حيدر حب الله([1])
الشيخ مغنية، تعريفٌ موجز ببعض معالم تفكيره وتجربته
لابدّ لي ـ بدايةً ـ من وضع القارئ في صورة موجزة جدّاً عن بعض معالم تفكير العلامة الشيخ محمّد جواد مغنيّة (1904 ـ 1979م)، تمهيداً لتعريفه ببعض أفكاره ومواقفه ذات الصلة بالفضاء البيئي للفهم الاجتماعي والمقاصدي للنصوص الدينيّة.
ويمكنني الإشارة هنا للآتي:
العنصر الأوّل: النقد وهاجس الإبداع، إذ يتميّز الشيخ مغنيّة بأنّه شخصية ثائرة وناقد اجتماعي صريح وشفّاف، وهذه من أبرز سمات أعماله التي تركها لنا، فقد ساهم مساهمةً واضحة في نقد الفكر الديني السائد وفقاً لعصره ومحيطه، ولم يقتصر على نقد الأوضاع السائدة في زمانه مادياً (الماركسية، الغرب..) كما فعل أكثر المصلحين الإسلاميّين في القرنين الأخيرين، بل مارس نقداً عنيفاً ولاذعاً للموروث الديني التقليدي، ولمؤسّسة علماء الدين أيضاً، بل لم تكن باكورة مؤلّفاته كتاب «الوضع الحاضر في جبل عامل»، والذي نشر عام 1947م، سوى عمليّات نقد واسعة للوضع السياسي والاجتماعي لجبل عامل في تلك الفترة.
يمكن ـ وبكلّ ثقة ـ تصنيف الشيخ مغنية أحد الناقدين الدينيّين في القرن العشرين، وفي تجربته التفسيرية «الكاشف» مارس نقداً صريحاً للأوضاع القائمة في العالم الإسلامي فكرياً واجتماعياً وسياسيّاً.. كما أدّى دوره في نقد الداخل الشيعي بغية إصلاحه، في أوضاع كانت أحياناً شديدة الإحراج، كما يلاحظ في كتابه «الخميني والدولة الإسلاميّة».
من هنا، يمكن القول بتغلّب الطابع النقدي على نتاجات مغنيّة، أكثر من الطابع التأسيسي، رغم اشتمال أفكاره على بعض الإسهامات الفكريّة والبنيويّة الهامّة.
لقد كان مغنية مسكوناً أيضاً بهاجس التجديد والتفكير المختلف، ويؤمن بضرورة الإبداع في مجال الفكر الديني عموماً، وهذان المناخان: النقد والإبداع، هما الفضاء المناسب لولادة أفكار مختلفة عن السائد رأيناها عنده.
العنصر الثاني: بساطة الفكرة والتعبير عنها، وهذا هو الأمر الآخر الذي يقع على صلة بأفكار مغنية المقاصديّة في تقديري، فهو يحمل سمة سهولة التعبير ووضوح الفكرة، فقد كانت لديه رغبة عميقة في الابتعاد عن التعقيد والغموض، والتأكيد على ممارسة الوضوح في كلّ شيء، فهو لا يحبّ الغموض والأسراريّات، ولهذا فهو يقدّم الفكر الديني بطريقة واضحة دون أن يدمجه بالتعقيد في البيان والمبيَّن، وهذا ما أعتقد أنّ له صلة ببعض أفكاره الآتية؛ لأنّه لا يقرأ الدين قراءة غامضة، بل يرى في الأشياء وضوحاً وبساطة.
العنصر الثالث: جدل النصّ والواقع، فحضور الواقع في المنظومة الفكرية العامّة لمغنية كان حضوراً بارزاً، الأمر الذي سجّلته ملاحظةً جماعةٌ من تيّار النصّ بعيدةٌ عن الواقع في الساحة الإسلاميّة، فعلى سبيل المثال الفقهي، انطلق الشيخ مغنيّة من إشكاليّات الواقع فيما يخصّ الفتوى القائلة بنجاسة أهل الكتاب، قارئاً الحرج الشديد الذي يعيشه المسلمون في حياتهم مع أتباع الديانات الأخرى، لاسيما تلك الأقليّة المسلمة التي تعيش في الغرب المسيحي([2])، ومن إشكاليّات الواقع نفسه نحى الشيخ منحى نصّ التسامح الإسلامي العام، ليرى في مسامحة الدين خطّاً عريضاً يقف سدّاً أمام فتاوى تخلق إرباكاً في الواقع.
يذهب الشيخ مغنيّة إلى أنّ العلم يجب أن يكون للنفع العائد على الإنسان والآخر، أمّا التفلسف الذي لا يتعدّى التنظير المحض فلا قيمة له عنده؛ فهو رجل عملاني، وهذه العملانيّة انعكست على تفكيره الفقهي، فكلّ ترف فكري في الدراسات الشرعيّة فهو مرفوض وكلّ بحث فقهي ينجرّ لنفع وخير فهو مقبول، وهو في موضع آخر يعتبر أنّ جهوده برمّتها تهدف لنفع الإنسان، وأنّ مقصده هو نفع الإنسان؛ لأنّ الإنسان عنده هو الغاية والقيمة العظمى على حدّ تعبيره([3]).
مغنيّة وروح القانون، خطوات نحو التفكير المقاصدي العام
وسوف أتعرّض لمغنيّة من ناحيتين: ناحية مواقفه التنظيريّة العامّة في مجال المقاصد والتعليل والتعدّي عن النصّ، وناحية مواقفه المتفرّقة التطبيقيّة في الأبواب الفقهيّة المختلفة والتي تعكس توجّهه العام.
أوّلاً: من مواقفه العامّة الأصوليّة في السياق المقاصدي
يبدو الشيخ مغنية واضحاً، وهو يقرّر مفهوماً غريباً عن الفضاء الكلاسيكي الإمامي، حين يقول: «..لأنّ المعاملات لا تعبّد فيها، ومصلحتها ظاهرة في الغالب.. وبالتالي فإنّ الجمود على حرفيّة النصّ يجب في العبادات، سواء أعرفنا المصلحة منها، أم لم نعرف، أمّا في المعاملات فينبغي التوفيق القريب بين النصّ والمصلحة المعلومة»([4]).
هذا النصّ في غاية الأهميّة؛ فهو يعتبر أنّ غير باب العبادات هو باب مفتوح على نوع من المقاربة والتوفيق بين النصّ والمصلحة العمليّة المعلومة المنكشفة لنا. ونظريّة التوفيق القريب هذه في خطورتها نجد لها انعكاسات ـ كما سنرى بعض الأمثلة ـ في أعماله الفقهيّة، حيث يشتغل على رفض بعض النصوص أو تقييدها أو إعادة تفسيرها بمقتضى فهمه للمصالح، بل هو يكرّر مراراً أنّ عمليّاته هذه قد تفهم أنّها اجتهاد في مقابل النصّ، لكنّها في الحقيقة اجتهاد في تفسير النصّ بشكل مركّز من وجهة نظره وطبقاً لتعابيره، كما يشير في غير موضعٍ إلى رفض القياس وأنّ دين الله يُعرف بمصادر الشريعة، ولا يُصاب بالعقول([5]).
ويُسعفنا مغنية بموقفٍ عام ثانٍ يظهر منه اعتماده على التقرّي والتتبّع والممارسة، يقول فيه: «إنّ من تتبّع مصادر الشريعة يؤمن إيماناً لا يشوبه ريب بأنّ كلّ ما يوافق أهداف الإنسان وأغراضه، ولا يتعارض مع مبادئ الشريعة ومقاصدها فهو جائز عقداً كان أو شرطاً، أو غيرهما. وهذي قاعدة شرعيّة عامّة تصلح معياراً كليّاً لمعرفة الأحكام الشرعيّة، وحلّ المعضلات في ضوئها»([6]).
فهو هنا لا يريد استخدام أصالة البراءة، بل يريد استخدام دليل يثبت الموقف الشرعي من خلال ثنائيّة: المصلحة الإنسانيّة ـ التوالم مع المقاصد والمبادئ، فكلّ قانون أو حالة يكون موقف الشريعة منهما تابعاً لهذا المزدوج عنده، ومن ثمّ فنحن نستنطق الشرع في مقاصده استنطاقاً سلبيّاً، ونستنطق المصلحة الإنسانيّة في تحقّقها استنطاقاً عقلانيّاً إيجابيّاً تجربيّاً.
ويأتي موقفه الثالث مبلوراً للصورة عنده، وهو يطرحه في مسألة الحيل الشرعيّة، ففي موقفه من الحيل ما يرشدنا لنمط تفكيره المقاصدي الذرائعي، حيث يضع في بحث الزكاة ـ على سبيل المثال ـ عنوان «الاحتيال على الله والناس»، ثم يقول فيه: «قال السيد كاظم في العروة الوثقى: لا يجوز للفقير، ولا للحاكم الشرعي أخذ الزكاة من المالك، ثم الردّ عليه، أو المصالحة معه بشيء يسير، أو قبول شيء منه بأكثر من قيمته، أو نحو ذلك، فإنّ كلّ هذه حيل في تفويت حقّ الفقراء، وكذا بالنسبة إلى الخمس والمظالم، ونحوهما. وقال السيد الحكيم في المستمسك معلّقاً على هذا بما نصّه بالحرف الواحد: «الظاهر أنّه لا إشكال في الأخذ إذا كان الدفع غير مقيّد بالردّ، بل كان مطلقاً، أو بداعي الردّ؛ لأنّه جار على القواعد الأوليّة». ومعنى هذا التعليق أنّ المالك إذا قال للفقير، وتلفّظ صراحة بأنّي أعطيك هذا المبلغ من الزكاة بشرط أن تردّه إليّ بعد أن أدفعه لك، وقبل الفقير، فلا يصحّ ولا تسقط الزكاة عن المالك، أمّا إذا لم يتلفّظ المالك بالشرط، وإنّما دفع المال للفقير بنيّة أن يرجعه الفقير إليه، ويردّه عليه ساعة قبضه، وأخذه الفقير بهذه النيّة، وهذا الباعث، ثم ردّه على المالك، بحيث لم يبق مع الفقير شيء من الزكاة، أو بقي منها بعض الشيء، أمّا إذا كان كذلك، فيصحّ وتسقط الزكاة. وهنا تساؤلات كثيرة تتزاحم وتتدافع، وكلّ منها يطلب الجواب قبل الآخر، وهي هل هذه النية من المالك تتفق مع نية القربة التي هي شرط في الزكاة أو تتنافى معها؟ وهل من فرق بحسب الواقع والنتيجة بين أخذ الشيء بنحو القيديّة، وبين أخذه بنحو الداعي؟ ولو افترض نقاشاً وجود الفرق بينهما في الواقع، فهل يفهم هذا الفرق عامّة الناس، أو الخاصة كالسيد الحكيم ومن إليه، وعلى افتراض أنّه وقف على أفهام الخاصّة، فهل الأحكام الشرعية تنزل على الدقّة العقليّة، أو الأفهام العرفيّة؟ ثم إذا كانت الأحكام الشرعية تتبع المصالح والمفاسد الواقعيّة، كما هو مذهب الشيعة الإماميّة، فكيف تغيّرت الواقعة الواحدة من التحليل إلى التحريم أو بالعكس لا لشيء بل لمجرّد تغيير هيئة اللفظ فقط لا غير، ثم لو جاز هذا فما معنى قول الرسول وآله الأطهار‘: لو أنفقت الحقوق على مستحقّيها لما بقي فقير؟ وهل معنى الجواز إلَّا أن يزداد الفقير بؤساً وعناء، ويزداد الغني مالاً وثراء؟ ثم هل في الحيل حلال وحرام وحقّ وباطل وخطأ وصواب، أو أنّ كلّ الحيل حرام؛ لأنّ لفظها يدلّ عليها، وإنّ اللَّه سبحانه ينظر إلى الواقع والأعمال، لا إلى الألفاظ والأشكال»([7]).
إنّ الجملة الأخيرة تظلّ الأهم بالنسبة إلينا هنا، وهي إلغاء عنصر التمايزات الشكليّة لصالح المعنونات والوقائع دون الأسماء المحضة دائماً، وهذا هو التفكير المقاصدي الذي يرفض تقديم الوسيلة على المقصد، والشكل على المعنى، والجسد على الروح.
ثانياً: مواقف تطبيقيّة فقهيّة متنوّعة
تتجلّى بعض المحاولات الإقحامية لمقولة المقصد والملاك عند مغنيّة في بعض العيّنات من كتبه الفقهيّة، ونذكر بعض النماذج:
1 ـ لدى بحثه حول معاملات الصبيّ في كتابه «الفقه على المذاهب الخمسة»، يقول بعد عرض مواقف بعض المذاهب: «وقال الإماميّة والشافعيّة: إنّ معاملة الصبيّ بكاملها غير شرعيّة، سواء أكانت بالوكالة، أو بالأصالة، قبضاً، أو إقباضاً، في الحقير أو في اليسير، نذراً كانت، أو إقراراً، مميّزاً كان الصبي، أو غير مميز.. وقد فرّع الإماميّة على ذلك فروعاً، فيها دقّة وعمق ذكرها العلامة الحلّي في التذكرة، منها:.. (وبعد سرد مجموعة من القضايا الفقهيّة هنا يقول مغنيّة:).. هذا ما قاله الإماميّة، أمّا الذي نراه نحن فهو: إذا علمنا علم اليقين بأنّ هذا التصرّف الذي صدر من الصبيّ المميّز هو في مصلحته مائة بالمئة، وجب على الوليّ أن يقرّه عليه، ولا يجوز له أن يُبطلَه، بخاصّة إذا كان في إبطاله ضررٌ على الطفل. أمّا الأدلّة العامّة الدالّة على بطلان تصرّف الصبيّ، فإنّها منصرفة عن هذه الحال، أو أنّ هذه الحال مخصّصة لتلك العمومات؛ ذلك أنّا على يقين من أنّ مقاصد الشريعة هي المصلحة، ومتى علمنا بوجود المصلحة وجب الأخذ بها، تماماً كمفهوم الأوليّة (الأولويّة)، والأقيسة القطعيّة. وليس هذا اجتهاداً في قبال النص، بل هو عملٌ بالنصّ؛ إذ العلم بالمقصد الشرعي تماماً كالعلم بالنصّ، إذا لم يكن هو بالذات. ولو أخذنا بقول الإماميّة والشافعيّة لكانت المكافأة كالساعة ـ مثلاً ـ تهديها المدرسة للطالب المتفوّق، في غير محلّها. وإذا قبضها الطالب غير البالغ فلا يملكها، وهذا يتنافى مع الفطرة، وما عليه العقلاء والأديان والمذاهب»([8]).
إنّ مغنيّة هنا يُقحم المقصد المصلحي من وراء المواقف الكامنة في قوانين الحجر على الصبي لكي يقوم بتقييد النصوص أو تغيير مفاداتها ودلالاتها، وهذا نوعٌ من فهم النصّ من خلال سياقه المقصدي وغاياته الميدانيّة ربما يختلف تماماً عن السائد إماميّاً.
2 ـ لدى شروعه في بحث طهارة أهل الكتاب، وذكره المواقف في ذلك، يقول: «وأحدث القول بنجاسة أهل الكتاب مشكلة اجتماعيّة للشيعة، حيث أوجد هوّةً سحيقة عميقة بينهم وبين غيرهم، وأوقعهم في ضيق وشدّة، بخاصّة إذا سافروا إلى بلد مسيحي كالغرب، أو كان فيه مسيحيّون كلبنان، وبوجه أخصّ في هذا العصر الذي أصبحت فيه الكرة الأرضيّة كالبيت الواحد، تسكنه الأسرة البشريّة جمعاء. وليس من شك أنّ القول بالطهارة يتفق مع مقاصد الشريعة الإسلاميّة السهلة السمحة، وأنّ القائل بها لا يحتاج إلى دليل؛ لأنّها وفق الأصل الشرعي والعقلي والعرفي والطبيعي، أمّا القائل بالنجاسة فعليه الإثبات (إلى أن قال بعد مناقشة أدلّة النجاسة:).. وعليه فلا دليل على النجاسة من نصّ ولا إجماع ولا عقل. وما زلت أذكر أنّ الأستاذ قال في الدرس ما نصّه بالحرف: «إنّ أهل الكتاب طاهرون علميّاً ـ أي نظريّاً ـ نجسون عمليّاً». وأني أجبته بالحرف أيضاً: «هذا اعتراف صريح بأنّ الحكم بالنجاسة عملٌ بلا علم». فضحك الأستاذ ورفاق الصفّ، وانتهى كلّ شيء. وقد عاصرتُ ثلاثة مراجع كبار من أهل الفتيا والتقليد، الأوّل كان في النجف الأشرف، وهو الشيخ محمد رضا آل يس، والثاني في قم، وهو السيد صدر الدين الصدر، والثالث في لبنان، وهو السيد محسن الأمين، وقد أفتوا جميعاً بالطهارة، وأسرّوا بذلك إلى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفاً من المهوّشين، على أنّ يس كان أجرأ الجميع. وأنا على يقين بأنّ كثيراً من فقهاء اليوم والأمس يقولون بالطهارة، ولكنّهم يخشون أهل الجهل، والله أحقّ أن يخشوه»([9]).
فلاحظ كيف أنّ اتساق الطهارة مع مقاصد الشريعة السهلة كان مرجّحاً عند مغنيّة في الحكم بالطهارة، وليس المرجّح فقط هو أصالة الطهارة. وهذا النصّ الذي نقلناه يؤكّد ما قلناه سابقاً حول جرأة مغنيّة النقديّة من جهة وتفكيره العملاني من جهة ثانية.
3 ـ في سياق بحثه عن تصحيح بيوع المضطرّ، قال من جملة الأدلّة: «ثانياً: إنّ أحكام الشريعة الإسلاميّة ترتكز على التوسعة، وعدم الحرج والضيق، ولو قلنا بفساد بيع المضطر الذي ألجأته ظروفه إليه للزم بقاؤه فيما هو أشدّ ضيقاً وحرجاً، ويتنافى هذا مع مقاصد الشريعة السمحة..»([10]).
4 ـ وفي سياق إثباته خيار الغبن، يقول: «وإن شككنا في شيءٍ فلسنا نشكّ في ثبوت هذا الخيار، لما ذكره هذا السيّد (يقصد السيّد اليزدي)، ولأنّه يتفّق كلّ الاتفاق مع مقاصد الشريعة السمحة الغراء، ومبدأ العدالة؛ ولذا أقرّته الشرائع الوضعيّة»([11]).
إنّه هنا يقحم مبدأ العدالة وسيلةً في الاستنباط الشرعي وكذلك مقاصد الشريعة.
5 ـ وقال بعد ذكره بعض أدلّة المحقّق النجفي على جواز الجهل بالمتصالح عليه: «وهذا الجواب قريبٌ إلى مقاصد الشريعة؛ لأنّ الصلح مبنيّ على التساهل والتسامح، وتنازل المحقّ عن بعض ما يستحقّ. فكما لا يشترط في الإسقاط والإبراء أن يكون الحقّ معلوماً، فكذلك الأمر في الصلح. هذا، إلى أنّ الصلح لو لم يجز مع الجهل بالمتنازع فيه لامتنعت أكثر فوائده»([12]).
فلنلاحظ كيف أنّه يرجّح فتوى على اُخرى بتبع قربها من المقاصد الشرعيّة العامّة التي منها مقصد السهولة والسماحة.
6 ـ وفي حديثه عن السبق في غير ما ورد في النصوص من الخفّ والحافر وأمثالهما، كالمسابقة بالأسلحة الحديثة وغيرها، يقول: «وبتعبيرٍ ثانٍ: إنّه لا اعتبار بالحافر والخفّ والنصل، وإنّما الاعتبار بالسلاح المعروف المتداول، والرسول الأعظم‘ إنّما ذكر هذه الثلاثة؛ لأنّها السلاح المعروف دون غيرها في عصره. وليس هذا اجتهاداً منّا في قبال النص، وإنّما هو اجتهادٌ صحيح ومركّز في تفسير النص يتفق كلّ الاتفاق مع مقاصد الشريعة السمحة الغراء..»([13]).
7 ـ في بحثه حول الاحتكار، وبعد أن يثبت حرمته بتوليفة من الأدلّة النصيّة والعقليّة مستخدماً قاعدة لا ضرر، وكذلك قاعدة دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، وقاعدة الأهمّ مقدّم على المهم، وأنّ التجارب والأيام أثبتت أنّ الاحتكار سبب تامّ للاستعمار والحروب، واستعباد الشعوب، وإزهاق الأرواح بالملايين، وإشاعة الرعب والخوف في النفوس، واختلال الأمن والنظام، والكذب والتزوير، والافتراء على الأبرياء، وإيقاظ الفتن، وبث النعرات الطائفيّة، والتفرقة العنصريّة، ولسيطرة السفلة والخونة، وتحكّمهم بالبلاد والعباد، ولتحريف الشريعة، وإدخال البدع في الدين، وإظهار الإسلام والمسلمين بأقبح الصور عن طريق المستأجرين والانتهازيين الذين اندسوا بين المعمّمين. وأيضاً الاحتكار سبب لإنفاق المقدّرات والأقوات على آلات الخراب والدمار، وحرمان المعوزين من أشياء الحياة وأسبابها..
وبعد هذه المقاربات العقلانيّة العملانيّة المقصديّة داخل بحث فقهي مدرسي بطريقة غير مألوفة، يقول معلّقاً على حصر الاحتكار بأمور معدودة: «والحقّ أنّ الاحتكار حرام من حيث هو، كمبدأ عام وقاعدة كليّة، تماماً كالربا، لا لشيء إلا لمجرّد حاجة الناس إلى الشيء المحتكر، سواء أبلغت الحاجة حدّ الضرورة، أم لم تبلغ هذا الحد، أمّا ذكر الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والزيت في بعض روايات أهل البيت عليهم السّلام فإنه منزل على الغالب، وشدّة الحاجة إلى هذه في ذلك العصر، ولا يصلح ذكرها أبداً لتقييد القاعدة العامة التي ثبتت بالأدلّة القطعيّة المشار إلى طرف منها آنفاً.. ونقول نحن للفقهاء الذين خصّصوا تحريم الاحتكار بالحنطة والشعير والتمر والزبيب، نقول لهم: يلزمكم على هذا أنّ احتكار النفط والكهرباء غير محرّم، مع العلم بأنّ الحياة اليوم تستحيل بدونهما.. ثمّ أيّ ضرر اليوم في احتكار التمر والزبيب؟ وأعتقد أنّ المستعمر لو اطّلع على هذه الفتوى لركع وسجد، وكتبها بأحرف من نور، وأشاعها وأذاعها في كلّ قطر، ما دامت تحرم عليه احتكار التمر والزبيب، وتبيح له احتكار الحديد والفولاذ، والذهب الأسود والأصفر. وبالتالي، فإنّ الجمود على حرفيّة النصّ في مثل هذه الموارد هو طعنٌ في الدين وشريعة سيّد المرسلين»([14]).
8 ـ وفي حديثه عن شرط الكفاءة في النكاح من الحريّة والنسب والحرفة وغير ذلك، قال: «إنّ شرط الكفاءة في الزواج لا يتلاءم مع نصّ القرآن: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ ا للهِ أَتْقاكُمْ)، ومع مبادئ الإسلام «لا فضل لعربيّ على عجمي إلا بالتقوى»، ومع سنّة الرسول‘ حيث..»([15]).
وبهذا فهو يرفض هذا الشرط انطلاقاً من عرض الفتوى على القرآن عرضاً روحيّاً مضمونيّاً وكذلك من عرضها على القيم والمبادئ الإسلاميّة.
كيف قرأ محمّد باقر الصدر متحمّساً تجربة الفهم الاجتماعي للنص عند مغنيّة؟
يبدي السيّد محمّد باقر الصدر في مقال له نشر في مجلّة «رسالة الإسلام» عام 1967م، إعجابه الشديد بالشيخ مغنيّة وهو يدرس كتابه «فقه الإمام جعفر الصادق»، فيفتتح مقاله القصير بقوله: «أكبر الظنّ أنّها أوّل مرّة أقرأ فيها لفقيهٍ إسلامي، من مدرسة الإمام الصادق×، أوسع نظريّة لعنصر الفهم الاجتماعيّ للنص، يعالج فيها بدقّة وعمق الفرق بين المدلول اللغوي ـ اللفظي للنص، والمدلول الاجتماعي، ويحدّد للمدلول الاجتماعي حدوده المشروعة.. كانت هذه المرّة الأولى التي قرأت فيها ذلك عن عنصر الفهم الاجتماعي للنصّ، هي حين قرأت بعض أجزاء الكتاب المجدّد الخالد «فقه الصادق» الذي وضعه شيخنا الحجّة الكبير الشيخ محمد جواد مغنيّة، الذي حصل الفقه الجعفريّ على يده في هذا الكتاب المبدع على صورة رائعة في الأسلوب والتعبير والبيان. فقد قرأت في هذا الكتاب الجليل التأكيد على عنصر الجانب الاجتماعي من فهم الدليل والتمييز بينه وبين الجانب اللفظي الخالص في مواضع عديدة منه..»([16]).
الفكرة المركزيّة المشتركة هنا بين مغنية والصدر هي السؤال الذي يطرحه الصدر نفسه: هل يصل الشخص الذي يحاول فهم النصّ إلى المعنى النهائي له بكلّ حدوده، إذا أحصى الدلالات اللفظيّة من وضعيّة وسياقيّة، واستوعب المعطى اللغوي للنصّ؟
إنّ الصدر يدافع عن الفهم الاجتماعي للنصّ زائداً عن الفهم اللغوي المعجمي والسياقي اللفظي؛ لأنّه يعتبر أنّ الحياة الاجتماعيّة تكوّن خبرة مشتركة وذهنيّة موحّدة تشكّل أساساً لمرتكزات عامّة وذوق مشترك في مجالات عديدة بما فيها المجال التشريعي والتقنيني، والمرتكزات العامّة والذوق المشترك في المجال التشريعي والتقنيني هو ما يطلق عليه الفقهاء في الفقه اسم مناسبات الحكم والموضوع.
فالصدر يريد استخدام مصطلح «مناسبات الحكم والموضوع» لاعتبارها أساساً في حجيّة الفهم الاجتماعي بتحويله عنده إلى نمط ارتكازي تشريعي عام يسمح للفقيه بالتعدّي عن حرفيّة النصّ، فالفهم الاجتماعي للنصّ معناه فهم النصّ على ضوء ارتكاز عامّ يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرة عامّة وذوق موحّد، وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنصّ الذي يعني تحديد الدلالات الوضعيّة والسياقيّة للكلام، ولهذا فهو مرحلة تالية عند الصدر تتلو المعرفة اللفظية الكلاميّة المعجميّة([17]).
من هنا يدهشنا الصدر في دفاعه عن محور الطرح الذي يقدّمه مغنيّة، وهو التمييز بين العبادات والمعاملات، مما أشرنا إليه في القسم الأصولي العام عند مغنيّة. وطريقة دفاع الصدر تقوم على أنّ العبادات أمور غيبيّة غير خاضعة لنظام المرتكزات الاجتماعية الخبرويّة عند البشر، لهذا يصعب فيها ممارسة قانون مناسبات الحكم والموضوع، بينما لو ارتبط النصّ بمجال حياتي اجتماعي فإنّ الوعي الاجتماعي الارتكازي البشري يصبح فاعلاً متصلاً بالنصّ يحدّد دلالته ويمنحها معنى مختلفاً، وبهذا يؤكّد الصدر على أنّ حجيّة الفهم الاجتماعي للنصّ ترجع لحجيّة الظهور؛ لأنّه يحيله إلى ارتكاز، والارتكازات قرائن سياقيّة، أو فلنقل بأنّ هذه الارتكازات جزء من عمليّة الفهم عند العقلاء، والشارع أمضاها، وبهذا تختلف عمليّة الفهم الاجتماعي عن عمليّة القياس الذي يتعدّى فيه القائس حدود النصّ أيضاً؛ لأنّ الفهم الاجتماعي هو تفسير للنصّ، أمّا القياس فليس كذلك([18]).
إنّ الصدر يصرّح بأنّه يتكلّم عن الفهم الاجتماعي للنصّ بتحفّظ، ويعتبر أنّنا لو تخلّينا عن هذا الفهم فسوف تنحصر أغلب الأدلّة بخصوصيات سابقة؛ لأنّ أغلب اجتهاداتنا مرجعها إلى أسئلة محدّدة من سائلين محدّدين وظروف سابقة، فالتعدّي قدرٌ لابدّ منه لفهم مراد المتكلّم، ونظريّة الفهم الاجتماعي تؤمّن ذلك([19]).
إنّ الصدر في هذا الكلام يحاول تبرير سلوك مغنيّة المتعدّي عن النصوص والمتحرّر من حرفيّاتها، ويسلك لذلك طريق الدلالة، بمعنى أنّه يحاول تبرير الموقف من داخل أنظمة الاجتهاد الكلاسيكيّة شيعيّاً بلفت نظرها إلى عنصر ربما يغيب عنها أحياناً، وهذا العنصر هو مناسبة الحكم والموضوع، وهو مصطلح لم يستخدم في الأدبيّات الفقهيّة الشيعية سوى منذ حوالي القرنين من الزمان لا أكثر، لكنّ مفرداته التطبيقيّة حاضرة قبل ذلك، وقد سبق أن صرّح بها بوضوح الوحيد البهبهاني (1205هـ)، وسؤالي هنا هو: ما الفرق بين مغنيّة والمشهور إذا كانت المرجعيّة واحدة، وهي مناسبات الحكم والموضوع والقاعدة التقليدية في التعدّي عن النصّ والتي بدأت بالتطبيق والممارسة منذ عصر الطوسي، بل قبله؟ لماذا بدا الصدر متحفّظاً إذاً؟!
إنّني أعتقد بأنّ الصدر شعر بأنّ تجربة مغنيّة تبدو غير مألوفة كثيراً؛ فأراد أن يعيد إنتاجها نظريّاً من داخل النظام الاجتهادي المدرسي، بواسطة خلع صفة «مناسبات الحكم والموضوع» عليها، أو بواسطة جعلها نظاماً دلاليّاً أو غير ذلك من التعابير، فالقضيّة تكمن في حجم الاُنس بالتطبيقات، وشعور المشهور بأنّ تطبيقات أمثال مغنيّة ربما تبدو غريبة عن نظامهم الاجتهادي، فيما يريد الصدر أن يُفهمهم أنّها ليست خارج السياق، بل هي داخله، لكنّنا بحاجة لمزيد من الوعي الاجتماعي للنصّ كي نتوصّل لما توصّل إليه مغنيّة.
إنّ الصدر المعجَب بالفهم الاجتماعي للنصّ عند مغنيّة قد أكثر في بحوثه الفقهيّة من استخدام مفردة «مناسبات الحكم والموضوع» وأمثالها، بل أقحمها في بعض كتبه الأصوليّة كالحلقات (دروس في علم الأصول)، دليلاً على اهتمامه بها، دون أن يستخدم مفردات الفهم الاجتماعي وأمثالها، إذ هي مفردات قد لا تكون مألوفة في الوسط المدرسي، ومع ذلك فإنّ حجم اقتراب الصدر من طريقة تفكير مغنية ظلّ محدوداً نسبيّاً لو تركنا مثل كتاب «اقتصادنا».
مغنيّة بين «مناسبات الحكم والموضوع» و «كشف الملاكات»
وأعتقد بأنّ نقطة تحوّل مغنيّة ليست في مناسبات الحكم والموضوع فقط، فهذه الفكرة قد يكون لها بعض الدور في اجتهاداته، لكن ليس بإمكانها تفسير الموقف كلّه، خاصّة وأنّ فكرة مناسبات الحكم والموضوع تجري في بعض العبادات أيضاً لو فهمناها بالطريقة المدرسيّة، بينما نقطة ارتكاز الصدر كانت على التمييز بين العبادات والمعاملات!
إنّ الأمر الآخر الذي يمثل علامة فارقة عند مغنيّة في تقديري، هو جرأته النظريّة والتطبيقيّة على زعم اكتشاف الملاكات والمصالح وضرورة مراعاتها في غير العبادات، أي وعيه المقاصدي، وهي عمليّة نادراً ما كنّا نجدها حتى عند السيد الصدر نفسه، ولعلّ الصدر لا يوافقه عليها لهذا لم يرصدها في مقاله هذا.
___________________________
([1]) نشر هذا المقال ـ بوصفه كلمة التحرير ـ في العدد 51 ـ 52، من مجلّة الاجتهاد والتجديد، في بيروت، لبنان، صيف وخريف عام 2019م.
([2]) انظر: محمد جواد مغنيّة، فقه الإمام جعفر الصادق× 1: 32، نشر دار الجواد، بيروت 1965م.
([3]) انظر: مغنيّة، الإسلام بنظرة عصريّة: 33، 135.
([4]) فقه الإمام جعفر الصادق 3: 157.
([5]) المصدر نفسه 1: 136، 252، و2: 17، 70، و6: 194، 367.
([6]) المصدر نفسه 3: 160 ـ 161.
([8]) مغنيّة، الفقه على المذاهب الخمسة 2: 631، 633.
([9]) فقه الإمام جعفر الصادق 1: 31، 32 ـ 33.
([11]) المصدر نفسه 3: 190 ـ 191.
([12]) المصدر نفسه 4: 88 ـ 89.
([13]) المصدر نفسه 4: 235 ـ 236.
([14]) انظر: المصدر نفسه 3: 141 ـ 145.
([15]) الفقه على المذاهب الخمسة 2: 326 ـ 327.
([16]) الصدر، الفهم الاجتماعي للنصّ في فقه الإمام الصادق، موسوعة الإمام الشهيد الصدر 17: 185 ـ 186.
([17]) انظر: المصدر نفسه 17: 188 ـ 190.