أحدث المقالات

(المادة الرابعة من الدستور الإيراني)

أ. عبد العالي العبدوني(*)

مدخل

يتم التعامل مع النصوص الدستورية في كثير من الأحيان كما لو أنها أجسام علائمية ذات معنى واحد ومنفرد، ولا تقبل بالانجرار إلى تكثر المعنى، أو حتى تجاوزها إلى معانٍ خارج هذا الجسم. وعلى هذا الأساس يتم التركيز على الآلية التفسيرية كآلية معرفية لفهم النص الدستوري.

لذلك لم يكن من المستغرب أن نجد معظم الدساتير تنص على التفسير كمقتضى معرفي للتعامل مع الخطاب الدستوري المنظَّم والموضب داخل كتاب يحمل بين دفتيه القانون الأسمى والأساسي لأية منظومة سياسية مدسترة.

لكن هذه الآلية ـ أي التفسير ـ كثيراً ما شكلت عامل عرقلة وفرملة لعملية التعامل مع النص، مما حدا بالكثير من الفاعلين السياسيين إلى السعي إلى إجراء تعديل دستوري يتفق والظرفية السياسية ذات الأثر الإستراتيجي، مما يجعل  الدساتير الصلبة لا تقل مرونة عن غيرها من الدساتير المرنة التي تتعايش في إطار العرف والمعمول به.

والدستور الإيراني لا يشذّ عن هذه القاعدة، حيث جعل لنفسه موطىء قدم تتسم بالصلابة، وارتأى تبني الآلية التفسيرية كعملية مفاهيمية وفهمية للنص الدستوري، إلا أن الجمهورية الإسلامية ـ وكغيرها من المنظومات السياسية العالمية ـ تعايش ظروفاً سياسية ذات أثر إستراتيجي لا ينكر، مما يجعل عملية صيانة الدستور ورقابة دستورية القوانين تقع في أزمة في ظل آلية التفسير، وخصوصاً إذا علمنا بأن التفسير يظل مرحلة أساسية عند عملية البت في دستورية القانون وعدمها، فهي مرحلة فكرية لا محيص عنها. وعلى هذا الأساس يمكننا أن نستوعب مدى الخطورة التي يمكن أن تمر بها نصوص قانونية حاملة للنفع العام أمام عيون تفسيرية لا ترى قداسة إلا لما هو متبادر من النصوص الدستورية، مما يحكم على هذه القوانين بالإلغاء؛ لعدم دستوريتها ظاهراً. ولإحساسنا بحساسية هكذا مواقف قضائية ارتأينا أن ندلي بدلونا في موضوع هام جدّاً، محاولين توسيع دائرة الفهم، لتتجاوز التفسير إلى أفق التأويل.

فالتفسير بالمعنى المتداول والمتبادر في نفس الآن قد يتحول إلى مسمار في نعش جزئية دستورية معينة، وبدلاً من أن يساعد على إحياء النص الدستوري يكون مبرِّراً لدفع النظام السياسي وفاعليه إلى العمل على إجراء تعديل دستوري يحفظ فلسفة الدستور.

لذلك لم نرَ بأساً في وصف آلية التفسير بمضيق جغرافي تعيش تحت رحمته التخوم النصية، وقد تؤدي إلى هدم بعضه وخلق تخوم جديدة. ورب قائل بأن هذه الآلية تشكل ضمانة للجميع من تعسف البعض في فهم الدستور، وترتيب آثار خطيرة على هذا الفهم. لكن ما لا يختلف فيه اثنان أن الشرح على المتون كتقنية فهمية قانونية كانت ولا زالت تشكل أزمة فهمية تتناقض والمساحة التي يتحكم فيها الدستور، والتي لا تشمل الكيلومترات (مناط السيادة السياسية)، بل تتحرك حتى في الزمان (عمر السيادة السياسية)، وإلا لما كان ضرورياً التفكير في السماح بإجراء تعديلات على الدستور؛ لوصفه بالمرونة الأقلية.

أما التأويل كآلية فهمية انفتاحية على النص فنجدها تتجاوز هذه التخوم العلائمية، لتعيد بناء النص وفق السياق والآفاق المرادة له. وبالتالي فهي كتقنية منضبطة واقعاً، تجعل النص يعيش زمنه وفق أكمل الصور المتصورة.

وهكذا تقنية تظل ضرورية للنص الدستوري بغضّ النظر عن هويته، ما دام هذا النص أراد لنفسه أن يتمدَّد في الزمان، ليشكل ضابطة عامة للحراك السياسي والقانوني للبلد الذي يحيا فيه. وما سوف نقوم به في هذا البحث هو بسط وجهة نظرنا لعملية التأويل (العنوان الأول)، قبل انتقالنا لمناقشة جنبة تطبيقية تهمّ المادة الرابعة من الدستور الإيراني (العنوان الثاني).

1ـ الهرمنوطيقا الأوسطية كمدماك فهمي

إننا نجد التأويل ـ بوصفه جهداً معرفياً ـ حاملاً لمبانٍ فكرية تسمح بتجاوز سقف جغرافية النص؛ لبحث ملاكاته واستخراجها. وهي عملية تثويرية لعملية الفهم، بوصفها لا تتوقف عند المتبادر، ولا عند المعنى المراد من صاحب النص، ما دامت هذه العملية تشكِّل في حد ذاتها محاولة استيعاب، مع السعي إلى الإسقاط.

المتلقي للنص عندما يفهمه بالشكل الذي يرضيه، مدعياً في نفس الآن التفسير، تجده يسارع إلى القول بأن هذا هو المقصود، مسقطاً فهمه على صاحب النص. وقد يكون الأمر مجرد تعسُّف من جانبه، ومغلقاً في نفس الوقت الباب على كل محاولة رامية إلى سلوك مسطرة فهمية مخالفة.

فثنائية فرض الفهم الذاتي والإغلاق على الآخرين هي من أقصى المخاطر التي يمكن أن يعانيها النص الدستوري، الذي يتحرك بطبيعته في وسط لجّيّ سياسي وعام.

فما المقصود بالتأويل في هذا الباب؟ وما هي الضمانات التي يمكن أن تمنحها هكذا آلية؟

في الحقيقة لا نجد أنفسنا في مقام تبيان تفاصيل جهاز التأويلية كما ظهر في الفلسفة الغربية، بل سنكتفي بالدفاع عن تصوُّرنا الخاص، والذي أسميناه بالهرمنوطيقا الأوسطية([1]).

وهي على العموم مؤسَّسةٌ على مدماك أساسي، رأيته متحيزاً في الذات العارفة المتجوهرة، بحيث إن الذات العارفة بعد أن تتخلص من مجموعة من الأخلاط المعرفية الدائرة بوسطها، وتعمل على البحث في التجوهر الذاتي، أي بضمان تراتبية الروح على المادة، فإن هذه الذات تنقلب من مقدمة مادية، مدخولة بالرغبات المؤصلة إنسانياً، إلى مقدمة روحية ضامنة للانعكاسية الكاملة للوسط الفكري الذي تتحرك فيه.

وبمعنى آخر: إن الرؤية للكون تكون على الحقيقة، وليس على الظاهر، كما هو واقعٌ الآن، وهي نظرية فصَّلتُ مبادئها وأسسها، بل حتى إثباتاتها، وعملتُ على تطبيقها على النص القرآني في حيثيات معينة ضمن كتاب «هرمنوطيقا القرآن مقدمة تأسيسية»([2]). ورب متسائل عن أهمية هكذا منهجية في موضوعة تفسير النص الدستوري؟ بل هل تظل ممكنة من الأساس، أم ننتظر أن ننجز دورة روحية مادية للساهرين على معاينة دستورية القوانين، وتبقى الأمور عالقة إلى ذلك الحين؟

وجواباً عن هكذا تساؤلات، والتي تظل مشروعة، فإنّه يتم عملياً التحرك في هذا الاتجاه من قبل مجموعة من الفقهاء الدستوريين، حيث إنهم يحاولون تجاوز جسم النص لمراجعة الآراء الفقهية، والإمساك بالحكمة الدستورية من خلال زخم هذه الآراء. فضلاً عن أنهم لا يرون ضيراً في اللجوء إلى الهرمنوطيقا كآلية لفهم النص الدستوري؛ ذلك أن الفقيه الدستوري فيليب أردنت دافع عن هذه الآلية، من خلال تبنيه لمجمل ثمار الهرمنوطيقا الفلسفية؛ ذلك أن هذه العملية هي من عناوين الفلسفة التأملية التي طوَّرها جبرئيل مارسيل، وذهب على خطاه پول ريكور، حيث يرون أن حقيقة الأشياء لا تظهر فيها بالذات بقدر ما تستوعب من مخالفها. ومن هنا جاءت المقولة «تعرف الأشياء بأضدادها». لكن الفلسفة الانعكاسية تكون رامية إلى أبعد من ذلك. على أن حقيقة الشيء تظهر في تراتبية الأشياء المتجاورة معها، ومن خلال هذه المراجعة لكلية الأشياء تحصل معرفة انعكاسية توصل المرء إلى جوهر الشيء المبحوث عنه أساساً.

ويمكن على مستوى فهم النص الدستوري المتعلِّق بفصل السلطات مثلاً أن يتوسع في عملية مراجعته؛ للوصول للأشياء الدستورية المجاورة له، كبحث السلطة التنفيذية وآلية اتخاذ قرار الحرب، ليستوعب من خلالها تفاصيل السيادة والسلطة، ثم بعدها يعود إلى أصل الإشكالية، فيفهم ملاك الفصل بين السلطات، والتي بالضرورة لا تكون متفقة مع المنظور الأصلي لها عند مونتسكيو.

لكن الفارق البسيط الذي نريد أن نضيفه لهذه الجنبة هو أن حركة فهم النص الدستوري لا تتحرك على مستوى النص المفتوح، كما اشتغل عليه أمبرتو إيكو، لكن على أساس النص المتعالي. ويظل من الطريف أنني مؤخَّراً وقعت على معلومة أن هناك ندوات تنعقد، وكتباً تُحرَّر، لاستيعاب النظرية السياسية في الحكمة المتعالية. فمن التوفيق الإلهي أن نجد هاجساً كهذا موجوداً عند الأطر المعرفية في الجمهورية الإسلامية في إيران، وهو هاجسٌ يتقاطع مع هاجسي، رغم البون الجغرافي، واختلاف المداميك الفكرية التي تحرك الإنسان في بيئة يُراد لها أن تظل جغرافية فكرية مختلفة عن غيرها من الجغرافيات.

فلو تفحّصنا المقاربة الفلسفية السياسية عند الملا صدرا فسوف نجد أنه أوضح مقام الرياسة السياسية، جاعلاً إياها في إطار أن «يكون ذلك الإنسان إنساناً قد استكملت نفسه، وصارت عقلاً بالفعل، وقد استكملت قوته المتخيلة بالطبع غاية الكمال، وكذا قوته الحسّاسة والمحركة في غاية الكمال كلها، بنوع فعل، لا بانفعال محض، على الوجه الذي أومأنا إليه. فبقوته الحساسة والمحركة يباشر السلطنة، ويجري الأحكام الإلهية، ويحارب أعداء الله، ويذب عن المدينة الفاضلة، ويقاتل المشركين والفاسقين من أهل المدينة الجاهلية والظالمة والفاسقة؛ ليفيئوا إلى أمر الله. وبقوته المتخيلة معدٌّ بالطبع ليقبل ـ إما في اليقظة، أو في وقت النوم ـ عن العقل الفعال، إما الجزئيات بأنفسها، وإما الكليات فيحاكيها. وبقوته العاقلة يكون بحيث قد استكمل عقله المنفعل بالمعقولات، حتى لا يكون قد بقي عليه منها شيء، وصار عقلاً بالفعل»([3]). فالسقف المتعالي الذي أراده صدر المتألهين الشيرازي يتفق مع الرؤية المتبناة من طرفنا، مع فارق بسيط، وهو أننا لا نحاكي العصمة التي يؤكد عليها الفيلسوف، ولا نراها شرط صحة في تدبير الشأن العام، وبالتالي فإننا بالضرورة نتنزل في المقام للبحث في المعقولات المتركِّبة، والوقائع الخارجية، مع الاتحاد في الإيمان، بوصفه الضمانة الوحيدة لتكامل الرؤى الوجودية.

ونعود لموضوع البحث؛ كي نكون عمليين أكثر. فكيفية استفهام النص الدستوري لا يجب أن تتوقف عند البعد الخطابي والبعد الماورائي له، أي السياق والملاك والحكمة من صدوره، كما تشتغل على ذلك المنهجية الأفهومية، بل المراد من الهرمنوطيقا الأوسطية في تفصيلة فهم النص الدستوري أنها تتجاوز حتّى السياق، لتتعالى في استيعاب المؤسسات المفاهيمية بالشكل المراد لها، ثم تنزل إلى مستوى التشخيص؛ لتستوعب الأثر الوجودي لمضمنات النص الدستوري. وسوف نرجئ بحث هذا المصداق ضمن العنوان الثاني من البحث.

فدينامية الهرمنوطيقا الأوسطية ترتكز على مستوى إيماني رأسي. وعلى أساسه تنظر برؤية توحيدية للكون لتستفهمه بالعنوان الإيماني. فالدائرة الهرمنوطيقية الأوسطية تقوم على أساس أن الذات العارفة بمسبقاتها الوجودية العميقة تكون هي المبتدأ، وهي المنتهى.

مسبقات معرفية وجودية تتعامل مع الظهور المعنوي البدوي، ثم تنقحه داخلياً لتجد لها مستندات معرفية ثانوية، روائية أو عقلية، حتى لتذهب بالمعنى بعيداً عن المتبادر، والتي تستوطن الأداة المعرفية الوجودية للذات العارفة. وهذه المستندات لا تكون لها قوة صارفة عن الظاهر، إلا بما تسمح لها به المسبقات المعرفية الوجودية للذات العارفة.

فالدوران عِلِّيٌّ، والبرهان إِنِّي بين الذات والواقع في مقام الفهم.

2ـ قراءة هرمنوطيقية للمادة الرابعة من الدستور الإيراني

بعد أن تم بيان مقتضيات ومتبنيات الفكرة الهرمنوطيقية الأوسطية، التي تم الإشارة إليها أعلاه، فإنه يظل من المناسب الانتقال إلى مستوى آخر من البحث، حيث الجنبة التطبيقية تظل مهمة جدّاً، لتفعيل ما سبق الإلماح إليه سابقاً.

ولو عمدنا إلى مراجعة مقتضيات المادة الرابعة من دستور الجمهورية الإسلامية في إيران فإننا نجدها تشكل تربة مفاهيمية ومعرفية غنية جدّاً لهكذا عملية تفعيل.

تنص المادة الرابعة من الدستور على أنه «يجب أن تكون الموازين الإسلامية أساس جميع القوانين والقرارات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها. هذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين والقرارات الأخرى، إطلاقاً وعموماً. ويتولى الفقهاء في مجلس صيانة الدستور تشخيص ذلك». فالواضح بدواً من هذه المادة أن الموازين الإسلامية هي المتحكمة في الجسم التشريعي في الجمهورية، مشكِّلةً الروح الكاشفة والمؤسسة في نفس الآن لحركة التشريع.

إلا أنه؛ ولسبب نجهله، لم يتم التعامل مع هذه المادة بالشكل الذي يليق بها([4])، وخصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار محوريتها في إيضاح الترسيمة القانونية العامة للبلد، وظل التعامل مع هذه المادة يتّسم بشيء من التساهل، والخروج من بوتقتها، للتحدث عن شمولية الإسلام، وتغطيته لمعظم تفاصيل الحياة البشرية.

وقد كان الشيخ محمد علي التسخيري على رأس مَنْ تعاملوا مع هذه المادة بهذه الكيفية؛ ذلك أنه لم يستوعب من هذا النص إلا الشمولية الإسلامية لمجمل حياة الإنسان([5])، ولعلّه لم يختلف عن الكثيرين ممَّن أوضحوا أراءهم بهذا الخصوص.

لكن لو أردنا أن نطبق الهرمنوطيقا الأوسطية لوجدنا أنفسنا نفكك المفاهيم الأساسية في المادة بشكل متعالٍ أو لنقل: سقفاً معرفياً خارجياً متخلصاً من الدعامات الخصوصية، بعدها ننزل للمستوى الأفهومي، حيث يشكِّل الملاك والحكمة هذه الدعامة المائزة، حتى نستطيع فهم المراد من هذه المادة.

ولنأخذ مفهوم «الموازين الإسلامية». فالملاحِظ لهذا المفهوم سوف يرى أنه تمت الإشارة إلى الموازين، وليس إلى الشريعة الإسلامية، كما يقع في العادة.

فما هو سر اختيار هذا المفهوم؟ وما هو معنى الموازين الإسلامية؟

في الحقيقة يصعب على الكثيرين التحرك مفاهيمياً لاستيعاب هذا المصطلح، إلا ببحث المقارنة. فالميزان لا يحمل هاجساً معرفياً بقدر ما أنه يوازن بين معرفيات معينة، وتميل كفته للأثقل.

وإذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار الضميمة لقلنا بأن الميزان الإسلامي آلية فارغة من المحتوى المعرفي، تميل للجهة الأثقل في المعرفيات الموضوعة للوزن، لكن هذا يظل ممتنعاً من جهة أن إضافة الضميمة إضافة لمحتوى معرفي، والميزان ـ كما سبق وقلنا ـ يكون محروماً من هكذا محتويات، فكل ما يلزمه سلامة أدواته، لا أقل ولا أكثر، مما يجعل المراد من مفهوم «الموازين الإسلامية» ذاهبة للمعرفيات موضوع الوزن، وليس نفس الآلية.

وهنا المعضلة، وهي أنه على مستوى الآليات العقلية ليس ثمة مائز ديني يخصها، إلا في مقام التشخيص. بمعنى أن الحسن والقبح العقليين يظلان إنسانيين بالضرورة، دون النظر إلى الأساس الديني لها.

فالمقاربة الموازنية الإسلامية تدور وجوباً مع الخط النفعي الخادم للمصلحة في المجتمع الإيراني، بمعنى أن المسألة ليست متعلِّقة بالمطلق بالأحكام الشرعية ذات الوزن المعياري، والمسمّاة الأحكام الشرعية الأولية، بل والثانوية، بل إن الموازين تكون أميل للبعد الواقعي الفارض نفسه بقوة أمام غياب حكم شرعي فيصل في المسألة، وخصوصاً أن الحركة التشريعية كثيراً ما تكون مرتهنة بالواقع، ويقوم عليها ـ بالإضافة إلى الفقهاء والعلماء ـ رجال أكاديميون شربوا المعرفة القانونية من الضرع الوضعي الذي استحكم في هذا المجال، حتى صار من الصعب التفكير من خارجه.

والدستور الإيراني في المادة الرابعة كان ملمّاً بهذا التفصيل، وناظراً إليه بعين من الجدية، فحاول أن يفتح الباب أمام الفقه الإسلامي ليدلي بدلوه أمام المستجدات الحياتية، لكن ليس على أساس الأحكام الشرعية، بل كانت أميل إلى أصالة الواقع الخارجي، وتحريك سقف الاجتهاد إلى المقام الذي يجعل مجاراته للواقع متحققة.

ولسنا هنا بصدد مناقشة عمق الأزمة التي وقعت بين القطب الأكاديمي والقطب الفقهي أمام مجموعة من مشاريع القوانين، حيث كانت تُرَدُّ؛ لعدم شرعيتها، دون النظر إلى عنوان المصلحة العامة.

فقد أوضح الباحث جواد علي كسار، في دراسة له تحت عنوان «الأحكام الحكومتية أو مبدأ تدخل الدولة» مواطن الأزمة تشخيصاً في فترة حكومة السيد مير حسين الموسوي، قائلاً: «في مطلع الثمانينيات، وأثناء حياة الإمام الخميني نشبت أزمة في حركة التقنين، كان قطباها فقهاء الدستور من جهة، وحكومة السيد مير حسين الموسوي ومجلس الشورى من جهة أخرى. فقد كانت حكومة السيد موسوي ترسل بعض اللوائح والقوانين المقترحة إلى مجلس الشورى، فيوافق عليها المجلس، ثم يعود مجلس صيانة الدستور (وبالتحديد الفقهاء الستة) لرفضها؛ بحكم تعارضها مع الأحكام الشرعية الأولية.

وظلت هذه المشكلة مستعصية على الحل، وراحت ترمي بثقلها على الحكومة، وتعيق حركتها، في وقت كان البلد يعيش تحت وطأة الحرب، فلا الحكومة تستطيع العمل بهذه القوانين التي يعدّها مجلس الدستور مخالفة للشرع؛ إذ من غير المعقول أن تعمل حكومة الجمهورية الإسلامية بما يُعَدُّ مخالفاً للشريعة، ولا الفقهاء الستة يسمح لهم فهمهم واجتهادهم بإجازة تلك القوانين. وعلى هذا المنوال دامت الأزمة أشهراً، وراحت تتسبب في مشكلات عملية عويصة. بالإضافة إلى إشكالية نظرية راحت تولّدها المشكلة، تفيد بوجود تعارض بين الشرع والحكم الثوري داخل التجربة، بما يفيد أن أحدهما ينافي الآخر»([6]). إلى أن تم الفصل في هذا الإشكال بتوسط السيد روح الله الموسوي الخميني، موضِّحاً وجهة نظره في الحكم الحكومتي. «جاء جواب الإمام الخميني مكتوباً وواضحاً، وهو يخوّل مجلس الشورى الإسلامي أن يصدر ما تحتاج إليه الحكومة والبلد من قوانين تكون منوطة بملاك الضرورة ومصلحة النظام، بشرط أن لا تزيد القرارات على حد الضرورة والمصلحة التي تفرضها، وأن يكون لها أيضاً طابعٌ مؤقَّتٌ، بحيث تزول بانتفاء موضوعها، مصرِّحاً بما يلي: «أعضاء المجلس مجازون بالمصادقة على كل ما له دخل في حفظ النظام الإسلامي، ممّا يستوجب فعله أو تركه الإخلال بالنظام، وما له ضرورة، بحيث يستوجب تركه أو فعله الفساد، وما يستلزم فعله أو تركه الحرج، وذلك بعد تشخيص الموضوع من قبل أكثرية أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، مع التصريح بأن هذه (الأحكام ـ المقررات) مؤقَّتةٌ، قائمةٌ بتحقق موضوعها، بحيث تلغو تلقائياً، وتنتفي بعد ارتفاع الموضوع»([7]). فالجلي أن مناط البحث كان هو البعد الواقعي لمصلحة النظام، ما دام يتحرك في منطقة الفراغ من الأحكام الشرعية.

فلو نظر للموضوع من زاوية النظر التي أوضحناها لما وقعت أزمة بهذا المستوى، حتى انتظر رأي السيد مرشد الجمهورية.

إلا أننا رغم ذلك لن نتوسع في هذا التفصيل، ناظرين إلى الموضوع من زاوية معرفية صرف. بل إننا سوف نكتفي بتوضيح أن الإمام الخميني& قد حسم في هذه النقطة بمقاييس علمية شرعية متينة جدّاً، موضِّحاً أن الموازنة الإسلامية هي تلك الرائية للأحكام الثانوية بالدرجة الأولى.

وهنا تنفتح الإشكالية الأساسية، وهي أن الفقهاء لو استوعبوا المراد من هذه الكلمة لما احتاج الأمر إلى تنصيص على أن المصلحة مسألة ضرورية في عملية الضبط الاجتماعي لما هو أنفع.

مدار الحكم الولائي

جاء تعريف الحكم الولائي أو الحكم الحكومي بما يلي: «الأحكام الحكومية هي عبارة عن الأوامر، القوانين، والمقررات الكلية، وقواعد تنفيذ الأحكام والقوانين الشرعية، التي تصدر من قبل القيادة الشرعية للمجتمع الإسلامي، وذلك في الدائرة التي لها صلة بالمسائل الاجتماعية، مع الأخذ بنظر الاعتبار حق القيادة في إصدار هذه الأحكام، ومصلحة المجتمع التي تقضي بإصدارها»([8]).

فالحكم الولائي مبني أساساً على المصلحة الاجتماعية المنظور إليها من قبل الجهة الحاكمة، ولكي يتم إخراجها من ربقة الأحكام الشرعية تم منحها اسم «الأحكام الحكومتية»، والتي تتحرك ـ كما التشريعات الوضعية ـ، ما دام مناط البحث فيها هو المصلحة.

«إن تشخيص المصالح الاجتماعية حق للحكومة الإسلامية، وإن هذا الأمر لا يختص بنظام ولاية الفقيه، فهذا هو السائد اليوم في كافة الأنظمة السياسية»([9]).

طبعاً ونحن لسنا بصدد مناقشة هذه الحيثية بدورها؛ لأنها مالكة لشرعيتها عقلاً، ولا تحتاج إلى استدلال، أو كما يقول الفقهاء: هي سليمة بالمبنى العقلائي.

لكن ما هو الأساس المعرفي لهذه الحيثية، وفق المنظور الذي تبنيناه، ويظل خارجاً عن بحث الشرعية داخل العقل الفقهي؟ سبق لنا أن ألمحنا إلى أن الموازين الإسلامية لا تتحرك على المستوى الشرعي بالمعنى الضيق للكلمة، بل حساسيتها تقوم على أساس حركية الواقع، وتزاحمه مع المصلحة، بين الاجتهاد السياسي الرامي إلى تجاوز المعضلة الاجتماعية، وبين الاجتهاد التقليدي المبتني على المنظور الفقهي، الذي قد لا يستوعب دينامية المجتمعات. لذلك بحثت مسألة المصلحة من خلال استدلالات جزئية لدى علماء الطائفة، ووسعت الدائرة لتشمل المتخصصين خارج دائرة الفقاهة ليدلوا برأيهم، مما أدى إلى خلق مؤسسة تحكيمية إلى حدٍّ ما سنة 1988م، سُمِّيت بمجمع تشخيص مصلحة النظام، إثر استفتاء موجَّهٍ من قبل أشخاص للسيد القائد الخميني&. وهذا جزء من نصه: «إن القانون يخضع لنقاشات وأبحاث تخصصية مسهبة؛ بغية المصادقة عليه، فإذا ما صودق عليه رفض مجلس صيانة الدستور تأييده، فما العمل يا ترى؟»([10]). فجاء ردُّ السيد الخميني&: «إني وإنْ كنتُ معتقداً بعدم الحاجة لهذه المرحلة، بعد اجتياز تلك المراحل التي يشرف عليها المتخصِّصون، الذين يُعَدّون مرجعاً في تشخيص هذه الأمور، ولكن مراعاةً للاحتياط إذا لم يكن هناك اتفاق قانوني أو شرعي بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور فليشكل مجمع يتألف من فقهاء مجلس الصيانة المحترمين، وكل السادة…؛ لتشخيص مصلحة النظام الإسلامي، وليُستَعَنْ بأصحاب الاختصاص الآخرين إنْ دعت الحاجة، ثم يعمل برأي الأكثرية بعد المشورة والمناقشة»([11]).

وهذه الشرعية الفكرية لا تظل مستحكمة على المستوى العقلي فحسب، بل حتى على مستوى الدستور الإيراني نفسه؛ لأنه يعطي هكذا صلاحية، ومن خلال قراءة هرمنوطيقية تجاوزت حدود المؤسسة، وبحثت في آفاق المصطلح، لتجد له مرتكزاً مفاهيمياً يسمح بتفعيله بالأصالة، دون ارتهانه لبعض الأفهام التي تحركت فقهياً ـ بالمعنى الضيق للمفهوم ـ دون أن تنظر إلى البعد الأساسي، وهو الإلمام بالأوضاع الاجتماعية العامة.

الهوامش

(*) باحث مختصٌّ في علم الكلام الجديد، من المغرب.

([1]) لقد سبق لنا أن ألمحنا إلى الجنبة التأريخية لجهاز التأويلية كما ظهر في الفلسفة الغربية في كتابنا «هرمنوطيقا القرآن، مقدمة تأسيسية»، وقد صدر عن معهد المعارف الحكمية للدراسات الفلسفية والدينية في متم سنة 2007. ويمكن الرجوع إليه بهذا الخصوص. كما يمكن للقارئ الكريم مراجعة الكتب الفلسفية التي تعرضت لموضوع الهرمنوطيقا.

([2]) وعلى الخصوص الباب الثالث من الكتاب.

([3]) الملا صدرا، المبدأ والمعاد: 617، قدَّمه وصحَّحه: الأستاذ السيد جلال الدين الآشتياني، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، قم ـ إيران، الطبعة الأولى، 1422هـ.

([4]) يظلّ حكمنا نسبياً؛ لأنه يظل غير متيسر لنا مراجعة مجمل الأبحاث الإيرانية التي تعاطت مع هذه المادة باللغة الفارسية؛ لجهلنا بها وباللغة التي كتبت بها، لكن على مستوى اللغة العربية، أو ما تمّ من ترجمات لبعض الأبحاث السياسية الدستورية الإيرانية، فنعتقد جازمين بأن مقاربتها ظلَّت إلى حدٍّ ما ضعيفة لا تفي بغرض سبرها وفقاً للمنظور العلمي الأسلم.

([5]) محمد حسين التسخيري، حول الدستور الإسلامي الإيراني: 172 وما بعدها، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، المعاونية الثقافية، 2005م.

([6]) جواد علي كسار، الأحكام الولائية أو مبدأ تدخل الدولة، مجلة الحياة الطيبة، العددان 6 ـ 7: 200. تجدر الإشارة إلى أننا احترمنا في متن البحث اختيار الكاتب عندما وضع الأحكام الحكومتية، وخصوصاً أن البحث جاء مليئاً بهذا المصطلح، لكننا في مقام الهامش احترمنا اختيار المجلة تغيير الاسم.

([7]) جواد علي كسار، المصدر نفسه.

([8]) أخذاً عن مقالة جواد علي كسار: 202.

([9]) مجموعة من الباحثين، دراسات في الفكر السياسي عند الإمام الخميني: 189، دار الغدير، الطبعة الأولى، 2002م.

([10]) المصدر السابق: 194.

([11]) المصدر السابق: 195.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً