أحدث المقالات

السيد ضياء مرتضوي(*)

ترجمة: سرمد علي

إشارةٌ عابرة

يُعَدّ الفقيه الكبير والأستاذ المبدع الشيخ يوسف الصانعي واحداً من أبرز تلاميذ الإمام الخميني&، ومن طلائع المدرسة الفقهية لذلك الفقيه الفذّ. وإن الذي يُضاعف من تميُّز الشيخ الصانعي ليس هو الاهتمام الخاصّ من قِبَل الإمام الخميني بالمنزلة العلمية لهذا الطالب المجدّ والمثابر أو قوّته العلمية والاجتهادية فحَسْب، بل وكذلك في شجاعته في توظيف مقدرته العلمية والفقهية في تقييم الآراء الفقهية المطروحة، وإعادة النظر في المباني والأدلّة في إطار الموازين الاجتهادية لدى الشيعة، والسعي للحفاظ على الموازين الاجتهادية.

وحيث حصلتُ على شرف الاستفادة من دروس سماحته، وتعرَّفت ـ إلى حدٍّ ما ـ على آرائه الفقهية، فإني حتّى إذا لم أكن أتّفق معه في بعض آرائه الفقهية بطبيعة الحال، إني على ثقةٍ كاملة من أن آراءه الفقهية ـ كما حظيَتْ باهتمامٍ واسع في المجتمع وعلى مستوى النُخَب، وأضحَتْ ملاكاً لعمل المقلِّدين بوظائفهم الشرعية ـ سوف تترك أثرها في الحوزات العلمية الفقهية أيضاً، وأنها ستحظى في المستقبل ـ ولا سيَّما على مستوى المباني والاتجاهات العامة ـ باهتمامٍ أكبر، ويتمّ توظيفها على نطاقٍ أوسع.

وإذا حال حجاب «المعاصرة»، وكذلك بعض أنواع «الجفاء»، بل حتى بعض أنواع «الأنا»، دون استفادة البعض من آرائه، إلاّ أنه بالنظر إلى ضرورة الحركة الفقهية في الحوزات العلمية نحو المزيد من الفاعلية والتأثير والجدوائية، وجعل الفقه أكثر قدرة على مواكبة العصر وتلبية متطلباته والإجابة عن أسئلته، لا يبقى هناك من طريق سوى الاهتمام بهذه الآراء، أو إن هذه الآراء ونظائرها ـ في الحدّ الأدنى ـ سوف تبقى ماثلةً أمام الحوزات العلمية الفقهية بوصفها أسئلةً جادّة وحيوية. وعلى أيّ حالٍ فإن الذي يجذب الانتباه من الزاوية الدراسية والاجتهادية أكثر من الفتاوى المميَّزة للمرجع الصانعي، ويُعَدّ ملاكاً أساسياً للتقييم العام لآرائه الفقهية، هو التعرُّف على نوع النظرة التي يحملها إلى الفقه، والاتجاهات العامة والمباني الفقهية لهذا الفقيه، وهذا في حدّ ذاته يحتاج إلى مجالٍ واسع وتخصُّصي للوفاء بحقّه. وإن الذي يسعنا في هذه العجالة ـ بعيداً عن التوثيق التفصيلي الذي يحتاج إلى مجالٍ أوسع ـ تقديم نظرة عابرة لبعض هذه المباني، وإنْ كانت هذه النظرة أكثر من مجرّد نظرة عابرة.

المقدّمة

إن الفقه لغةً هو الفهم، أو هو فهمٌ خاصّ، وله ارتباطٌ بالحلّ والفتق، كما يقول الزمخشري؛ لأن أصله يعود إلى هذا المعنى. كما يذهب بعضٌ، من أمثال: الراغب الإصفهاني، إلى اعتبار الفقه من هذه الزاوية أخصّ من العلم بمعناه العام، وقال في ذلك: «الفقه هو التوصل إلى علمٍ غائب بعلمٍ شاهد، فهو أخصّ من العلم»([1]). ولا شَكَّ في أنه حيث يتمّ التأكيد على «التفقُّه» في جانب من التعاليم الدينية، كما نجد ذلك في الآية 122 من سورة التوبة، فإن المراد منه هو هذا المعنى العامّ واللغوي لمفردة الفقه. وقد أدّى ذلك إلى استعمال الفقه في معنىً ودائرة أخصّ، حيث تمّ تعريف «الفقه» في بعض المصادر اللغوية بمعنى «علم الدين». ولكنْ كما نعلم فإن الدائرة الاستعمالية لمفردة الفقه، بل وحتّى الدائرة المفهومية، قد اكتسبت لاحقاً معنىً أخصّ، وأخذ يستعمل بوصفه معنىً «اصطلاحياً» في دائرة ضيِّقة من التعاليم الدينية والإسلامية. وها نحن بعد مضيّ أكثر من ألف سنةٍ نشهد استعمال مفردة علم الفقه للإشارة إلى أحد العلوم الإسلامية.

إن الفقه علمٌ يسعى إلى معرفة التكاليف والآداب العملية، وبلورة ذلك الجانب من الحياة الفردية والاجتماعية للفرد، والذي يرتبط بدائرته السلوكية، وهو القسم الذي يطلق عليه مصطلح «الأحكام الشرعية»، والذي يشكِّل ـ في طول «التعاليم الاعتقادية»، وإلى جانب «التعاليم الأخلاقية» ـ الضلع الثالث من الأضلاع الأساسية لمثلث الإسلام. ومن هنا كان للفقة الارتباط الأوثق بالحياة الفردية والاجتماعية للمسلمين، الأمر الذي أدّى من جهةٍ إلى اتساع هذا العلم وأهمّيته البالغة، وأدّى من جهةٍ أخرى إلى جعل دَوْر الفقهاء في الحياة الدينية للمسلمين دَوْراً مؤثِّراً وممتازاً.

يشتمل علم الفقه ـ مثل سائر العلوم ـ على «منهج» و«مصادر» و«مباني» خاصّة به. وهناك من العلوم ما يرتبط بشكلٍ وثيق بوصفه مقدّمة أو أداة بالنسبة له؛ وبعضها، مثل: «أصول الفقه»، قد تبلور في الأساس في ظلّ علم الفقه، وبوصفه مقدّمة له؛ وبعضها، مثل: «علم الرجال» و«علوم الحديث»، قد شاع وانتشر في ظلّ علم الفقه أيضاً. وإن الذي يطلق عليه حالياً ومنذ القدم عنوان «الاجتهاد» إنما هو في الواقع الأسلوب والمنهج الأصليّ في علم الفقه والوصول إلى الأحكام الشرعية، والذي يمكن تسميته «فنّاً» واسعاً وعميقاً، مع الالتفات بطبيعة الحال إلى أن بعض فقهائنا يطلقون عليه عنوان «القوّة القدسيّة»، وبالإضافة إلى خصائص مصادره ومعطياته التي تعدّ جزءاً من الشأن الهامّ للدين فقد اعتبروا منشأه العلمي والقِيَمي أمراً أسمى من مجرّد الفنّ والمقدرة العلمية والصناعية على مستوى سائر الفنون.

إن الارتباط الوثيق لهذه العلوم بالفقه، والدَّوْر الذي تلعبه في كيفية الاجتهاد وفي معرفة الأحكام الشرعية، تدفع الفقيه إلى الحصول على المعرفة التخصُّصية بتلك العلوم. وإن هذا الأمر لا مناص منه بالنسبة إلى المسائل التي تلعب دَوْراً مباشراً في الاجتهاد وكيفية الاستنباط. ومن هنا فإن الفقيه، حتّى إذا لم يكن متخصِّصاً في جميع مسائل العلوم المرتبطة بالفقه، مضطرٌّ إلى التخصُّص في المسائل والمباني المؤثِّرة، وأن يكون له رأيٌ ومبنى محدَّد. وهذه الحاجة واضحة في علم الحديث وعلم الرجال، وتُعَدّ في علم «أصول الفقه» ـ الذي يُشكِّل علم الفقه فلسفته الوجودية، بل يُعَدّ في نظرة عامة جزءاً من علم الفقه ـ أمراً في غاية الوضوح، ولا يمكن للفقيه أن يمارس الاجتهاد في مجال المصادر والأحكام الشرعية دون أن يكون حائزاً على ملكة الاجتهاد، ودون معرفة وتعيين مبانيه الأصولية. ومن هنا فإن الفقهاء منذ القِدَم لم يكتفوا إلى جانب الفقه بالبحث والتدريس في مسائل أصول الفقه فقط، بل قام الكثير منهم بتأليف الكتب المستقلّة في هذا الشأن، وقام بعضهم في مؤلَّفاته الفقهية بالإشارة إليها في المقدّمة؛ لغرض بيان مبانيهم وأطرهم الأصولية، وبذلك تبلور علم مستقلّ إلى جانب سائر العلوم الإسلامية الأخرى.

إن علم الأصول ـ الذي تستفيد منه بعض العلوم الأخرى، من قبيل: «علم التفسير» أيضاً ـ قد اتَّسع وتطوَّر في القرنين الأخيرين بشكلٍ ملحوظ، وتحوَّل إلى أحد الاحتياجات العامّة في الحوزات العلمية على مختلف المستويات الدراسية والعلمية والاجتهادية. وبذلك يكون امتلاك الفقيه لـ «المباني الأصولية» الواضحة والمعقولة على الدوام حاجةً ضرورية وأصلاً ثابتاً، وتشكِّل هذه المباني منعطفاً في معرفة اتجاهه الفقهي، ومقدرته الاجتهادية، وتحليل فتاواه.

إن الفقيه المحترم والأستاذ الكبير الشيخ الصانعي، الذي مارس التدريس في مجال أصول الفقه على مدى سنوات طويلة، وأثبت ذلك أيضاً من خلال دراساته وأبحاثه الفقهية، كان له مبنىً في مسائله، ولا سيَّما تلك التي تلعب دَوْراً كبيراً في عملية الاستنباط. وهذا ما يمكن تناوله في فرصةٍ أخرى.

ولكنْ إلى جوار الاحتياجات المتقدِّمة ـ والتي يتمّ طرحها بشكلٍ صحيح وأصوليّ في تعريف علم الفقه والاجتهاد ومقدّماته ـ فإن الذي يحتاج إليه الفقيه من زاوية أعمّ ومن أفق أوسع في معرفة وجدوائية معطياته الفقهية بشكلٍ أدقّ وأشمل، ويلعب دَوْراً هامّاً ووحيداً في اجتهاده وتبلور «مبانيه وقواعده الفقهية»، عبارةٌ عن بعض المعارف و«الآراء العامة» والكلّية في مجال الدين والشريعة والاجتهاد الإسلامي. وإن الذي عثرت عليه من هذه الناحية طوال سنوات تشرُّفي بالاستفادة من المرجع الصانعي عن كَثَبٍ عبارةٌ عن الكثير من النقاط والمباني العامة والكلّية. ولكنّنا قبل شرح بعض المباني الفقهية لسماحته سنقدِّم قائمة ببعضها، ونترك شرحها إلى فرصةٍَ أخرى:

1ـ التأكيد على جامعية الإسلام وتلبيته لاحتياجات جميع العصور.

2ـ التأكيد على دَوْر الاجتهاد في حياة الإسلام.

3ـ التأكيد على أصالة الاجتهاد الجواهري.

4ـ التأكيد على دوام وحيوية الفقه وحرّية الاجتهاد.

5ـ الاهتمام بمعيار جدوائية الفقه بوصفه ملاكاً في الاجتهاد.

6ـ الاهتمام بمعرفة الموضوع والنزعة الواقعية في الاجتهاد.

7ـ التأكيد على وجوب الاهتمام بعنصر الزمان والمكان في الاجتهاد.

8ـ الاهتمام بدَوْر الفهم العُرْفي للأدلة اللفظية في الاجتهاد، ولا سيَّما إلغاء الخصوصية.

9ـ التأكيد على متانة الاجتهاد الشيعي، وقيامه على العقل والمنطق.

10ـ الاهتمام بقوّة وسَعَة الفقه في دائرة العلاقات الاجتماعية.

بعض المباني الفقهية للشيخ الصانعي

نعلم أن جميع الفتاوى الفقهية يجب أن تستند إلى أدلّة وشواهد كافية. ومن الناحية الكمّية فإن القسم الأصلي من هذه الأدلة هو الآيات والروايات الموجودة في مختلف الأبواب والمسائل الفقهية. والقسم الآخر من الأدلة عبارةٌ عن مجموعة من القواعد الفقهية العامة، حيث تكون دائرة كلّ قاعدة رَهْناً بمفادها، وتشمل جانباً من مسائلها. والقواعد من هذه الناحية ليست على وتيرةٍ واحدة؛ فهناك منها ما يجري ضمن نطاق خاصّ، ومنها ـ من قبيل: قاعدة نفي الضَّرَر، ونفي الحَرَج ـ إنما يجري في نوع الأبواب الفقهية. بَيْدَ أنه إلى جانب القواعد الفقهية أو أبعد منها، قد يستنبط كلّ فقيه، تَبَعاً لمستواه واتجاهه الاجتهادي، بعض المباني الفقهية الأكثر تعميماً وشمولية من مجموع الشريعة والأدلّة المتوفّرة، والتي رُبَما تطغى حتّى على نوع الاستناد إلى القواعد الفقهية أيضاً.

لقد توصّل الشيخ الصانعي في إطار موازين الاجتهاد ـ تَبَعاً لأستاذه الكبير الإمام الخميني&، والتي عبَّر عنها مراراً وتكراراً بـ «الاجتهاد الجواهري» ـ إلى مباني فقهية ممتازة، أو إنه يؤكِّد عليها. وإن الذي يستحقّ الاهتمام والتحليل من الناحية العلمية والاجتهادية أكثر من الفتاوى المتميِّزة لسماحته هو هذا النوع من المباني، والتي يعتبر بعضها في الوقت نفسه فتوى فقهية أيضاً. ومن ذلك، على سبيل المثال: إن ما يذهب إليه الصانعي في التأكيد على وجوب قيام العلاقات الإنسانية بين جميع أفراد البشر ـ بغضّ النظر عن الاختلاف في التفكير والعقيدة ـ إنما تبلور في ظلّ بعض هذه المباني. وفي ما يلي نشير إلى بعض هذه المباني، وسوف نكتفي في كلّ مبنى بذكر بعض فتاوى سماحته.

1ـ الحرمة والكرامة الذاتية للإنسان

يتمتع جميع الناس؛ بسبب إنسانيتهم، بحرمة وكرامة ذاتية، وبقِيَم وحقوق إنسانية متساوية. ولا يحقّ لأيّ أحدٍ أن يتّخذ من عقيدته مسوِّغاً للتعرُّض إلى حقوق الآخرين، واستباحة التصرّف في شؤونهم المادية والمعنوية والفردية والاجتماعية. ومن هنا يذهب الشيخ الصانعي إلى التأكيد على وجوب صيانة الأرواح والأموال والأعراض والكرامات والحرّيات والحقوق الإنسانية لجميع الناس. وإن الاستثناءات الواردة في هذا الشأن، والناشئة عن الأسباب العرضية والخارجية، إنما تخصّ مجموعةً خاصة، دون أن يكون للعقيدة دَوْرٌ في ذلك. ومن ذلك، مثلاً: إنه كما يحرم اغتياب الشخص الشيعي، يحرم كذلك اغتياب غيره من المسلمين، وغير المسلمين أيضاً. وإذا جاز في بعض الموارد اغتياب شخصٍ فهو يصدق بحقّ الجميع، دون فرقٍ بين شخصٍ وآخر. وكذلك في ثبوت حدّ القذف لا فرق بين أن يكون المقذوف مسلماً أو غير مسلم. كما يذهب الصانعي ـ في ما يتعلَّق بالقصاص والدية الكاملة، ووجوب الكفارة على القتل أيضاً ـ إلى عدم اختصاص ذلك بقتل المسلم، وإنه يشمل غير المسلم أيضاً، وإنْ كان كافراً حربياً، ولكنه «معاهدٌ». وتتحقَّق المعاهدة في ضوء الانضمام إلى القرارات والمعاهدات الدولية أيضاً. كما أن مجرّد الاعتقاد ـ ولو لم يكن صحيحاً من وجهة نظر الإسلام ـ لا يمكن أن يكون سبباً في نجاسة شخصٍ، ومن هنا فإن غير المسلمين بأجمعهم ـ الأعمّ من أهل الكتاب وغيرهم ـ محكومٌ عليهم بالطهارة من الناحية الشرعية. ويجري ذات هذا الملاك في الزواج أيضاً، مع استثناء المجموعة الثالثة، المتمثِّلة بـ «الكفّار المعاندين» بطبيعة الحال.

ويقوم هذا الاتجاه من وجهة نظر شيخنا الأستاذ على أساس منطق ومنهج القرآن الكريم؛ إذ يوجِّه خطابه إلى «الناس» و«الإنسان». إن القرآن الكريم وإنْ كان «هدىً للناس»، وقد نزل لهداية جميع أفراد البشر، وإن النبيّ الأكرم| بدَوْره وإنْ كان «بشيراً» و«نذيراً» و«رحمة للعالمين» جميعاً، ولكنّ هذا لا يعني أنه إذا لم يتمكّن بعض البشر من التعرُّف على رسالة الإسلام عن كثب؛ لأيّ سببٍ من الأسباب، ولم يؤمن به، أو حتّى إذا لم يتمكّن من الإقرار بوجود الله عزَّ وجلَّ والاعتقاد بهذه الحقيقة المطلقة، فإنّ هذا العجز سيحكم عليه بحرمانه من جميع حقوقه وقِيَمه الإنسانية، ومن هنا فإن قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13) لا يختصّ بـ «المسلمين»، ولا حتّى بـ «الموحِّدين» أيضاً. ومن هنا فإن مفهوم «التقوى» الذي يَرِدُ في هذه الآية بوصفه ملاكاً عامّاً للتفاضل بين الناس يجب عدم حصره في إطار التمسّك والالتزام بالتعاليم الإسلامية، أو حتّى التوحيدية، والأديان السماوية فقط. ويرى الصانعي جواز وصحّة الوقف والوصية أيضاً لمصلحة غير المسلمين، وإنْ كان ـ على سبيل المثال ـ من أجل إعمار كنيسةٍ للنصارى أو كنيس لليهود. وكذلك جواز التيمُّم عند توقُّف حياة الكافر ـ حتّى إذا كان حربياً ـ على ماء الوضوء؛ وذلك لحرمة حياة الإنسان، بغضّ النظر عن المسائل العارضة. ومن الواضح أن هذا الأمر لا يعني تصحيح جميع المعتقدات والقِيَم السائدة في مختلف المجتمعات البشرية، وإنما هو تأكيدٌ على هذه الحقيقة، وهي أننا حتّى بعد الفصل العام بين «الإنسان القاصر»، أيّاً كان معتقده، و«الكافر المقصّر»، فإن قصور الإنسان عن معرفة الدين أو المذهب الحقّ لا يشكِّل ذريعةً لسلب حقوقه الإنسانية والعامة المنبثقة عن حرمته وكرامته الإنسانية. ومن هنا فإن لـ «الكفر» من وجهة نظر المرجع الصانعي معنىً خاصّاً، وكما أسلفنا فإن عنوان «الكافر» لا يشمل كلّ مَنْ هو غير مسلم.

إن الاهتمام بحرمة وكرامة الإنسان من وجهة نظر الشيخ الصانعي لا ينحصر بما تمَّتْ الإشارة إليه في دائرة العقائد. لقد ترك هذا الاتجاه تأثيره في الأقسام الأخرى من الفقه أيضاً، ومن الممكن تحليل بعض النماذج من هذه الزاوية لاحقاً. كما قال سماحته في حكم كراهة ردّ ذوي الحاجة: إن هذا الحكم إنما يكون إذا لم يؤدِّ إلى تحوُّلهم إلى عالةٍ على المجتمع، وأما إذا أدّى إلى ذلك فردُّهم يكون واجباً.

2ـ الاختلاف بين الكافر وغير المسلم

نعلم أن الكفّار أو غير المسلمين ينقسمون من الناحية الفلسفية والكلامية إلى قسمين: «قاصرون»؛ و«مقصِّرون». إن القاصرين، وهم الذين يمثِّلون ـ بحَسَب تعبير الإمام الخميني& ـ الأغلبية الساحقة من الكفّار، معذورون في معتقداتهم وأعمالهم، ومن هذه الناحية لا يجب اعتبارهم من الخالدين في جهنّم بسبب اعتقادهم وأعمالهم، بل إن الصالحين منهم ـ كما قال الشهيد مطهَّري ـ من أهل الجنّة. وأما من الناحية الشرعية، الناظرة إلى التقسيم الاعتباري والفقهي بين المسلم وغير المسلم في المسائل والأحكام، فإن فقهاءنا إمّا لم يرَوْا فرقاً بين أنواع الكفر، أو أنهم وجدوا الفرق بملاك «أهل الكتاب» أو «أهل الذمّة» وعدمه. ومن ذلك، على سبيل المثال: إنهم في بحث حكم الغِيبة لم يفرِّقوا بين أصناف غير المسلمين، وفي حكم الطهارة والنجاسة إذا وجدوا فرقاً فهو يعود إلى كونهم من أهل الكتاب أو من غيرهم.

إلاّ أن من بين المباني الفقهية العامّة للشيخ الصانعي، التي تعدّ منشأ اجتهادياً للعديد من فتاواه بشأن تنظيم العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغير المسلمين، هي أن غير المسلمين لا ينقسمون إلى: قاصرين ومقصِّرين من الناحية الكلامية والفلسفية فقط، بل يجب تقسيمهم إلى هذين القسمين ـ بهذا الملاك ـ من الناحية الفقهية والشرعية أيضاً:

1ـ إن «الكفّار المعاندين»، الذين أشار إليهم القرآن الكريم بقوله: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ (النمل: 14)، مقصِّرون أيضاً؛ إذ يقصّرون في معرفة الحقّ رغم تمكُّنهم من ذلك.

2ـ «غير المسلم المعذور»، الأعمّ من أهل الكتاب وغيرهم. فهؤلاء وإنْ لم يكونوا مسلمين، ولكنْ يجب عدم اعتبارهم كفاراً. إن الكافر هو الذي يتجاهل الحقّ عالماً ويعمل على كتمانه. فعلى حدّ تعبير الشهيد مطهَّري: إن النسبة بين «الإسلام» و«الكفر» هي نسبة «التضادّ»، وليس «التباين». ومن هنا فإنه ليس كلّما لم يكن الشخص مسلماً فهو كافرٌ قطعاً، بل هناك صنفٌ ثالث يطلق عليه الشيخ الصانعي مصطلح «غير المسلم». ومن هذه الناحية يفرِّق بين هذين القسمين في مسائل من قبيل: الحكم بالنجاسة والطهارة، وحرمة نبش القبر، وإعطاء زكاة الفطرة، والذبح الشرعي، والزواج، والولاية على الولد، والإرث، وكفاية وعدم كفاية تحرير العبد غير المسلم، وحتّى تكليف الكفّار بالأحكام الشرعية (فروع الدين)، وليس بين المسلم وغير المسلم، أو الكافر من أهل الكتاب وغير أهل الكتاب. كما يرى أن «الكافر الحربيّ» هو الذي يقاتل المسلمين على إسلامهم، وليس كلّ حربٍ أخرى. كما أنه لا يرى تحقّق الارتداد بمجرّد الشك أو الارتداد الاعتقادي، بل المرتدّ، الذي تترتَّب عليهم أحكام الردّة، هو الذي يدفعه ارتداده إلى هتك حرمة وتكذيب النبيّ الأكرم|، واتّهام المسلمين وإهانة مقدَّسات المجتمع الإسلامي، من قبيل: حرق القرآن الكريم، والعياذ بالله. وقد ذهب سماحته في ما يتعلَّق بشرائط الشاهد إلى الاكتفاء بمجرد الوثاقة والاعتدال، ولم يشترط «الإيمان»، ولا حتّى «الإسلام».

3ـ عدم الفرق بين الجنسين في المنزلة الإنسانية والحقوق الأساسية والاجتماعية

إن كلاًّ من الرجل والمرأة من حيث الجوهر و«النوع» الإنساني يمثِّلان حقيقة واحدة. وإن كل تعريف لحقيقة الإنسان من هذه الزاوية وعلى هذا المستوى يُعَدّ تعريفاً مشتركاً، يصدق عليهما معاً. ومن ناحيةٍ أخرى ليس هناك من شكٍّ في وجود بعض نقاط الاختلاف بين الرجل والمرأة؛ بوصفهما صنفين وجنسين إنسانيّين. ولا يمكن لأيّ مدرسةٍ أو مؤسّسة حقوقية تهتمّ بما يكفي بالحقائق التكوينية والمصالح الواقعية في الحياة الإنسانية أن تتجاهل هذه الفوارق، وهي أمور تقتضي ظهور بعض الحقائق المختلفة في الحياة الطبيعية والاجتماعية لكلٍّ من المرأة والرجل. من هنا فإن التشريع الإسلامي، الذي يمثِّل «الإنسان» فلسفته الوجودية؛ حيث يتبلور من مصدر الوحي الإلهي، ويصدر على أساس الحقائق الوجودية للإنسان ضماناً لسعادته الأبدية، لم يتجاهل هذه الفوارق، ولا يمكن لأيّ فقيهٍ أن يتجاهلها في إطار المصادر الإسلامية والفقهية. ولكنّ الأصل والمبنى الاجتهادي الثابت ـ في دائرة معرفة الفروق ـ، والذي نطلق عليه في الحقوق والتكاليف مصطلح «الأحكام الشرعية»، يقوم على «الاشتراك» بين المرأة والرجل، وليس «الاختلاف». وبعبارةٍ أخرى: إن الاشتراك بين المرأة والرجل في الأحكام لا يحتاج إلى دليلٍ خاص، إنما الاختلاف بينهما هو الذي يحتاج إلى الدليل، وعند الشكّ يجب تغليب جانب الاشتراك.

إن الذي يميِّز اجتهاد وفقاهة الشيخ الصانعي في هذا الشأن لا يكمن في تجاهل أصل الاختلاف بين الرجل والمرأة، حيث أكّد سماحته مراراً وتكراراً على التفاوت الإجمالي بين إرث المرأة وإرث الرجل، الذي صرَّح به القرآن، وإنما ينشأ من أنه من ناحيةٍ ينظر إلى كلا الجنسين (الرجل والمرأة) برؤيةٍ إنسانيّة بَحْتة، ولا يرى فرقاً بينهما من هذه الناحية؛ ومن ناحيةٍ أخرى يبدي اهتماماً خاصّاً بأصل الاشتراك الأوّلي، وما لم يكن هناك سببٌ مقبول ومقنع يمكنه أن يكون مقيّداً أو مخصّصاً للإطلاقات والعمومات لا يمكن رفع اليد عن هذا الأصل؛ ومن ناحيةٍ ثالثة قام شيخنا الأستاذ بمجهودٍ خاصّ في إعادة النظر ببعض الآراء الفقهية المطروحة، وعمل على تقييمٍ مجدَّد لأدلتها، حتّى وصل إلى نتائج مختلفة. وإن ما ذَكَره من عدم الفرق بين الرجل والمرأة ـ في مسائل من قبيل: المرجعية، وقيادة المجتمع، والقضاء، والشهادة، والدية، والقصاص، وإمامة الجمعة والجماعة حتّى للرجال، وتأكيده على عدم الفرق بين الزوجة والزوج في التدليس في الزواج، وإرث الزوجة، واتّحاد أولوية الزوجة والزوج ببعضهما بعد الموت إلى الدفن، وعدم أفضليّة صلاة المرأة في البيت على صلاتها في المسجد، وولاية الأمّ على الطفل وتقدُّمها على ولاية الجدّ، وعدم قصاص الأمّ مثل الأب، وعدم حدّ القذف على الأمّ كما في الأب، وعدم جريان حدّ السرقة على الأمّ بسبب سرقتها من بيت ولدها كما في الأب ـ إنما ينبثق من هذا الاتجاه والاجتهاد. كما ذهب بعض الفقهاء الآخرين أيضاً ـ في الماضي والحاضر ـ في بعض هذه المسائل إلى نفس ما ذهب إليه شيخنا الأستاذ، وذهب الكثير من الفقهاء ـ ولا سيَّما المتقدِّمين منهم ـ إلى القول بالفَرْق؛ بَيْدَ أن المهمّ هو أن هذه الفتاوى قد صدرت على أساس الاتجاه المذكور تجاه المرأة، وفي إطار الموازين الاجتهادية العامة، وهذا يكفي في وجوب الاهتمام به، حتّى إذا لم يلتزم أحدٌ بنتيجته.

4ـ حاكمية التعاليم العقلية والعقلائية

إن العمل بالأحكام الإلهية والتعبّد بها، في الدائرة التي لا يمكن للعقل أو العقلاء التدخل فيها مباشرة، يمثِّل أصلاً أساسياً واعتقادياً. وإن مبدأ ومستند هذا الأصل يعود في واقعه ـ بطبيعة الحال ـ إلى الحكم العقلي العامّ. إلاّ أن هذا الأصل لا يمنع أبداً من معرفة وحكم العقل والأصول العقلائية. فإن الإيمان والاعتقاد بأصل الدين وأركانه الاعتقادية إنما يقوم على أساس حكم العقل، وإن من المفاهيم التي يتمّ التأكيد عليها مراراً في القرآن والسنّة هو الاهتمام بهذا المصدر الإلهي العظيم، والذي يُعبَّر عنه في كلام أهل البيت^ بالنبيّ «الباطن»، في مقابل أنبياء (الظاهر). إن الجزء الأكبر من الأحكام غير العبادية هي تلك الأمور التي تتبلور في حياة الأمم والمجتمعات الأخرى، ومن بينها: المرحلة الجاهلية ـ على أساس الاحتياجات ـ من قِبَل العقلاء والنُخَب وحتّى العرف العام، وهي كانت قائمة منذ القِدَم ولا تزال، وقد عمد الشارع الحكيم إلى التماهي معها؛ حيث تعرف بكونها من الأحكام الإمضائية.

يرى شيخنا الأستاذ أن الاستفادة من المعطيات العقلية والعقلائية في الاجتهاد تُعَدّ أصلاً، والذي نعرفه عنه بشكلٍ واضح هو أنه لا يمكن لمؤدّى الاجتهاد أن يكون متنافياً مع الحكم العقلي القطعي. وإن مخالفة بناء وارتكاز العقلاء إنما يمكن إذا كان هناك دليلٌ ثابت ومتين يمكنه مواجهة هذا البناء والارتكاز من ناحية الصدور والدلالة. ومن الواضح أنه لا يمكن لأيّ فقيهٍ أن يذهب إلى الاعتقاد بخلاف ذلك، غاية ما هنالك أن امتياز سماحته يتمثَّل باهتمامه بهذا الأصل في معرفة مصاديق ودائرة حاكميته.

إن دائرة هذا المبنى من وجهة نظر الأستاذ تمتدّ إلى الحدّ الذي يعتبر معه بناء العقلاء دليلاً على الحكم بتساوي الرجل والمرأة في الشهادة، وبذلك فقد ألغى الخصوصية عن أدلة شهادة الرجل. وقال بأن اشتراط تشيُّع القاضي يقتصر على الحكم بين الشيعة فقط، وفي الاستدلال على عدم وجود هذا الشرط في القضاء بين الآخرين ـ بالإضافة إلى وجوب رعاية العدالة وبسط الأمن بينهم ـ استشهد بالملازمة العقلائية، بل والعقلية أيضاً. كما أنه؛ بالالتفات إلى مجموع أدلة باب القضاء، لم يَرَ في القول بجواز القضاء بين الشيعة من قِبَل القاضي غير الشيعي، بل وحتّى غير المسلم، الذي يمكن الوثوق به والاعتماد عليه إذا توفَّرت فيه سائر الشروط الأخرى، أمراً اعتباطياً أو جزافاً. كما أنه في حكم الرِّبا قال من جهةٍ بحرمة خصوص «الرِّبا الاستهلاكي»، الذي يؤدّي إلى الإجحاف بحقّ المقترض، ممّا يُعَدّ ظلماً، وأما «الرِّبا المنتج»، الذي يؤدّي إلى ازدهار الوضع الاقتصادي لكلا الطرفين، فهو جائزٌ من وجهة نظره؛ ومن ناحيةٍ أخرى يرى حرمة جميع أنواع الحِيَل في الرِّبا. وقد أكّد، تَبَعاً لأستاذه الكبير السيد الخميني& ـ كما سبق أن أشَرْنا ـ على أن الشارع الحكيم إذا أراد أن يشرِّع حكماً ما على خلاف بناء وارتكاز العقلاء تعيَّن عليه تكراره مراراً، والتأكيد عليه، حتّى يألفه الناس ويتلقّونه بالقبول. ومن هنا فإننا في ما يتعلق بالحكم المخالف لبناء وارتكاز العقلاء إذا لم نعثر على شواهد متعدِّدة، تؤكِّد على حكم الشارع وصدور الروايات، لا نستطيع الاكتفاء بمجرَّد حديث أو حديثين يتيمين في المصادر الروائية.

وإذا كان الشيخ الأستاذ قد اهتمّ بشكلٍ خاصّ ـ منذ مرحلةٍ مبكّرة جدّاً من حياته العلمية ـ بفقاهة المحقِّق الأدربيلي، وأنفق جزءاً كبيراً من جهده ووقته على مدى سنوات في كتابة الهوامش والحواشي الاستدلالية على كتاب «مجمع الفائدة والبرهان»، فإن ذلك إنما يعود في بعض أسبابه إلى عمق نظرة المحقّق الأردبيلي القائمة على اهتمامه بالاعتبارات والأحكام العقلية. وإن تأكيد سماحته المتكرِّر على أنه لو توفّرت الإمكانية للتعريف بالإسلام والشرع بشكلٍ صحيح، وعلى حدّ تعبيره: «لو كان لديّ كرسيّ بحث على مفترق طرق البشرية؛ للتعريف بحقائق الإسلام والشرع كما هي وكما عرفتها، لدخلت جميع الأمم في الإسلام»، إنما ينبثق من بعض جهاته من هذا الأصل والمبنى القائل بأن التعاليم الإسلامية والشرعية إنما تتبلور في ضوء المعطيات العقلية والعقلائية، ولا تتنافى مع ما هو موجودٌ في المرتكزات العقلائية للبشر، وما يُعتبر من نتائج ومعطيات المعرفة والفهم البشريّ العام. وحتّى إذا حملنا هذا الكلام منه على المبالغة، فإنه يعبِّر عن عمق رؤيته، حيث يعتبر الإسلام الحنيف حتّى في مجال الفقه ـ الذي يُعَدّ من العلوم الاعتبارية ـ قد تحدَّث في إطار الفطرة الإنسانية الطاهرة، ولم يخرج عن الموازين العقلية والاتجاهات العقلائية العامة. ومن النماذج الأخرى التي حظيت باهتمامٍ خاصّ من قِبَل شيخنا الأستاذ هو أصل «العدل»، الذي سيأتي بحثه في الفقرة اللاحقة. فإلى جانب اهتمامه الخاصّ بالأسس والمرتكزات العقلائية، يأتي اهتمامه الخاصّ بـ «الفهم العرفي» في معرفة مفاد الأدلة اللفظية للقرآن الكريم والسنّة، ولا سيَّما موضوع «إلغاء الخصوصية»، واستفادته الكبيرة من ذلك في اجتهاده واستنباطاته، بوصفها أصلاً ومبنى في فقهه. وهذا يحتاج إلى اهتمامٍ وبحث مستقلّ، ولا نمتلك هنا الوقت الكافي لذلك.

 

5ـ حاكمية ومساحة العدل

يُعَدّ العدل من وجهة النظر الكلامية والفلسفية أصلاً في معرفة الله تعالى. وإن الله سبحانه كما أقام عالم التكوين على أساس العدالة، وكما أن الجزاء في يوم القيامة لا يخرج عن هذا المعيار العامّ، فإن تشريعه يقوم على هذا الأصل أيضاً. وكما أكد الأستاذ مرتضى مطهَّري، فإن هذا الأصل يُعَدّ من مقاييس الإسلام، وفي سلسلة علل الأحكام، بمعنى أن جميع الأحكام الإلهية إنما تمرّ في صدورها عبر فلتر أصل العدل، ومن هنا لا يمكن لأيّ حكمٍ شرعي أن يتعارض مع العدل.

ومن هنا يذهب شيخنا الصانعي إلى القول بأن العدل أصلٌ حاكم، وقيمةٌ عالمية شاملة، ولا دخل فيه للمعتقدات والأجناس والأعراق، ولا يمكن لهذه الأمور أن تعمل على تقييده أو تحديده. ومن هنا لو رأى الفقيه أن مفاد الدليل بشكلٍ عامّ أو في بعض أجزاء مدلوله يتعارض تعارضاً قطعياً مع أصل العدل فإن ذلك الفقيه لن يكون بمقدوره أن يتجاهل هذا الأصل الحاكم، ويفتي على أساس ذلك الدليل. ومن النماذج على ذلك فتواه بتساوي دية المرأة والرجل، ودية المسلم وغير المسلم؛ إذ يرى أنه بغضّ النظر عن قصور أدلّة عدم التساوي في الدية، فإن القول بعدم التساوي في حدّ ذاته يتنافى مع أصل العدالة. كما أنه يذهب؛ بالاستناد إلى هذا الأصل، إلى حرمة وعدم جواز تكريم المسلم وتفضيله على غير المسلم من قِبَل القاضي، خلافاً لفتوى الفقهاء في هذه المسألة.

6ـ حاكمية قاعدة نفي العُسْر والحَرَج

لا يتردّد فقهاء الإسلام في اعتبار قاعدة نفي العُسْر والحَرَج ـ المستندة إلى النصوص القرآنية والروائية ـ حكماً قطعياً. بَيْدَ أن طريقة التعاطي مع هذه القاعدة، ومساحتها المفهومية والموضوعية، أمرٌ يجب أن لا نتوقّع اتفاق جميع الأنظار بشأنه. بَيْدَ أن النقطة الرئيسة من وجهة نظر شيخنا الأستاذ، والتي شهد كاتب هذه السطور التأكيد عليها مراراً من قِبَله، هي أنه إذا كان أساس التشريع الإلهي ـ كما يتّضح من أدلة القاعدة ـ يقوم من جهةٍ على أساس التشريع الإلهي على نفي العُسْر والحَرَج والمشقّة في الدين (إلاّ في الموضوعات التي تكون ماهيتها من قبيل: الجهاد والدفاع، التي يُعَدّ العُسْر والحَرَج من مقوّماتها)، ومن جهةٍ أخرى فإن العُسْر والحَرَج بدَوْره مثل سائر المفاهيم العرفية التي لم يقدِّم الشارع تعريفاً خاصاً بشأنها، عندها سيكون الملاك فيها هو العُرْف، إلاّ إذا تدخَّل الشارع الحكيم في موردٍ بنفسه، وقال بأن مراده في هذا المورد الخاصّ لا يتّفق مع العُرْف، سواء لجهة توسيع الحكم أو تضييقه. وعلى هذا الأساس يجب الرجوع إلى العُرْف في فهم معنى الحَرَج من الناحية الكلية والاجتهادية. ومن ناحيةٍ أخرى إن الشيخ الصانعي لم يحدِّد دائرة نفي الحَرَج برفع الحكم، بل ذهب في بعض الموارد إلى الاستناد إليها في جعل الحكم أيضاً. ومن ذلك أنه قد ذهب من جهةٍ إلى عدم القول بـ «حرمة» مضاجعة الزوجة أبداً بعد الإفضاء ـ خلافاً لقول الفقهاء ـ؛ بسبب انطواء ذلك على العُسْر والحَرَج؛ ومن ناحيةٍ أخرى اعتبر عدم وجوب المضاجعة في أقلّ من أربعة أشهر حَرَجاً وأمراً مُنْكَراً، وجعل الملاك في ذلك حاجة المرأة.

هذا في حين أنه، بالإضافة إلى مكانة الاستنباط ومعرفة أصل الحكم، نعلم أن معرفة المصاديق الخارجية للحَرَج وعدم الموضوع في مقام امتثال التكليف ـ كما هو الحال في تشخيص أيّ موضوع ـ أمرٌ يعود إلى «المكلَّف»، دون «الفقيه». وإن ما قاله شيخنا الأستاذ بشأن عدم وجوب حمل أحكام الأجنبيّ على المتبنّى عند الحَرَج إنما يقوم على هذه الرؤية، وهي: أوّلاً: إن معرفة معنى الحَرَج ـ مثل سائر الموضوعات التي لا تكون من صنع الشارع الحكيم ـ تعود إلى العُرْف؛ وثانياً: إن تحديد مصاديقه يعود إلى المكلَّف، وليس إلى الفقيه. كما أن بيان الجواز رهنٌ بفرض تحقُّق الحَرَج أيضاً، حيث جاء في نصّ سؤال المقلِّد، وقيل: إن الحرمان من الولد معضلة كبرى في الحياة الاجتماعية والأسرية، وإن معاشرة الأهل والأقارب مع المتبنّى ومعاملته معاملة الأجنبيّ ينطوي على عُسْرٍ وحَرَج بالنسبة إلى كلا الطرفين. ومن الواضح أن الشخص إذا لم يَرَ حَرَجاً في هذا النوع من العشرة، وجب عليه رعاية الحجاب، إلاّ أن تشخيص ذلك إنما يعود إلى المكلَّف، دون الفقيه ومرجع التقليد.

7ـ اليُسْر في الشريعة

إن الذي يقع مورداً للاهتمام في نفي الحَرَج هو الناحية السلبيّة من القاعدة، إلاّ أنه إلى جانب ذلك يُعَدّ موضوع «اليُسْر في الشريعة» بدَوْره معياراً في الاجتهاد؛ فإن ما جاء في بعض الروايات عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «بُعثت بالحنيفية السَّمْحة السَّهْلة»([2])، وعن الإمام الباقر× أنه قال: «إن الخوارج ضيَّقوا على أنفسهم بجهالتهم؛ إن الدين أوسع من ذلك»([3])، وما رواه عن الإمام عليّ× أنه قال: «إن شيعتنا في أوسع ممّا بين السماء إلى الأرض»([4])، لا يثبت أن التشريع الإلهيّ لا مكان فيه للحَرَج فحَسْب، بل إن أساس التشريع يقوم بشكلٍ إيجابي على اليُسْر والتسهيل أيضاً. وهذه النقطة قد حظيَتْ باهتمام الفقهاء بشكلٍ وآخر، حتّى أن الشيخ الصدوق في باب التعارض بين الروايتين جعل عنصر التسهيل واحداً من المرجِّحات، حيث يقدّم الرواية المشتملة على حكمٍ أيسر على المكلَّف من تلك المشتملة على حكمٍ أشدّ. بَيْدَ أن الذي نعهده من شيخنا الأستاذ في هذا الشأن هو اهتمامه الخاصّ بتوظيف هذا المبنى في اجتهاده، وتأكيده عليه في توجيهاته للمؤمنين من مقلِّديه. ومن ناحيةٍ أخرى، حيث إن حكم صلاة وصيام المسافر ينطوي على نوعٍ من الرخصة في إطار التسهيل في الدين، فإن كثرة السفر تجعل الأمر مألوفاً بالنسبة إلى المسافر، وعندها يجب عليه الصوم وأداء الصلاة تماماً، دون فرق في ذلك بين مَنْ يتخذ السفر عملاً أو لا. ومن ذلك مثلاً: إن السائق حتّى لو سافر لغرض الزيارة ـ مثلاً ـ يصدق عليه حكم كثير السفر أيضاً.

8ـ محورية حقوق الناس والمجتمع

نعلم أن ما يُطلق عليه في الفقه والأحكام عنوان «الحقّ» العامّ ينقسم إلى قسمين، وهما: «حقّ الله»؛ و«حقّ الناس». وبطبيعة الحال فإن هذا التقسيم لا يمنع من أن تشتمل بعض الأحكام على كلا الحقّين، من قبيل: «حقّ الحضانة»، الذي يُعَدّ في الوقت نفسه تكليفاً إلهيّاً في خصوص الولد. وإن ما يذكر في الفقه تحت عنوان «الحقّ» و«الحكم»، والتفريق بينهما، ناظرٌ إجمالاً إلى هذا التقسيم أيضاً.

إن من النقاط الجديرة بالاهتمام في الرؤية الفقهية للشيخ الصانعي، والتي تُعَدّ رؤيةً عامّة في فقاهته واجتهاده، وقد رأينا التأكيد عليها من قِبَله مراراً وتكراراً، ولاحظنا دَوْرها وتأثيرها في فتاواه المختلفة، ولا سيَّما في المسائل الاجتماعية، هو اهتمامه الخاصّ باحترام «حقوق الناس» في الفقه، والتعريف بدائرتها ومصاديقها في مختلف المجالات. وهي حقوقٌ لا تختصّ بصنفٍ أو جماعة بعينها من الناس، وتشمل «الإنسان» بما هو «إنسان»، أيّاً كان عرقه أو دينه أو معتقده أو جنسه أو انتماؤه وهويته أو موطنه ومجتمعه. إن هذا الاتجاه يترك تأثيراً واسعاً وعميقاً على الكثير من المسائل الاجتماعية والسياسية والداخلية والخارجية. إن النقطة المحورية لهذا الاتجاه في رؤية شيخنا الأستاذ، والتي رأيناه يستند إليها كثيراً، ويؤكِّد على مفادها، تتمثَّل في هذه القاعدة الأساسية والحيوية التي يشير إليها الإمام الصادق× بقوله: «الحقّ… إذا كان للناس فهو للناس»([5]). وإنه لا يحقّ للإمام أو الدولة أن تتدخَّل دون طلبٍ وتفويض من الناس أنفسهم. وقد ذكر الإمام× في ذات هذه الرواية في معرض بيان الفرق بين الزنا والسرقة قائلاً: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحدّ، ولا يحتاج إلى بيِّنةٍ مع نظره؛ لأنه أمين الله في خلقه؛ وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزبره وينهاه، ويمضي ويدعه، قلتُ: وكيف ذلك؟ قال: لأن الحقّ إذا كان لله فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للناس فهو للناس»([6]).

إن جميع هذه الأمور التي يؤكِّد عليها هذا الفقيه البصير في توجيهاته، وكذلك في فتاواه، ضمن عشرات المسائل، من قبيل: حقّ الحرّية، وأصل حاكمية إرادة الأفراد، وحقوق القوميات والأقلّيات، والاهتمام بمطالب الناس، ورعاية المساواة والعدل، ومخالفة المحسوبيات، ونبذ العنف، وعدم تقييد الحرّيات، ومشروعية الحكم بالرجوع إلى آراء الناس القائمة على الأطر العقلائية، ووجوب التقيّد بالقوانين المنبثقة عن إرادة الناس وممثِّليهم الحقيقيين، وحتّى التأكيد على حقوق الموتى، تعود بجملتها إلى هذا الأصل المحوري. حتّى أن سماحته يرى صلاة الإمام المعصوم× على جنازة الميّت دون رضا أوليائه غير جائزة، وتدخل في عنوان غصب حقّ الغير؛ وذلك استناداً إلى هذا الأصل، واستشهاداً بهذه الرواية المعتبرة، عن أمير المؤمنين×: «إذا حضر سلطانٌ من سلطان الله جنازة فهو أحقّ بالصلاة عليها إنْ قدَّمه وليُّ الميّت، وإلاّ فهو غاصبٌ»([7]). في حين ذهب بعض الفقهاء، مثل: صاحب الجواهر، إلى عدم اشتراط رضا ولي الميّت في خصوص الإمام×. وفي ما يتعلَّق بإمامة شخصٍ لجماعةٍ يكره الناس إمامته ذهب شيخنا الأستاذ إلى القول بحرمة إمامته، خلافاً للفقهاء الآخرين، ومنهم: أستاذه الإمام الخميني&؛ إذ قالوا بالكراهة. بل زاد شيخنا الأستاذ على ذلك القول بسقوط العدالة عنه؛ الأمر الذي يوجب حرمة الاقتداء به. وقد اعتبر هذا الرأي المنبثق عن الأدلة الروائية المتوفِّرة إنما يأتي في إطار حاكمية الإرادة ورغبة الناس، قائلاً بأن هذا يمثِّل شاهداً على الهامش الكبير من الحرّية والديمقراطية في الإسلام.

9ـ المساحة الخاصّة في عصر الغيبة

إن من بين الأسئلة الهامّة المطروحة في الفقه، وشهدت الإجابة عنها خلافاً واسعاً، السؤال القائل: هل إقامة الحدود الجزائية الخاصّة، من قبيل: حدّ السرقة والزنا، من الشؤون والوظائف الخاصّة بالإمام المعصوم× أم لا؟ فهل يجوز أو يجب على الحكّام والقضاة الذين يتولّون الحكم أو بعض جوانبه في عصر الغَيْبة وعدم إمكان الوصول إلى الإمام×؟ وبطبيعة الحال فإن هذا السؤال يعود إلى سؤالٍ أعمّ، وهو السؤال القائل: هل تمّ التعريف في عصر الغَيْبة بشخصٍ أو أشخاص بوصفهم خلفاء للإمام× أم لا؟ وإذا كان هناك من خلفاء فهل يخلفون الإمام في جميع شؤونه ووظائفه في إدارة الحكم والدولة أم لا؟

ذهبت جماعةٌ من الفقهاء ـ قديماً وحديثاً ـ إلى قصور الأدلّة عن إثبات الوظائف والمسؤوليات المذكورة للآخرين، ومنهم: الفقهاء في عصر الغيبة. ومن هنا وجدوا إشكالاً في إقامة الحدود في عصر الغيبة، أو قالوا صراحةً بعدم إمكان إقامتها. ويمكن لنا أن نذكر من المخالفين لإقامة الحدود في عصر الغيبة من المتقدِّمين: ابن إدريس الحلّي، والمحقّق الحلّي؛ ومن المتأخِّرين: الميرزا القمّي؛ ومن المعاصرين: السيد أحمد الخوانساري. وهناك بعض التفصيلات ـ بطبيعة الحال ـ لا نرى حاجةً إلى ذكرها. وقد كان الشيخ الصانعي منذ سنواتٍ يبدي مَيْله إلى هذا المبنى، حتّى استقرّ رأيه مؤخَّراً على اختياره. ولكنّه، خلافاً لسائر الفقهاء ـ الذين لم يذكروا بديلاً لهذه العقوبات ـ، يؤكِّد على استبدال الحدود بالتعزيرات، التي تشمل طَيْفاً واسعاً من العقوبات، على أن يتمّ ذلك بإشرافٍ من قِبَل الخبراء والمختصّين في العقوبات الجزائية. ولا يخفى أن مراده من الحدود في هذا البحث ما كان من قبيل: حقوق الله، وأما ما كان من قبيل: القصاص، الذي هو من حقوق الناس، فهو خارجٌ عن محلّ البحث، ويجري في عصر الغيبة أيضاً. كما أن عدم إقامة الحدود لا يشمل الاعتداء المقترن بالعنف، وهو الأمر الذي لا يرى إثباته متوقِّفاً على شهادة أربعة، وإنما يثبت بشهادة شاهدين فقط. وبطبيعة الحال فإن حدّ السرقة في هذا التقسيم يندرج ضمن القسم الأوّل، رغم علمنا بأن إقامة الحدّ في فرض الجواز تتوقَّف على وجود مُدَّعٍ خاصّ.

10ـ منشأ مشروعية الحكومة

إن وجود الحكومة حتّى إذا لم يكن حاجةً فطرية وأوّلية للبشر، إلاّ أن تاريخ حياة الإنسان يثبت بشكلٍ قاطع أن الإنسان بحاجةٍ إلى الدولة في حياته الاجتماعية في الحدّ الأدنى. ولكنْ ما هو منشأ مشروعية الحكومة؟ كما نعلم فإن هذا السؤال ضاربٌ في القِدَم، وكما اختبرت المجتمعات البشرية حتّى الآن أنماطاً متعدِّدة من أنماط الحكم والدولة، ظهرت هناك في تحليل وفلسفة الحكم ومباني مشروعية الدولة نظريّات مختلفة أيضاً. وفي تقسيمٍ واحد تعود جميع النظريات الموجودة في تحليل مشروعية ومباني الحكومة بشكلٍ عام إلى: المبنى الإلهيّ؛ والمبنى غير الإلهيّ. وفي نظرةٍ متعارفة يتمّ إبراز هذين المبنيين بشكلٍ دائم بوصفهما مبنيين متباينين، وإن كل واحدة من النظريات تندرج حتماً ضمن واحد من هذين المبنيين غير المتجانسين، وكأنّ إرادة الله دائماً على الطرف النقيض من إرادة الناس، في حين يوجد هناك طريقٌ ثالث في بيان مشروعية الحكم، وهو أن الله تعالى؛ بالالتفات إلى فلسفة الدولة وماهيّتها المتغيِّرة باختلاف الأزمنة والأمكنة، قد ترك كيفية تلبية هذه الاحتياجات ـ كما هو الحال في الكثير من الاحتياجات الفردية والاجتماعية ـ إلى الناس أنفسهم، ولم يُشرِّع إطاراً خاصاً لتشكيل الحكم والنظام السياسي. وإن الذي كان منظوراً من قِبَل الشارع هو مجرّد الإلزام ببعض الملاكات والمعايير، وهي ذاتها الملاكات العقلائية التي حصل عليها البشر، ولا سيَّما النُّخَب، في المجتمعات الإنسانية، على أساس معرفتهم الفطرية، وفهمهم الغريزي على مدى التجارب الطويلة. وبعبارةٍ أخرى: لقد ترك الله كيفية تشكيل الدولة إلى الناس والمجتمعات البشرية، وإن كلّ ما يختاره الناس في المجتمعات ضمن إطار عقلهم الجماعي، وعلى أساس الاستناد إلى الأصول العقلائية، ويضمن مصالحهم، يكون موضع رضا الله الحكيم. وهذا هو الذي يكون مبنى المشروعية. وهو أصلٌ لا يختصّ بالمجتمعات الإسلامية؛ فإن مشروعية الحكومة في سائر المجتمعات تقوم على هذا الأساس، ويتمّ تفسيرها ضمن هذا الإطار.

لقد كان الشيخ الصانعي يعمل منذ سنواتٍ على تحليل وتقييم موضوع الحكومة من خلال هذا الاتجاه، ولكنّه أخذ في السنوات القليلة الماضية يؤكِّد عليه بشكلٍ أوضح. وعلى هذا الأساس يذهب إلى القول بأن مجرّد «الفقاهة» لا تشكِّل أساساً لـ «الولاية» السياسية، ولا لـ «مشروعيّة» إقامة الدولة، وليس الفقيه وحده الذي يمكنه أن يتولّى السلطة في عصر الغَيْبة دائماً، إلاّ إذا رأى الناس أو النُّخَب؛ بوصفهم ممثِّلين للعقل الجماعي والإرادة العامة ـ وإنْ على ملاك الأكثرية والأقلّية ـ مصلحتهم العامّة في تخويل أمورهم لفقيهٍ واحد أو عددٍ من الفقهاء. وبطبيعة الحال فقد استثنى سماحته ـ بحقٍّ ـ خصوص عصر الأئمة المعصومين في المجتمع الإسلاميّ من هذه القاعدة العامة؛ حيث كانت الحاجة تمسّ أن يتمّ التعريف بأشخاص محدَّدين وتنصيبهم من قِبَل الله سبحانه وتعالى، مؤكِّداً ضرورة استثناء عصر حضور الإمام المعصوم× من سائر العصور والمجتمعات. وفي الوقت نفسه يؤكِّد على أن الإمام المعصوم، رغم ولايته ومشروعية إمامته وحكومة الإمام المعصوم× من قِبَل الله تعالى، ويتّصف بصفة «العصمة»، وتُعَدّ مخالفته معصيةً، ولكنْ حتّى هذا الإمام ـ كما ورد في بعض الروايات ـ لا يستطيع أن يتولّى أعباء الحكم دون تخويلٍ من عامة الناس. كما أن عليه أن يعمل بحيث يفرض مودّته ومحبّته في قلوب الناس، ويحافظ على هذه المودّة. ومن ناحيةٍ أخرى يرى شيخنا الأستاذ حرمة قبول ولاية حكّام الجَوْر منحصرةً بتلك الطائفة من الحكّام الذين هم شاكلة بني أميّة وبني العبّاس، من الذين كانوا يدَّعون خلافة رسول الله، ومع ذلك يعملون على هدم أحكام الدين والمذهب، وليس كلّ حاكم أو سلطة. ومن هنا فإنه يذهب إلى جواز التعاون مع سائر الحكومات والحكّام الذي يعملون على خدمة وأمن المجتمع، والدفاع عن حقوق الناس، وهو بطبيعة الحال يؤكِّد في الوقت نفسه على حرمة العَوْن على الظلم وهضم الحقوق من قِبَل هؤلاء الحكّام.

وفي الختام، وعلى شكل نتيجةٍ عامّة، نقول: من الطبيعي أن يكون لكل فقيه ـ بمقتضى فهمه واجتهاده في كلّ مسألةٍ فقهية ـ رؤيته الخاصة، وفتواه المختلفة عن سائر الفقهاء، وبالتالي سوف نحصل على مجموعةٍ من الفتاوى والأقوال الفقهية المختلفة. كما يمكن لكلّ فقيهٍ في مستوى ودائرة أضيق أن يكون «مبدعاً» أو «متقبّلاً» للمباني و«النظريات» التي تشكِّل «منعطفاً» في منظومته الفقهية. وإن للأستاذ الشيخ الصانعي ـ كما رأينا ـ فتاواه ومبانيه الخاصّة. إلاّ أنه، بالإضافة إلى هذين المستويين من النشاط الاجتهادي، أي إبداء «الرأي» و«التنظير»، قد يشتمل «فقه» بعض الفقهاء ـ بشكلٍ عامّ، ومن حيث مجموع الآراء في مجال الأساليب والمباني والنظريّات، بل وحتّى الفتاوى ـ على خصائص عامّة تؤسِّس لمدرسةٍ فقهية، من قبيل: «المدرسة الفقهية للسيد المرتضى»، و«المدرسة الفقهية للمحقّق الأردبيلي» أو «المدرسة الفقهية للإمام الخميني»، أو ما يقال من أن «المدرسة الفقهية لسامراء»، التي تتمحور حول فقه الميرزا الشيرازي وتلاميذه، إنما يتمّ تحديدها وتعريفها ضمن حوزة سامراء العلمية. وعليه إذا كانت المدرسة الفقهية عبارةً عن مجموعة من المناهج والمباني والنظريات والاتجاهات العامة، والتي تميّز فقيهاً أو حوزة فقهية، لن يكون من الجزاف أن نعتبر المرجع الصانعي من هذه الزاوية مؤسِّساً لـ «مدرسةٍ فقهية» خاصّة، وأن نعمل على تحليل ودراسة وتقييم آرائه الفقهية في ضوء هذه المدرسة. وفي الحدّ الأدنى إن فقه سماحته ـ لا سيَّما من حيث المباني والاتجاهات العامة ـ جديرٌ بالدراسة. وهل من الممكن تعريفه وتقديمه على مستوى مدرسة فقهية متميِّزة؟ أرى أن لفقه سماحته مثل هذه القابلية، وهو بحاجةٍ إلى دراسةٍ، وإلى تعريف بخصائصه وأُطُره العامة. نسأل الله تعالى الصحّة وطول العمر لهذا الفقيه القدير، والتوفيق إلى معرفة وتدوين مدرسته الفقهية.

الهوامش

(*) محقِّقٌ، وأستاذُ بحث الخارج في الفقه.

([1]) الراغب الإصفهاني، المفردات في غريب القرآن 2: 5.

([2]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 64: 136؛ 65: 319؛ 66: 42؛ 69: 234.

([3]) المصدر السابق 2: 281؛ 77: 82؛ 100: 70.

([4]) انظر: المصدر نفسه.

([5]) الحُرّ العاملي، وسائل الشيعة 28: 50، 69.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) المصدر السابق 3: 114، ح4.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً