أحدث المقالات

إن كل مبدأ جديد يعزوه المترفون إلى تأثير نزعة أجنبية غريبة ، حدث هذا، كما أبان البروفسور سمل، في مختلف مراحل التاريخ.إن المترفون يودون من صميم قلوبهم أن يكون الناس محافظين لا يعرفون الآراء إلا ما ورثوه عن الآباء و الأجداد…فإذا نهض من بينهم ناهض ينحو منحى جديدا في آرائه، قالوا عنه أنه عميل للأجانب. وهذه التهمة يصدقها البلهاء بسرعة. و تلصق التهمة بالمجددين، فإذا نجحوا أو استولوا على الحكم زالت التهمة عنهم. أما إذا فشلوا ظلوا متهمين بها جيلا بعد جيل…"
من هذه العبارة لعالم الاجتماع العراقي الراحل الدكتور علي الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين: ص98-99) ، يمكننا الولوج للعقلية العربية الطاغية منذ قرون من التخلف الاجتماعي و الاستبداد السياسي و تصديق الأوهام التاريخية، حيث نستطيع التدقيق في  هذا الواقع العربي و الإسلامي المشلول عن العودة لدوره الحضاري و التأسيس لإجتماع سياسي مدني منفتح على كل مكونات المجتمع العربي و الإسلامي بتنوعاتها و صائن لحقوق الإنسان العامة و الخاصة من حريات و كرامة و عدالة …

بصراحة: لقد وضع الدكتور الوردي النقاط على حروف الطائفية و الاستبداد و الرجعية و التخلف في الاجتماع العربي عبر التاريخ الإسلامي من خلال دراسة العقلية البشرية و تحديدا دور الوعاظ في تركيز استكبار السلاطين، و في هذه العبارة بعدما وقف بإقتضاب على شخصية وهمية تاريخية استند عليها العديد من المترفين سياسيا و فكريا و دينيا في تعطيل الحركة في شبكة الاجتماع الإسلامي العام على جميع الصعد من الفكر إلى الدين وصولا إلى السياسة مما أربك مشاريع العدل عبر الزمن الإسلامي كله…
بكلمة: ما نشهده هذه الأيام في الخليج الإسلامي(أقول الإسلامي لأن المفروض هذا العنوان يجمع العرب و العجم لاستكمال المسيرة نحو الحقيقة الحضارية العادلة) ما هو سوى ترجمة لهذه الحقيقة التاريخية في أن المترفين من سلاطين و مثقفين و متعالمين دينيين،حيث يورد الدكتور علي الوردي رحمه الله مثالا حيويا و مثيرا للنباهة في الصفحة105 من نفس الكتاب: ((يكرر الوعاظ قول القرآن:{و أطيعوا الله و رسوله وأولي الأمر منكم} وهم بذلك يأمرون الناس بطاعة السلطان مهما كان ظالما.إن القرآن يأمر بإطاعة ثلاث: الله و رسوله و أولي الأمر.أما الوعاظ فينسون طاعة الله و رسوله و يصبون جل اهتمامهم على طاعة أولي الأمر-أي إطاعة السلاطين.إن طاعة الله و رسوله أولى طبعا من طاعة أولي الأمر.إذا تناقضت الطاعتان كان الأمر الأول أجدر بالإتباع من الأمر الثاني، و قد جاء في الحديث النبوي:"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"))، بالإضافة لأصحاب الوجاهة الاجتماعية و المستغرقين في أوهام الأنساب و الأعراق و الاثنيات و الطوائف و الأحزاب، كل أولئك التائهين في الأنا و المعقدين من الآخر، لا يمكن أن نجد لديهم القبول بتجاوز الثقافة المحافظة المكرسة للجمود الاجتماعي، و من تسول له نفسه إما شخصا أو نخبة أو طائفة أو جماعة، و تسعى للتحرر من سجن المحافظة الجاهلية و العمل من أجل تجديد الحركة في شبكة الاجتماع، تلصق (له/لها) يناشين العمالة بالمجان وتتوالد تهمة العمالة لتلاحق الثائرين الأشراف و تستثني المجرمين المستبدين لأنهم رواد المترفين…
ببساطة: الاجتماع السياسي العربي المعاصر يكرر نفس الأخطاء في التعامل مع نداءات الإصلاح و التغيير و التجديد، لأن المترفين فيه يمثلون قمة الهرم و أصحاب القرار، فالخطاب السياسي مثخن بمصطلحات جامدة لا تكاد تنزل من زنازين الدساتير، ثم الفتاوى البراغماتية المثبطة للاجتهاد و الثورة على الظلم و الطغيان، حتى أصبح هذا الاجتماع قاب قوسين أو أدنى من التيه في جدالات الثنائية: الفتنة أو الثورة، الكرامة أو العمالة…؟!
الحقيقة الأكيدة أن التاريخ كمعامل حيوي في الحياة لا يتحرك بالمتناقضات، حيث الاستقرار السياسي أبدا لم يبن بتوزيع التهم و المكر و الخداع و المؤامرات كمعاملات حيوية لدى أهل الترف في تكريس التخلف الاجتماعي و الاستبداد السياسي ضد الأقليات و الأغيار…و لكن يتأسس الاستقرار السياسي ضمن حركة التقدم الاجتماعي القائمة على معادلة البناء الحضاري و التخطيط الإصلاحي و نظم أمر الاجتماع السياسي في الثقافة الإسلامية التالية: الحوار الخلاق للتعايش و المنظم للتعاون و الضامن للتسامح من أجل بعث السلام العادل…و الله من وراء القصد.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً