجهما أو محايدين على الأقلّ، من أمثال الحرّ العاملي في رسالة الاثني عشرية، والشهيد الثاني صاحب منية المريد و… وعلى أساس هذا الخلط الموجود في الذهن الجماعي قدّمنا محاولة المصالحة المذكورة في المتن أعلاه.

(25) وردت هذه الرواية بهذا التعبير في: مستدرك وسائل الشيعة، للمحدّث النوري، تحقيق مؤسّسة آل البيت G لإحياء التراث، الطبعة الثانية، 1408هـ ، ج11، ص187، ح: 12701، كما جاءت بعبارة: "إنما بعثت لأتمّم صالح الأخلاق"، في مصادر أخرى، مثل: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، لنور الدين الهيثمي، دار الكتب العلمية، بيروت، طبعة: 1988م، ج9، ص15.

(26) هذا ما قد يمكن فهمه من بعض النصوص الروائية، راجع كتاب السنن الكبرى، لأبي بكر البيهقي، دار المعرفة، بيروت، 1992م، ج3، ص119 – 120، سيما الرواية الأولى، ويمكن حمل هذه الروايات على فهم القرآن لا على العمل به فراجع.

(27) الإمام الخميني، نداء الإمام الخميني إلى العلماء، هدية مجلّة بقية الله، ص8.

(28) كتب العلامة الطباطبائي تعليقةً على بحار الأنوار للمجلسي، لكنّها وقفت – نتيجة بعض الضغوط – عند المجلّد السادس من البحار، راجع العلامة محمد حسين الطهراني، الشمس الساطعة، دار المحجّة البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ، ص52 – 53، وحول مشكلته التي واجهها بعد تدريس كتاب الأسفار الأربعة للملا صدرا في مدينة قم الإيرانيّة وقطع مرتّبات الطلاب الذين كانوا يحضرون عنده من قبل بعض مراجع التقليد الكبار، راجع المصدر نفسه، ص101 – 105.

(29) ينقسم التصوّف إلى تصوّف عملي يقوم على رباعي قلّة المأكل والمشرب والمنام والاختلاط بالناس وقلّة الكلام أيضاً، وتصوّف نظري يرتبط بالكشف والشهود، وهذا التصوّف النظري هو ما يعبّر عنه البعض ((العرفان))، وينقسم العرفان إلى عرفان عملي يقصد به واقع الحالات الشهودية، وعرفان نظري يقصد به صورة هذه الحالات في أفق العقل وميدان اللغة، وقد كان الاصطلاحان رائجين منذ زمن بعيد، إلا أنّ مصطلح الصوفي والتصوّف كان أكثر رواجاً، ليروج بعد ابن عربي مصطلح العرفان.

لمزيد من الاطلاع يراجع مقدّمة كتاب فصوص الحكم مع شرح ابن تركة، نشر بيدار، قم، الطبعة الاولى، 1420هـ، ص3 – 5، وانظر أيضاً: مرتضى مطهّري، المجموعة الكاملة، مصدر سابق، ص552 – 553، والسيّد كمال الحيدري، دروس في الحكمة المتعالية، مصدر سابق، ج1، ص55 – 56 و 65 – 67.

(30) انظر: الدكتور نصر حامد أبو زيد: مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، الطبعة الخامسة، 2000م، الفصل الثالث حول النص والتحوّل الوظيفي.

(31) انظر: إحياء علوم الدين، مصدر سابق، ج1، ص32، وللفيض انظر كتابه: المحجّة البيضاء ج1، ص66 – 69.

(32) انظر: أبو علي مسكويه، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، انتشارات بيدار، إيران، الطبعة السادسة، 1415 هـ، وانظر لـه أيضاً كتاب الحكمة الخالدة، تحقيق وتقديم عبدالرحمن بدوي، انتشارات دانشكَاه طهران، الطبعة الأولى، 1953م، عن مكتبة النهضة المصرية، ويدلّنا الكتاب الثاني – إلى جانب الخبرة التاريخيّة له والتي ظهرت في كتابه الشهير "تجارب الأمم" – على اعتماد مسكويه على التجارب البشرية في فهم الأخلاق، فقد استعرض فيه حكم الفرس والهند والعرب والروم ووصايا الإسلاميين المحدثين، وهي نقطة امتياز لصالح الأفق المعرفي العقلاني المفتوح عنده.

(33) انظر كتبه: ((شرح دعاء السحر)) و((مصباح الهداية)) و((سرّ الصلاة)) و((الآداب المعنويّة للصلاة)) و((جنود العقل والجهل)) و((الأربعون حديثاً)) و… ، نعم أغلب نتاج الإمام الخميني المدوّن في علوم الشريعة والفقه والأصول، إلا أنّ نتاجه الفلسفي والعرفاني إلى جانب خطابه السياسي كان بارزاً جداً، ويمثّل شرح دعاء السحر، ومصباح الهداية، وسرّ الصلاة و.. مظهر الشخصيّة العرفانيّة للسيّد الخميني، فيما يمثّل كتاب جنود العقل والجهل، والأربعون حديثاً و.. مظهر الشخصيّة الأخلاقية التربويّة، ويقع كتاب الآداب المعنويّة للصلاة وسطاً بين الطرفين تقريباً.

(34) أدعو القارئ هنا لمراجعة موقف الإمام الخميني من هذا الموضوع، خصوصاً في "بلسم الروح" المدرج في كتاب "وصايا عرفانيّة"، مصدر سابق، ص54 – 55.

(35) انظر حول العلاّمة الطباطبائي ودوره التنويري التحريري، مجلّة الكلمة، العدد 36، 2002م، مقال: علم الكلام عند السيّد محمد حسين الطباطبائي، قراءة في جدل العقل والنص، حيدر حبّ الله، ص45 ــ 74.

(36) انظر على سبيل المثال السيد كاظم الحسيني الحائري، تزكية النفس، مؤسّسة الفقه للطباعة والنشر، قم، الطبعة الأولى، 1422هـ، ص148 و 151 و 155 و 158 و.. حيث استخدم كلمات وعبارات فيها نوع من القسوة والاستهزاء بحقّ بعض أعاظم العرفاء.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً