أحدث المقالات

الوظيفة والمهام

السيد محمود الهاشمي الشاهرودي(*)

ترجمة: السيد حسن علي مطر الهاشمي

 

قال الله الحكيم في محكم كتابه الكريم: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 44).

قبل كلّ شيء أتقدَّم بالشكر الجزيل للقائمين على هذا المؤتمر المبارك، وأرجو أن يكون هذا النوع من المؤتمرات منشأ للخير الكثير على الأساتذة والفضلاء وكبار الحوزة العلمية والمؤسسات الإدارية إنْ شاء الله تعالى. كما أني أشكر الله على توفيقه إيّاي لأكون في خدمة الإخوة القائمين على هذا المؤتمر، وأشكر لهم حسن ظنّهم بي، وأرى أنهم قد بالغوا في ما خلعوه عليَّ من الألقاب، فأنا لست سوى طالب علم، وأسال الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يوفّقنا في مواصلة هذا الطريق، الذي هو طريق الأنبياء والأولياء والعلماء من السلف الصالح، وأن نوفَّق لخدمته؛ ليكون لنا ذخراً ومتاعاً في آخرتنا.

أرى أن الاستشهاد بهذه الآية التي افتتحت بها كلمتي أبلغ من الاستشهاد بآية النفر ـ التي دأبنا على الاستشهاد بها في الغالب ـ في بيان موقع الحوزات العلمية والعلماء الربّانيين والفقهاء العظام، وما يلعبونه من الدور والرسالة التي يؤدّونها في التاريخ؛ وذلك لورود كلمة الفقه في تلك الآية؛ إذ يقول تعالى ﴿يَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾، والمراد منها هو الفهم والتعلم، وليس الفقه بمعناه المصطلح. وأما الآية 44 من سورة المائدة فهي زاخرةٌ بالمفاهيم الخاصّة بشأن موقع العلماء والفقهاء العظام في الإسلام، بل إنها تدل حتى على ولاية الفقيه، ونيابة علماء الدين عن الأنبياء والأئمة الأطهار بالنيابة العامّة. فإنّ هذه الآية رغم ورودها بشأن التوراة وأنبياء بني إسرائيل وعلمائهم، ولكنّ المراد منها ـ لمكان التعبير بكتاب الله ـ هو مطلق الشرائع السماوية، حيث شبَّهت الآية الشريعة الإلهية النازلة في التوراة بالنور الذي يتعين على الأنبياء والمسلمين لله أن يهتدوا به، ويحكموا على أساسه: ﴿وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾. فعلى هذه الفئات الثلاثة: «الأنبياء»، و«الربانيين»، و«الأحبار»، أن يحكموا بما أنزل الله، وأن يقيموا شريعة الله.

ولا يخفى معنى الأنبياء على أحد.

وأما الربانيون فقد تكفَّلت الروايات بتفسير المعنى المراد منهم، كما يستفاد من سياق الآية أنّهم أوصياء الأنبياء والأئمة^؛ إذ ورد ذكرهم بعد ذكر الأنبياء وقبل الأحبار. وعليه فإنّ الربانيين هم العلماء الذين يكون علمهم علماً إلهياً، ولا يحصلون عليه من خلال التعليم والتعلُّم، الأمر الذي يحكي عن العصمة والإمامة والوصاية للأنبياء.

وأما الأحبار فهم من العلماء أيضاً، ولكنهم يحصلون على علومهم من خلال التعلُّم على يد الأنبياء والأوصياء، العلماء العارفين بمسائل الشريعة والكتاب الإلهي.

وقد ذكرت هذه الآية ثلاث مهام لهذه الطوائف الثلاث، وهي:

1ـ الحكم طبق كتاب الله، بمعنى الحكم بكلّ ما جاء في الكتاب، وعدم الاقتصار على أحكام القضاء وحلّ النزاعات فقط؛ وذلك لأن الحكم في هذه الآية قد أضيف إلى التوراة المشتملة على التشريع الإلهي الكامل، وهو تشريع يتضمّن مختلف أنواع الأحكام، ولا يختص بحلّ النزاعات والخصومات فقط. وعليه يكون المراد من هذه الآية تطبيق جميع الأحكام الإلهية القائمة على قاعدة الدين والشريعة الإلهية، والذي هو عبارة أخرى عن إقامة حكم الله وشريعته.

2ـ صيانة كتاب الله وشريعته من تحريف الخصوم والمناوئين، بمعنى المحافظة على الشريعة والدين، وهذا هو معنى التفقُّه المصطلح في الوقت الراهن.

3ـ الشهادة على دين الله. وهذه الشهادة أيضاً لا تقتصر على الشهادة في باب القضاء، بل المراد منها أن هؤلاء الأصناف الثلاثة يشكلون المعيار والميزان والمرجعية في جميع الأمور الدينية والإلهية، بمعنى المرجعية الاجتماعية، والرقابة على الشريعة والأمة الإلهية في جميع شؤونها. وبعبارة أخرى: إن الأنبياء والربانيين والأحبار شهود يجب الرجوع إليهم، ويجب على سائر الناس اعتبارهم المعيار الذي يجب عليهم التأسي به، واعتبارهم مثالاً للأمّة المتحدة والمتماسكة والمهدية؛ كي يحفظوا أنفسهم من الانحراف. إن هذه الأصناف تدعو الأمم إلى شريعة الله، وتعمل على إحياء النموذج الديني الجامع في المجتمعات البشرية. وقد استعملت مفردة الشاهد بهذا المعنى في القرآن الكريم في الكثير من الموارد، من قبيل:

ـ ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: 143).

ـ ﴿هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (الحج: 78).

ـ ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 140).

إن«الشاهد» في الإطلاق والاستعمال القرآني يعني المعيار والمرجع، ومثال الشريعة الإلهية. وهذا هو التفسير الذي نجده في الروايات الواردة في شرح هذه الآية. فقد ذكر العياشي في تفسيره روايتين في تفسير هذه الآية:

الأولى: عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد الله×: إن مما استحققت به الإمامة التطهير والطهارة من الذنوب والمعاصي الموبقة التي توجب النار، ثمّ العلم المكنون بجميع ما تحتاج إليه الأمّة من حلالها وحرامها، والعلم بكتابها، خاصّه وعامّه، ومحكمه ومتشابهه، ودقائق علمه وغرائب تأويله، وناسخه ومنسوخه. قلت: وما الحجة بأن الإمام لا يكون إلاّ عالماً بهذه الأشياء التي ذكرت؟ [فاستشهد له الإمام× بهذه الآية، حيث قال]: قول الله عزَّ وجلَّ في مَنْ أذن الله لهم في الحكومة، وجعلهم أهلها [رابطاً هذه الآية بمسألة الإمامة]: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ﴾. أما الربانيون فهم الأئمة، دون الأنبياء، الذين يربّون الناس بعلمهم [لا بالعلم الذي يحصلون عليه من الناس]. وأما الأحبار فهم العلماء، دون الربانيين. ثمّ أخبر الله، فقال: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾، ولم يقُلْ: بما حملوا منه.

وبذلك يكون الإمام× قد استنبط جميع الصفات التي يجب أن تتوفّر في الإمام من هذه الآية؛ لأن الربانيين والأنبياء يشرفون على الدين إشرافاً كاملاً. وهذا هو علمهم اللدني، وليس هو بالاكتساب والتحصيل والتعلم، خلافاً لما عليه الأحبار.

الثانية: وهي مروية عن الإمام الصادق×؛ إذ يقول:«هذه الآية فينا نزلت».

إن هذه الآية شديدة الوضوح في أنها تروم بيان دور الأنبياء، ومن بعدهم أوصياء الأنبياء من الأئمة، ومن بعدهم العلماء والفقهاء في الدين في مدرسة الإسلام؛ حيث إنهم امتداد للأنبياء والأئمة. فهي تبين مسألة النيابة العامة وولاية الفقيه، وضرورة إقامة الحكومة الإسلامية. كما تبين المهام العامة الملقاة على عاتق الأنبياء والأوصياء والعلماء، وتحدِّد الشرائط أيضاً، وتثبت أن المهمة الملقاة على عاتق الحوزات العلمية والفقهاء وعلماء الدين في المنظور القرآني هي ذاتها رسالة الأنبياء والأئمة^، غاية ما هنالك أنّ الأنبياء والأئمّة قد تمّ تنصيبهم وعصمتهم من قبل الله بالنصب الخاص، في حين أن الفقهاء والأحبار قد استحقّوا أداء ومواصلة هذه المهمة بالنصب العام؛ وبسبب تحصيلهم العلم في مدرسة الأنبياء والأئمة، واكتسابهم نور الهداية والمعارف من الأنبياء والأئمة، فأصبحوا بذلك أهلاً لمواصلة نهجهم، وممارسة نفس الدور والرسالة التي كانت للأنبياء في المجتمعات البشرية. بمعنى أن المسؤولية هي ذات المسؤولية التي تمّ تقسيمها في هذه الآية إلى ثلاثة أقسام رئيسة، وقد تمّ تحديد أركانها على النحو التالي:

1ـ صيانة الدين من التحريف.

2ـ الشهادة والمرجعيّة على الأمم، وبيان النموذج للناس؛ من أجل هدايتهم إلى شريعة الله.

3ـ إقامة شريعة الله والحكومة الإسلامية.

إذن تمثِّل هذه الآية الشريفة دليلاً قرآنياً على وجوب إقامة الحكومة الإسلامية. فهي تدلّ على الولاية المطلقة للفقيه، بعد الأنبياء والأئمة الأطهار^، بوصفه امتداداً طبيعياً لهم. وأنا هنا لست في وارد الدخول في الأبحاث الفقهية والنظرية بشأن هذه الآية الشريفة، فإنّ ذلك يستدعي تفصيلات وتفريعات تخرجنا عمّا نحن في صدده. وإنما أريد الاقتصار على مسائل أخرى، وهي أن حركة تاريخ الإسلام والتشيّع كان على هذه الشاكلة أيضاً، بمعنى أن النبي الأكرم| قام بهذا الدور، فكان ناظراً وأسوة وشاهداً، كما كان حافظاً وصائناً للشريعة الإلهية، بل كان مبعوثاً بتلك الشريعة التي هي أكمل وأشمل شريعة توحيدية، وأقام حكم الشريعة الإلهية، فأسس بذلك أكمل وأشمل حكومة في تاريخ البشرية بأسره. ثمّ واصل الأئمة الأطهار^ ذات النهج، وأقاموا صرح مسيرة الأحبار وعلماء الدين في تاريخ الإسلام، الأمر الذي يحدِّد دور العلماء والمؤسسة الدينية.

وفي البداية علينا الإشارة إلى هذه الحقيقة المرتبطة بما ورد في آخر الآية من بيان بعض الآفات، من قبيل: قوله: ﴿فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي﴾، وهي دعوةٌ إلى عدم الخوف والوجل من الناس والطغاة وحكام الجور، وأولوية الخشية من الله؛ فإن خشية الناس تشكِّل مانعاً وعقبة وحائلاً دون تحقيق الأهداف الإلهية. والآفة الأخرى يشار إليه بقوله: ﴿وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾، وفيها إشارة إلى ظاهرة الطمع والجشع والتهالك في طلب الدنيا، ممّا يشكِّل عنصراً آخر من العناصر التي تؤدي إلى كتمان الحقائق والتعاليم الإلهية، وإنكار الوقائع، وعدم التصريح بها.

وبطبيعة الحال فإن التاريخ المضيء للحوزات العلمية، وحركة الأئمة الأطهار^ بعد رحيل النبي الأكرم|، وفي عصر الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى، يمثِّل التطبيق العملي لمدلول هذه الآية، أي إنها خير مثال خارجي على الحركة التاريخية للشيعة، بمعنى أنّ الأئمة الأطهار^ قاموا بهذا الدور في عصرهم أيضاً، مؤكِّدين على هذه المسائل الثلاث المتمثلة في (صيانة الدين وحفظه، وتطبيق الأحكام الإلهية، والإشراف والشهادة عليها)، حيث بادروا إلى الاضطلاع بجميع هذه المهامّ الثلاث بالمقدار المستطاع. فقد مارس أمير المؤمنين× الحكم والخلافة لأربع سنوات؛ ليتمكَّن من إقامة الحكومة الإسلامية الحقة، مسجِّلاً بذلك في هذه المدة أرقى حكومة شهدها تاريخ البشرية في تطبيق العدل والطهر والنزاهة والقداسة وإلغاء التمييز العرقي والعنصري على جميع المستويات. وأما سائر الأئمة^، فعلى الرغم من عدم تمكّنهم من إقامة الحكومة، بَيْد أنهم مارسوا دور الشاهد والمحافظ والصائن للدين على أدقِّ الوجوه. وقد مارسوا هذا الدور حتّى تجاه أصحاب المذاهب الأخرى. فلا بُدَّ من الالتفات إلى أن فقه أهل السنّة قد تمَّت صيانته والمحافظة عليه من قبل أئمة أهل البيت^ أيضاً. فلولا جهود الأئمة في هذا الشأن لانجرف فقه السنّة وفقهاؤهم نحو الانحراف على يد حكومات بني أمية وبني العبّاس أيضاً، ولواجهوا نفس مصير الأديان اليهودية والمسيحية في التاريخ، حيث تعرّضت للتحريف والتشويه والنسخ. كما سبق للأئمة أن جدّوا في تربية أصحابهم ورواتهم، الذين تمّ التعبير عنهم في هذه الآية بـ (الأحبار)، فكان لهم الدور الرئيس في حفظ وصيانة تعاليم أهل البيت^ والدين الإسلامي الحنيف، وأقاموا بذلك صرح هذه الحركة الإلهية الكبرى في تاريخ البشرية. ولم يقتصر ذلك على علم الفقه، بل شمل سائر العلوم والثقافات الدينية الأخرى أيضاً، حتّى رُوي عن الأئمة^ الكثير من الروايات القيّمة في مجال العقائد والمسائل التربوية والسلوك الاجتماعي والرؤية الإسلامية والمسائل الإدارية وجميع الأمور التي يحتاجها الإنسان، حتّى أسَّسوا لتيار العلماء والأحبار المستجمعين لجميع شرائط النيابة العامّة عن الأنبياء والأئمة^، إلى أن وصل الأمر إلى عصر الغيبة الصغرى والغيبة الكبرى، حيث سار الفقهاء على ذات الدرب. وهذا ما نراه جليّاً عندما نطالع التاريخ الناصع للفقهاء من السلف الصالح؛ إذ نجدهم يلزمون أنفسهم بالحفاظ على الشريعة وصيانتها من جميع أنواع التحريف، ويقومون بواجب الإشراف والشهادة على الشريعة، وتعريفها للعالمين، من أمثال: الشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشيخ المرتضى ـ تغمّدهم الله برحمته الواسعة ـ، حيث مارسوا نفس الدَّوْر الذي مارسه الأئمة^ في بيان الحقائق، وإثبات عظمة الإسلام وتعاليم أهل البيت، والدخول في نقاش مع المذاهب والأديان الأخرى، متحمِّلين بذلك جميع أصناف العَنَت والعذاب والضغوط النفسية والجسدية، وقد تمَّ زجُّهم في السجون، وحرقت كتبهم، وتمّ نفيهم، وحتّى قتلهم.

ما هي الأسباب التي أدَّتْ إلى استشهاد الشهيد الأول والشهيد الثاني؟ فقد كان الشهيد الأول من العظمة وسعة العلم بحيث كان يدرِّس في الشام على مختلف المذاهب، فكانت حلقة درسه من أكبر الحلقات الدراسية في عصره، حتّى أثار عليه ذلك حفيظة البعض، وبلغ الحسد ببعض وعّاظ السلاطين إلى حدّ الوشاية به، والتآمر عليه عند السلطان، الأمر الذي أدّى إلى استشهاده.

وهذا ما حصل للشهيد الثاني أيضاً. فقد جدَّ هؤلاء العلماء في حفظ الشريعة، لا بمعنى كتمانها وحبسها في الصدور والجوانح، بل بمعنى صيانتها في مواجهة هجمات أعداء الدين، والعمل على تحديث التعاليم الدينية وتحصينها في مواجهة أيّ فكر وثقافة دخيلة، وإظهار الشريعة في المقابل بوصفها شريعة أرقى وأنقى وأسمى من أيّ شريعة أخرى، ويعملون بالإضافة إلى ذلك على نشرها وتبليغها وتطويرها. وكانوا يمارسون دور المشرف والشاهد عليها، وقد اضطلعوا بهذا الدور على أحسن وجه. وكانوا يغتنمون الفرصة كلما سنحت من أجل إقامة وتطبيق حكم الشريعة. وبطبيعة الحال فإن هذا الجانب كان يتعارض مع حكومات الجور والطاغوت فكانوا لذلك يشكِّلون عقبة أمام تحقيق هذه الغاية. وخير شاهد على ذلك دور العلاّمة الحلّي& في البلاط الملكي للشاه محمد خدا بنده، وأثره في تشيّع الجهاز الحاكم والبلاط الملكي. وربما كان هذا التأثير هو الذي غرس بذرة التشيُّع ليعمّ جميع الأراضي الإيرانية. والأهمّ من ذلك الدور الذي لعبه المحقِّق الكركي&، والذي لا يخفى على أحد. فإنه بمجرد وصول الأسرة الصفوية إلى السلطة، وإنكفاء الدور العثماني وانحساره عن إيران، أخذ المحقِّق الكركي زمام المبادرة، وسخّر كلّ طاقاته، وعمل على استقطاب كبار العلماء من النجف الأشرف وجبل عامل، وجاء بهم إلى إيران، مشكِّلاً بذلك حركة علمية وثقافية دينية هائلة. وقد كان من الثمار المباركة التي تمّ قطافها بعد هذه الحركة هو انتشار التشيُّع بين أبناء الشعب الإيراني، وتبلور الحضارة الإيرانية الشيعية الكبرى في تلك الفترة والحقبة، وظهر الكثير من العلماء الكبار في كلٍّ من الحوزة العلمية في إصفهان وقزوين وشيراز وغيرها من الحواضر الإيرانية الأخرى، بحيث لا تزال الحوزات العلمية الشيعية المعاصرة ـ بل جميع علماء العالم الإسلامي ـ مَدينةً لتلك الحركة التاريخية الكبرى، رغم أنّ الحكم لم يكن بأيدٍ صالحة تماماً، ولكنْ حيث كان على رأس السلطة حاكم شيعي، وكان يروم الدفاع عن حياض التشيّع في مواجهة الهيمنة العثمانية، التي كانت تتعصّب في عدائها للشيعة، وكانت تحثّ فقهاء السنّة ضدّ إقامة الحكم الصفوي في إيران، وتشجِّعهم على إصدار الفتوى بتكفير جميع الشيعة، عمد علماء الشيعة ـ وعلى رأسهم المحقِّق الكركي ـ إلى اغتنام الفرصة، وإظهار حقيقة تعاليم أهل البيت^، وعمدوا إلى تأسيس الحوزات العلمية الكبرى في كلٍّ من إصفهان وقزوين وشيراز وغيرها، وقاموا بتطوير الحركة العلمية الفقهية والروائية والفلسفية والرجالية وغيرها من الحركات العلمية. وإلى هذه الفترة بالذات تعود أهمّ وأكبر المؤلَّفات القيّمة التي شهدها تاريخ التشيُّع، بمعنى أنهم لم يتركوا فرصة يمكن اغتنامها إلاّ واغتنموها، ولم يسمحوا لأنفسهم بالتواني والتريّث. نعم لم يكن الحكّام ليسمحوا لهم بأكثر من ذلك، ولكنّهم مع ذلك كانوا يوظِّفون هذا الهامش الضيّق لتحقيق أفضل النتائج.

كانت هذه صورة مختصرة عن رسالة الحوزات الدينية والعلمية ومسؤولية الفقهاء وعلماء الإسلام. وهي تختلف عن الصورة النمطيّة المركوزة في أذهان الكثير منا. فنحن في الغالب نتصوَّر الحوزة العلمية بوصفها مَهْداً للتعليم والتعلُّم وإلقاء الدروس الدينية، وأنّها مجرّد جامعة مختصة بعلوم أهل البيت، تعنى بقراءة بعض الدروس، وتأليف بعض الكتب في الفقه والأصول والرجال، وإذا كان هناك من هامش يمارس فيه نشاط التبليغ على نطاق ضيِّق فبها ونعمت. بَيْد أن الحقيقة هي أنّ هذا لا يشكِّل إلاّ جانباً من جوانب الرسالة العظيمة الملقاة على عاتق العلماء، أما الجانب الأكبر والأعظم من هذه الرسالة فيكمن في الحقيقة المذكورة في هذه الآية القرآنية الشريفة، والتي تلقي بتلك المسؤولية الثقيلة ـ التي كانت على كاهل الأئمّة الأطهار ـ على كاهل الحوزات العلمية وفقهائها. ولا بُدَّ من تفهيم هذا الدور الذي يضطلع به الفقهاء والعلماء في الحوزة العلمية لجميع الذين ينتسبون إلى الحوزة العلمية. فإننا أحياناً نغفل هذا الجانب؛ بسبب انهماكنا في البحوث النظرية الدقيقة في حقل الأصول والفقه والفلسفة. وعليه يجب على الأساتذة في الحوزة العلمية أثناء إلقاء الدروس الحوزوية أن يلتفتوا إلى هذه الحقيقة، وأن يعملوا على بيانها وإيضاحها لتلاميذهم، بل يجب إدخال هذا الجانب، الذي تمّ تجاهله حتى الآن، ليكون واحداً من الموادّ الدراسية التي ترشد الطالب إلى حقيقة المسؤولية الملقاة على عاتقه؛ ليدرك الطالب أن مفهوم الحوزة يختلف عن مفهوم الجامعة؛ فإن الانتساب إلى الحوزة العلمية يعني أن تلبس جلباب الأنبياء والأئمة^، وأن تتَّبع أثر العلماء الأعلام، من أمثال: الشهيد الأول، والشهيد الثاني، والسيد المرتضى، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي ـ تغمّد الله أرواحهم برحمته ـ، فهذا هو مضمون ولبّ رسالة الفقهاء والحوزة العلمية.

وهذا ما كان واضحاً لدى الإمام الخميني&، ولذلك نجد أن البحوث الفقهية والأصولية والفلسفية لم تشكِّل عقبة دون إدراكه لحقيقة وروح الإسلام.

من هنا عندما تعمر حقيقة هذه الرسالة قلب العالم فإنه سيأخذ جميع العالم الإسلامي بنظر الاعتبار. فعلى العالم الديني إذا أراد أن يُحسَب في عداد الأحبار أن يتَّصف بجميع الصفات المذكورة في هذه الآية الشريفة. فعليه أن يكون شاهداً، وعليه أن يشرف على الناس، وأن يعيش واقعهم ومعاناتهم؛ كي يتمكن من هدايتهم والنظر في أمورهم، وأن يحافظ على الدين في مواجهة الهجمة الثقافية التي قد يتعرَّض لها من قبل المناوئين، وأن ينقذ الأمّة من الانحراف.

إنّ مثل هذا الفقيه يحمل في ذهنه هذا الهمّ منذ البداية، شأنه في ذلك شأن الأئمة والأنبياء. فلم تكن جهود الأئمة والأنبياء منحصرة بالتعليم والتعلم فقط، بل كان جلّ اهتمامهم ينصبّ على حفظ الأمة الإسلامية وصيانة الشريعة، والشهادة على ذلك. ولكنْ حيث إنّ المسائل التي تشغل بالنا في الغالب تتعلَّق بالتعليم والتعلُّم، وإن العلوم الإسلامية ومراحل استيعابها تستغرق وقتاً طويلاً، فإننا غالباً ما نغفل عن الرسالة الرئيسة والهدف الأساس، أو إننا لا نعطيه الأهمّية الكافية. ما هو الوقت الذي ننفقه للتعرف على ما يجري في العالم الإسلامي، وكيفيّة حرف المسلمين من الشيعة والسنة على السواء، والأفكار المناهضة للدين التي يتم نشرها في المجتمعات البشرية، ويعمل الأعداء من خلالها على إضلال البشرية؟! لقد كان الأنبياء والأئمة^ مسؤولين تجاه جميع البشرية، وكانوا يعملون في ذات الوقت على هداية الناس. فهل أعطينا هذا الجانب من التفكير الوقت نفسه الذي نخصِّصه للتفكير في مسألة من فروع العلم الإجمالي مثلاً؟! هل أولَيْنا هذا الجانب ومسائل العالم الإسلامي نفس الأهمية التي نوليها لتدريسنا مثلاً؟! وما الذي نقدِّمه لهذا النظام العظيم الذي شيَّدته سواعد هذه الأمّة المؤمنة، وعلى يد السلف الصالح من علمائنا، وبفضل الروح المعنوية للإمام الخميني وشجاعته وثباته ورؤيته الثاقبة، والذي ضحّى من أجله الكثير من علماء الكبار، من أمثال: الشهيد الشيخ مرتضى مطهري، والسيد الشهيد بهشتي، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر؟! لقد رأى السيد الشهيد محمد باقر الصدر الإنجاز الذي حقَّقه الإمام الخميني في إيران فلم تعُدْ روحه تعرف الاستقرار أو تطيق الثبات في جسده، حتّى استشهد من أجل تحقيق هذا الهدف الكبير. وقد طبعت مؤلَّفاته وكلماته بعد انتصار الثورة. وإنّكم إذا قرأتموها ستجدونها مفعمة وزاخرة بالشغف والحماس من أجل إقامة الدولة الإسلامية. وبين كتبه التي عُرضت في المؤتمر الأخير نشاهد كتاباً يحمل عنوان (الإسلام يقود الحياة)، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات الزاخرة بدعوة الأمة الإسلامية إلى النهضة، وإلى الصحوة، وإلى التأسّي بالشعب الإيراني الذي حقَّق النصر من خلال اتّباعه لقيادة رجلٍ حكيم وفقيه، ليسجِّل بذلك أروع الملاحم التاريخية، مشيراً إلى أن هذه الحركة ستغدو مبدأ للتطورات التاريخية القادمة، وما إلى ذلك من العبارات التي تسترعي الانتباه، والتي تحتاج من كلّ شخص أن يقف عندها مليّاً؛ إذ إنها تعكس عمق الشغف الذي كان يعمر وجود هذا الشخص من أجل إقامة الإسلام، حتّى كان يروم وضع جميع تلك العلوم من الفقه والأصول والفلسفة والاقتصاد تحت تصرُّف هذا الهدف الكبير، بل إنّه وضع كل وجوده في خدمة هذا الهدف، حتّى ضحّى بمرجعيته وبنفسه، وقدّم حتى شقيقته، فداءً لهذا الهدف.

إنّ هذه الرؤية لرسالة الفقهاء والعلماء والحوزات العلمية تغيّر من رؤية علماء الدين إلى حدٍّ كبير، وبذلك يتم التخطيط من أجل الوصول إلى الأهداف على نطاق واسع، وبشكل محدد وصائب. وإن إقامة الحكومة الإسلامية في هذا الإطار تكون من جملة إنجازات الحوزة العلمية، وواحداً من أدوار ورسالة فقهاء الإسلام والنظام الإسلامي بجميع أبعاده؛ لأن هذه الحكومة حكومة إسلامية، وهي حكومة تتقوّم بشريعة الله، وهي حكومة الأنبياء والأئمة، وكلّها تدخل في إطار الدين، ولا معنى هنا للفصل بين الدين والسياسة. وإنّ ما قيل من أنّ سياستنا هي عين ديانتنا، وإن ديانتنا هي عين سياستنا، يُمثِّل تفسيراً أميناً وصادقاً لهذه الآية؛ فإنّ هذه الآية صريحة في هذا المعنى، وقد سار الفقهاء من سلفنا الصالح على هذا النهج. وبطبيعة الحال من الممكن أن لا نجد ذلك منعكِساً في كلماتهم، ولكنّه واضح كلّ الوضوح على سلوكهم وأفعالهم. فهذا هو النهج الصحيح والسليم. ولذلك تمكَّن الشيعة، قبل غيرهم من المذاهب الإسلامية الأخرى، من إقامة الحكومة الإسلامية الحقيقية في القَرْن الأخير، فكان هذا الافتخار من نصيب مدرسة أهل البيت. والسبب في هذا كلّه يعود إلى ذلك التخطيط الدقيق من قبل الأئمة الأطهار^، ومن بعدهم العلماء وسلفنا الصالح، والذين تربَّوْا في أحضان مدرستهم، حيث واصلوا ذات الطريق، ولم يستسلموا للحكومات الجائرة، وعملوا على تطبيق هذه المسؤوليات الثلاث التي اشتملت عليها هذه الآية الشريفة.

لقد كانت هناك في التاريخ إنجازات كبيرة، ومنها ما تقدَّم من دور المحقِّق الكركي، والعلماء الكبار من أمثال: العلامة المجلسي، والشيخ البهائي، وآخرين كانوا في ذلك العصر الذي شكَّل منعطفاً تاريخياً، مهَّد الطريق لانتصار الثورة الإسلامية الراهنة. فمنذ ذلك الحين انتعشت وازدهرت حوزاتنا العلمية، وتمّ التأسيس للحوزات العلمية في أغلب الحواضر الشيعية، وخاصّة الإيرانية منها. واستمرّ الأمر حتّى وصل الدور إلى الإمام الخميني، وتأسيس الجمهورية الإسلامية، التي هي حكومة جمعت بين مواكبة العصر وبين أن تكون مادّتها بالكامل مستنبطة ومستوحاة من مدرسة وفقه أهل البيت^، وذلك في ظلّ الظروف الراهنة. وقد أثبتت أفضليتها على سائر النماذج التي عمد الأعداء إلى صياغتها في المنطقة صياغة مرتجلة. فقد أكد النظام الإسلامي في إيران أفضليته في صياغة الدستور والقانون الأساسي والسلطة التشريعية، وفي النظام القضائي، وفي إدارة الشؤون الاجتماعية، وفي حقل الإنتاج والعلم والتصنيع، وفي ساحة الجهاد ومواجهة الأعداء والمناوئين للإسلام، وإيقاظ العالم الإسلامي، وإحياء روح المطالبة بالعدالة، والصمود بوجه الأعداء، وعدم الخشية من الاستكبار العالمي، والاستبسال في مكافحة هذا الاستكبار. وقد تجلَّت نتائج ذلك في العالم الإسلامي، بل في العالم بأسره؛ وذلك لاستناده إلى ذات الاستراتيجية المعتمدة في التيارات الإلهية التي قادها الأنبياء، ومن بعدهم الأئمة الأطهار، ثم العلماء الصالحون وأحبار هذه الأمّة، الذين ترعرعوا واغترفوا من معين العلم في مدرسة أهل البيت.

إنّه لمن الإجحاف أن يتصوَّر أحد أن دور الحوزة العلمية منحصر بالدرس والبحث، أو على حدّ تعبير البعض: (تكرار المكرَّرات)، واجترار العلوم؛ فإنّ هذا الكلام مجانبٌ للصواب. إنّ دور علماء الدين في الحوزة العلمية هو دور الأنبياء والأئمة الأطهار. وإنّ دور الأنبياء والأئمة هو ممارسة السلطة على جميع العالم من أجل تطبيق جميع أبعاد الإسلام. إن عالم الدين والطالب في الحوزة لا يشبه في مسؤوليّته ودوره الطالب الجامعي. نعم، إن دور الطالب في الجامعة يقتصر على التعليم والتعلُّم والتخصُّص في فرعٍ من فروع العلم؛ ليذهب بعد ذلك ليشتغل ضمن مجال اختصاصه العلمي. أما عالم الدين فدوره أبعد من ذلك بكثير. نعم، إن من وظائف طالب العلم في الحوزة هو تحصيل الكثير من العلوم. وإنّ هذه العلوم تستغرق الكثير من وقته، ولكنْ عليه أن لا يذوب فيها إلى حدّ الاضمحلال والزوال، وأن لا يكون طلب العلم عاملاً ينسيه الهدف الرئيس ورسالته الأساسية. وإنّ الغاية من التعليم هي الاستيلاء على العالم من أجل إقامة الإسلام وتطبيق الشريعة وإحيائها، بكلّ ما تحتوي عليه من أبعاد فقه أهل البيت^، وعدم الاقتصار على بُعْدٍ من أبعاده وإهمال الأبعاد الأخرى. فعليه أن يأتي بنظامٍ اقتصادي، وأن يأتي بنظامٍ إداري، وعليه في الحقل السياسي أن يتمكَّن من بيان النظام السياسي لأهل البيت^. وفي هذا المجال يمثل تشكيل التجمعات واللجان في الحوزة العلمية مشروعاً جيِّداً، ولكنْ مع مراعاة ما قاله السادة، وهي أنْ تعمل هذه اللجان على تغطية بعضها، وأن تكون كلّ واحدة منها مكملة للأخرى، لا أن تتصارع فيما بينها، أو يكون كلّ همها أن تزيح الأخرى من طريقها؛ إذ إن لدينا من الأعمال في سياق هذا الهدف الكبير بحيث نحتاج إلى تضافر جميع الجهود والطاقات واللجان المختصّة. واليوم هناك حاجة لكلّ واحد منكم في العالم الإسلامي وغير العالم الإسلامي، وإنّ قيمتكم عالية عند الله، وأوقاتكم ثمينة، بحيث لا يبقى هناك من مجال لاستهلاك الطاقة في النزاعات الجانبية، والانحياز لهذه الجهة أو لتلك الجماعة. فعلى جميع هذه الكيانات أن تشتغل في المضامين واللباب، وتترك القشور والأمور الشكليّة. وإن العمل بالمضامين وجوهر الأمور يعني المسائل التي سبق أن ذكرها قائد الثورة، وهي تلك الأمور التي يجب على الحوزة العلمية أن تضطلع بها. فالنظام في الكثير من أقسامه وفروعه بحاجة إلى برمجة، وإلى تربية كوادر، سواءٌ في حقل المصارف والبنوك في البلاد وفي مختلف الإدارات؛ حيث هناك طلبٌ كبير في مجال العلوم الإنسانية، وفي مجال التشريع الإسلاميّ. فلو كان بإمكان السلطة التشريعيّة أن تعدّ مجموعة من العلماء المجتهدين ألم يكن المشهد مختلفاً عمّا هو عليه الآن؟ لو كان الأمر كذلك لكان المجلس أكثر إسلاميّة، وأكثر نفعاً. عندما كنا نخطِّط قبل الثورة، ونفكِّر في تأسيس مجلس لشورى الثورة، كنا نتصوَّر أن من بين شروط هذا المجلس أن يكون أكثر أعضائه مناهزين للاجتهاد والخبراء في المعارف والتعاليم الدينية، فهل مجلسنا الراهن كذلك؟! إن الفارق كبير بين المجلس الذي يكون جميع أعضائه من المتخصِّصين الكبار في المجال الديني، أو يتعاون معه المتخصِّصون في الفروع الأخرى؛ لتلبية الحاجة التشريعية للمجتمع الإسلاميّ. وحتّى الآن كانت هذه الحاجة مقتصرة على الداخل، وهي حاجة تخصّ الفقهاء والعلماء والحوزات الدينية. أمّا مؤخَّراً فقد بدأنا نشهد طلبات تأتينا من العراق، حيث تروم الحكومة العراقية أن تعمل على أسلمة قوانين الدولة، وهي لذلك بحاجة إلى علماء مختصّين يمكن لهم تشريع القوانين الإسلامية. (فقد نظَّموا قانون الأحوال الشخصية، وأرسلوا لنا نسخةً منه؛ لمعرفة ما إذا كان مشتملاً على ما يخالف الإسلام). وهكذا الأمر بالنسبة إلى البلدان الأخرى، وهي البلدان التي شهدت ظاهرة الصحوة الإسلامية. ومن بينها الدستور المصري، الذي تمّت المصادقة عليه. فهل هو إسلاميّ حقّاً؟ كان على علمائنا التهميش عليه قبل المصادقة عليه؛ فهو غير إسلاميّ حتّى على وفق متبنّيات الفقه السنّي. إنّ هذا يمثِّل جانباً من حاجة المجتمع الإسلامي إلى العلماء الأعلام، وإلاّ فإن الحاجة أعمق وأوسع من ذلك بكثير.

أيّها الأحبّة، هناك الكثير من الأعمال والمشاريع التي تنتظر مَنْ يقوم بأعبائها، سواءٌ تلك التي تحتاج إلى تنظيم وإبداع وتنظير أو تلك التي تحتاج إلى بناء الكوادر، وإعداد الطاقات، أو الأعمال التي تحتاج إلى تبليغ ومشاريع ثقافية. وهذا هو واقع الظرف الراهن؛ لأن الهجوم على الإسلام كبيرٌ للغاية، وخاصّة الإسلام المتمثِّل بمدرسة أهل البيت^، وهو أمرٌ شهده التاريخ الإسلامي على الدوام، حيث لم يذعن علماؤنا لمطالب المستكبرين، ولم يركنوا إليهم، وحافظوا على الإسلام بكلّ وجودهم، وكانوا شاهدين على ذلك، وتحمَّلوا من أجل ذلك كلَّ أنواع العَنَت من السجن والتعذيب والنفي إلى الاستشهاد. وإنّ تاريخ التشيُّع في هذا المجال واضحٌ، وليس هناك من مذهب يتمتَّع بمثل هذا التاريخ الناصع والمشرق.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفِّقنا إلى شكر هذه النعمة، نعمة إقامة الجمهورية الإسلامية، التي منّ الله بها علينا، برعاية وقيادة فقيه عادل، يمثِّل الامتداد الطبيعي للأئمة الأطهار^. وهو أمرٌ لم يتسنَّ للأئمّة بعد استشهاد أمير المؤمنين× تحقيقه، فعلينا لذلك أن نشكر هذه النعمة، وأن نعمل على تطويرها، وأن نقيمها في جميع البلدان التي يمكن إقامتها فيها؛ لأن مفهوم إقامة الحكومة الإسلامية تابع لمفهوم ومنطق الأقلّ والأكثر، والذي يتنجَّز فيه الحدّ الأدنى والأقلّ في ظلّ تعذُّر الأكثر؛ لكونه مشمولاً لقاعدة (لا يترك الميسور بالمعسور)، و(الأمور التي لا تسقط بحالٍ). فكلما أمكن تطبيق الحكومة الإسلامية في مواجهة الحكومات المادية والعلمانية والمناوئة للإسلام وجب تطبيق هذا المقدار من الحكم الإسلامي، وعلينا أن ننظر إلى الإسلام ورسالة الحوزات العلمية من هذه الزاوية.

نسأل الله التوفيق لنا ولكم في خدمة هذا الدين الحنيف، ونسأله أن يحشر روح إمامنا الكبير وشهداء الإسلام مع الأئمّة الأطهار^، وأن يرزقهم الدرجات العالية، وأن يَهَب قائد الثورة المعظَّم مزيداً من العِزَّة والقوّة والعظمة؛ كي يتمكَّن من الوصول إلى أهدافه، وتحقيق آماله الكبيرة، في هذا الطريق العظيم.
________________________

(*) كلمةٌ أُلقيت في تجمُّع طلابي في الحوزة العلمية. والسيد الهاشمي أحد الفقهاء الكبار في إيران، ومرجع ديني، له العديد من المؤلَّفات، وهو أحد أبرز تلامذة السيد محمد باقر الصدر.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً