أحدث المقالات

يظلّ القلم مظهراً من مظاهر حضارة الإنسان وتقدّمه وارتقائه المعرفي المفضي به إلى ارتقاءٍ روحي، وربما لهذا أقسم الباري تعالى به في قوله: نون والقلم وما يسطرون،  (القلم: 1)، فالقلم واسطة النقل المعرفي الراسخة، وهو معلم استقرار المعرفة في الصيرورة الحضارية للشعوب.
وقد أمسك المسلمون بالقلم منذ الأيام الأولى للدعوة الإسلامية، وكان الرسول الأكرم  باعثاً حثيثاً على هذه النهضة العلمية التي سرعان ما عرفها المسلمون بعد وفاته، وشيئاً فشيئاً تحوّل المسلمون إلى أمّة عريقة كبرى ترفع لواء العلم والمعرفة، وتغزو العالم بالفكر والكتابة والقلم والأخلاق.
والقلم كأيّ ظاهرة أخرى في الحياة، له مراحله ومشاكله ومستلزماته، من هنا كان من الضروري أن تقدّم له أعمال الصيانة على الدوام، كي يتسنّى له العمل بأداء أفضل وجودة أعلى، وقد اهتمّ المسلمون بذلك، وطوّروا أشكال البيان عندهم وأساليب التعبير وطرق العرض والإقناع والتفهيم، وذلك فيما أفاضوا به من أبحاث في علوم المنطق وفي اللغة ببديعها وبيانها ومعانيها ونثرها وغير ذلك.
لكن، كأيّ حالة بشرية ـ واللغة بنت البشر وتعابير عقولهم ـ لابدّ من تطويرها على الدوام لتواكب عقولهم وحاجاتهم ومصالحهم ومقاصدهم، والكلّ يعرف أنّ أساليب البيان والكتابة تطوّرت تطوّراً ملحوظاً بعد التجربة الإسلامية العريقة، وصار لابدّ للمسلمين من خوض غمار هذا التحدّي من جديد، لهذا وجدنا جهابذة العلماء بأروع البيان يسطرون الكتب والمقالات آسرين قرّاءهم ومستمعيهم، من محمد عبده ومحسن الأمين ومحمد رشيد رضا مروراً بسيد قطب ومحمد جواد مغنية وعلي شريعتي ومرتضى مطهري ومحمد باقر الصدر ومحمد الغزالي ومالك بن نبي وابن عاشور، وصولاً إلى روّاد القلم في عصرنا الحاضر في العالمين: العربي والإسلامي، جهودٌ تستحقّ كلّ شكر وتقدير.
وقد يغلب على الكثير من كتّابنا في المجال الإسلامي أن يتقنوا فنّ الكتابة دون تعليم أو تدريب مسبق، بل تجد ذلك عندهم سجيّة أو نمطاً يعتادونه ويتعلّمونه بطريقة تدريجية قد تقع في الكثير من الأخطاء والهفوات التي يتم تجاوزها عبر الزمن، من خلال السقوط والتعالي المتواصلين، وهذه مشكلة حقيقية من حيث إنه يحتاج الشباب الناهض المستعدّ للإمساك بالقلم أن يخوض التجربة عن وعي مسبق ببعض آلياتها وببعض تجارب من سبقه، فلا يكون لوحده في الميدان يتخبّط كالغريق فيتعلّم السباحة من خلال الغرق، بل يدخل الساحة وهو مطلع من الجيل الذي سبقه على آليات هذا الفنّ، ليكون جديراً به بطريقة علمية متحضّرة.
ولا نزعم بذلك أنّ الذين يخوضون بطريقة أخرى هم دائماً كذلك، بل ننظر إلى الحالة الغالبة في الأمور، ولكي نتفاداها نحن بحاجة إلى قسم الإعداد والتأهيل في الحوزات العلمية والمعاهد الدينية والأكاديميات، ووحدة الإعداد والتأهيل هذه تقوم بنقل خبرات الجيل السابق إلى الجيل اللاحق الذي يشرف على الشروع بأعمال الكتابة والتسطير والإمساك بالدواة والقلم، ليتحقّق حوار الأجيال وتتكامل التجارب، وقد حصلت نهضة ملموسة على هذا الصعيد في غير موقع وحاضرة علمية في عالمنا الإسلامي، ونشهد في الحوزات العلمية الكبرى ـ مثلاً ـ حركة نشطة على هذا الصعيد، من الضروري رصدها وترشيدها وإعانتها في مشروعها الخيريّ هذا.
الإشكالية الأخرى في هذا المضمار هي إشكالية التطوّر المتواصل في مجال البيان وأساليبه، مما يرتبط أيضاً بملفّ الإعلام الفكري عامّة، فنحن في مجال الإعلام الفكري والثقافي نعاني من مشاكل حقيقيّة، لاسيما في المجال الديني، فكثيراً ما لا نملك خاصية الجذب للآخر، وعندما نطلّ عليه عبر أيّ وسيلة ـ بما فيها وسيلة الكتابة والقلم ـ لا يشعر بالحماس وهو يسير معنا، إنّنا نسير لوحدنا وكأنّ المطلوب منه أن يسير معنا، فيما المفترض أن نسير نحن معه، لكي نتمكّن من الفوز بقلبه.
ويحضرني هنا مثال قرأته منذ ما لا يقلّ عن عشرين عاماً، كنت أقرأ كتاباً للسيد المدرّسي اسمه الصداقة والأصدقاء على ما أذكر، وأرجو أن لا تخونني ذاكرتي، ورأيت مثالاً حينها سرعان ما جذبني في أحاسيسي مكوّناً مفهوماً جميلاً، يقول المثال: عندما تريد أن تصطاد سمكة فإنك لا تعطيها أشهى الأطعمة بحسب ذوقك ومزاجك، بل تعطيها ألذّ الأطعمة عندها وبحسب ذوقها ومزاجها، وربما يكون ذلك مرّاً عندك أو غير مستساغ.
 هذا مبدأ مهمّ في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وفي التربية والتعليم، فالحياة اليوم تسير بسرعة هائلة، وفي كل عشر سنوات نجد وعياً مضافاً، فإذا استمرّينا نخاطب الوعي السابق، فسوف نفقد قدرة الجذب والتأثير في الوعي الجديد المتشكّل بعد عقد واحد من الزمان فقط، هذا يعني أنّ المبلغين والدعاة والكتّاب والمحاضرين والخطباء وأئمة المساجد والجمعة والجماعات بحاجة إلى دورات تأهيل مستجدّة كلّ عقد من الزمان في الحدّ الأدنى، لكي يتمكّنوا من مواكبة تطوّر الأمزجة والوعي في المجتمعات التي تحيط بهم، فليس من الضروري فقط أن آخذ خبرة الأهلية ـ كما أشرنا في النقطة السابقة ـ بقدر ما يهمّ أيضاً أن أطوّر هذه الأهلية، حتى لا أكون كالحاسوب الذي يفقد كلّ بضعة أشهر قوّته وقدرته وامتيازه ما لم تجر عليه أعمال التحديث المتواصلة.
من هذا المنطلق ومن هذه الضرورات، جاء مشروع أخينا العزيز سماحة الشيخ عبد العظيم المشيخص حفظه الله تعالى، ليحاول أن يكتب في مضمار التأهيل، ليكون كتابه هذا مادّةً يستفيد منها الراغبون في خوض ميدان الكتابة والتأليف والصحافة والشعر والنثر، وقد طالعتُ الكتاب ورأيت أنّه يمكن أن يكون مفيداً في هذا المجال، ويستحقّ أن يرجع إليه وتتراكم فوقه الجهود والإضافات، إن شاء الله تعالى.
وقد كنت منذ سنوات قد قمت بدورة تعليمية متواضعة في مجال الكتابة والتأليف والإمساك بالقلم، وألقيت سلسلة محاضرات في هذا الإطار على طلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية، وذلك في مرفأ الكلمة للحوار والتأصيل الإسلامي في مدينة قم في إيران، وقد أحبّ أخونا الكريم الشيخ المشيخص حفظه الله أن يستفيد من هذه الدروس التمهيدية في إعداد هذا الكتاب ويقوم بتنظيمها لكن مع إضافة الكثير إليها، فجزاه الله ـ وعموم الإخوة الكرام في مرفأ الكلمة ـ خير جزاء المحسنين.
إنّني أدعو له بكلّ الخير والتوفيق في سبيل الرقيّ بوعينا الإسلامي نحو معالي الكمال والتفوّق إن شاء الله سبحانه، فجزاه الله خيراً، ونفع به الإسلام والمسلمين، ولا حرمنا من دعواته وعامّة المؤمنين، إنه وليٌّ قريب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( *) هذه المقالة هي مقدّمة لكتاب (الموجز في فنّ الكتابة العلميّة) الذي أعدّه ونظّمه صاحب الفضيلة الشيخ عبد العظيم المشيخص، وقد طبع الكتاب للمرّة الأولى  من قبل مرفأ الكلمة للحوار والتأصيل الإسلامي، عام 2012م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً