أحدث المقالات

القلب الذي لم يعرف الا الحب

العلامة الشيخ حسين مصطفى

{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207].

وأخيراً… رقد جسدك بسلام، وآن لروحك أن تحلّق إلى بارئها بسلامٍ واطمئنان، بعد أن أسمعتنا نور الله من شفتيك طيلة عقودٍ مثقلةٍ بالتّعب والألم والمعاناة، ولطالما صافحتَ وجوهنا بنظرك، كمن يصافح النّور عيني، ويحمل النّسيم في جذل عذبات ترانيمك.

لقد دفنت محتضناً مسجدك بجوار قاعة جدّتك الزّهراء(ع)، بين محبّيك الذين غذّيتهم من عقلك وقلبك الكثير من آمالك وأحلامك.

هدأت أيّها الجسد الطّاهر، بعد أن استعصت الرّاحة على بدنك، وكأنّك خلقت لتسكر مع المعاناة، فـ"الراحةُ في هذه المرحلة حرام". ورحلت إلى فردوسك وأنت تحمل الأحلام والطّموحات الكبيرة التي لم تدركها بعد.

وآن لنا أن نسأل أنفسنا أيّها الأحبّة:

من هو العلامة المرجع السيّد محمد حسين فضل الله؟!

هو باختصار: (القلب الّذي لم يعرف إلا الحبّ).

إنّه تجسيدٌ حيّ لقوله تعالى: {هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}[آل عمران: 119]؛ لأنّه(قده) وعى أنّ الله أرادنا – من خلال الإسلام المنفتح على النّاس كلّهم – أن نفتح قلوبنا بالمحبّة للآخرين؛ لأنّ المسلم هو الّذي يتحرّك في حياته مع الآخرين على أساس الإخلاص الباحث عن حركة الحقيقة في الوجدان العام من مواقع التّفكير والحوار.

لقد اتّسع قلب سماحته – رضوان الله عليه – للجميع، حتى لأولئك الّذين شهروا بوجهه سيف العداوة، وجاهروا بها، فدعا إلى جعل لغة المحبّة لغةَ الحياة، حتى تكون الحياة أرقى وأطهر وأصفى وأبقى… أن يحبّ الإنسان الّذين يلتقون معه ليؤكّد لغة التّواصل، وأن يحبّ الذين يختلفون معه ليؤكّد نقاط اللّقاء ويعمّق لغة الحوار.

 

أوّلاً: مظاهر المحبّة على مستوى الفكر:

1 – العلم:

يرى سماحة العلامة المرجع (قده)، أنّ (العلم) أهمّ منطلقٍ للمحبّة؛ لأنّ العلم يعطينا انطلاقة الأفق الرّحب، والفكر يعطينا امتداداً في العالم الأوسع. فالعلم يعلّمنا المحبّة، فهو العقل الّذي يحبّ فينتج الفكر، والقلب الّذي يحبّ فينتج العاطفة، والكيان الّذي يحبّ فينتج العدالة والإبداع.

فالمحبّة في فكر العلامة المرجع (قده) ليست حالةً شعوريّةً تنطلق من الإنسان، بل هي أمرٌ يشمل الكون كلّه؛ إنّ الله أحبّنا فخلقنا ورزقنا ورحمنا، أحبّنا ففتح لنا آفاق الدّنيا على الخير وعلى العدل، وفتح لنا آفاق الآخرة على أساس أن نعيش عنده ومعه.

إنّ العلم إذا خلا من (المحبّة)، فإنّ فيه قابليّةً للانتفاخ والاستئثار والغرور، وحينها يبدأ بإنكار أيّ حقيقةٍ لا يتوصّل إليها من خلال قنواته؛ "لذلك أن تكون مسلماً في وعيك، يعني أن تكون إنسان الله والعالم، من حيث إنّك إنسان العقل والقلب والرّوح والحركة والمسؤوليّة، في خطّ الرّسالة".

لذلك أطلق الله العلم كقيمةٍ هي سرّ القيم كلّها {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }[الزمر:9]. وإذا كان الإيمان قيمة، وهو القيمة {أفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ}[السجدة:18]. فإنه يمرّ بطريق العلم.

ولذلك، كان العلامة المرجع (قده) دائماً ما يؤكّد خطّ علم عليّ(ع) الّذي "عاش عقله، الّذي اتّسع لعلم رسول الله(ص) كلّه، الّذي قال فيه: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها". وحرّك ما أعطاه رسول الله من العلم في آفاقٍ جديدةٍ وإيحاءاتٍ جديدةٍ وتجارب جديدة، حيث قال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فتح لي من كلّ بابٍ ألف باب". فلم يكن عليّ(ع) يحفظ علم رسول الله(ص) حفظ الكلمة، ولكنّه كان يحرّك علم رسول الله في كلّ ما استحدثه الناس من قضايا ومشاكل وتجارب، ولذلك كان يحدّق في المستقبل، من أجل أن يعطي هذا العلم حركيّته وامتداده ورحابته للمستقبل، لأنّه لم يجد أناساً يفهمون علمه في مرحلته، ولذلك أطلق علمه للأجيال القادمة، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "إن ها هنا لعلماً جمّا لو أصبت له حملة". ولم يصب له حملة، وكان علمه كلّه لله".

 

2 – المقاومة:

يؤكّد العلامة المرجع (قده)، أنّ "المحبّة لا تعيش الازدواجيّة بين الفكرة والتطبيق"، فقد تُخلق المحبّة من رحم الألم كما تُخلق من رحم السّعادة، ولذلك كان تأييده (قده) المطلق لحركة المقاومة منطلقه (المحبّة)؛ لأنها مقاومة انبنت على رفض اغتصاب الأرض والحياة، إنّها مقاومة لقهر الإرهاب؛ لأنّ المماثلة هي التي تعطي مسألة الحقّ مصداقيّةً هنا وهناك.. وهو ما بيّنه الأئمّة من أهل البيت(ع) في موضوع الحقّ وطالبه، ولا سيّما حين ضُرب أمير المؤمنين، فالمماثلة يجب أن تنطلق في الحقّ ومن أجل الحقّ.

وفي مداخلةٍ قدّمها إلى القمّة الإسلاميّة/المسيحيّة الّتي عقدت في العاصمة الإيطاليّة روما (رجب 1422هـ 10/2001م)، وجاءت بعنوانٍ مثير: "المقاومة هي المظهر الحيّ لحركة المحبّة الإنسانيّة.. والاحتلال هو أعلى مظاهر الإرهاب"، مؤكّداً فيها أنّ "علينا أن لا نخلط بين الإرهاب والمقاومة من أجل التّحرير؛ لأنّ قضيّة حرية الشّعب في تقرير مصيره ومقاومته للمحتلّ، تمثّل المظهر الحيّ لحركة المحبّة الإنسانيّة، بينما يمثّل الاحتلال مظهراً للحقد الإنسانيّ، باعتباره لوناً من ألوان الاستعباد الإنسانيّ في تعطيل إرادته عن القرار، ومحاصرة أوضاعه عن النموّ والإبداع".

وقد أكّد (رضوان الله عليه) أنّ "الفلسطينيّين إنسانيّون عندما ينطلقون في العمليّات الاستشهاديّة، لأنّ الاحتلال الإسرائيليّ قد صادر كلّ شي‏ءٍ منهم، وقتل كلّ عناصر الأمن عندهم، وإذا كان الصّراع بين الأمن الإسرائيليّ والأمن الفلسطينيّ، فإنّ الفلسطينيّين بقتالهم لا يستهدفون قتل المدنيّين، ولكن قتل الأمن الإسرائيلي".

 

3- بناء جسور المحبّة:

لقد حاول (قده) أن يؤسّس طريقاً للمحبّة من خلال بناء جسورٍ مبدؤها:

       الإيمان بالله؛ فالله ربّنا جميعاً.

       والإيمان بالرّسل الّذين أرسلهم الله بكلمته المقدّسة، لأنّهم حملوا ما يحبُّ الله لنا أن نعيشه كأخوّةٍ في الإنسانيّة، بأن نعيش إنسانيّتنا في إنسانيّة الإنسان في القيم الرّوحيّة والأخلاقيّة.

       والالتقاء بالإله الواحد، وأن لا يكون لنا آلهة من الّذين يتكبَّرون على الإنسان ويعتبرون أنفسهم آلهةً للنّاس.

       والتّحاور، حتى يقدّم كلّ واحد منّا فكره بوضوح للآخر؛ لأنّ بعض النّاس يحاولون أن يشوّهوا صورة دينٍ عند دينٍ آخر، وصورة مذهبٍ عند مذهبٍ آخر.

       وأن نبدأ من السّلام الإنسانيّ والعدل الإنسانيّ بين يدي الله سبحانه وتعالى، ومن محبّتنا لله؛ لأنّنا إذا أحببنا الله أحببنا الإنسان، وإذا التقينا على الله فلن نختلف؛ لأنّ المشكلة التي يعيشها النّاس، هي أنهم ابتعدوا عن الله، وأصبحوا يعبدون المادّة ولا يعبدون الله.

ولقد سأله مراسل (واشنطن بوست): إذا التقيت بالرّئيس الأمريكيّ، فبماذا تنصحه؟

فأجابه (قده): "أقول له: عندما تستيقظ من النّوم، انظر إلى تمثال الحريّة، حتى تعرف أنّنا نحبّ الحرية كما يحبّها الشّعب الأمريكيّ، فلا تضغط على حريّة شعوب العالم".

 

4-  رسالته في المحبّة:

لقد أطلّ علينا سماحة العلامة المرجع (رضوان الله تعالى عليه) برسالة الحبّ، فكان مؤمناً بأنّ الإسلام رسالةٌ للحياة والكون والإنسان، فأخرج الدّينَ من سجون العصبيّات الطّائفيّة والمذهبيّة والفئويّة، محذّراً من تأثيراتها السلبيّة على مجمل واقع الأمّة، تمزّقاً وتفريقاً وانقساماً، وطمعاً من العدوّ بخيراتها وطاقاتها وإمكاناتها.

فمن الخطأ أن نؤمن بأنّ محبّة الآخر تعني الاستحواذ عليه، إذ المحبّة تختلف في معناها عن التملّك؛ لأنها قيمة منفتحة على كلّ البشر. فالّذي يغار عليك ويبتغيك حكراً له، لا يمكنه أن يحبّك، بل يريد امتلاكك، ومن لديه محبّة لإنسانٍ أو لقضيّةٍ، يحرص على أن يشاركه جميع النّاس محبّته. ومن يردك لنفسه وحده، لا يمكنه أن يحبّك، بل هو في أعماقه يبتغي حرمانك من محبّة النّاس.

فالمحبّة الإنسانيّة أمر مؤصّل في الإسلام، قائم على مبدأ الأخوّة البشريّة، ففي الحديث : "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه". إنّه يضيف قيمة الحبّ إلى قيمة الأخوّة؛ لأنّ الأخ هنا هو أخ في الإنسانيّة، كما فسّره غير واحد.

لقد أرادنا السيّد أن نعيش روحيّةَ القرآن كما عاشها في كلّ حياته وحركته، فعَشِقَ القرآنَ بقلبه وعقله وروحه… ولقد خاطبنا على الدّوام، بأنّ علينا أن نتربّى بالقرآن، وفي ضوء هذا المنهج القويم، لتكون مفاهيمُه مفاهيمَنا، وحركتُه حركتَنا في الحياة…

وأوصانا أن يظلّ رسولُ الله(ص) حاضراً في أذهاننا، كما عاش في ذهنه وفكره وعقله، معتبراً أنّ دور العالِم الدّيني، هو دور الرّسول عن الرّسول، ودور الدّاعية عن الدّاعية الأوّل، ودور الإنسان الذي يتحمّل مسؤوليّة الإسلام في حياته…

وأرشدنا إلى أن نظلّ مع عليّ (ع)، في ذوبانه في الله، وحبّه للإنسان، ونهجه الرّساليّ… وأن نظلّ مع الزّهراء(ع)، جدّته وقدوته التي وَجَدَ فيها إشراقةَ العقل وسرَّ النبوّة… فهي أمُّ أبيها.. وقدوةُ الرّجال والنّساء..

وهكذا أكّد سماحته أن نثبت على التزام نهج البقيّة من أئمّة أهل البيت(ع) الّذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهّرهم تطهيراً، فقيمتهم(ع) أنّهم انطلقوا بعيداً عن ذواتهم، فعاشوا الرّسالة كلَّها في فكرهم وإحساسهم وحركتهم وآمالهم، حتى كان كلُّ واحدٍ منهم قرآناً يتحرّك، ورسالةً تتجسّد.

 

ثانياً: مظاهر المحبّة على مستوى العمل:

1 – جمعية المبرات الخيرية:

لقد صدح العلامة المرجع في حفل خيريّ للمبرّات الخيريّة قائلاً:

"هذا عالمٌ لا بدّ لنا من أن نصنعه، لأنّ كلّ جيلٍ يصنَعُ عالَمه؛ أن نصنع الإنسان الذي يمكن أن يضيء ويتوهّج وينفتح ويسمو ويبدِع، حتى نشعر بأنّ إنسانيّتنا تنتج، تتحرّك، تتغيّر، تغيّر الواقع نحو الأفضل.. هذا عالمٌ لا بدّ لنا من أن نصنع فيه معنى القيمة، وأن نعيش رحابته، فلا نتقوقع في زاويةٍ هنا وزاويةٍ هناك، ولا نحرّك الحقد لينفتح على ما سمّيناه قداسة، حقد أتباع هذا الدّين على أتباع ذاك الدّين، أو حقد هذا الخطّ السياسيّ على الخطّ السياسيّ الآخر… هذا عالمٌ لا بدّ من أن نعيش رحابته، تماماً كرحابة الشّمس التي تطلع على البرِّ والفاجر، وكما هي رحابة الينبوع في عطائه عندما يتدفّق على الأرض الخصبة والجدبة، لا بدّ لنا من أن نفكّر، لأنّ كلّ هذا الضّجيج الّذي يفترس كلّ طهر الهدوء في عقولنا وفي قلوبنا وفي حياتنا، يمنعنا أن نفكّر، أن يكون فكرنا فكراً يعيش رحابة الحياة، ويخطّط لرحابة المستقبل".

لقد كان أكبر همّ سماحة العلامة المرجع (قده)، هو بناء طاقة الإنسان العقليّة والرّوحيّة والنّفسيّة، وهو لذلك يؤمن بأهميّة المؤسّسات كوسيلةٍ لتأمين حاجات المجتمع وبناء الأفراد وصناعة مستقبلهم.. ولذلك أكّد سماحته، ومنذ بداية عمله، أهميّة بناء المؤسّسة لا العمل الفرديّ، وآمن بأنّ المؤسّسات تبقى وتستمرّ، وهي قادرة على التطوّر، أمّا الأفراد فيزولون.. ومهما كبرت إمكاناتهم، فإنها تبقى محدودةً بحدود قدراتهم ونظرتهم إلى الأمور.. واعتبر أنّ المجتمع الذي لا يملك المؤسّسات، هو مجتمع لا يستطيع أن يحقّق حاجاته، ولن يقدر على مواجهة التحدّيات ولا الوصول إلى أهدافه..

ولذلك كان حرصه، ومن خلال موقعه الدّينيّ كمرجع، على الدّعوة إلى المرجعيّة المؤسّسة لا مرجعيّة الفرد الذي تزول كلّ مشاريعه بذهابه إلى ربّه، أو تتحوّل إلى إرثٍ شخصيّ، أو تفقد الأمّة كلّ النّتائج التي حصل عليها من خلال كونه في أعلى مواقع المسؤوليّة الدّينيّة..

ومنذ عهدٍ مبكرٍ، أنشأ العلامة المرجع (قده) في العام 1978 أولى مؤسسات جمعيّة المبرّات الخيريّة، "مبرّة الإمام الخوئي"، بعدما اشتقّ لها اسماً من "البرّ". وأعطيت الأولويّة لرعاية الأيتام وانتشالهم من واقع التشرّد والحرمان والضّياع. وتطوّر العمل من حضانةٍ اجتماعيّةٍ إلى رعايةٍ تربويٍّة ثقافيّةٍ شاملة، لتخريج إنسانٍ مؤهّلٍ فكريّاً وروحيّاً.

ونتيجةً لفداحة تأثيرات الحرب الأهليّة اللّبنانيّة في الواقع التّعليميّ والاجتماعيّ، توجّه الاهتمام لرعاية الفئات الخاصّة وتربيتهم ، من خلال مؤسّسة الهادي بمدارسها الثّلاث: "النور للمكفوفين"، "الرّجاء للصّم"، و"البيان للاضطرابات اللّغوية"، لتفتح لهم أبواب العلم والعمل والمعرفة. وأردفتها بإنشاء مدارس نموذجيّة ومعاهد فنيّة وتقنيّة، لتأمين التّعليم بمستوى راقٍ، مع الاهتمام بإنشاء مراكز إعداد المعلّمين والمعلّمات، بما يحقّق الاكتفاء الذاتي في الأداء التّربويّ في مسيرة الجمعيّة.

ولذا أنشأ سماحة العلامة المرجع (قده):

31 مركزاً ثقافيّاً ودينيّاً.

14 مدرسةً وثانويّةً.

6 معاهد مهنيّة.

6 مؤسّسات رعائيّة.

4 مراكز لذوي الاحتياجات الخاصّة.

4 مراكز صحيّة.

وكان المجموع: 65 مركزاً ومعهداً ومؤسّسة.

وتضمّ جمعيّة المبرات الخيرية أكثر من (خمسة عشر ألف) تلميذٍ في مدارسها ومؤسّساتها المنتشرة من الشّمال إلى الجنوب.

وحريّ بي أن أنقل إليكم صورةً حيّة: ففي حفل إفطار جمعيّة المبرات الخيريّة السّنويّ: "بعد تلاوة عطرة من القرآن الكريم، ألقى الكفيف يوسف دحنون، من مؤسّسة الهادي للإعاقة السّمعية والبصريّة، كلمةً تحدّث فيها عن معاناة المكفوفين في لبنان، وسعيهم لنيل أعلى مراتب الدّراسة، مشيراً إلى مشاركته في برنامج "من سيربح المليون"، وفوزه بـ125 ألف ريال سعودي، مؤكّداً أنّ الكفيف يمكنه أن يتدرّج في سلّم العلم والعطاء، شرط أن يتحمّل المجتمع مسؤوليّته تجاه المكفوفين والمحتاجين".

لقد ساهمت تلك المؤسّسات الرّائدة بتأمين البيئة التي تضمن تنمية هذه الطاقات واستمرارها بفعاليّة وتطوّر دائمين، وبذلك ناضل العلامة المرجع (قده) في مواجهة التحدّيات، ليساهم في تعزيز حضور الإنسان؛ كما المقاومة للعدوّ، كذلك مقاومة التخلّف والضّعف والجهل والفقر والحرمان.

 

2 – مع الناس في المسجد والحجّ:

يقول العلامة المرجع (قده): "من الطّبيعيّ أنّ المرجعيّة مسؤولة عن أن تكون في موقع النّيابة عن الإمامة، وعندما ندرس حياة الأئمّة(ع)، فإنّنا نرى أنّ الأئمّة(ع) كانوا يعيشون مع الناس في كل طبقاتهم، وكانوا يعلِّمونهم في كلّ ما يحتاجون إليه، وكانوا ينفتحون عليهم بشكلٍ لا يشعرون بأي حاجز بينهم وبين الأئمّة، حتى إنّ البعض يصف الإمام الصّادق(ع) بقوله: "لقد رأيته والنّاس مجتمعون حوله كأنه معلّم صبيان". لقد كان(ع) يفتح قلبه لكلّ النّاس… فمسؤوليّة المرجعيّة؛ أن تعيش مع النّاس، وتفسح لهم في المجال ليسألوها، وأن تعلّمهم، وأن تبادرهم، بحيث إذا سألوها تجيب، وإذا لم يسألوها تبتدئهم، وخصوصاً في هذا الظّرف الذي اختلفت فيه التيّارات المعادية للإسلام وتطوّرت، بحيث أصبح ضرورياً أن تنـزل المرجعيّة إلى الشّارع".

ومن هذا المنطلق، اختار سماحة السيد (قده) بفرادة قلَّ نظيرها، أن يبقى إلى جانب النّاس، يرافقهم في صلواتهم وصيامهم وحجّهم، ويتقرّب إليهم كما يتقرّبون إليه، ويحشر نفسه معهم كما حشروا أنفسهم معه، تصديقاً لقوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ..}[الكهف: 28]، وانفتح سماحته على الإنسان كلّه في كلّ مشاكله العقديّة والفكريّة، ونظر إلى قضايا المسلمين بلحاظ البعد السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والأمنيّ، ونظر – أيضاً – إلى حركة المسلمين في العالم بلحاظ الظّروف كافّةً، وصرّح بأننا لا نعيش في مجتمعاتٍ جامدةٍ نستطيع أن نسقط أفكارنا عليها إسقاطاً من فوق، بل لا بدّ من السّعي إلى نيل تعاطف الإنسانيّة مع ديننا وقضايانا المحقّة والعادلة والإنسانيّة. وانطلاقاًَ من هذه الخلفيّة، تحدّث عن قضايا المسلمين الكبرى، كقضيّة القدس والقضيّة الفلسطينيّة عموماً، وسائر قضايا المسلمين في ما يتعلّق بحرّيتهم وعزّتهم وكرامتهم.

وقد ساهم سماحة العلامة المرجع – منذ عقود – في تشكيل الخطاب الإسلاميّ الشّيعيّ الحديث؛ بل استطاع أن يدخل الكثير من العناوين والمفاهيم والمفردات إلى ساحة الحركة الإسلاميّة، ولعلّ سماحته أوّل من استخدم مصطلحاتٍ من قبيل الحركة الإسلاميّة – السّاحة الإسلاميّة – الإسلام الحركيّ – الأخلاق الإسلاميّة المتحرّكة – الإسلام العالميّ – دولة الإنسان… إلخ.

وكان (رضوان الله عليه) نصيراً عنيداً للمرأة في انتزاع حقوقها من مغيّبيها، وخصوصاً في المجتمعات التّقليديّة التي تظلم المرأة وتهمّش دورها الاجتماعيّ والإنسانيّ على الدّوام.

إنّه قطب عظيم، لـم ينبض مشرقنا الإسلاميّ بمثيلٍ له منذ عهدٍ طويل. ولقد حمل هذا المشروع التنويريّ على عاتقه، غير آبهٍ بكلِّ السّهام التي توجّهت إليه من الأقربين والأبعدين، مردّداً قول رسول الله (ص): "إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي".

فهو يرى أنّ الفقاهة القائدة لمجتمع إسلاميّ، لا بدّ من أن تملك الوعي للإسلام فكراً وشريعةً ومنهجاً، ولا بدّ من أن تملك تقوى الإسلام حركةً وانفتاحاً على النّاس، وأنّ قيادة المجتهد العادل لا بدّ من أن تملك وعي الواقع، وأن يكون العارف في أهل زمانه، لأنّ غير الفقيه، إذا كان في موقع القيادة، فإنّه قد يحكم بغير الإسلام باسم الإسلام، وقد يعطي القداسة لمزاجه ولانحرافه.

لقد انطلق (قده) في اجتهاده ليواجه الواقع؛ كان يريد أن يكون المجتهد الّذي يقف ليتحمّل أخطار السّاحة، وليواجه تحدّيات السّاحة واتهاماتها وسُبابها وكلّ الكلمات، لأنّ الإنسان الذي يريد أن يكون رجل السّاحة، لا بدّ من أن يتحمّل كلّ تحدّياتها وكلّ سلبيّاتها.

فهو الفقيه الإنسان الّذي أتعب الرّاحة ولم يمهلها؛ انطلاقاً من مستنده الفقهيّ (قاعدة المسؤوليّة)؛ حيث يقول(قده): "فأنا عندما أتحسَّس أنّني أستطيع أن أخدم الإسلام أكثر، وأنّ الإسلام بحاجةٍ إلى ما أملكه من طاقاتٍ أكثر، وأنّ الناس بحاجةٍ إلى أن أحرّك تجربتي في حياتهم أكثر، فإنّني أشعر بأنّ مسؤوليّتي تمنعني من أن أعيش حالة فراغ، أو أن أعيش حالة راحةٍ لاهيةٍ عابثة. لذلك فأنا أعيش كإنسانٍ شاعرٍ يحبُّ الجمال، ويحبّ الطّبيعة ويحبّ الحياة.. لكنّي لم أعش في كلِّ حياتي هذا الاسترخاء في الطّبيعة أو الاسترخاء أمام حالات اللّهو والعبث في الحياة، قد يكون ذلك مزاجاً، ولكنّه في الوقت نفسه، يمثّل كلّ أسلوب حياتي، فأنا قد لا أجد الوقت الّذي أفرغُ فيه لنفسي أو لأهلي حتى الآن، وأنا في الطّريق إلى السّبعين".

نعم، لا زال صدى تلك الكلمة: "الراحة عليَّ حرام"، تتردّد في مسامع من حوله، تستفهم عن سرّ هذه الطّاقة في جسدٍ تمرّد على السّبعين!! ولقد قالها الإمام الصّادق(ع): "ما ضعف بدنٌ عمّا قويت عليه النيّة".

ورحم الله الصّافي النّجفي وهو يقول:

عمري إلى السّبعين يركض مسرعاً       والرّوح باقية على العشرين

وهو الفقيه الإنسان الّذي لم يحمل في قلبه حقداً على أحد، مع كلّ الأجواء الحاقدة عليه، وفي هذا التّجربة المريرة يقول: "لقد تعلَّمت من رسول الله(ص) ذلك، عندما قرأت سيرته، ورأيتُ أنّه كان مفتوح القلب لكلّ النّاس، وأنّه كان يقول: "اللّهمّ اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون". وتعلّمت ذلك من عليّ(ع) عندما كان يقول: "احصد الشّرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك". إنّني أتألّم مما يتحرّك به هؤلاء، ولا أدّعي لنفسي أني أبتعد عن الأحاسيس والمشاعر، فقد كان رسول الله(ص) كما حدّثنا الله تعالى عنه، يحزن، وكان يعيش الضّيق مما يمكرون، لذا قال الله له: {وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ}[النّمل: 70]، لكنّي أحاول دائماً أن أدرس نقاط الضّعف التي فرضت عليهم ذلك.. كنت أدرس التخلّف الذي يعيشون فيه، والجهل الذي يعيشون فيه، والذاتيّات التي يدورون في فلكها، ولذلك كنتُ أشفِقُ عليهم من أنفسهم أكثر مما أشفق على نفسي منهم. إنّني أؤمن بحقيقةٍ، وهي أنّ عليك أن تحبّ الّذين يخاصمونك لتهديهم، وتحبّ الّذين يوافقونك لتتعاون معهم. إنّ الحياة لا تتحمّل الحقد.. الحقد موت والمحبّة حياة، وأنا أريد أن أحيا ولا أريد أن أموت".

 

أيّها الأحبّة ..

إنّ المحبّة هي أساس المجتمع، وبدون المحبّة ليست هنالك أمومة ولا أبوّة ولا عائلة ولا أخوّة ولا صداقة ولا جماعات ولا أحزاب ولا حياة اجتماعّية.

ولقد استطاع العلامة المرجع (قده) أن يقلب فكرة معادلة (البقاء للأقوى)، والّتي تبتغي تحويل الإنسان إلى كائنٍ آليّ لا تحرّكه غير الحسابات والمصالح الجامدة، وأراد أن يذكّرنا بقانون الحياة الّتي خلقنا الله من أجلها: (البقاء للأكثر محبّة).

إنّ خسارتنا برحيله لا تعوّض، وإنها لثلمة كبيرة انفتقت عن جرحٍ عميقٍ أرجو من الله تعالى أن يعوّضها بمثله، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

سيّدي..

إنّ فكرك لن يصبح موتاً، بل هو تتمّة..

فهو لهب لا ينطفئ أبداً.

المصدر: موقع بينات  التاريخ: 16 شعبان 1431  ه الموافق: 28/07/2010 م

نقلاً عن موقع مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً