أحدث المقالات

(تقريرات بحث السيد محمد تقي الحكيم)

ـ القسم الأول ـ

د. الشيخ عبد الهادي الفضلي(*)

تنظيم وتقويم وتحقيق: الشيخ أحمد عبد الجبار السمين

[بين (الفقه المقارن) و(علم الخلاف)…، فروقاتٌ واختلافات]

يُطلَقُ (الفقه المقارن) ويُراد به تارةً جمع الآراء المختلفة في المسائل الفقهية على صعيدٍ واحد، دون إجراء موازنةٍ بينها؛ وأخرى جمعها وتقييمها، والموازنة بينها، وترجيح بعضها على بعضٍ. وهو بهذا المعنى أقرب إلى ما كان يسمِّيه القدماء بـ (علم الخلاف) أو (علم الخلافيات). وقد حدَّدوه ـ كما في (تسهيل الوصول إلى علم الأصول) ـ بالقول: إنه (علمٌ يُقتدر به على حفظ الأحكام الفرعية المختلف فيها بين الأئمّة، أو هدمها بتقرير الحجج الشرعية، أو إيراد الشُّبَه وقوادح الأدلّة)([1]).

والخلافي ـ كما يقول في المصدر نفسه ـ هو: (إمّا مجيبٌ يحفظ وضعاً شرعياً، أو سائلٌ يهدمُ ذلك)([2]).

وكأنّه يريد بحفظ الأحكام في هذين النصّين إشادةَ ما تبنّاه منها؛ بالبرهنة عليه، وهدم ما عداه؛ بتوهين مستنداته من الأدلّة.

والأنسب فيما يبدو ترك الترديد في كلامَيْه، والاستعاضة عن (إمّا) و (أو) بـ (الواو)؛ فإنّ الذي يستدل لما تبنّاه، دون أن يعرض لتوهين ما عداه، لا يسمّى خلافياً عادةً، وإلاّ تحوَّل الفقه إلى (علم الخلاف)، والفقهاء مطلقاً إلى (خلافيّين)، مع أنّه لا يصدق عليهم ذلك، ما لم ينظروا إلى رأي المخالف بشيءٍ من النقد والتجريح.

والظاهر أنّ الفرق بين علم الخلاف والفقه المقارَن في عُرْف (المُحْدَثين) كالفارق بين علم الكلام والفلسفة الإلهية؛ إذْ الثاني أقرب إلى الموضوعيّة من الأوّل؛ لأنّ الأول ـ كما تُشعر به كلماتهم ـ يفترض رأياً مسبقاً، ويستدلّ له، بينما يلتمس الثاني رأيه من خلال عرض الآراء، والتماس أدلّتها، والموازنة بينها.

وعلى أيّ حالٍ فإنّ أحدهما من حيث الموضوع وطبيعة البحث يشبه الآخر.

ومن شروطهما أن يحيط المقارن أو (الخلافي) بمختلف الأُسس التي ارتكز عليها أرباب الآراء المختلفة؛ لتسلم له الموازنة بينهما، والترجيح والاختيار.

يقول ابن خلدون: (ولا بُدَّ لصاحبه ـ يعني الخلافي ـ من معرفة القواعد التي يتوصَّل بها إلى استنباط الأحكام، كما يحتاج إليها المجتهد؛ لأنّ المجتهد يحتاج إليها للاستنباط، وصاحب الخلافيات يحتاج إليها لحفظ تلك المسائل المستنبطة من أن يهدمها المخالف بأدلّته)([3]).

ومعناه أنّ الخلاف عادةً بين أئمّة المذاهب وغيرهم من الفقهاء لا يعدو في واقعه أحد أمرين:

1ـ الاختلاف في الأصول والمباني العامّة التي يعتمدونها في استنباطهم، كأنْ يذهب أحدهم إلى حجّية الاستصحاب أو القياس، ويستنتج من طريقهما بعض أحكامه، بينما لا يرى الآخر حجّيتهما، ولا يصحِّح اعتمادهما كمصادر للتشريع.

2ـ اختلافهما في مدى انطباق القاعدة أو النصّ أو الأصل المتَّفق عليه بينهم على المورد الخاصّ، كأنْ يستفيد أحدُهم من التحديد ـ مثلاً ـ في آية الوضوء أنّه تحديدٌ للغسل، وبيانٌ لكيفيته، فيُفتي تَبَعاً لذلك بالوضوء المنكوس، بينما يستفيد الآخر أنّه تحديدٌ للمغسول، وهو لم يُسَقْ لبيان الكيفية، بل لا بُدَّ لاستفادتها من الرجوع إلى الأدلّة الأخرى، كالوضوءات البيانية وغيرها.

وإذا صحّ هذا فإنّ علينا ـ قبل أن نبدأ بدراسة المسائل الفقهية الخلافية ـ أن نستعرض الأُسُس التي ترتكز عليها آراء المجتهدين من أئمّة المذاهب وغيرهم، ونلتمس المتَّفق عليه منها والمختلف فيه، ثمّ نلتمس أدلّتهم ـ على تنوُّعها ـ، ونقيِّمها، ثمّ نختار على ضوء ذلك ما نختاره منها، مع ذكر دليله، ونقد ما لا نراه في حدود ما نملكه من معرفةٍ؛ ليسهل علينا بعد حينٍ الرجوع إلى هذه النتائج عندما ندخل في تفصيلات مسائلهم الفقهية، من دون أن نلجأ إلى تكرار الوقوف عندها، تَبَعاً لتكرُّر ذكرها في مختلف المسائل.

أمّا القسم الثاني من مناشئ الاختلاف، وهو المنبعث عن الخلاف في كيفية تطبيق النصوص أو القواعد على مواردها، فإنّنا نُرجئ البحث فيه إلى مظانّه، إذْ لا ضابطة كلّية يمكن جعلها أساساً في مجالات التطبيق.

أوّلاً: الاجتهاد الشرعي، حدوده وأطره

 1ـ [الاجتهاد…، تعريفه وتحديده]

وقبل أن نبحث هذه الأسس والركائز من مصادر التشريع لدى أولئك الأئمّة من الفقهاء والمجتهدين، الذين عُقدت هذه البحوث للمقارنة بين آرائهم، نودُّ أن نبدأ ببحث مفهوم (الاجتهاد) وشرائطه العامّة، على أساسٍ من المقارنة؛ لنستبعد عن طريقنا مَنْ لم تتوفّر فيهم هذه الشروط من نَقَلة الفتاوى؛ لئلاّ نُثقل البحث بالكثير من فضول الكلام، بالإضافة إلى أنّ فهم هذه الأسس في القواعد ممّا يتّصل اتّصالاً مباشراً بفهم بحوث الاجتهاد وملابساته، فماذا يُراد بكلمة الاجتهاد؟

الذي يبدو من كلمات الأصوليين أنّ لهذه الكلمة مدلولين في مصطلحهم، أحدهما أعمّ من الآخر.

 

[أـ الاجتهاد في معناه الأوّل]

وقد اختلفت كلماتهم في تحديد الأوّل منهما ـ أعني الاجتهاد بمفهومه العامّ ـ اختلافاً كبيراً؛ فـ(الآمدي) يُعرِّفه بـ: (استفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيءٍ من الأحكام الشرعية على وجهٍ يحسّ من النفس العجز عن المزيد عليه)([4]).

ويعرِّفه كلٌّ من: العلاّمة الحلّي والحاجبي، بـ: (استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعيّ)([5]).

ويَرِدُ على هذين التعريفين أنّ الاقتصار على ذكر الظنّ فيهما يجعلهما غير جامعين تارةً؛ وغير مانعين ولا جامعين أخرى؛ لأنّ الظنّ إنْ أُريد منه خصوص ما قام على اعتباره دليلٌ، من شرعٍ أو عقلٍ، كان التعريفان غير جامعين؛ لخروج العلم بالأحكام عنهما أوّلاً، وخروج ما لم يُفِدْ الظنّ ممّا قام عليه الدليل بالخصوص ثانياً.

وإنْ أُرِيدَ به الأعمّ من الظنّ المعتبر وغيره، كما هو الظاهر من إطلاق التعبير، كان ـ بالإضافة إلى ذلك ـ غير مانعٍ لدخول الظنون غير المعتبرة في حيِّز التعريف، مع اتفاقهم على عدم اعتبارها من أدلّة التشريع. وقد حاول بعض أساتذتنا ـ في ما نُسِب إليه ـ أن يصحِّح التعريف على مذهب الآخذين بالظنون القياسية والاستقرائية والاستحسانية([6])، ظانّاً أنّ هؤلاء إنّما يعملون بها لأنّها ظنونٌ فحَسْب، لا لأنّها ظنونٌ معتبرة عندهم بقيام الدليل عليها، مع أنّ لهم أدلّةً على حجّيتها يذكرونها في مواضعها، وسنقف منها بعد حينٍ.

والحقيقة أنّ ذكره هنا غير ذي موضوع؛ لعدم وجود أيّة خصوصيةٍ له تبرِّر ذكره في التعريف، إذْ المدار على ما قامت عليه الحجّة، أفاد الظنّ أو لم يُفِدْه، وكأنّه لذلك عَدَلَ غيرُ واحدٍ من الأصوليّين عن ذكره، وأبدلوه بكلمة العلم، كـ (الخضري)، حيث عرَّفه بـ: (بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة)([7])، والعلم هنا إنْ كان قد أراد به الأعمّ من العلم التعبّدي والحقيقي، وأراد بكلمة الحكم الشرعي الأعمّ أيضاً من الحكم الواقعي والظاهري، كان تعريفه هذا أسلم من سابقه؛ لاندفاع المؤاخَذات السابقة عنه، إلاّ أنّه يبقى كسابقه محتاجاً إلى ضميمةٍ ليكون جامعاً، وإلاّ فالتعريفُ ناقصٌ؛ لعدم تعرّضه للوظائف الشرعية أو العقلية عند عجز المجتهد عن تحصيل العلم بالأحكام الشرعية.

وهذه المؤاخَذة تَرِدُ على أكثر المعرِّفين؛ لإغفالهم لها، حتّى المتأخِّرين منهم، كالأستاذ (الزرقا)، حيث عرَّفه بـ: (عملية استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية في الشريعة)([8])، ومن المعلوم خروج البراءة العقلية، بل والشرعية، والاحتياط والتخيير العقليين، عن هذه التعاريف؛ لوضوح أنّ نتائج هذه الأصول إنّما هي وظائف شرعية أو عقلية، لا أحكام، ورُبَما كان مفاد بعضها رفع الحكم والتماس المعذورية لصاحبه والأمن من العقاب.

فالأنسب تعريفه بـ: (مَلَكَة تحصيل الحُجَج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية، شرعيةً أو عقليةً، عند العجز عن تحصيلها). وقد تبنَّتْ مضمون هذا التعريف مدرسة النجف الحديثة في علم الأصول([9])، وإنّما ذكرنا (المَلَكَة) في التعريف لنُبْعِد ما تُشْعِر به كلماتُهم السابقة من اعتبار الفعلية في الاجتهاد، مع أنّه من قبيل: (المَلَكَات)، إذْ من الواضح أنّ صاحب المَلَكَة يصدق عليه مجتهدٌ، وإنْ لم يباشر (عملية) الاستنباط فعلاً.

[ب ـ الاجتهاد في معناه الثاني]

أمّا الاجتهاد بالمعنى الثاني فقد عرَّفه الأستاذ (خلاّف)، بعد أن قيّده بكلمة (بالرأي)؛ تمييزاً له عن الاجتهاد بالمفهوم الأوّل، بـ (بذل الجهد للتوصُّل إلى الحكم في واقعةٍ لا نصّ فيها، بالتفكير واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها؛ للاستنباط بها في ما لا نصّ فيه)([10]).

ورادف الشافعيّ بينه وبين القياس، فقال: (إنّهما اسمان لمعنىً واحد)([11]).

واعتبره الأستاذ (مصطفى عبد الرزّاق) مرادفاً للرأي والقياس والاستحسان والاستنباط([12]). ومن المعلوم أنّ هذه المعاني مختلفةٌ، فلا يمكن أن يرادفها لفظٌ واحد بوضعٍ واحد. ولستُ أظنّ أنّ الأستاذ يريد أن يقول بالاشتراك اللفظيّ بينها. والظاهر أنّ هذه اللفظة مرادفةٌ لديهم لمفهوم الرأي، والمعاني الأخرى من قبيل: المصاديق لهذا المفهوم، وقد وقع الاشتباه نتيجةً للخلط بين المفهوم والمصداق. وسنقف من الاجتهاد بهذا المعنى عندما نتحدَّث عن هذا المفهوم ومصاديقه في مظانّها من هذا المدخل.

 

2ـ [مجالات الاجتهاد، ومراحله]

ومن تعريفنا للاجتهاد بمفهومه العامّ ندرك أنّ على المجتهد إذا أراد أن يتوفَّر على مختلف مجالات الإفتاء أن يحيط بالمراحل التي عرض لها التعريف بكلّ ما ترتكز عليه من أسس وقواعد، وهي ثلاث:

1ـ مرحلة تحصيل الحجّة على الحكم الشرعي.

2ـ مرحلة تحصيلها على الوظيفة الشرعية.

3ـ مرحلة تحصيلها على الوظيفة العقلية.

وإذا علمنا أنّ الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: واقعي؛ وظاهري، وأنّ أحدهما، وهو الحكم الظاهري، مجعولٌ في طول الحكم الواقعي؛ لاعتباره عند الشكِّ فيه وعدم إمكان تحصيله، كانت المراحل (أربعاً)، وكلّها مترتِّبة بحَسَب الوجود، وحاكمٌ بعضها على بعض.

تبدأ بمرحلة تحصيل الحجّة على الحكم الواقعي، وتنتهي بالوظيفة العقلية. فعند حصول العلم بالحكم الواقعي لا مجال للحكم الظاهري؛ لعدم الشكِّ فيه، وهو مجعولٌ في حال الشكّ، كما هو المفروض.

ومع قيام الحكم الظاهري لا مجال للوظيفة الشرعية؛ لأنّها مجعولةٌ عند العجز عن تحصيل الحكم بقسمَيْه.

والوظيفة العقلية إنّما نلجأ إليها إذا عجزنا عن تحصيل البيان من الشارع، وهو مأخوذٌ عدمه في موضوع حكم العقل، ومع تحصيله لا مجال لحكم العقل؛ إذْ لا موضوع حتّى يترتّب عليه هذا الحكم.

والإشارة إلى هذا النوع من الترتُّب بين المراحل ممّا انفردَتْ به مدرسة النجف الحديثة في علم الأصول، وتترتَّب عليه آثار مهمّة في مجال المقارنة.

[الحجّية…، مفهومها وأقسامها]

والمراد بكلمة (الحجّة) التي تكرَّر ذكرها في كلامنا، وفي التعريف: هو حكم العقل بصحّة احتجاج المولى على عبده إذا خالف مؤدَّى ما قامَتْ عليه، واحتجاج العبد على مولاه إذا سار على وفقها وتبيَّن بعد ذلك الخلاف.

ومن لوازمها العقلية المعذِّرية والمنجِّزية وصحّة نسبة مؤدّاها إلى مَنْ اعتبر حجّيتها، من شارعٍ أو عقلٍ.

وقد قسَّموها إلى قسمين:

1ـ ذاتية.

2ـ مجعولة.

وهذا التقسيم نابعٌ من طبيعة ما تتعلّق به، فهي عندما تُنسَب إلى العلم تكون من القسم الأوّل، وإذا نُسِبَتْ إلى غيره ممّا تقوم عليه احتاجَتْ إلى الجعل.

[الحجّية الذاتية]

والسرّ في ذلك بالنسبة إلى الأوّل منهما ـ وهو موضع الخفاء على الكثير ممّا أوجب اضطراب كلماتهم ـ يتّضح إذا علمنا أنّ الحجّية من اللوازم القهرية، التي يستحيل فيها التخلّف عن طريقيّة العلم، وأنّ طريقية العلم من اللوازم الذاتية له، بل هي في رأي بعض أساتذتنا عين الطريق؛ لأنّ القطع ليس هو إلاّ الانكشاف والرؤية، (ومن الواضح أنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروريّ، والماهية هي هي بنفسها، فلا معنى لتوهُّم جعل الطريقية له)([13]).

وبهذا يتبيَّن سرّ التزامهم بعدم إمكان تصرّف الشارع في طريقية العلم أو حجّيته؛ لأنّ الذي يدخل تحت تصرّف الشارع وقبضته كمشرِّع هو خصوص مخلوقاته ومجعولاته، وهما ـ بعد اتّضاح كون أحدهما ذاتياً؛ والآخر من اللوازم العقلية القهرية ـ ليسا من مجعولاته كمشرِّعٍ، وإنْ دخلا تحت تصرُّفه كخالقٍ ومكوِّن.

على أنّ رفع طريقيّة العلم أو حجّيته لا يخلو من لزوم اجتماع النقيضين؛ إمّا في الواقع؛ وإمّا عندما يقوم لديه العلم بالحكم. فالعالم بوجوب الصلاة ـ مثلاً ـ عندما يقال له: إنّ علمك ليس بطريقٍ أو ليس بحجّةٍ فإنّ معنى ذلك أن يُقال له: التزم بعدم وجوبها في هذا الحال، ومع هذا فإنْ تبيَّن أنّها كانت واجبةً في الواقع، وبقي الشارع مُصرّاً على حكمَيْه الأول والثاني، لزم اجتماع النقيضين، أو كانت غير واجبةٍ واقعاً لزم اجتماعهما في نظر العالِم بهما، وإنْ لم يلزم اجتماعهما في الواقع.

هذا، بالإضافة إلى أنّ إثبات مثل هذا التصرُّف الشرعي ـ لو أمكن ـ ممّا يحتاج إلى الدليل:

فإنْ كان هو العلم احتاج إلى دليلٍ على حجّيته، وهكذا حتّى يتسلسل إلى ما لا نهاية.

وإنْ كان غيره فما الدليل على حجّيته؟

ومن هنا قيل: (طريقية كلّ شيء لا بُدَّ وأن تنتهي إلى العلم، وطريقية العلم لا بُدَّ وأن تكون ذاتيةً له؛ لأنّ كلّ ما بالغير لا بُدَّ أن ينتهي إلى ما بالذات، وإلاّ لزم التسلسل)([14]).

[الحجّية المجعولة]

وأمّا تعلّق الحجّية في ما عدا العلم  ـ كما هو التحقيق في إمكان تعلُّقها ـ فهو محتاجٌ إلى الجعل حَتْماً؛ لعدم حكم العقل بالمنجّزية ولا المعذّرية بدونه.

إذْ إنّ ما عدا العلم إمّا أن لا يكشف عن الواقع أصلاً؛ أو يكشف كشفاً ناقصاً ـ كما في الظنون والأصول الإحرازية على قولٍ ـ. وكلاهما لا تتوفَّر فيهما الطريقية الذاتية التي من لوازمها الحجّية. فإذا لم يعزَّزا بجعلٍ من الشارع لطريقيّة ما يصلح للطريقيّة منهما، كالأمارات، أو لحجّيتهما، فإنّ العقل لا يحكم بلزوم اتّباعهما، ومع عدم حكمه لا مبرِّر لاتّباعهما بحالٍ.

والذي أخاله أنّ الحكم باحتياج ما عدا العلم إلى جعل حجّية أو طريقية من الأمور المتَّفق عليها بين المسلمين، وإنْ لم تُعْطِه كلماتهم، ودليل اتّفاقهم أنّهم عندما يريدون أن يؤصِّلوا أصلاً أو يكتشفوا قاعدةً لا يكتفون بالعمل بمقتضى مؤدّاهما حتّى يلتمسوا دليلاً من الشرع أو العقل على حجّيته، التماساً للجزم بالمعذّرية أو المنجّزية. يقول (الشاطبي) ـ وهو يتحدَّث عن بعض الأدلّة غير العلمية ـ: (إنّ المعنى المناسب الذي يربط به الحكم الشرعي إذا شهد الشرع في قبوله لا خلاف في صحّته وإعماله، وإنْ شهد الشرع بردِّه كان الذي لا سبيل إلى قبوله، ويكون الحكم الذي يربط به ويقوم عليه لا سبيل إلى قبوله)([15]).

ويقول الأستاذ (خلاّف)، وهو يتحدّث عن مجالات الاجتهاد بمفهومه العام: (أو يشمل بذل الجهد للتوصُّل إلى الحكم في ما لا نصّ فيه، بالقياس أو الاستحسان أو الاستصلاح أو غير هذا من الوسائل التي أرشد الشرع إليها للاستنباط في ما لا نصّ فيه)([16]). وفي كلام الخضري: (وأمّا الأصولية، ككون الإجماع والقياس وخبر الواحد حجّةً، فهذه مسائل أدلّتها قطعية)([17])، ونظير ذلك كثيرٌ؛ ممّا يشهد بعدم أخذهم بالدليل ما لم تلتمس له الحجّية من الشارع، الموجبة للقطع بلزوم اتّباعها.

ولعلّ المنشأ في اضطراب كلماتهم، المُشْعِر بعضُها بالاعتماد على بعض الظنون بما أنّها مصاديق للظنّ المطلق، لا بما أنّها طرق خاصّة قام على اعتبارها دليلٌ قطعي، هو ملاحظتُهم أنّ جميع الأحكام التي قامت عليها ظنونٌ معتبرة لم تنتج إلاّ أحكاماً ظنّية، غافلين عن أنّ معنى قيام الدليل على الحجّية أو الطريق لا يَعْدُو في مؤدّاه الجَزْم بالمنجّزية أو المعذّرية، لا الوصول إلى الأحكام الواقعية على نحو الجَزْم واليقين.

 3ـ [ثنائيّة التصويب والتخطئة]

ومن هنا في ما نعتقد يكون المنطلق إلى الموازنة والتقييم في ما شجر بين المسلمين من الخلاف حول تخطئة المجتهد وتصويبه، فقد انقسمت كلمتهم حول ذلك إلى قسمين؛ أو ثلاثة، على الأصحّ: قسمٌ يقول بالتصويب؛ وقسمٌ يقول بالتخطئة؛ وقسمٌ يقع وسطاً بينهما.

[أوّلاً: المصوّبة]

والمصوّبة انقسموا على أنفسهم:

[1ـ] فمنهم مَنْ قال: إنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكمٌ معيّن يطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع الظنّ، وحكم الله على كلِّ مجتهدٍ ما غلب على ظنّه. وهذا مذهبٌ للقاضي والغزالي([18]). وقد عرف هذا القول بـ (التصويب الأشعري).

2ـ (ومنهم مَنْ قال: إنّ فيه حكماً معيّناً يتوجَّه إليه الطلب، إذْ لا بُدَّ للطلب من مطلوب، لكنّ المجتهد لم يكلّف بإصابته، فلذلك كان مصيباً وإنْ أخطأ ذلك الحكم المعيّن الذي لم يُؤمَر بإصابته)([19]). وقد نُسب مضمون هذا القول إلى المعتزلة.

وهذان القولان إنّما يتمّان بناءً على اختصاص الأحكام بخصوص العالِمين بها، وأنّ الجاهلين بها لا حكم في حقِّهم إلاّ ما قامت عليه الأمارة؛ إمّا لعدم جعل الحكم الواقعي في حقّ الجاهلين ابتداءً ـ كما هو مبنى القول الأوّل ـ؛ أو لمزاحمته بما جُعل على مؤدّى الأمارة من حكم وغلبة المزاحم عليه ـ كما في القول الثاني ـ .

وعلى القولين تكون الأمارة سبباً في جعل الحكم الشرعيّ على وفقها، ويكون مفاد حجّيتها هو جعل السببية لها.

[ثانياً: المخطِّئة]

أمّا المخطِّئة ـ وهم الشيعةُ وبعض المسلمين ـ فإنّهم يذهبون إلى أنّ الأحكام الواقعية مستوعبةٌ لجميع أفعال المكلِّفين، وأنّه ما من واقعةٍ إلاّ ولها حكمٌ، وهذه الطرق من الأمارات والأصول المحرزة التي قد تبنّاها الشارع المقدَّس ليست في الحقيقة إلاّ منجّزات للحكم الواقعي ومعذّرات، والواقع يبقى على واقعه من دون أيّ تصرُّفٍ فيه.

وتسمية ما قامت عليه الأمارة أو الأصل بالحكم الظاهري إنّما هو (لمكان احتمال مخالفة الطريق والأصل للواقع وعدم إيصاله إليه، وإلاّ فليس الحكم الظاهري إلاّ الحكم الواقعي الذي قامت عليه الأمارات والأصول مطلقاً، محرزةً كانت الأصول أو غير محرزةٍ، وهذا هو الذي قام عليه المذهب، ويقتضيه أصول المخطِّئة)([20]).

[ثالثاً: بين التصويب والتخطئة]

والقسم الثالث، وهو الذي أخذ من التخطئة والتصويب معاً، قول الشيخ الأنصاري&؛ حيث التزم بالطريقية بالنسبة إلى مفاد دليل حجّية الطرق والأمارات، ومن دون أن يكون هناك أيّ تصرُّفٍ في المتعلّق يزاحم به الواقع المجعول بحقّ الجاهلين والعالِمين على السواء، ووافق بذلك المخطِّئة.

وأخذ من التصويب سببية الأمارة لخلق مصلحةٍ، ولكنّه وجّه بها إلى السلوك لا إلى المتعلّق (تلك المصلحة ممّا يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع)([21]).

[ملاحظاتٌ ومناقشات]

والغريب من هذه الأقوال هو القول الأوّل؛ لما يستلزم من نسبة هذه المتناقضات التي يقع فيها المجتهدون ـ عادةً ـ إلى الله تعالى، والاقتصار في الأحكام الواقعية التي جاء بها الإسلام على ما عُلِم منها، وهو محدودٌ جداً بالنسبة إلى غير المعلوم ممّا يشرع على وفق آراء المجتهدين.

على أنّنا نتساءل عمّا يطلبه المجتهد، وعلى أيِّ شيءٍ تقوم هذه الظنون، إذا لم يكن هناك واقعٌ يُطْلَب من قبله؟!

بينما لا يلزم شيءٌ من ذلك على بقيّة الأقوال؛ لاعترافهم بوجود أحكام واقعية لمختلف أفعال المكلَّفين. على أنّ الروايات والآثار قد تواترت بوجود الحكم المشترك بين العالم والجاهل([22])، وهي تكفي لردّ هذا القول، وإنْ لم يقُمْ عليه مانعٌ عقلي.

وقريبٌ منه في الغرابة التصويب الثاني؛ لانتهائه إلى القول الأوّل، بعزله للأحكام الواقعية من طريق المزاحمة، على أنّ مقتضى جعل أدلّة الطرق لا يفيد أكثر من اعتبارها بمنزلة العلم من حيث ترتيب الآثار، ومعلومٌ أنّ العلم لا يسري إلى الواقع فيغيِّر أو يبدِّل فيه.

كما أنّ هذه الأدلّة لا تنهض بتقرير المصلحة السلوكية، التي ذهب إليها الشيخ، كما يتّضح ذلك عندما تعرض في مواضعها من البحوث الآتية. وكلُّ ما تدلّ عليه جعل الحجّية أو الطريقية، المستتبعة لحكم العقل بترتيب لوازمها السابقة عليها، من المعذّرية والمنجّزية وغيرها.

4ـ [الإجزاء عند تغيير الاجتهاد]

وممّا يتّصل بالآراء السابقة في مسألة التخطئة والتصويب مسألة جواز نقض الاجتهاد وعدمه، وهي المسألة المعروفة في كتب الأصول بمسألة (الإجزاء).

وذلك فيما إذا تبدَّل رأي المجتهد؛ بقيام الحجّة لديه على خلاف رأيه السابق. ويُتصوَّر هذا النقض وتبدُّل الرأي في مقامين: مقام العمل والإفتاء؛ ومقام الحكم وفضّ الخصومات. وفي كلَيْهما وقع الخلاف بين الأعلام.

[القاعدة الأوّلية في مسألة الإجزاء]

وقبل أن نعرض لأقوالهم، والتماس أدلّتها، يقتضينا أن نلتمس ما تُنهينا إليه القاعدة الأوّلية في المقام، والذي يقتضي أن يُقال: إنّ القاعدة مترتّبة على المباني السابقة، ومختلفة باختلافها.

[1ـ] فالقائلون بالتصويب الأوّل ـ كالغزالي والقاضي ـ لا بُدَّ أن يلتزموا بالإجزاء، وعدم جواز النقض مطلقاً؛ لإنكارهم الحكم الواقعي بالنسبة إلى الجاهل، والتزامهم بتَبَعية الحكم لاجتهاد المجتهد. ومثل هؤلاء لا يُعْقَل انكشاف الخطأ بالنسبة إليهم؛ لعدم التزامهم بوجود واقعٍ يمكن أن يقع فيه الخطأ والإصابة. وتبدُّل الاجتهاد لديهم ـ وإنْ استلزم تبدُّل الحكم تَبَعاً له ـ إلاّ أنّه من قبيل: تبدُّل الحكم لتبدُّل موضوعه، لا لانكشاف الخطأ فيه.

[2ـ] والقائلون بالتصويب الثاني لا بُدَّ أن يلتزموا بالإجزاء أيضاً؛ لتصريحهم بأنّ كلّ مجتهدٍ مصيبٌ وإنْ أخطأ الواقع. وفي حدود ما وجّهنا به كلامهم السابق لا يبقى لديهم بعد حصول الاجتهاد وخلق حكم على وفقه مجالٌ للحكم الواقعي؛ لمزاحمته دائماً بالحكم الجديد وغلبته عليه. وتبدُّل الاجتهاد لديهم يكون كسابقه، من قبيل: تبدّل الموضوع، لا من قبيل: انكشاف الخطأ فيه.

[3ـ] أمّا على رأي الشيخ الأنصاري، من الالتزام بالتخطئة والمصلحة السلوكية، فالذي يقتضيه الالتزام به هو القول بعدم الإجزاء؛ لاعترافه بأنّ المصلحة السلوكية لم تصنع شيئاً أكثر من تعويض المكلَّف ما يفوته من المصلحة؛ بسبب سلوك ما جعله الشارع له من الطرق، أمّا الواقع فهو على حاله غيرُ مزاحَمٍ بشيءٍ نهائياً.

ومع خطأ الطريق الاجتهادي لم يَفُتْ المكلَّف إلاّ مصلحة الوقت في الموقّتات مثلاً، فهو معوَّضٌ عنها بالمصلحة السلوكية. أمّا المصلحة الواقعية ـ مع إمكان تداركها ـ فهي لم تَفُتْه، وعليه الإتيان بها على كلّ حال.

[4ـ] ومن هنا تتّضح القاعدة على مبنى المخطِّئة، إذْ مع التزامهم بوجود الأحكام الواقعية، وانكشاف الخطأ في الاجتهاد الأول، وعدم تنازل الشارع عن حكمه؛ لعدم جعله بالنسبة إلى الأصول والطرق غير الطريقية أو الحجّية، وهي لا تفيد أكثر من المنجّزية عند المصادفة، والمعذّرية عند عدمها، ومعه لا بُدَّ من القول بعدم الإجزاء.

هذا كلُّه من حيث القاعدة، وهي لا تفرِّق بين المقامين: مقام العمل والإفتاء؛ ومقام الحكم وفضّ الخصومات، كما لا تفرِّق بين الأحكام التكليفية والوضعية.

[الإجزاء في مقامَيْ الحكم والفتيا]

ولكنّ بعض العلماء فرَّقوا بين مقامي الحكم والإفتاء؛ فالتزموا بعدم جواز النقض في الأول؛ وجوازه في الثاني([23]).

كما فرَّق الشيخ النائيني بين العبادات من الأحكام التكليفية وبين ما يبقى محلاًّ للابتلاء بعد الاجتهاد الثاني من الأحكام الوضعية؛ فالتزم بالإجزاء بالنسبة إلى الأول منهما؛ وعدمه بالنسبة إلى الثاني([24]).

[أدلّة القول بالإجزاء في مقامي الإفتاء والعمل]

وهناك مَنْ أطلق القول من الأعلام ـ في ما يبدو ـ بالإجزاء؛ استناداً إلى الأدلّة الخاصّة. وهذه الأدلّة التي يمكن أن تُذكر أهمُّها أربعة:

1ـ أدلّة نفي الحَرَج، أمثال: قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحجّ: 78)، بدعوى أنّ مقتضى حكومتها على الأدلّة الأوّلية هو تضييق نطاقها عن شمول ما كان حَرَجياً من الأحكام، بالكشف عن عدم جعله ابتداءً.

وبما أنّ الحكم بعدم الإجزاء هنا حَرَجيٌّ فهو غير مجعولٍ على المكلَّفين.

وهذه الأدلّة إنّما تتمّ حكومتها في المقام إذا كان مفادها هو نفي الحَرَج النوعي؛ لبداهة أنّ القول بعدم الإجزاء لا يستلزم الحَرَج الشخصي في جميع مسائله.

ومفادُ هذه الأدلّة ـ كما هو التحقيق فيها ـ هو رفع الحَرَج الشخصي، لا النوعي.

وعليه لا تصلح لتأخير القاعدة إلاّ في موارد الحَرَج الشخصي، وهي قليلةٌ نسبياً.

2ـ دعوى أنّ الاجتهاد الأوّل كالثاني، فلا موجب لرفع اليد عنه بالاجتهاد الثاني، والقول بعدم الإجزاء لا يتمّ إلاّ برفع اليد عن الاجتهاد الأوّل.

وهذه الدعوى إنّما تتمّ إذا كان كلا الاجتهادين حجّة، وهذا ما لا يعقل أن يكون؛ إذْ معنى اجتهاده الثاني هو قيام الحجّة لديه على بطلان اجتهاده الأوّل؛ لاكتشافه خللاً فيه:

ـ كأنْ يكون قد أفتى أوّلاً استناداً إلى إطلاقٍ أو عمومٍ، ثمّ عثر بعد ذلك على مقيِّدٍ أو مخصِّصٍ له، وليس من الممكن أن يبقى العامّ على حجّيته حتّى مع العثور على المخصِّص.

ـ أو يكون قد استند في اجتهاده السابق على روايةٍ كان يعتقد صحّتها، ثمّ تبيّن له كذب راويها، وهكذا.

ومع هذا الحال كيف يلتزم بعدم ترجيح الاجتهاد الثاني في صورة معارضته له، مع أنّه في الحقيقة من قبيل: تعارض الحجّة باللاحجّة، لا من قبيل: تعارض الحجّتين.

3ـ ما نُسِب لصاحب الفصول&، من القول بأنّ القضية الواحدة لا تتحمَّل اجتهادين([25]).

وهو كلامٌ لم يتّضح المراد منه؛ لأنّه إنْ أراد منه أنّ القضية لا تتحمّل اجتهادين مع بقاء حجِّيتهما؛ للزوم التناقض وشبهه في مدلولَيْهما، فهو وإنْ كان صحيحاً، إلاّ أنّا لا نلتزم ببقاء الحجّية لهما معاً؛ لانكشاف الخلل في الاجتهاد الأوّل المانع من حجّيته، وهو معنى قولنا بعدم الإجزاء.

أمّا إذا أراد أنّ طبع القضية الواحدة يأبى ورود اجتهادين عليه من مجتهدٍ واحد، فهو وإنْ كان مع وحدة الزمان صحيحٌ، إلاّ أنّه خارجٌ عن الفرض، ومع تعدُّد الزمان لا تأبى القضية ألف اجتهادٍ، لا اجتهادين فحَسْب، كما هو واضحٌ بالبداهة.

4ـ دعوى الإجماع([26]) على الإجزاء، وقد حكاه أستاذنا النائيني&([27])، واستند إليه في القول بالإجزاء في العبادات باعتباره القَدَر المتيقَّن من مورده، وجَزَمَ بخروج الأحكام الوضعية عن المورد، وأنّ فتوى جماعةٍ في الإجزاء فيها (إنّما هي لأجل ذهابهم إلى كون الإجزاء هو مقتضى القاعدة الأوّلية، لا لأجل الإجماع على ذلك)([28]).

واستظهر السيّد الخوئي أنّه ليس هناك إجماعٌ تعبُّدي في جميع صور المسألة، وأنّ (القائل بالإجزاء إنّما ذهب إليه لدلالة الدليل عليه باعتقاده، وعليه فلا مقتضى لرفع اليد عمّا تقتضيه القاعدة الأوّلية من لزوم الإعادة والقضاء في العبادات بعد انكشاف الخلاف، ولزوم ترتيب جميع آثار انكشاف الخلاف في المعاملات)([29]).

والحقّ أنّ الإجماع متى عُرف المستند في فتاوى بعض المفتين على وفقه لا يبقى مجالٌ لحجّيته، كما يأتي تحقيقه في موضعه، إنْ شاء الله تعالى.

هذا كلُّه بالنسبة إلى مقام الإفتاء والعمل.

 

[أدلّة القول بالإجزاء في مقام الحكم]

[1ـ] أمّا مقام الحكم فقد يُضاف إلى هذه الأدلّة ما يُشعر به إطلاق بعض الروايات، من أنّ لحكم الحاكم موضوعيةً؛ إذ اعتبرت الرادَّ عليه رادّاً على الله، وهو على حدِّ الشرك بالله([30])، من دون أنْ يفرِّق بين أن يكون الردّ ونقض الاجتهاد مبتنياً على اجتهادٍ أو غيره.

وهذا لا يتمّ إلاّ على السببية المَحْضَة. إلاّ أنّ إثبات هذا الإطلاق من الصعوبة بمكانٍ؛ إذْ مع استكشاف أنّ حكمه السابق كان بغير ما أنزل الله، فكيف يُحتمل وجوب قبوله وحرمة ردّه، ويكون الرادُّ عليه رادّاً على الله؟! مع أنّ ردّه هذا أُخذ بحكم الله، بحَسَب عقيدته.

والذي يبدو من صحيحة هشام أنّ حكم الحاكم لا يغيِّر الواقع عمّا هو عليه، وأنّه لا يزيد على الطريقية المَحْضَة. اسمع ما يحدِّث به عن رسول الله|، يقول: (قال رسول الله|: إنّما أقضي بينكم بالبيِّنات والأيمان، وبعضكم أَلْحَنُ بحجّته من بعض، فأيّما رجل اقتطعْتُ له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعتُ له به قطعةً من النار)([31]).

[2ـ] وقد استدلّ الأستاذ الخضري على عدم جواز نقض الاجتهاد في هذا المقام بالتسلسل، بدعوى (أنّه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض، ولتسلسل)([32]).

وهذا الاستدلال بالتسلسل إنّما يتمّ إذا تمَّتْ الملازمة بينهما، وكانت واقعةً في سلسلة العلل والمعلولات. ولكنّها هنا غير تامّةٍ؛ إذْ من المعلوم أنّ فعلية نقض الاجتهاد لا تستلزم فعلية نقض النقض، ولو استلزمتها فهي من قبيل: الملازمات الاتفاقية؛ لبداهة أنّ نقض الاجتهاد لا يكون علةً لنقض النقض، ولا معلولاً له، ومع عدم العلّية والمعلولية بينهما لا يلزم التسلسل الباطل.

والظاهر أنّ الأستاذ الخضري لا يريد من (الملازمة) الملازمة الفعلية، وإنّما يريدها على نحو الإمكان، بمعنى أنّه لو أمكن نقض الاجتهاد لأمكن نقض النقض، وهكذا.

والظاهر أنّ هذا النوع من التسلسل لا يمنع منه العقل؛ لوضوح عدم العلِّية والمعلولية بين الإمكانين.

على أنّ هذا الإشكال لو تمّ فهو واردٌ عليه نقضاً؛ لالتزامه بجواز نقض الاجتهاد في عالَم العمل، يقول: (فإنْ كان يجتهد لنفسه، وعمل بمقتضى اجتهاده، ثمّ تغيّر ظنُّه، لزمه أن ينقض ما بناه على الاجتهاد الأوّل)([33])، ومقتضى ذلك أن يُقال له: لو نقض ما بناه على الاجتهاد الأوّل لنقض النقض، ولتسلسل.

[3ـ] وممّا استدلّ به بعضُهم على عدم جواز النقض: ما أُثِر عن عمر بن الخطّاب من عدم نقض حكمه، مع تبيُّن الخطأ له في (المسألة الحَجَرية) المشهورة في علم الميراث، وهي (ما إذا وجد مع الاثنين فأكثر من أولاد الأمّ أخٌ شقيق فأكثر بالانفراد، أو مع أختٍ شقيقة فأكثر، واستغرقت الفروض كلّ التركة، بأن وجد مع هؤلاء زوج وصاحبة سدسٍ، كالأم والجَدّة الصحيحة)([34])، حيث قضى (بعدم توريث أولاد الأبوين. ولمّا عرضت عليه المسألة مرّةً أخرى قضى بإشراكهم مع أولاد الأمّ في فرضهم الثلث، ولمّا قيل له: سبق أن قضيت بعدم إشراكهم قال: ذلك على ما قضينا، وهذا على ما نقضي)([35]).

وبالعكس فقد استدلّ أيضاً بكلماتٍ لعُمَر في لزوم نقض الحكم مع تبيُّن الخلاف. يقول عمر بن عبد الله: (وقد نصّ العلماء على أنّ القاضي المجتهد إذا تبيَّن له الخطأ في قضائه ينتقض ما حكم به)، إلى أن يقول: (ويؤيِّد هذا قول عمر بن الخطّاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري، وهو قاضي الكوفة: ولا يمنعك قضاءٌ قضيتَه اليوم، فراجعْتَ فيه نفسَكَ، وهُدِيتَ فيه إلى رشدكَ، أن ترجع إلى الحقّ، فإنّ مراجعة الحقِّ خيرٌ من التمادي على الباطل)([36]).

وهذا النوع من قِبَل هؤلاء الأعلام لا يصلح أن يكون إلاّ من باب الاستئناس بأقوال الخليفة، وإلاّ فاجتهاده كاجتهاد غيره، لا يصلح أن يكون من الحجج النافذة على المجتهدين الآخرين إذا لم يتبيَّن وجهه، ومع تبيُّن وجهه ومستنده يكون الأخذ بالمستند، لا به.

فلا تصلح إذن للدلالة، نفياً وإثباتاً، ولا حاجة إلى التمحُّلات في توجيهها.

 [النتيجة]

والخلاصة أنّ القاعدة تقتضي عدم الإجزاء في الجميع، ولا يخرج عنها إلاّ بدليلٍ خاصّ، ولو وُجد فيقتصر فيه على مورده.

أمّا الأدلّة العامّة فلم نعثر فيها على ما يصلح أن يوقف الأخذ بالقاعدة في جميع الموارد.

5ـ [تقسيم الاجتهاد…، نقدٌ واقتراح]

وإذا تمّ ما سبق أن انتهينا إليه، من أنّ لله تعالى في كلّ واقعةٍ حكماً، وأنّ وظيفة المجتهد هي اكتشاف ذلك الحكم، والتماس المعذّر الشرعي أو العقلي عند عدم الانتهاء إليه، عُدْنا إلى ما ذكروه من تقسيمٍ للاجتهاد بلحاظ ما يتصلّ بهذا الاكتشاف؛ لنفحصه على ضوء ما اعتبروه للقسمة المنطقية من أصولٍ، ثمّ نقول كلمتنا في طبيعة ما تقتضيه من تقسيمٍ.

ولعلّ أحدث تقسيمٍ له بهذا اللحاظ هو تقسيم الدكتور (معروف الدواليبي)، يقول: (وتوصُّلاً إلى معرفة الأحكام من النصوص الشرعية يتكلَّم العلماء بعد ذلك عن طرق الكشف عن الأحكام الشرعية، ويمكن أن نقسِّم ذلك إلى ثلاثة طرق:

1ـ طريقة الاجتهاد البياني، وذلك لبيان الأحكام الشرعية من نصوص الشارع.

2ـ طريقة الاجتهاد القياسي، وذلك لوضع الأحكام الشرعية للوقائع الحادثة، ممّا ليس فيه كتابٌ أو سنّة، بالقياس على ما في نصوص الشارع من أحكامٍ.

3ـ طريقة الاجتهاد الاستصلاحي، وذلك لوضع الأحكام الشرعية أيضاً، ممّا ليس فيه كتابٌ ولا سنّة، بالرأي المبنيّ على قاعدة الاستصلاح)([37]).

[أقسام الاجتهاد…، مناقشة الدكتور الدواليبي]

[1ـ] وقبل أن نعقِّب على هذا التقسيم نودّ أن نشير إلى أنّ تفرقته بين طريقتي الاجتهاد (البياني) وتاليتَيْه، باعتباره الأولى بياناً للأحكام الشرعية والأخريَيْن وضعاً للأحكام الشرعية، لا يتّضح لها وجهٌ بعد اعتبارها جميعاً من الكواشف، كما هو صريح كلامه في مدخل التقسيم.

على أنّ كلمة (وضع) إنْ نسبها إلى المجتهد كان معنى ذلك اعتباره مشرِّعاً في رأيه، وهو لا يلتئم مع جميع المباني السابقة في التخطئة والتصويب؛ لنسبتها جميعاً التشريع إلى الله تعالى، وإنْ اختلفت في كون الحكم المشرَّع من قِبَله سابقاً على الاجتهاد أو لاحقاً له.

وإنْ أراد نسبتها إلى الله تعالى، بعد قياس المجتهد أو استصلاحه، فهو وإنْ اتَّفق مع رأي المصوِّبة، إلاّ أنّه لا يتَّفق مع طبيعة تقسيمه لها؛ لاعتبارها من الكواشف. على أنّ المصوِّبة لا يفرِّقون بين الاجتهادين (البياني وأخوَيْه) من حيث نسبة الوضع إلى الله تعالى ما داموا غير عالمين بالأحكام الواقعية.

فهذه التفرقة لدى (الدكتور)، بين كون بعضها بياناً وبعضها وضعاً، لا تبتني على أساسٍ من تلكم الأُسُس، ومن البعيد جدّاً أن يلتزم بأنّ المجتهد مشرِّعٌ، فيخرج على إجماع المسلمين.

[2ـ] أمّا تقسيمه الثلاثي هذا فهو غيرُ جامعٍ لشرائط القسمة المنطقية؛ لعدم استيعابه لأقسام المقسم، مع أنّه في مقام استيعابها؛ بدليل تعقيبه بعد ذلك على كلامه هذا بقوله: (ولم أتكلَّم عن الاجتهاد الاستحساني؛ لأنّ بعض حالاته تدخل في الاجتهاد القياسي؛ وبعضها الآخر في الاجتهاد الاستصلاحي)([38])، إذْ من الواضح أنّ الطرق التي جعلها العلماء كاشفةً لا تنحصر بهذه الثلاثة، وهو في مقام حصرها، بل وسَّعوها حتَى بلغ بعضهم إلى تسعة عشر باباً([39])، وعدّوا منها: الإجماع والاستصحاب والعُرْف ومذهب الصحابي وسدّ الذرائع، وكثيرٌ منها لا ترجع إلى هذه الطرائق الثلاث.

[3ـ] على أنّ القياس ـ كما يأتي تحقيقه ـ ليس في جميع أقسامه قسيماً للاجتهاد البياني، بل هو في بعضها قسمٌ منه، كالقياس المنصوص العلّة، والذي يُستفاد من عموم أو إطلاق علّته عموم الحكم لجميع ما تتعلَّق به.

[رؤيةٌ مقترحة لإعادة تقسيم الاجتهاد]

والأنسب في ما نخال ـ بعد أن تمّ ما انتهينا إليه في تعريف الاجتهاد من تعميم وظيفة المجتهد إلى اكتشاف الحكم أو الوظيفتين: الشرعية؛ والعقلية ـ أن نوسِّع في التقسيم إلى ما يشمل اكتشافها جميعاً، وأن نستوعب مختلف الطرق التي ذكروها، وإنْ لم تتفق كلمتهم عليها، على أن يكون المنطلق لهذا التقسيم هو ما سبق أن رأيناه من اختلاف هذه الطرق في كيفية ثبوت الطريقية أو الحجّية لها.

فنقول: إنّ هذه الطرق إمّا أن تكون طريقيتها أو حجّيتها ذاتيةً، لا تحتاج إلى جعل جاعلٍ؛ أو مجعولةً.

وينتظم في الأول منهما باب الملازمات العقلية وغيرها من الطرق العلمية، كالخبر المتواتر ـ إذا كانت دلالتُه قطعيةً، أو الخبر المحفوف بقرائن تُوجِب القطع سنداً ومتناً وإنْ لم يكن متواتراً ـ، وقواعد لزوم دفع الضَّرَر المحتمل، والضرورات تبيح المحظورات، وما أبيح للضرورة يُقدَّر بقدرها، ودَرْء المفسدة أَوْلى من جلب المصلحة، وتقديم الأهمّ عند المزاحمة، وشغل الذمّة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، وقبح العقاب بلا بيان، والتخيير العقلي عند دوران الأمر بين المحذورين، ونظائرها من الطرق الكاشفة عن الحكم الشرعي أو الوظيفة العقلية كشفاً علمياً لا يحتاج إلى جعلٍ.

وسيأتي فيها الحديث، وفي تعيين مواضع جريانها، وتمامية ما يتمّ منها وعدمه، في مواضع من الأحاديث القادمة، إنْ شاء الله تعالى.

وينتظم في الثاني ما احتاج إلى جعلٍ أو إمضاء من قِبَل الشارع، أفاد الظنّ أو لم يُفِدْه: كمباحث حجّية الظواهر والإجماع والقياس والاستصلاح والاستحسان والعُرْف والاستصحاب والبراءة الشرعية وغيرها من مباحث الحجج والأصول العملية، ممّا يكشف عن الحكم الشرعي أو الوظيفة المجعولة من قِبَل الشارع عند عدم اكتشافه.

ولنصطلح على الأوّل منهما بـ (الاجتهاد العقلي)، بمعنى أنّ حجّية طرقه من اللوازم العقلية القهرية؛ لطريقيّتها، وهي لا تخضع لتصرُّف الشارع فيها وضعاً، ولا دفعاً.

ولنصطلح على الثاني بـ (الاجتهاد الشرعي)، بمعنى أنّ ثبوت الطريقية لها أو الحجّية ممّا تتوقّف على جعلٍ أو إمضاء من قِبَل الشارع.

وسنتكلَّم فيها تَبَعاً لهذا التقسيم عندما نبلغ مواضعها من هذه الأحاديث.

6ـ [معدّات الاجتهاد]

[أوّلاً: معدّات الاجتهاد العقلي]

ويتوقّف الاجتهاد العقلي على خبرةٍ ببعض القواعد الفلسفية والمنطقية، وبخاصّة القواعد التي ترتكز عليها أصول الأقيسة بمختلف أشكالها، ففيها وفي بقية قواعد المنطق ـ كما يقال ـ العصمة عن الخطأ في الفكر، شريطة أن تُؤخَذ من منابعها السليمة في أمثال جامعة النجف الأشرف من الجامعات الإسلامية، التي عنيت بالدراسات المنطقية والفلسفية، وإدخال بعض الإصلاحات عليها، لا ممّا أُخِذ وتُرجِم حديثاً عن الغرب؛ لكثرة ما رأينا فيها من الخلط في المفاهيم، وتحميلها لوازم غريبة، ينشأ أكثرها من عدم فهمهم لقسمٍ من المصطلحات، وتحديد مداليلها بكلّ ما حفلت به من قيودٍ وشروط.

[ثانياً: معدّات الاجتهاد الشرعي]

ويتوقَّف القسم الثاني من الاجتهاد ـ أعني الاجتهاد الشرعي ـ على الإحاطة بعدّة خبرات، وهي تختلف باختلاف الطرق والحجج المجعولة أو الممضاة من قِبَل الشارع المقدّس.

ففي ما يتعلَّق باستفادة الحكم من النصوص الشرعية غير القطعية في سندها ودلالتها تحتاج إلى عدّة خبرات:

1ـ خبرة في تحقيق النصوص، والتأكّد من سلامتها من الخطأ في التحريف؛ وذلك بالتماس نسخها الخطّية على اختلافها أو طبعاتها إنْ كانت موجودةً في مؤلَّفٍ مطبوعٍ، ومقارنة بعضها ببعضٍ، واختيار أصحّها وأسلمها.

2ـ التأكُّد من سلامة رواتها ووثوقهم في النقل، بالرجوع إلى الثقات من أرباب الجَرْح والتعديل، والتماس واقعهم من خلال ما يكتب عنهم هؤلاء الأعلام.

3ـ التماس حجّيتها باعتبارها من أخبار الآحاد، وخبر الواحد إذا لم يعزَّز بدليلٍ على حجّيته من قِبَل الشارع، ولو من طريق الإمضاء، لا يسوغ العمل به؛ لعدم المؤمِّن في سلوكه.

فإذا توفَّرت لدينا كلّ هذه الأمور عُدْنا إلى ما تضمَّنته تلك الروايات ونظائرها من آيات الكتاب العزيز، لنلتمس وسائل فهمها وتطبيقها. هذه الوسائل إنّما تتوفَّر لنا إذا توفَّرت فينا جملة تجاربٍ وخبرات، ويمكن إحصاؤها في ما يلي:

1ـ أن تكون لنا خبرةٌ لغوية تؤهِّلنا لأن نفهم ونؤرِّخ موادّ الكلمات على أساسٍ زمنيّ؛ لنتمكّن من أن نضعها في مواضعها، ونفهمها على وفق ما كانوا يفهمون من معانيها في زمنها.

ولا يشترط أن نكون مستحضرين لمعاني جميع ما ورد في الكتاب أو السنّة من الألفاظ اللغوية، بل تكفينا القدرة على استخراجها من مظانِّها، من أمثال: (مفردات الراغب الأصفهاني) في غريب القرآن، و(مجمع البيان) في التفسير، و(مجمع البحرين، ونهاية ابن الأثير) في الحديث.

2ـ أن تكون لنا خبرةٌ ومعرفة في وضع قسمٍ من الهيئات والصيغ؛ كهيئات المشتقّات والأوامر والنواهي وصيغ العموم والخصوص والإطلاق والتقييد، وبعض المفاهيم وما إليها ممّا عَنيَتْ به كتب أصول الفقه، ولم تَعْنِ به كتب اللغويين عنايةً هامّة.

3ـ أن نكون على علمٍ بمسائل النَّحْو والتصريف، وحَسْبُنا منها تمييز مواضع حركات الإعراب وما تكشف من اختلاف المعاني، أمّا الغوص على استقراء العلل النحوية والآراء المختلفة فيها فهذا ما لا ضرورة له، بالنسبة إلى وظيفتنا في الاجتهاد.

4ـ أن نكون على درجةٍ عالية في فهم أساليب العرب من وجهةٍ بلاغية، وتقييمها، وإدراك جملة خصائصها. وهذا ما لا يتأتّى غالباً من دراسة كتب البلاغة القديمة؛ لانشغالها عن مهمّتها بمماحكاتٍ لفظية تتّصل أكثر ما تتّصل بتكثير المصطلحات، وتنويعها، وإثارة النقاش حولها.

أمّا التماس النصوص البليغة ودراستها وتقييمها فهذا ما لا يتّفق أن تعنى به إلاّ نادراً. وبما أنّ أهمّ مصادر التشريع عندنا هما: الكتاب؛ والسنّة، وهما في أعلى مستويات البلاغة، وبخاصّة (القرآن)، معجزة الإسلام الخالدة، فإنّ فهمها عادةً لا يتأتّى إلاّ للبلغاء من الناس، وهم الذين توفَّرت لديهم الخبرة من تتبُّع واستظهار وتقييم كثيرٍ من النصوص البليغة في عصر القرآن.

5ـ أن تكون لنا خبرةٌ تاريخية واسعة؛ لنحسن فيها أن نضع النصوص في موضعها الزمني، وفي أجوائها وملابساتها الخاصّة، فرُبَما غيّرت ملابسةٌ ما دلالةَ نصٍّ بأكمله، كأنْ يكون في الملابسة والقرآن ما يصلح لصرف ذلك النصّ عن ظاهره، أو تقييده في حدود تلكم الملابسة.

وبهذا نرانا في أمسّ الحاجة إلى معرفة أسباب النزول في الكتاب، والمثير لتشريع الحكم في السنّة؛ لما يُلقيان من أضواء على طبيعة الحكم.

والذي نرجو أن لا يُفْهَم من كلامنا هذا أنّنا نؤمن بأنّ المورد أو السبب يخصِّص الوارد، أو ندعو إلى تقييد الوارد في المطلقات في حدود أسبابها، ولكنّنا نؤمن أنّ المورد رُبَما يكشف عن طبيعة الوارد، ونوع ما يعمَّم له من الأفراد.

وأظنّ أنّنا سندرك حاجتنا الكبيرة إلى هذه الخبرة في مجال المقارنة عندما نعرض لجملةٍ من الفتاوى المتناقضة، ونلتمس أسبابها، فنرى لأهواء الحاكمين مدخليّةً في خلقها، والتماس الأدلّة لها، حتّى صحّ للإمام الصادق× أن يجعل في بعض الأخبار العلاجية مخالفة العامّة من المرجِّحات([40])، ويريد بالعامة أولئك الرعاع وقادتهم من الفقهاء الذين يسيرون بركاب الحكّام، ويبرِّرون لهم جملة تصرُّفاتهم ممّا يضعون من حديثٍ.

وحَسْبُك أن تعلم أنّ (أبا حنيفة)؛ لكثرة ما شاهده من الكذب، كان لا يطمئن إلى أكثر من سبعة عشر حديثاً صحَّتْ لديه([41])؛ وأنّ يحيى بن سعيد القطّان كان يقول: (لو لم أَرْوِ إلاّ عمَّنْ أرضى ما روَيْتُ إلاّ عن خمسةٍ)([42])؛ ومن حديث يحيى بن معين ـ وهو الرجالي المعروف ـ: (كتبنا عن الكذّابين، وسجرنا به التنّور، وأخرجنا به خبزاً نضيجاً)([43]).

ومن الحقّ أن نلاحظ هنا أنّ كلمة (العامّة) لم تنصب في كلمات الإمام الصادق× على مقلّدي أئمّة المذاهب؛ فإنّ هؤلاء الأئمّة بين مَنْ لم يكن على عهد الإمام الصادق×، كـ (الشافعي)، ليكون له أتباعٌ ومقلِّدون، وبين مَنْ كان ولم يكن له من الأتباع ما يصلح لإطلاق هذه الكلمة عليه.

على أنّ عامّة الناس من السنّة لم تجمع كلمتهم على هؤلاء إلاّ في عُصُرٍ متأخِّرة جدّاً، حيث أبطل (الظاهر بيبرس البندقاري) غيرها من المذاهب في مصر([44]).

وعلى هذا فإنّ كلمة الإمام الصادق× لم توجَّه إلاّ إلى أولئك الكذّابين من أذناب الحكّام، فقهاءَ ومحدّثين، ولذا نحتاج إلى التاريخ لمعرفة هؤلاء وأمثالهم.

6ـ أن تكون لنا خبرة بأساليب الجمع بين النصوص، كتقديم الناسخ على المنسوخ، والخاصّ على العام، والمطلق على المقيّد، وكتعرُّف موارد حكومة بعض الأدلّة على بعض، أو ورودها عليها، ومعرفة الأسس التي يمكن أن يستند عليها عند تحكُّم المعارضة بين المضامين، وعدم إمكان الجمع بينها، على نحو ما عرض في أصول الفقه في مباحث الألفاظ ومبحث التعادل والترجيح.

7ـ أن نكون على ثقةٍ ـ بعد اجتياز هذه المرحلة وتحصيل ظهور النصّ ـ بحجّية مثل هذا الظهور. والظاهر أنّ إثبات مثل هذه الحجّية ليس بعسيرٍ؛ لبداهة أنّ الشارع لم يتفرَّد بطريقةٍ خاصّة في عالم تفاهمه مع الناس، بل سار على وفق مَنْ سار في زمنه، بل في جميع الأزمان، وفي مختلف اللغات، من الأخذ بالظهور، وترتيب لوازمه عليه. ولو انفرد لنقل ذلك بالتواتر، كما تقتضيه العادة، ولا أقلّ من أخبار الآحاد، وهما مفقودان معاً. كلّ ذلك ممّا يوجب القطع باعتماده على أصالة الظهور، وترتيب لوازم الحجّية عليها حَتْماً.

هذا كلُّه بالنسبة إلى النصّ. أمّا بالنسبة إلى غيره من الأدلّة والطرق فحَسْب الفقيه أن يحيط منها بما حُرِّر في كتب الأصول الموسّعة، ليعرف الحجّة منها من غيرها، وموارد جريانها، وأصل تقديم بعضها على بعضٍ.

على أن يجتهد في ذلك كلِّه، ولا يقتصر على الأخذ برأي فريقٍ دون فريقٍ، فإنّ التقليد في أصول الفقه مَحْقٌ للاجتهاد من أساسه، بل الاجتهاد في واقعه لا يعدو معرفة هذه الحجج، وموارد تطبيقها، معرفةً تفصيلية.

7ـ [الاجتهاد بين التجزيء والإطلاق]

وممّا تقدّم يتبيَّن أنّ مَلَكَة الاجتهاد إنّما تنشأ من الإحاطة بكلّ ما يرتكز عليه قياس الاستنباط، سواء ما وقع منه في (صغرى القياس)، كالوسائل التي يتوقّف عليها تحقيق النصّ وفهمه، أو كبراه، كمباحث الحجج والأصول العملية.

وإنّ السالك لطريق الاجتهاد لا يمكن أن يبلغ هذه المرتبة حتّى يمرّ بها جميعاً؛ ليكون على حجّةٍ فيما لو أقدم على إعمال هذه المَلَكة.

فالذي يعرف ـ مثلاً ـ وسائل تحقيق النصّ وفهمه، دون أن يجتهد في معرفة بقية الحجج والأصول، لا يسوغ له أن يستنبط حكماً واحداً؛ لعدم المؤمِّن له من قيام حجّةٍ يجهلها من الحجج الأخرى على خلاف هذا النصّ، وقد تكون سمتها سمة الحاكم أو الوارد عليه.

فقبل أن يعرف هذه الحجج والأصول، وموارد جريانها ورُتَبها ـ مع إمكان الفحص عنها؛ لتوفُّر كتبها ومصادرها ـ لا يحصل له المؤمِّن من عدم مدخليّتها في الواقعة التي يريد استنباط حكمها من النصّ، ومع عدم المؤمِّن لا يسوغ له الاجتهاد والاستنباط؛ لعدم الحجّية على جواز مثله والتقليد في عدم مدخليّتها؛ لتأخُّرها الرتبي أو لعدم حجّيتها، مع أنّه لا دليل على حجّية مثله، فإنّه يخرج صاحبه عن صدق العالم والعارف والفقيه، وعليه فلا يكون مشمولاً لأدلّة الحجّية، مهما كان مصدرها.

وإذا صحّ هذا عدنا إلى ما ذكروه من التقسيم للاجتهاد، من حيث إمكان التجزي وعدمه؛ لنفحصه من هذا الضوء.

فقد قسّموا الاجتهاد من هذه الحيثية إلى قسمين:

1ـ الاجتهاد (المطلق): وأرادوا منه (ما يُقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من أمارةٍ معتدّة أو أصلٍ معتبر، عقلاً أو نقلاً، في الموارد التي يظفر فيها بها)([45]).

وهذا التعريف يلتقي مع تعريفنا السابق للاجتهاد في جملة أسسه، باستثناء بعض المؤاخَذات الشكليّة التي لا تستحق التعرُّض.

2ـ الاجتهاد (المتجزّئ): وقد عرَّفوه بقولهم: (ما يُقتدر به على استنباط بعض الأحكام)([46]). ورُبَما أوضح كلام (الغزالي) في المقام ما يمكن أن يُراد من أمثال هذا التعريف، حيث قال، بعد ذكره لما يتوقَّف عليه الاجتهاد من علومٍ: (اجتماع هذه العلوم الثمانية إنّما يشترط في حقّ المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع، وليس الاجتهاد عندي منصباً لا يتجزّأ، بل يجوز أن يُقال للعالم: إنّه مجتهدٌ في بعض الأحكام، دون بعضٍ. فمَنْ عرف النظر القياسي له أن يفتي في مسألةٍ قياسية، وإنْ لم يكن ماهراً في علم الحديث)([47]).

وهذا الكلام صريحٌ منه في أنّ العالِم ببعض الطرق يستطيع أن يعتمد عليها في استنباط الحكم، دون حاجةٍ إلى الإحاطة ببقية القواعد والأصول.

هذا الكلام لا يتّضح له وجهٌ؛ لغرابة مضمونه: إذْ العالِم الذي يعرف القياس، وليست له المهارة في علم الحديث، كيف يسيغ لنفسه أن يستنبط حكماً من قياسه وينسبه إلى الشارع، مع أنّه يحتمل أن يكون في الأحاديث، التي يتوقَّف تصحيحها على علم الرجال، وفهمها على توفُّر وسائل الظهور، وتقديمها لدى المعارضة على المرجِّحات السندية أو الجهتية، وتشخيص رتبتها على أصول الجمع بين الأدلّة والحجج على اختلافها، ما يوقف الأخذ بهذا القياس؟!

ومع ذلك ما هو المؤمِّن له والمعذِّر فيما لو أخطأ الواقع بهذا الحكم، وعمل على وفقه؟!

وهل يستطيع أن يجزم به، وهو لا يعرف أصول الاستنباط، ورتبة القياس منها؟!

وما يقال من فرض اجتهاده في بعضٍ، والرجوع في بعض آخر إلى غيره من المجتهدين فيها؛ لالتماس موقعها من الأصل أو القاعدة التي اجتهد فيها، لا يُجدي؛ لأنّ ذلك لا يجعله مجتهداً؛ لأنّ النتيجة التي ينتهي إليها من القياس الذي تكون بعض مقدّماته اجتهادية وبعض نتائجه من تقليدٍ لا تخرجه عن كونه مقلِّداً؛ لبداهة أنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدِّمتين.

[الاجتهاد المطلق بين الإمكان والامتناع]

وعلى أي حالٍ اختلف العلماء في إمكان كلٍّ من الاجتهادين، ووقوعه، على أقوالٍ؛ والذي يبدو من بعضهم إحالة الاجتهاد المطلق؛ وكأنّ وجهة نظرهم في ذلك ما يلاحظ من قصور البشر عن استيعاب جميع الأحكام المجعولة لأفعال المكلَّفين على اختلاف مواضعها، حتّى المستجدّ منها.

ومثل هذا الاستيعاب ممتنعٌ عادةً على البشر المتعارف، وقد فهموا من الاجتهاد المطلق ـ فيما يبدو ـ فعلية استنباط جميع الأحكام.

بينما فهم الآخرون من الاجتهاد المطلق القدرة على الاستنباط، وهي غير ممتنعةٍ عادةً.

والذي يبدو أنّ النزاع بينهما لفظيٌّ؛ لصدقهما معاً في حدود فهمهما للاجتهاد.

[تجزيء الاجتهاد بين الإمكان والامتناع]

أمّا التجزيء فالأكثر ـ في ما يبدو من العلماء ـ على القول بإمكانه ووقوعه، (الغزالي([48])، وابن الهمام([49])، والرازي([50])، والشيخ محمد بخيت([51])، وغير واحد من أساتذتنا.

وقد نَسَبَ الشيخ الرشتي القول بعدم إمكان التجزيء إلى الشذوذ([52]).

وقد انفرد صاحب الكفاية ـ في ما نعلم ـ بالقول بوجوب التجزيء، فضلاً عن إمكانه ووقوعه. قال في (الكفاية): (وحيث كان أبواب الفقه مختلفة مدركاً، والمدارك متفاوتةٌ سهولةً وصعوبةً، عقلية ونقلية، مع اختلاف الأشخاص في الاطلاع عليها، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة إليها، فرُبّ شخصٍ كثير الاطّلاع وطويل الباع في مدرك بابٍ في مهارته، في العقليات أو النقليات، وليس كذلك في آخر؛ لعدم مهارته فيها؛ لابتنائه عليها.

وهذا بالضرورة رُبَما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها؛ لسهولة مدركه؛ أو لمهارة الشخص فيه مع صعوبته، مع عدم القدرة على ما ليس كذلك، بل يستحيل حصول اجتهادٍ مطلق عادةً غير مسبوق بالتجزيء؛ للزوم الطفرة)([53]).

[التقريب الأوّل]

وكأنّ العقدة في دعوى عدم إمكانه هو أخذهم المَلَكة أو الاستنباط في تعريفه، والتزامهم ببساطتهما، وعدم إمكان التجزئة فيهما، ولذلك صاروا في مقام حلّ هذه العقدة.

يقول صاحب المصباح: (والتحقيق ما عليه الأكثر من إمكانه، لا الامتناع، ولا الوجوب؛ فإنّ المراد من التجزيء هو التبعيض في أجزاء الكلّي، لا التبعيض في أجزاء الكلّ.

إذْ كما أنّ كلّ حكمٍ من الأحكام الشرعية في موردٍ مغايرٌ للأحكام الأُخَر في موارد أُخَر، فكذلك استنباطه مغايرٌ لاستنباطها، فمَلَكة استنباط هذه المسألة فردٌ من المَلَكة، ومَلَكة استنباط تلك المسألة فردٌ آخر منها.

وبساطة المَلَكة أو الاستنباط([54]) لا تنافي المتجزّي بهذا المعنى، كما هو ظاهرٌ. وحيث إنّ مدارك الأحكام مختلفةٌ جداً فرُبّ حكمٍ بهذا المعنى يبتني استنباطه على مقدّماتٍ كثيرة، فيصعب استنباطه؛ ورُبَما حكمٌ لا يبتني استنباطه إلاّ على مقدّمةٍ واحدة، فيسهل استنباطه، ومع ذلك يمكن أن يقال: إنّ القدرة على استنباط حكمٍ واحد لا تكون مع القدرة على استنباط جميع الأحكام.

وبالجملة حصول فردٍ من المَلَكة، دون فردٍ آخر منها، بمكانٍ واضح من الإمكان، لا يحتاج تصديقُه إلى أكثر من تصوُّره.

ولعلّ القائل بالاستحالة لم يتصوَّر المراد من التجزيء في المقام، واشتبه تبعيض أفراد الكلّي بتبعيض أجزاء الكلّ؛ فإنّ الثاني هو الذي تنافيه البساطة، ولا دخل له في المقام)([55]).

[التقريب الثاني]

والذي يبدو لي أنّ القائلين بعدم التجزيء؛ لعدم إمكانه، أقرب من غيرهم، لا لما ذكروه من بساطة المَلَكة وعدم بساطتها، ليقال بأنّ التجزئة هي في مصاديق الكلّي، لا في أجزاء الكلّ؛ أو يقال بأنّ المَلَكة توجد ضيّقةً على قدر استنباط بعض الأحكام، ثمّ تتسع بعد ذلك([56]).

بل لما قلناه في مدخل البحث، من أنّ حقيقة الاجتهاد هو التوفُّر على معرفة تلكم الخبرات أو التجارب على اختلافها، فمع توفُّرها توجد المَلَكة، ومع فقد بعضها تنعدم، لا أنّها توجد ضيِّقةً أو يوجد بعض مصاديقها، كما يبدو ذلك من الغزالي في كلامه السابق.

ولست أخال أنّ أحداً من أساتذتنا يلتزم بأنّ المجتهد في خصوص مباحث الألفاظ ـ مثلاً ـ مجتهد متجزّي؛ لحصوله على بعض مصاديق مَلَكة الاجتهاد؛ لأنّ المَلَكة التي تحصل من دراسة مباحث الألفاظ لا تكون اجتهاداً ما لم تنضمّ إليها بقية المَلَكات، فهي أشبه ما تكون بجزء العلّة، فما لم ينضمّ إليها بقية الأجزاء لا يتحقَّق معلولها، ومع انضمام البقية تتحقّق المَلَكة (مطلقة)، وإنْ لم يستنبط صاحبها مسألةً واحدة.

وصعوبة الاستنباط؛ لابتناء بعض المسائل على مقدّمات، لا تنافي حصول المَلَكة في أولى مراتبها، المستلزمة للقدرة على استنباط هذه الأحكام.

ونحن لا ننكر أنّ مَلَكة الاجتهاد ذات مراتب، تقوى وتضعف تَبَعاً لدرجة إعمالها، كأيّة مَلَكةٍ أخرى، ولكنّ أولى مراتبها ـ بعد خلقها بتوفُّر أسسها ومعدّاتها ـ كافيةٌ لصدق الإطلاق عليها؛ لتمكّن صاحبها من استنباط أيّة مسألةٍ تعرض عليه، وإنْ أوجبت صعوبةً له في بعضها؛ نتيجة لابتنائها على مقدّماتٍ طويلة، يحتاج استيعابها إلى جهدٍ.

والذي أخاله أنّ الخلط بين المَلَكة وإعمالها هو الذي سبَّب الاضطراب في كلمات بعض أولئك الأعلام. والتجزيء في مقام إعمال المَلَكة يكاد يكون من الضروريات، بل لا يوجد في هذا المورد اجتهادٌ مطلق أصلاً. ودعوى امتناعه بهذا المعنى لا تخلو من أصالةٍ؛ لامتناع إعمال المَلَكة في استنباط جميع الأحكام، حتّى ما لم توجد موضوعاتها بعدُ، كالأمور المستجدّة لبشرٍ عاديّ.

ومع غضّ النظر عن هذه الناحية، التزامُ صاحب الكفاية بوجوب التجزيء لا يخلو من وجهٍ؛ لامتناع إعمال المَلَكة دفعةً واحدة في جميع المسائل، بل لا بُدَّ في مقام استيعابها من التدرُّج فيها.

وعلى هذا النحو من الخلط تنزل جملة أدلّتهم، ومنها: ما استدلّ به الأستاذ (عمر عبد الله) على لزوم التجزيء، بقوله: (لو لم يتجزّأ الاجتهاد للزم أن يكون المجتهد عالماً بجميع الأحكام. وذلك باطلٌ قطعاً.

فقد سُئل كثيرٌ من المجتهدين عن مسائل، فأجابوا عن بعضها، ولم يجيبوا عن البعض الآخر)([57]).

وهذه الملازمة إنّما تتمّ إذا أراد من الاجتهاد إعمال المَلَكة، ومن العلم بجميع الأحكام فعليّة العلم، وإلاّ فمع الالتزام بكون الاجتهاد مَلَكة لا يلزم المجتهد العلم بمسألةٍ واحدة، فضلاً عن جميع المسائل.

 وكذا لو أردنا من العلم شأنيّة العلم، إذْ لا مانع من أن يكون لصاحب المَلَكة شأنية العلم بجميع المسائل.

ومع تمامية الملازمة فاللازم لا يكون باطلاً؛ لما ذكره من سؤال بعض المجتهدين وعدم إجابتهم للجهل؛ لجواز أن يتسرَّب الشكّ إلى اجتهادهم قبل أن يتسرَّب إلى القاعدة.

فالأنسب تعليل بطلان اللازم بامتناع الإحاطة بجميع الأحكام عادةً.

والغريب أن يقع بعض القائلين بامتناع التجزيء بنفس المفارقة من الخلط بين المَلَكة وإعمالها. فالأستاذُ (خلاّف)، في الوقت الذي يعلِّل فيه عدم إمكان التجزيء بقوله: (لأنّ الاجتهاد، كما يؤخَذ ممّا قدَّمناه، أهليّةٌ ومَلَكَةٌ يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص، واستثمار الأحكام الشرعية منها، واستنباط الحكم في ما لا نصّ فيه، فمَنْ توافرت فيه شروط الاجتهاد، وتكوَّنت له هذه المَلَكة لا يتصوّر أن يقتدر بها على موضوعٍ دون آخر)([58])، يعود فيقع في المفارقة نفسها عندما يتمّ دليله، فيقول: (وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأً أو تعليلاً تقرَّر في أحكام البيع، فلا يكون مجتهداً إلاّ إذا كان على علمٍ تامٍّ بأحكام القرآن والسنّة، حتّى يصل من مقارنة بعضها ببعض، ومن مبادئها العامّة، إلى الاستنباط الصحيح)([59]).

وموضع المفارقة أنّ العلم بأحكام القرآن أو السنّة إنّما يحتاج إليهما المجتهد في مجالات إعمال المَلَكة، لا في مجالات تكوُّنها.

على أنّ هذا التعميم في العلم لجميع أحكامهما لا يحتاج إليه حتّى في مجالات إعمال المَلَكة، وإلاّ لتعذَّر عليه استنتاج حكمٍ واحد، أو تعسَّر على الأقلّ.

بل يكفيه منها فحصُه عن مواضع الأدلّة من الآيات والروايات وغيرها في موضوعات الفقه والحديث، على نحوٍ يحصل له الاطمئنان بكفاية ما وصل إليه لاستنباط الحكم الذي يريد استنباطه من أدلّته.

8ـ [مراتب المجتهدين]

وتقسيمٌ آخر للاجتهاد ذكروه بلحاظ مراتب المجتهدين، وذكروا له أقساماً خمسة:

1ـ الاجتهاد المطلق، أو الاجتهاد المستقلّ

وحدوده (بأنْ يجتهد الفقيه في استخراج منهاجٍ له في اجتهاده )، على نحوٍ يكون مستقلاًّ في منهاجه، وفي استخراج الأحكام على هذا المنهاج، أو هو (كما يعبِّر العلماء مجتهدٌ في الأصول وفي الفروع)([60]).

2ـ الاجتهاد في المذهب

ويريدون أن يجتهد الفقيه المنتسب إلى مذهبٍ معيَّن في الوقائع على وفق أصول الاجتهاد التي قرَّرها إمام ذلك المذهب.

(وقد يخالف الواحد منهم مذهب زعيمه في بعض الأحكام الفرعية، ومن هؤلاء: (الحسن بن زياد) في الحَنَفية، و(ابن القاسم، وأشهب) في المالكية، و(السيوطي، والمازني) في الشافعية)([61]).

وقد أطلق الأستاذ أبو زهرة على الفقيه من هذا القسم اسم (المجتهد المنتسب)([62]).

3ـ الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها

ويُراد به أن يجتهد الفقيه في مسائل لا رواية فيها عن إمام المذهب وفق الأصول المجعولة من قِبَله، وبالقياس على ما اجتهد فيها من الفروع، كـ (الخصّاف، والطحاوي، والكرخي) من الحَنَفية، و(اللخمي، وابن العربي، وابن رشيد) من المالكية، و(الغزالي، والإسفراييني) من الشافعية([63]).

4ـ اجتهاد أهل التخريج

وهو الاجتهاد الذي لا يتجاوز (تفسير قولٍ مجمل من أقوال أئمّتهم، أو تعيين وجهٍ معيّن لحكمٍ يحتمل وجهين، فإليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الذي يوجد في بعض أقوال الأئمّة وأحكامهم، كـ (الجصاص وأضرابه) من علماء الحَنَفية)([64]).

5ـ اجتهاد أهل الترجيح

ويُراد به الموازنة بين ما يُرْوَى عن أئمّتهم من الروايات المختلفة، وترجيح بعضها على بعضٍ، من جهة الرواية أو من جهة الدراية. كأن يقول المجتهد منهم: (هذا أصحُّ روايةً، وهذا أَوْلى النقول بالقبول، أو هذا أوفق للقياس، أو أرفق للناس. ومن هؤلاء: (القدوري، وصاحب الهداية، وأضرابهما) من علماء الحَنَفية)([65]).

[مناقشة القسمة الخماسية للمجتهدين]

ورُبَما يكون الأنسب، تَبَعاً لأصول القسمة، أن يوزّع الاجتهاد إلى قسمين: (مطلق؛ ومقيّد). والمقيّد إلى الأقسام الأربعة المذكورة؛ لوجود قدرٍ جامع بينها، هو الاجتهاد المقيّد وفق أصول مذهب معيَّن. وهذا الاجتهاد المقيّد هو القسيم للاجتهاد المطلق.

وفي حدود ما سبق أن ذكرنا، من أنّ الاجتهاد مَلَكةٌ لا توجد لصاحبها إلاّ بعد توفُّره على تلكم الخبرات والتجارب، ومعرفتها معرفةً تفصيليةً.

أو كما قلنا: إنّ الاجتهاد في الحقيقة لا يعدو الاجتهاد في أصول الفقه، مع توفُّر بقيّة المقدّمات، وهو مناطُ جملة الأحكام الآتية، من حرمة التقليد بالنسبة إلى المجتهد، ونفوذ قضائه، وجواز رجوع الغير إليه في التقليد، أو لزومه أحياناً.

قلتُ: في حدود ما ذكرناه فإنّ هذا التقسيم لا يصبح ذا موضوعٍ؛ لبداهة أنّ المجتهد المقيّد ليس مصداقاً للمجتهد بهذا المفهوم؛ لعدم توفُّر المعرفة التفصيلية لأصول الفقه له؛ إذْ مع توفُّرها فيه وقيام الحجّة لديه ـ مثلاً ـ على بطلان أصلٍ من أصول إمامه كيف يسوغ له أن يعمل ذلك الأصل في مجال استنباط الحكم الشرعيّ، وهو يعلم بفساده؟!

وإذا لم يعمله، أو أعمل ما انتهى إليه اجتهاده، خرج عن كونه مجتهداً مقيّداً…

على أنّ جميع ما ذكروه للاجتهاد من تعاريف لا ينطبق على شيءٍ من أقسام المقيّد؛ لأخذهم العلم أو الظنّ أو الحجّة على الحكم الشرعي في مفهومه. والمجتهد المقيّد في أقسامه الأربعة لا ينتهي باستنباطه ـ إنْ صحّ إطلاق الاستنباط على قسمٍ منهم ـ إلى الحكم الشرعي، وغاية ما ينتهي إليه هو رأي إمامه، فعلاً أو تقديراً، في كون ما انتهى إليه هو الحكم الشرعي ـ بحكم ما أعمل من قواعد هذا الإمام وأصوله ـ.

أمّا العلم أو الظنّ بكونه حكماً شرعياً فإنّ هذا لا يحصل إلاّ لمَنْ قامت لديه الحجّة التفصيلية على ذلك، وهي لا تكون إلاّ للإمام نفسه، لا للمستنبط وفق قواعده وأصوله.

والحقيقة أنّ هذا التقسيم أشبه بتقسيم الشيء إلى: نفسه؛ وغيره. وما أحسن ما صنعه الأستاذ (خلاّف)، من عدِّ هذه الأقسام الأربعة في فصل (عهد التقليد) من كتابه (خلاصة التشريع الإسلامي)، بالرغم من إطلاقه كلمة (الاجتهاد) عليهم([66]).

ـ يتبع ـ

الهوامش

(*) أحد الفقهاء الشيعة البارزين. ومن أبرز مدوِّني الكتب الدراسيّة في العديد من الحوزات والجامعات الدينيّة، ومن روّاد الوعي والانفتاح والتقريب، رحمه الله تعالى. له عشرات المؤلَّفات في العلوم الإسلاميّة المختلفة. من المملكة العربيّة السعوديّة.

وهذه الدِّراسة عبارةٌ عن محاضرات ألقاها السيد محمد تقي الحكيم& على طلاب السنة الثالثة في كلِّية الفقه بالنجف الأشرف سنة (1380هـ ـ 1960م)، تناول فيها أبحاث (الاجتهاد والتقليد ومصدرية القرآن الكريم)؛ وهي تشكّل النواة الأساسية لكتابه الرائد (الأصول العامّة للفقه المقارَن، مدخلٌ إلى دراسة الفقه المقارَن). ومقرِّرها هو الدكتور الشيخ عبد الهادي الفضلي& من طلاّب تلك الدفعة في الكلِّية. تمّ تنظيمها وتقويم نصوصها بعد أن تفضَّلوا بها ـ مشكورين ـ ورثةُ الدكتور الشيخ الفضلي. وهي تنشر لأوّل مرّة بعد مرور أكثر من نصف قرن على إلقائها وتقريرها.

ملاحظةٌ: كلّ ما بين المعقوفتين [ ] هي من إضافات التحقيق.

([1]) نقلاً عن: أبي الوفا التفتازاني، دراسات في الفلسفة الإسلامية: 127.

([2]) المصدر نفسه.

([3]) مقدّمة ابن خلدون: 457.

([4]) الآمدي، إحكام الأحكام 4: 218.

([5]) الكفاية 2: 347 (حاشية الرشتي).

([6]) مصباح الأصول: 434.

([7]) أصول الفقه، الخضري: 357.

([8]) مصطفى الزرقا، مجلّة حضارة الإسلام، العدد 2: 7.

([9]) انظر: مصباح الأصول: 434.

([10]) عبدالوهاب خلاّف، مصادر التشريع الإسلامي: 7.

([11]) الرسالة: 477.

([12]) تمهيد لتأريخ الفلسفة الإسلامية: 138.

([13]) دراسات الأستاذ المحقّق الخوئي في الأصول العلمية: 5.

([14]) المحقّق الشيخ محمد علي الكاظمي، فوائد الأصول 3: 3. (الكلام للشيخ النائيني).

([15]) نقلاً عن: محمد يوسف موسى، الإسلام ومشكلاتنا المعاصرة: 26.

([16]) مصادر التشريع في ما لا نصّ فيه: 8.

([17]) أصول الفقه: 363.

([18]) الخضري، أصول الفقه: 366.

([19]) المصدر نفسه.

([20]) فوائد الأصول 1: 142.

([21]) فرائد الأصول (الرسائل): 37.

([22]) المصدر السابق: 36.

([23]) الخضري، أصول الفقه: 368.

([24]) السيّد الخوئي، أجود التقريرات 1: 206.

([25]) المصدر السابق 1: 205.

([26]) فوائد الأصول 1: 145.

([27]) المصدر نفسه.

([28]) السيّد الخوئي، أجود التقريرات 1: 206.

([29]) المصدر نفسه (الهامش).

([30]) مستمسك العروة الوثقى 1: 75.

([31]) المصدر السابق 1: 78.

([32]) أصول الفقه: 368.

([33]) المصدر نفسه.

([34]) سلّم الوصول إلى علم الأصول: 343.

([35]) المصدر نفسه.

([36]) المصدر نفسه.

([37]) المدخل إلى علم أصول الفقه: 389.

([38]) المصدر نفسه.

([39]) مصادر التشريع في ما لا نصّ فيه: 90.

([40]) مصباح الأصول: 422.

([41]) مقدّمة ابن خلدون: 444.

([42]) الغدير 5: 291.

([43]) المصدر نفسه.

([44]) التفتازاني الغنيمي، دراسات في الفلسفة الإسلامية: 122.

([45]) الكفاية 2: 348، المطبوعة مع حاشية الشيخ الرشتي.

([46]) المصدر نفسه.

([47]) المراغي في رسالة الإسلام 3: 352.

([48]) المصدر نفسه.

([49]) المصدر نفسه.

([50]) المصدر نفسه.

([51]) سلّم الوصول إلى علم الأصول.

([52]) حاشية الرشتي على الكفاية 2: 25.

([53]) المصدر السابق 2: 350.

([54]) يشير إلى مَنْ أخذ الاستنباط في تعريف الأصول، ولم يعتبره من المَلَكات، ومع ذلك التزم ببساطة ذلك الاستنباط.

([55]) مصباح الأصول: 421 ـ 422.

([56]) الرشتي في شرح الكفاية 2: 342.

([57]) سلّم الوصول إلى علم الأصول: 342.

([58]) عبد الوهاب خلاّف، علم أصول الفقه: 262.

([59]) المصدر نفسه.

([60]) أبو زهرة، الإمام الصادق: 537.

([61]) خلاّف، خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي: 342.

([62]) أبو زهرة، الإمام الصادق: 537.

([63]) خلاّف، خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي: 342.

([64]) المصدر نفسه.

([65]) المصدر نفسه.

([66]) راجع: خلاّف، خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي: 339 ـ 343.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً