أحدث المقالات

يلجأ كثير من الفلاسفة وأهل الفكر والمعرفة إلى العزلة والوحدة والتأمل لأسباب ودواعٍ مختلفة؛ فمنهم من يتخذها مذهبا دائما له في الحياة، مثل: الأديب الكبير أبو العلاء المعري، الذي لقب بسببها برهين المحبسين؛ لأنه كان -بالإضافة إلى الوحدة- ضريرًا أيضا. ومنهم من يلوذ بها احتجاجا على واقع سياسي أو ثقافي كما فعل المفكر المصري الراحل جمال حمدان، الذي اختار أن يحبس نفسه في غرفة ضيقة إلى أن توفي سنة 1993 نتيجة تسرب لأنبوب الغاز في غرفته. وهناك فئة لجأت إلى الوحدة والعزلة للتفرغ للتأمل والمراجعة، وخرج منها بتبني منظومة معرفية جديدة، مثل: الإمام أبو حامد الغزالي، الذي ضاقت به – حسب تعبيره- الأفكار والرؤى والمذاهب فلجأ إلى الوحدة والتأمل، وخرج منها بسيرته الذاتية “المنقذ من الضلال” متبنيا مذهب التصوف والعرفان ليكون بعد ذلك أحد الرواد في هذا المذهب ومن الذين أسهموا بعد ذلك في القضاء على الفكر الفلسفي والاتجاه العقلي في الإسلام بعد تأليفه كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”. والمفكر السعودي الراحل عبدالله القصيمي الذي قضى ثمانية عشر عاما بعيدا عن الأضواء قبل أن يفاجئ العالم برائعته الفلسفية “العالم ليس عقلا”.

كتب المفكر الإيطالي بيترارك (1304 – 1374) كتابا عن العزلة والوحدة وتحدث فيه عن متعة الحياة المنزوية، التي عاشها في بعض أرياف إيطاليا وجنوب فرنسا، ولكن الوحدة التي دعا إليها بيترارك لم تكن وحدة الراهب في صومعته، وإنما كما يقول هاشم صالح في كتابه “مدخل إلى التنوير الأوروبي” ص 91: “إنما العالم والأديب الذي ينزوي بعيدا عن المدن وضجيجها وعجيجها فهناك يكون حرا ويتفرغ للقراءة والتأمل العميق فالوحدة ضرورية من أجل التأمل وينبغي أن تحمي نفسك أحيانا من غلاظة الناس؛ لكي تستطيع أن تفكر بهدوء وتأخذ مسافة من الأشياء والأحداث السريعة المتقلبة والمتزاحمة”.

إن الوحدة والعزلة تساعد الإنسان على الابتعاد عن المجادلات العقيمة التي تؤدي أحيانا إلى الاضطرابات النفسية، فيتجه إلى حالة من العزلة تساعده على صفاء النفس والهدوء الروحي بعيدا عن صخب الحياة وتداعياته على النفس والبدن، بحيث يستطيع من خلال ذلك إيجاد حالة من الاطمئنان النفسي والفكري والسلام الداخلي تجعله قادرا على التفكير بشكل سليم بعيدا عن المؤثرات النفسية التي تأتي من هنا وهناك، وفتح آفاق فلسفية ونوافذ معرفية جديدة بعيدة عن التأثر بالصراعات الفكرية وما تجلبه من تأثيرات نفسية على الفكر والنفس.

ومن الذين اختاروا العزلة بديلا عن حياة الصخب والأضواء الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844 – 1900)، وفي تلك المرحلة ألف أعظم كتبه الفلسفية وأكثرها أهمية، منها رائعته الفلسفية والادبية “هكذا تكلم زرادشت” والتي تحدث نيتشه عن ظروف تأليفها بالتفصيل في كتابه الذي يشبه سيرته الذاتية “هذا هو الإنسان” ولكن هذه الوحدة التي رافقتها عملية انكباب عميقة في قراءة الكتب والتأمل سببت له الكثير من أمراض الصداع والتي أدت به ـ إضافة إلى ظروف أخرى ـ إلى نهاية مأساوية وهي الجنون ثم الموت وهو في ريعان شبابه.

ومن الفلاسفة والعرفاء الكبار الذين لم يكتفوا بالدروس والمناهج النظرية وإنما انطلقوا إلى حياة العزلة والتأمل الروحي والفلسفي، الفيلسوف الكبير صدر الدين الشيرازي (979 -1050) المعروف عند تلاميذه وأتباع مدرسته بـ (الملا صدرا). يصف المفكر الإسلامي كمال الحيدري في كتابه “مدخل إلى مناهج المعرفة عند الإسلاميين” رحلة الشيرازي إلى المعرفة: “أنه بدأ حياته بدراسة المدارس الفلسفية المختلفة والمذاهب العرفانية المتنوعة والآراء الفقهية من المدارس الفقهية السنية والشيعية المختلفة دون الانحياز إلى فلسفة أو مدرسة معينة أو رأي فقهي وعرفاني محدد، وإنما كان غرضه فقط التعرف على هذه المدارس الفكرية والتعمق في آرائها لمعرفة مسالكها ومشاربها”.بعد أن أنهى الشيرازي هذه المرحلة العلمية من حياته دخل في دور آخر كان له الأثر الكبير في تنمية مداركه العلمية والفلسفية والروحية، وهو دور العزلة والتأمل وفي هذه المرحلة من الوحدة والتأمل الفلسفي العميق الذي استغرق مدة خمسة عشر عاما كاملة. يقول صدر الدين الشيرازي: “فتوجهت توجها غريزيا نحو مسبب الأسباب وتضرعت تضرعا جبليا إلى مسهل الأمور الصعاب، فلما بقيت على هذا الحال من الاستتار والانزواء والخمول والاعتزال متقطع الآمال منكسر البال متوفرا على فرض أؤديه وتفريط في جنب الله أسعى في تلافيه لا على درس ألقيه أو تأليف أتصرف فيه اشتعلت نفسي – لطول المجاهدات – اشتعالا نوريا والتهب قلبي لكثرة الرياضات التهابا قويا؛ ففاضت عليها أنوار الملكوت وحلت بها خبايا الجبروت، ولحقتها الأضواء الأحدية، وتداركتها الألطاف الإلهية فأطلعت على أسرار لم أكن أطلع عليها إلى الآن، وانكشفت لي رموز لم تكن منكشفة هذا الانكشاف من البرهان بل كل ما علمته من قبل بالبرهان عاينته – مع زوائد- بالشهود والعيان من الأسرار الإلهية والحقائق الربانية والودائع اللاهوتية والخبايا الصمدانية.” (كتاب: مدخل إلى مناهج المعرفة عند الإسلاميين لكمال الحيدري).

إنّ الوحدة والعزلة بعيدا عن ضجيج المدن والناس هي مراجعة للنفس والأفكار من أجل الانطلاق إلى أفكار أكثر تماسكا وجمالا وإشراقا، ولذلك نلاحظ من خلال رحلة الشيرازي إلى الوحدة والتأمل، أنّه خرج منها بحصيلة معرفية استطاع من خلالها إثبات ما خرج منها بالبرهان عن طريق العرفان وأيضا إيجاد نظرية فلسفية توافقية ما بين البرهان والعرفان أسماها بـ “الحكمة المتعالية” ودونها في كتابه الموسوعي الضخم “الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة”.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً