أحدث المقالات

حيدر حب الله([1])

تمهيد

لعلّ محاولة السيد هاشم معروف الحسني العاملي (1403هـ) في نقد السنّة المحكية هي المحاولة الوحيدة الأساسية التي عرفتها الأوساط الشيعية العربية([2])، وهي محاولة تقع في قلب المؤسسة الدينية، حيث كان الحسني عالماً دينياً مدرسياً، كما كان باحثاً إسلامياً أيضاً، ويعرف كلّ من يطالع مصنّفات معروف الحسني أنّه كان نقّاداً جريئاً تشبه شخصيته في هذا المجال شخصية عامليّ آخر هو الشيخ محمد جواد مغنية (1979م)، فقد كانا نقّادين للأوضاع الفكرية السائدة، وكانت لديهما لغة حادّة وقاسية أحياناً.

وقد كانت هذه الجرأة سبباً في تبنّيهما مواقف نقدية تخالف المألوف وتؤلّب عليهما الأوضاع المحيطة، لكن رغم ذلك استمرّا في حركتهما هذه دون وجل أو قلق. ويبدو أنّ همّ التقريب بين المذاهب الإسلامية من جهة، وحاجة الشيعة في بلاد الشام في تلك الفترة للاعتراف أكثر فأكثر بهم قوّةً تضارع بقية القوى… من العوامل الأساسية التي حثّت هاشم معروف الحسني على نقد السنّة المحكية عند الشيعة، إذ لاحظناه يركّز ـ أكثر ما يركّز في نقده ـ على روايات الفضائل والمثالب والكرامات والمعاجز، وهي الروايات عينها التي أوقعت أكبر الخلاف بين المسلمين في وجهات النظر.

وتشير كلمات هاشم معروف الحسني إلى أنّ حركةً شيعية في زمانه، يبدو في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، كانت قد أخذت بالتبلور في المنطقة العربية، وأنّ تصميماً قد اتخذ لنشر بعض الكتب الشيعية ذات الطابع المذهبي الخالص، مما دفع بالحسني لنقد هذه الكتب نقداً عنيفاً، سيما وأنه أشار إلى أنّ هذه الكتب أخذت تطبع في بيروت بلد الطوائف والأديان([3]) في إشارة واضحة لإرادته الحدّ مما من شأنه أن يلهب الأوضاع ضدّ الشيعة في لبنان، في تلك الفترة التي كانت البلاد إما تتجه فيها نحو دخول الحرب الأهلية أو أنّها دخلتها فعلاً وانفجر الوضع على أشدّه.

في السياق اللبناني، وفي سياق الحرب الأهلية، وفي سياق وضع الشيعة في العالم العربي، أعتقد أنّه لابدّ من فهم تجربة معروف الحسني، وهي من أقدم تجارب تهذيب الحديث والدعوة إلى تصفيته.

ينطلق هاشم معروف في محاولته من مبدأ أساسي وهو مرجعية السنّة وعدم كفاية القرآن الكريم([4])، بل يقرّ بالسنّة المحكية الموجودة بين المسلمين، فهو يرى أنّ ما ألّفه السنّة والشيعة في الحديث «يمكن الاستفادة منه، والاعتماد عليه إلى أبعد الحدود، ما دام ينتهي في واقعه إلى مصدرٍ واحد، وهو الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)»([5])، بل يزيد إلى الاعتقاد بأنه كان بالإمكان لو «تجرّد الباحثون إلى طلب الحقّ الاستفادة من كتب الحديث واستغلالها لخدمة الدين، سنيةً كانت أم شيعية..»([6]).

ويقرّ الحسني بالجهود الضخمة التي بذلها المحدّثون من الطرفين، لكنه ـ مع ذلك ـ يتحسّر على عدم تحقّق الغاية المرجوّة من الجهود التي بذلت، ويرجع ذلك في رأيه إلى عاملين هما:

الأول: الانحياز واللاموضوعية في التعامل مع الأحاديث، حيث سقط الكثيرون في أسر النـزعات التي كانوا يميلون إليها، ولم يأخذوا بما تعطيهم إياه الأمانة العلمية عبر عرض الأحاديث على قواعد نقد السند والمتن.

الثاني: اهتمام العلماء بأخبار الأحكام دون غيرها من العقديات والتاريخيّات، مع أنّها أولى بالنقد والتصفية، ذلك أنّها قد تكون أهمّ منها وأكثر شمولاً وأعمّ تأثيراً([7]).

ورغم نقده الشديد لمصادر الحديث الشيعي، يذهب الحسني إلى أنّ المحدّثين الشيعة بذلوا جهوداً مضنيةً وجادة لتصفية الحديث عن الموضوعات وما دسّه المرتزقة والمنحرفون، ورغم ذكره أنّ البخاري كان أوّل سنّي ميّز صحيح الحديث عن غيره([8])، لكنه كان يعتقد بأنّ الشيعة قد سبقوا البخاريّ في هذه المهمة الشاقة([9]).

إنه يثني على الشيعة سيما علماء مدرسة قم القدماء في وقفتهم الشجاعة ضد الغلوّ والدسّ والتزوير([10])، فيما ينحو باللائمة على الطبقة الأولى من الصحابة بفتورها عن تدوين الحديث، الأمر الذي فسح المجال للدسّ والوضع برأيه([11])، ممّا استغلّه الأمويون وبنوا عليه سياستهم في جعل الحديث([12]).

من هنا، يبدأ الحسني رحلة النقد، يبدؤها من التعريض بحركة نقد الحديث المذهبية، يريد بذلك أن يصحّح حركة نقد السنّة، وكأنّه يعرّض بأمثال الشيخ الأميني (1970م)، حيث ركّز جهوده في معالجة موضوع الوضع والدسّ على المصادر السنّية، لينقدها في سياق مذهبي، إن معروف الحسني يطالب حركة نقد السنّة بالإخلاص والصراحة معاً في نقد الروايات المجعولة، رافضاً الاتهامات المتبادلة بين الشيعة والسنّة في هذا المضمار([13]).

ويفتح الحسني بحثاً حول نشوء ظاهرة الوضع، ويختلف مع الصورة النمطية التي رسمها بعض علماء أهل السنّة، والتي تقضي بتحميل الشيعة مسؤولية وضع الأحاديث، إذ يرفض هذه المزعمة بشدّة، محمّلاً الأمويين مسؤولية ذلك([14])، ومصرّحاً بأنّ القصّاصين لعبوا دوراً كبيراً في ذلك، لا فرق فيهم بين الشيعة والسنّة([15]).

على أيّة حال، موضوعات الأحاديث ما زالت جاثمةً على صدر السنّة الشريفة، مليئة بها كتب الحديث، السنية منها والشيعية، من هنا يبدأ معروف الحسني نقده.

منهج هاشم معروف الحسني في نقد الحديث

يشرع السيد هاشم معروف الحسني في نقد الحديث وهو واثق ـ كما يقول ـ من أنّه «سوف يتعرّض لحملات قاسية من بعض حشوية الشيعة والمتاجرين بالدين»([16])، ولعلّه لذلك اعتمد منهجاً، سعى فيه للتوازن، حيث لم يحاول قراءة مصادر الحديث الشيعية على حدة بالنقد والتفنيد، إنما سعى لنقد الحديث في شقّيه الشيعي والسني، وإن وجدناه في كتاب الموضوعات أكثر تركيزاً ـ في نقد الروايات ـ على المصنّفات الشيعية([17]).

أمّا عن مقولة المنهج عنده في رصد الوضع فكانت على الشكل التالي:

أولاً: إنّ صحّة السند لا تمنع من ردّ الرواية([18])، إذاً فالمعيار السندي ليس هو المعيار الوحيد، بل لابدّ من نقد المتن أيضاً، ولهذا نقد بعض الروايات رغم إقراره بصحّتها السندية، اتكالاً على فكرة الدسّ والكذب عن الثقات أنفسهم.

فمن أمثلة ذلك قوله: «وجاء في مختصر بصائر الدرجات عن جماعة منهم أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر: أن علياً  (عليه السلام) كان يقول: أنا صاحب الرجعات والكرّات، وصاحب الصولات والنقمات والدولات العجيبات، وأنا قرن من حديد، وأنا أسماء الله الحسنى وأمثاله العليا، وصاحب الجنة والنار، وإليّ إياب الخلق جميعاً، وأنا بارز الشمس ودابة الأرض، وأنا الذي علّمت علم المنايا والبلايا والقضايا وفصل الخطاب والأنساب، وأنا صاحب العصى والميسم، وأنا الذي سخّرت لي السحاب والرعد والبرق والظلم والأنوار والجبال والبحار والنجوم والشمس والقمر، وأنا الذي أهلكت عاداً وثمود وأصحاب الرسّ وقروناً بين ذلك كثيراً، وأنا صاحب مدين ومهلك فرعون ومنجي موسى، إلى غير ذلك من الصفات التي وصف بها نفسه على حدّ زعم الرواة لهذه الرواية، تلك الصفات التي لا تليق بغير الله سبحانه ولا تجوز على غيره كائناً من كان، وتأويل بعضها وإن كان ممكناً، إلاّ أن البعض الآخر يأبى عن التأويل مثل قوله: أنا بارز الشمس وأنا الذي أهلكت فرعون وأنجيت موسى بن عمران، وإليّ إياب الخلق وحسابهم، وأنا صاحب الكرات والرجعات والدولات العجيبات ونحو ذلك.

ومن الغريب أن الرواة لهذه الرواية كلّهم من الموثوقين والممدوحين، إذا استثنينا أحمد بن محمد بن خالد البرقي، ومن الجائز أن تكون الرواية من جملة الموضوعات التي دسّها الوضاعون في كتب الموثوقين من أصحاب الصادق وأبيه الباقر  (عليه السلام)، كما تشير إلى ذلك رواية الإمام الرضا  (عليه السلام) التي جاء فيها: أن أصحاب أبي الخطاب يدسّون ـ إلى يومنا هذا ـ في كتب أصحاب الصادق، فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن، فإنّا إذا حدثنا لا نحدث إلاّ بموافقة القرآن والسنة، إن كلام آخرنا مصدّق لكلام أوّلنا، وكلام أوّلنا مصدّق لكلام آخرنا، وإذا أتاكم من يحدّثكم بخلاف ذلك فردّوه عليه، فإن مع كل قول منا حقيقة وعليه نور، فما لا حقيقة له ولا نور عليه فذلك من قول الشيطان»([19]).

ثانياً: لاحظنا في تطبيقات الحسني النقدية أنه يشرع غالباً بنقد المتن، فيلاحظ مدى خرافيته وأسطوريته، كما يلاحظ مدى مخالفته للقرآن الكريم، ثم ينتقل إلى السند، فيركّز في رصده لرجال السند على وجود غلاة أو كذابين، نصّ العلماء على ذلك فيهم، فهو لا يبدأ من السند ثم المتن، بل وجدناه غالباً على العكس من ذلك.

ومن نماذج ذلك، تعليقه على رواية للمفضّل بن عمر بالقول: «لقد اشتملت هذه الرواية على بعض الأمور البعيدة عن منطق الإسلام وأسلوب الأئمة، وبخاصّة التعبير عن الخلفاء الثلاثة بالشياطين، هذا التعبير الذي لم يقصد منه إلاّ الإساءة إلى الإمام الصادق، وإيجاد فجوة بينه وبين من لا يؤمن بمثل هذه الأساطير ولا يرضى بالإساءة إلى الخلفاء الثلاثة، ولم يكتف بكل ذلك، حتى نسب إلى الإمام  (عليه السلام) أنه يحتل عرش الرب ومعه المفضل وخيثمة، في حين أن الإمام قد لعن المفضل وحذر أصحابه من مكره ودسائسه في أكثر من مناسبة، ووصفه بالشرك والكفر، وقلّما تخلو رواية من مروياته من الغلو في الإمام أو المبالغة فيما يحدث به، لذلك فقد عدّه المؤلفون في الرجال من الضعفاء المتروكين، مع وجود بعض المرويات عن الإمام الصادق  (عليه السلام) في الثناء عليه، وأقلّ ما يوجب ذلك التوقف في أمره والحذر من مروياته»([20]).

ثالثاً: إن الضعف السندي لا يعني سقوط الرواية عن الاعتبار، إذ قد تحفّها قرائن خارجية وغيرها تدعم الوثوق بها، فترتفع لدرجة الصحّة([21]).

رابعاً: مبدأ ندرة وجود التواتر اللفظي في مصادر الحديث الشيعية، ويرى ذلك عقيدة أكثر المحدّثين، على خلاف التواتر المعنوي([22]).

خامساً: مبدأ وقوع الوضع من جانب بعض الشيعة على لسان أئمتهم سيما في روايات التجريح بالصحابة والخلفاء، ويرى الحسني أنّ النصوص السليمة الشيعية تنفي ثقافة السبّ واللعن بحقّ الخلفاء ورموز الصحابة، ومن هذا المنطلق يتعامل تعاملاً حذراً مع النصوص الواردة على هذه الطريقة، ويرى فيها رائحة الوضع([23]).

سادساً: مبدأ رفض أخبار قاعدة التسامح في أدلّة السنن، إذ يراها الحسني من صنع القصّاصين والوعّاظ، ويفسّر البلوغ فيها بالبلوغ الموجب لاطمئنان النفس بصدور الرواية لا مطلق البلوغ([24])، من هنا نجد الحسني متحفّظاً جداً من أيّ رواية تحاول أن تعظّم ثواباً على عمل يسير، كما نجده بالغ التحفظ من الروايات التي تدفع الإنسان للاستهانة بالعمل، سيما بعض روايات الزيارة([25])، ومن هذا المنطلق وجدنا له وقفات عديدة.

فلدى تعرّضه لإحدى روايات الطينة يناقشها بمثل ذلك، يقول: «… قلت: يا ابن رسول الله ما صنع بطينتنا؟ قال (عليه السلام): خلق الله أرضاً سبخة خبيثة منتنة وفجّر منها ماء أجاجاً مالحاً آسناً، ثم عرض عليها ولاية أمير المؤمنين فلم تقبلها، وأجرى عليها ذلك الماء سبعة أيام، ثم نضب عنها، فأخذ من كدورة ذلك الطين المنتن الخبيث فخلق منه أئمة الكفرة والطغاة والفجرة، ثم عمد إلى بقية ذلك الطين ومزجه بطينتكم، ولو ترك ذلك الطين ولم يمزجه بطينتكم ما عملوا أبداً عملاً صالحاً، ولا تشهّدوا الشهادتين، ولا أدّوا الى أحد أمانته، ولا فعلوا شيئاً من الواجبات، ولا اجتنبوا شيئاً من المحرمات، ثم مزج الطينتين بالماء الأول والثاني، فما تراه من شيعتنا ومحبّينا من زنا، ولواط، وخيانة، وشرب للخمر، وترك للصلاة، وبقية الواجبات، فهي كلّها من عدوّنا الناصب وسنخه ومزاجه الذي مزج بطينته، وما تراه من الناصب من الزهد والعبادة والمواظبة على أعمال الخير والواجبات، فذلك كلّه من طينة المؤمن، فإذا عرضت الأعمال على الله سبحانه يقول الله عز وجل: أنا عدل لا أجور، ومنصف لا أظلم، وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أظلم مؤمناً بذنب مرتكب من سنخ الناصب وطينته، هذه الأعمال الصالحات كلها من طينة المؤمن، والأعمال الرديئة التي أتى بها المؤمن تلحق الناصب؛ لأنها من طينته، وكل شيء يرجع إلى أصله وجوهره، ثم تلا قوله تعالى: >مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ<، ومضى الإمام ـ كما يزعم الراوي ـ يقرّب هذا المعنى، ويستدل عليه بآيات من القرآن في حديث طويل، لا يعنينا منه أكثر من هذا المقدار، ورواه في الكافي أيضاً بهذا النص.

وهذه الرواية تخالف نصوص القرآن الكريم الذي حمّل كل إنسان سيئات أعماله، وفي الوقت ذاته تدل على أن جميع ما يأتيه الإنسان من خير أو شر إنما (هو) من لوازم الطينة التي خلق منها، وليس له اختيار في شيء من أموره، هذا بالإضافة إلى أن الرواة بين مجهول الحال وبين متّهم في عقيدته والكذب على الأئمة (عليهم السلام).

وروي عن الحسن بن موسى عن أحمد بن عمر عن يحيى بن أبان عن شهاب أنه قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: لو علم الناس كيف خلق الله هذا الخلق لم يلم أحد أحداً، فقلت: أصلحك الله، وكيف ذلك؟ قال: إن الله تعالى خلق أجزاء بلغ بها تسعة وأربعين جزءاً، ثم جعل الأجزاء أعشاراً، فجعل كل جزء تسعة أعشار، ثم قسّمه بين الخلق، فجعله في رجل عشر جزء وفي آخر عشرة جزء حتى بلغ به جزءاً تاماً، وفي آخر جزء وعشرة جزء، وفي آخر جزء وعشرين جزءاً، وفي آخر جزء وثلاثة أعشار الجزء حتى بلغ به جزأين تامين، ثم بحساب ذلك حتى بلغ بأرفعهم تسعة وأربعين جزءاً، فمن لم يجعل فيه إلاّ عشر جزء لم يقدر أن يكون مثل صاحب العشرين، وكذلك صاحب العشرين لا يكون مثل صاحب الثلاثة أعشار، وكذلك من تمّ له جزء لا يقدر أن يكون مثل صاحب الجزأين، وأضاف إلى ذلك: لو علم الناس أن الله تعالى خلق هذا الخلق على هذا لم يلُم أحد أحداً.

وهذه الرواية ترفع عن الإنسان مسؤولية أعماله؛ لأنه يصبح مسيّراً لتلك الأجزاء التي أودعها الله فيه، وكما لا يجوز لأحد أن يلوم أحداً على سوء تصرّفاته، لا يصحّ من الله ـ وهو العادل الرؤوف الرحيم الذي لا يجور ولا يظلم أحداً ـ أن يحاسب ويعاقب ما دام الإنسان مرتبطاً بما أودع الله فيه من الأجزاء وأعشار الأجزاء، وليس بإمكانه أن يتخطاها، هذا بالإضافة إلى أنها تدعو إلى اليأس والركود وعدم التطلع إلى الأفضل.

على أن الرواة لهذا الحديث بين من هو مجهول الحال، وبين من هو متهم في دينه وعقيدتهv([26]).

سابعاً: تأسيس موقف نقدي من كتاب الكافي، وهي مهمّة رئيسية، كان بلورها الحسني في كتابه: دراسات في الحديث والمحدّثين.

يرفض الحسني بشدّة الغلوّ في كتاب صحيح البخاري، ويرى أنّ روايات هذا الكتاب لو عرضت على قواعد الحديث والرجال لكان الضعيف فيها أكثر من الصحيح([27])، كما يرفض في الجانب الشيعي الغلوّ في كتاب الكافي للكليني، إذ يعتقد أنّ العلامة الحلي (726هـ) كان كسر هذه الهالة المذهلة حول هذا الكتاب، كما يؤكّد أنّ أكثر من ثلثيه ضعيف السند عند العلامة المجلسي (1111هـ)([28]).

ولكي نرصد موقفه من كتاب الكافي نسجّل النقاط التالية:

1 ـ يعتقد الحسني أنّ الكافي أورد «نحواً من اثنين وتسعين روايةً تتضمّن تفسير أكثر من مائة آية بعلي والأئمة من ولده (عليهم السلام)، وأكثرها بعيدة عن مداليل الألفاظ وأسلوب القرآن»([29]).

إن الحسني بهذا النص لا يواجه كتاب الكافي فحسب، بل يواجه سيلاً من ثقافة شيعية في هذا المجال، يجدر فهمها، كما يؤكّد على أسلوب القرآن وانسجامه مع الروايات الواردة، وهذه كلّها عناصر منهجية أساسية كان لها دور في موقفه من مصادر الحديث الشيعي سيما الكافي.

2 ـ يذهب معروف الحسني إلى أنّ الكليني قد درس الروايات سنداً ومتناً معاً، وأنّه لذلك احتاج إلى فترة عشرين عاماً لكتابة كافيه، ولكي يعطي ـ كما يقول الحسني ـ هذه النتائج الغنية بالفوائد في مختلف المواضيع([30])، تحرّى ـ كما يراه معروف الحسني ـ أقصى ما لديه من جهد لتصفية الأحاديث الصحيحة عن غيرها([31]).

لكن رغم احترامه العظيم للمؤلِّف والمؤلَّف يذهب الحسني إلى أنّ الكليني روى عن الغلاة وبعض المنحرفين، بشهادة كتب التراجم وأحوال الرواة، بل يرى أنّه «لم يوفّق لدراسة متون بعض الأحاديث دراسة علمية بقصد التمحيص، ومقارنة مضمونها مع منطق أهل البيت وأسلوبهم الذي يتفق مع العلم والعقل ومنطق الحياة، ولو فعل ذلك لوجد لزاماً عليه أن يتجنّب بعض تلك المرويّات… مع العلم بأنّه قد دوّن في الكافي إلى جانب تلك المرويّات أقوالهم المتكرّرة وتوصياتهم بأن يعرضوا أحاديثهم على كتاب الله، وأنّهم لا يحدّثون إلاّ بما تقبله العقول، ويتفق مع الكتاب…»([32]).

ولكي يؤكّد معروف الحسني كلامه بالشواهد والأرقام يذكر واحداً وأربعين اسماً من الرواة المتهمين أو المنحرفين، ومن بينهم المفضّل بن عمر وغيره، واصفاً هذا العدد باليسير([33]).

ويحمل معروف الحسني على مؤلّفي الحديث، ويعطينا نصّاً دالاً على شكل نفوذ الأحاديث المنحرفة برأيه إلى الوسط العلمي فيقول: «وبعد التتبّع في الأحاديث المنتشرة في مجاميع الحديث، كالكافي والوافي وغيرهما، نجد أن الغلاة والحاقدين على الأئمة والهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلاّ ودخلوا منه؛ لإفساد أحاديث الأئمة والإساءة إلى سمعتهم، وبالتالي رجعوا إلى القرآن الكريم لينفثوا ـ عن طريقه ـ سمومهم ودسائسهم، لأنه الكلام الوحيد الذي يتحمّل ما لا يتحمله غيره، ففسّروا مئات الآيات بما يريدون وألصقوها بالأئمة الهداة زوراً وتضليلاً.

وألّف علي بن حسان، وعمّه عبدالرحمن بن كثير، وعلي بن أبي حمزة البطائني كتباً في التفسير، كلها تخريف وتحريف وتضليل، لا تنسجم مع أسلوب القرآن وبلاغته وأهدافه.

وليس بغريب على من ينتحل البدع أن يكون في مستوى المخرّفين والمهوّشين، إنما الغريب أن يأتي شيخ المحدثين، بعد جهاد طويل بلغ عشرين عاماً في البحث والتنقيب عن الحديث الصحيح، فيحشد في كتابه تلك المرويات الكثيرة، في حين أن عيوبها ـ متناً وسنداً ـ ليست خفيةً بنحو تخفى على من هو أقل منه علماً وخبرة بأحوال الرواة، وجاء العلماء والمحدثون من بعده فاحتضنوا الكافي ومروياته، لأنه بنظر فريق لم يتخطّ المرويات الصحيحة، وبنظر الفريق الأكثر جمع كمية كبيرة من المرويات الصحيحة إلى جانب المرويات المكذوبة على أهل البيت، والفريقان مسؤولان عن موقفهم هذا منه»([34]).

إنّ الحسني يصرّ عل عدم تبرئة المحدّثين والنقّاد الشيعة من مسؤولية الوضع والدسّ، معتبراً أن هذا التهاون الذي حصل، أعطى أعظم الفرصة لغيرنا للانقضاض علينا([35]).

كانت هذه خلاصة مكثفة لموقف معروف الحسني من كتاب الكافي، وأعتقد أنّ مجرّد وضعه له في مصافّ البخاري لنقدهما معاً له دلالاته العميقة.

ثامناً: ورغم أنّ معروف الحسني قد سلّط الأضواء على الكافي، إلاّ أنّ مشروعه لم يكن يركّز على هذا الكتاب، بل تمحور بشكل أكبر حول جملة كتب أخرى، لاحظناه يشبعها نقداً وملاحقةً وتفنيداً وهذه الكتب هي: مشارق أنوار اليقين للحافظ رجب البرسي (813هـ)، وقضاء أمير المؤمنين (عليه السلام) لمحمد تقي التستري([36])، وشجرة طوبى لمحمد مهدي الحائري المازندراني، ومختصر البصائر، وكتاب السيد هاشم البحراني (1107هـ)، ومعالم الزلفى في معارف النشأة الأولى والأخرى، ومدينة المعاجز و..

إنّ هذا النمط من الكتب التي جعلها الحسني محور دراسته ومركزها، تدور موضوعاته حول قضايا الكرامات، والمعاجز، والمناقب، والمثالب، والمطاعن و..، أي تلك الموضوعات ذات الحساسية البالغة بين المسلمين.

ويسجّل الحسني مواقف حادّة جداً من هذه الكتب، ونحن لكي يطلع القارئ نذكر له بعضها:

أ ـ يقول: «إن ما دوّنه البحراني في كتابه من الأحداث التي يدعي إقرانها بولادة الإمام وغيره من أئمة الهدى والزهراء (عليها السلام) كلّه من موضوعات القصّاصين وأعداء الإسلام الذين لم يستطيعوا أن يثبتوا في وجه الزحف الإسلامي المتصاعد يوماً بعد يوم، فدخلوا فيه مرغمين، وأدخلوا معهم هذا اللون من الغيبيات والغرائب والأساطير؛ ليصنعوا منها منفذاً إلى التشكيك به وإبرازه بشكل أسطوري يزيد المتشكك تعقيداً، وضعفاء الإيمان ريباً وتضليلاً.

وبشيء من الإيجاز، فإن كتب البحراني والبرسي وأمثالهما ممّن جمعوا الحديث على علاته ومصائبه قد مكّنت أعداء الإسلام من بث سمومهم، وزوّدتهم بأسلحة الهدم والتخريب والتشويش على الإسلام والتشيع الذي لم يعتمد في جهة من جهاته على غير المحسوس من سيرة أهل البيت، وعلمهم الموروث وتضحياتهم المتواصلة في سبيل الله وخير الناس أجمعين.

وإني إذ أترك معالم الزلفى إلى غيرها من كتب الحديث، لا لأني لم أجد فيها محلاً للتشكيك والريب أكثر مما نقلته عنها، فإن أكثر مروياتها لو عرضت على أصول علمي الرجال والدراية لا يثبت منها إلاّ القليل في وجه النقوض والاتهامات الموجّهة إليها، وإنما أتركها لأقدّم في كتابي نماذج في مختلف المواضيع من الموضوعات في غيرها من مجاميع الحديث.

وفي الوقت ذاته أريد أن يفهم غيرنا أن جميع مؤلّفاتنا في الحديث تخضع للنقد والتجريح حتى الكتب الأربعة، ولا نصفها بالصحة كما وصف غيرنا ستة من مجاميعهم، بالرغم من أنها مشحونة بالموضوعات والأساطير»([37]).

ب ـ وفي نصّ آخر يقول: «وعلى أيّ الأحوال، فالأمر في هذه الرواية سهل بعد أن كانت من مختارات الشيخ رجب البرسي المعروف بالغلوّ والإفراط في الصفات التي وصف بها الأئمة، كما يبدو ذلك من كتاب مشارق أنوار اليقين الذي روى فيه الغرائب، وأعطى للأئمة جميع خصائص الخالق، وروى فيه قصّة زواج عبدالله من آمنة وحملها بالنبي (صلى الله عليه و آله)، وكيف اضطرب العالم، وظهرت فيه الكرامات والمعجزات من اللحظة التي اتصل فيها عبدالله بآمنة، حتى بقية مراحل حملها لحظةً فلحظة، وما رافق ذلك من الحوادث الكونية والمفاجآت التي لم يعرف البشر لها تفسيراً، ولا سمع بنظيرها في أخبار الأمم السالفة»([38]).

ج ـ وقال في نصّ ثالث: «هذه الرواية من مرويات ابن شهرآشوب، وحاله معروف في الاعتماد على الروايات الضعيفة، وبخاصّة إذا كانت في المناقب، كما هو الحال في غيره من المحدّثين الذين جمعوا كل ما سمعوه مهما كان مصدره ومضمونه، على أن أحد الرواة لها، وهو يزيد بن قعنب، لم أعثر له على ذكر بين رواة الشيعة والسنة.

وجاء في كتاب نـزهة الأبصار عن أصحاب التواريخ ـ على حدّ تعبيره ـ : أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) كان جالساً وعنده جنيّ يسأله عن قضايا مشكلة، فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) فتصاغر الجني حتى صار كالعصفور، ثم قال: أجرني يا رسول الله، قال ممّن أجيرك، قال: من هذا الشاب المقبل، فقال له النبي: وما ذاك، قال الجني: أتيت سفينة نوح لأغرقها يوم الطوفان، فلما تناولتها ضربني هذا فقطع يدي، ثم أخرج يده المقطوعة، فقال النبي: وهو ذاك، وأضاف إلى ذلك أن جنياً كان جالساً عند رسول الله (صلى الله عليه و آله)، فلما أقبل أمير المؤمنين استغاث به الجني، وقال أجرني يا رسول الله من هذا الشاب المقبل، قال: وما فعل بك، قال تمرّدت على سليمان، فأرسل إليَّ نفرين من الجن فطلت عليهم، فجاءني هذا الفارس فأسرني وجرحني، وهذا مكان الضربة إلى الآن لم يندمل.

ويكفي هذه الرواية عيباً أنها من مرويات نـزهة الأبصار الذي حشد فيه مؤلفه كل ما لذّ له وطاب من المراسيل والمنكرات والمجاهيل وضعاف الأحاديث.

وروي في معالم الزلفى عن الشيخ رجب البرسي مؤلّف كتاب مشارق الأنوار في أسرار أمير المؤمنين المشحون بالغلو والأخبار المكذوبة على علي وبنيه ( …)([39]).

د ـ وفي نص شديد آخر يقول: «لقد سطر البرسي هذه الكلمات التي يكرّرها في أكثر المواضع، وهو يحسب أنه قد أقنع المشكّكين وأزاح الشبهة من أذهان الجاحدين، وإن دلّت تعليقاته على شيء فإنها تدل على إسرافه في الغلو، وإفراطه في الأخذ بكل ما سمع وما رأى بدون تحقيق في الأسانيد، ولا تدبّر في المضامين، ولا تفكير في أخطار هذه الأساطير…» وبعد نقله لرواية يقول:

«وهذه كغيرها من الأساطير التي ما أنـزل الله بها من سلطان، وأينما اتجهت في كتاب «المشارقv للبرسي لا تقع العين إلاّ على أمثال هذه الغرائب التي تنفِّر ولا تقرّب، وتفرق ولا تؤلّف، وتمدّ أعداء الشيعة بأشد الأسلحة فتكاً في التشيع لأهل البيت  (عليهم السلام)»([40]).

هـ ـ ويحمل على كتاب معالم الزلفى فيقول: «ولو لم يكن في معالم الزلفى من المكذوبات غير هذا الحديث لكفاها وصمة وعاراً، على أن الاحاديث المكذوبة فيها لا تقلّ عن الأحاديث التي يمكن التغاضي عن عيوبها، وعلى أي الأحوال فالعارفون من الشيعة وعلماؤهم لا يعترفون بهذا الحديث وأمثاله من المنكرات، ولا يتنافى ذلك مع وجود هذا النوع من الأحاديث بين المرويات المنسوبة إليهم وفي بعض مجاميعهم، لأن أكثر المؤلفين في الحديث قد حشدوا في مجاميعهم كلّ ما وقفوا عليه من المرويات، وتركوا للباحث حرية النقد والاختيار، ويجد المتتبّع في مجاميع السنة، بل وفي صحاحهم، أغرب من هذا الحديث وأبشع» ([41]).

و ـ وينتقد البحرانيَّ وغيره فيقول: «وروى السيد هاشم البحراني في كتابه نـزهة الأبصار جملةً من الأساطير حول مولد النبي وعلي والزهراء والأئمة الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام، كلّها من صنع الغلاة وأعداء الأئمة والإسلام، بدافع التشنيع عليهم والتشويه لآثارهم الخيرة التي كانت وستبقى ما بقي على وجه الأرض إنسان من أفضل ما يقدّمه الإنسان في هذه الدنيا من خير وتعاليم لبني الإنسان.

وبذلك وحده قد استحقوا التقديس والتعظيم وأصبحوا فوق مستوى الناس أجمعين، لا بتلك الغيبيات والأساطير التي تلقّفها حشوية الشيعة كالبحراني والبرسي وصاحب جامع الأخبار والشيخ حسن بن سليمان الحلي (توفي بعد 802هـ) الذي اختصر بصائر الدرجات لسعد بن عبدالله الأشعري وغيرهم ممن ألّف في الحديث، ودوّن كل ما سمعته أذناه ورأته عيناه، من غير تحقيق في متونها وأسانيدها، ولا تفكير في مفاسدها، بالرغم من أن الأئمة أنفسهم قد أنكروا تلك الأحاديث، ولعنوا كلّ من يحدث عنهم بما لا تقبل العقول ولا تدركه الأوهام والأفهام.

وسلام الله على الإمام زين العابدين الذي قال لجماعةٍ سمعهم يتحدثون عنه وعن آبائه بمثل هذه الغيبيات والأوهام، قال: حببونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم، لعن الله من قال فينا ما لم نقله في أنفسنا، لنا ذكر في كتاب الله ونسب من رسول الله، وولادة طيبة، هكذا قولوا إلى الناس، أي لا تحدثوا عنا بأكثر من ذلك، واطرحوا الغيبيات جانباً وردوها على من جاءكم بها»([42]).

ز ـ ويطال نقد معروف الحسني العلامة الأميني لانتقاده ـ أي الأميني ـ موقف محسن الأمين من البرسي، يقول الحسني: «ولم أجد من وضع البرسي وكتابه من المعاصرين في قفص الاتهام وحذّر من اقتنائه وقراءته سوى البحّاثة حجة الاسلام المغفور له السيد الأمين في كتابه «أعيان الشيعة»، ولكنه ومع الأسف الشديد تعرّض لهجمات عنيفة قاسية من الشيخ الأميني في المجلد السابع من غديره، من غير أن يقدّم ـ ولو دليلاً واحداً ـ على براءة البرسي مما نسب إليه، سوى بعض المرويات التي يعتمدها البرسي نفسه، بالإضافة إلى بعض التشويهات والألفاظ الفارغة، مع أن أكثر المترجمين للبرسي قد اتهموه بالغلو والخبط والخلط، ومع ذلك فلقد اتجه الأميني للسيد الأمين وحده، ولا بد وأن يكون لذلك سرّ لا يعنينا تحديده في هذا الكتاب.

ولا أريد بذلك أن أدافع عن السيد الأمين، فالسيد أرفع شأناً من أن يرسل كلامه بدون قصد وتدبر كما يدعي الشيخ الأميني في غديره، ففي كتاب المشارق عشرات الشواهد على تبنّي البرسي لآراء الغلاة التي لا تتفق مع التشيّع السليم، ويبدو من تحيّزه للبرسي أنه لم يتدبر مشارق الأنوار، ولم يمعن النظر في أساطيره ومروياته، ولو أنه أمعن النظر فيها لوقف منها نفس الموقف الذي وقفه السيد الأمين وغيره من الباحثين الذين لا يهمّهم إلاّ إحقاق الحق ومحاربة البدع»([43]).

وقد كان السيد محسن الأمين حمل على البرسي حملةً عنيفة في الأعيان، على الغلّو، واهتمامه بعلم الأعداد والحروف لإثبات إمامة الأئمة، مما يراه الأمين غير مفيد، بل ظنون وتخرّصات، متهماً كتبه بالتسجيع والتنميق و.. ([44])

وقد كان الشيخ الأميني، انتقد الأمين على موقفه هذا، وذهب إلى أنّ كل ما أثبته البرسي مما اتهم فيه بالغلّو كان دون مرتبة الغلو، وغير درجة النبوّة([45])، وقد ردّ الأميني على اتهام محسن الأمين للبرسي باختلاق أدعية وزيارات، معتبراً أنّ لكلّ إنسان أن يخاطب الله تعالى بما شاء، مادام لا يقصد الورود ولا التشريع([46])، ولكي يدافع عن البرسي في قضيّة الغلو في الفضائل، استأنف الأميني بحثاً حول هذا الموضوع، ليؤكّد مغالاة أهل السنّة بالخلفاء والصحابة، سيّما أبي بكر، مستعرضاً شواهد طويلة، شملت مئات الصفحات([47]).

وكانت كتب البرسي قد أثارت تحفظاً وجدلاً في الوسط الشيعي قبل انتقادات الأمين ودفاعات الأميني، فقد نصّ المجلسي في مقدّمة البحار قائلاً عن مصادر كتابه: «وكتاب مشارق الأنوار، وكتاب الألفين للحافظ رجب البرسي، ولا أعتمد على ما يتفرّد بنقله، لاشتمال كتابيه على ما يوهم الخبط والخلط والارتفاع..»([48]).

كما ذكر صاحب طرائف المقال أنّ البرسي ربما ينسب إلى الغلو، وهو برئ منه([49]). وهكذا كان كلام الحر العاملي في أمل الآمل([50])، وغيرهم([51]).

هذا، وللبرسي كتب كثيرة بعضها انتخبه من كتاب مشارق أنوار اليقين([52]) الذي يعدّ الأكثر حساسية من بين كتبه تقريباً.

تاسعاً: في مواجهته للروايات يقبل هاشم معروف الحسني باستخدام منهج التأويل، بيد أنّه يشرطه بإمكان خضوع الرواية للتأويل([53])، وهذا الشرط هام جداً وأساسي بالنسبة لمشروع كمشروع هاشم معروف الحسني، ذلك أنّ الإفراط في التأويل، وهو منهج استخدمه بعض العلماء، يمنع مطلقاً ـ ربما ـ عن ردّ أيّ رواية، مهما كانت باديةً مخالفةً للعقل أو الكتاب أو التاريخ القطعي، وهناك شواهد كثيرة جداً على ذلك، من هنا لاحظنا إشارة الحسني إلى موضوع إمكان التأويل من جهة، وأسلوب القرآن من جهة أخرى، ذلك أنّ التأويلات المفرطة يمكن مواجهتها عبر هاتين القاعدتين، فإذا جعلنا الأسلوب العام القرآني أساساً، حال ذلك دون ممارسة تأويلات تحيج المؤوّل للمساس بأسلوب القرآن.

عاشراً: إنّ المادّة الرئيسية التي يركّز معروف الحسني نقده عليها هي روايات الفضائل، والمطاعن، حيث يراها ـ مع روايات الترهيب والترغيب ـ من الروايات البالغة الحدّ الأقصى من الدسّ والافتراء([54]).

ولهذا خصّص الفصل الرابع من كتابه الموضوعات، والذي يقلّ حجمه عن نصف الكتاب بقليل([55])، لرصد هذا النوع من الروايات، وهو وإن كان يرى أنّ أخبار الفضائل الموضوعة لا تقل عند السنّة عمّا عند الشيعة([56])، غير أنّ نظره يتركّز أكثر على المصادر الشيعية، كما أشرنا من قبل.

إن معروف الحسني يعتقد بأنّ الغلوّ في تقديس الصحابة أدخل على السنّة النبوية مجموعةً من الخرافات والمكذوبات، ليست سوى وصمة عار على السنّة الشريفة، وإن نظر إليها أهل السنّة اليوم نظرة تقديس واحترام([57])، وهكذا الحال عنده في روايات الغلوّ في أهل البيت (عليهم السلام)، لكنه يبقى حذراً من أن تفهم خطوته خطأ، ولهذا سجّل في خاتمة كتابه نصاً هاماً تبدو فيه ـ معاً ـ معالم الجرأة والاحتياط، معالم الحذر والإقدام، معالم النقد والتشييد.

إنه يقول: «وعلى أيّ الأحوال، فإني إذ أقف من بعض المرويات في علي والأئمة من ولده هذا الموقف، وأرجّح أن تكون من صنع الغلاة والحاكمين والزنادقة الذين اندسّوا في صفوف الشيعة، لا أتردّد لحظةً في أنّ علياً وأبناءه الأئمة بإمكانهم أن يصنعوا المعجزات التي تتعسّر على غيرهم من الناس، وقد صنعوا ـ بإذن الله ـ شيئاً من ذلك، لا لأنّ الله سبحانه قد فوّض إليهم أمور العباد وأمدّهم بالقدرة على كلّ شيء، ولا لأنّهم يعلمون ما كان وما سيكون إلى قيام يوم الدين، بل لأنّهم عرفوا الله كما يجب أن يُعرف، وعبدوه مخلصين كما يجب أن يُعبد، وبذلوا في سبيله فوق ما يمكن أن يتصوّره إنسان من أبناء هذه الدنيا، فاستجاب لهم كما استجابوا له، وأمدّهم بعلمٍ من عنده لم يتوفّر لأحدٍ سواهم من الناس…

وأعود لأكرّر بأنّ هذه المرويّات التي نقلتُها عن بعض محدّثي السنّة، كما وأنّها لا تعبّر إلاّ عن رأي المغالين في خلفائهم وأوليائهم، فكذلك بعض المرويات الشيعيّة في علي وبنيه الأئمة الأطهار، فإنّها لا تعبّر عن رأي الشيعة، وبعضها يتنافى مع أصول الإسلام والتشيّع، أقول ذلك وأنا واثق من أنّ عدداً كبيراً من الشيعة، بل ومن المعممّين في النجف الأشرف وغيرها ممّن لا يفهمون الأئمة على واقعهم، ولا يدركون سرّ عظمتهم وخلودهم إلاّ عن طريق الغيبيات والأوهام، لا يرضيهم ذلك، وسوف يغضبون، ولكنّي لا أستوحش من ذلك، ما دمت واثقاً بأنّ ما أقوله وأكتبه يرضي الله سبحانه، وينـزّه الأئمّة عليهم أفضل الصلاة والسلام مما ألصق بهم زوراً وبهتاناً، والله من وراء القصد، والهادي إلى سبيل الرشاد»([58]).

______________________________

([1]) هذا البحث جزءٌ من كتاب (نظريّة السنّة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة: 549 ـ 563)، من تأليف حيدر حبّ الله، نشر مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت، الطبعة الأولى، 2006م.

([2]) يذكر الشيخ حبيب آل إبراهيم العاملي في كتاب اليتيمة: 540، أنّه لدى مروره ببغداد قاصداً جبل عامل عام 1350هـ تناهى إلى سمعه أنّ جماعة من أهل العلم يقولون بلزوم ترك الحديث؛ لتفرقته المسلمين، والعودة إلى القرآن، وأنه ألقى خطاباً في رفض مقالتهم، مما يشير إلى وجود كلام داخل الوسط العربي العراقي آنذاك حول الموضوع.

([3]) هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 9 ـ 10.

([4]) المصدر نفسه: 7، 12، ودراسات في الحديث والمحدّثين: 12 ـ 14.

([5]) هاشم معروف الحسني، دراسات في الحديث والمحدّثين: 7.

([6]) المصدر نفسه: 8 ـ 9.

([7]) المصدر نفسه: 56 ـ 57، وانظر له: الموضوعات في الآثار والأخبار: 87.

([8]) الحسني، دراسات في الحديث والمحدثين: 116، حيث ينقل اتفاق محدّثي السنّة على ذلك.

([9]) المصدر نفسه: 30.

([10]) الحسني، الموضوعات: 38 ـ 39.

([11]) المصدر نفسه: 22.

([12]) المصدر نفسه: 86 ـ 87.

([13]) المصدر نفسه: 85 ـ 86، ولاحظ دراسات في الحديث والمحدثين: 285.

([14]) الحسني، الموضوعات: 90 ـ 152.

([15]) المصدر نفسه: 153 ـ 176.

([16]) المصدر نفسه: 10.

([17]) نقد موضوعات المثالب الشيعية في المصدر نفسه: 183 ـ 196، وموضوعات المثالب السنية في المصدر نفسه: 196 ـ 199، ونقد موضوعات الفضائل الشيعية في المصدر نفسه: 200 ـ 302، وموضوعات الفضائل السنية في المصدر نفسه: 302 ـ 319، وهذا ما يؤكّد تركيزه الأكبر على المصادر الشيعية.

([18]) المصدر نفسه: 291.

([19]) المصدر نفسه: 283 ـ 284.

([20]) المصدر نفسه: 186.

([21]) المصدر نفسه: 40.

([22]) المصدر نفسه: 48.

([23]) راجع: المصدر نفسه: 180 ـ 182.

([24]) المصدر نفسه: 172 ـ 173.

([25]) المصدر نفسه: 173 ـ 175.

([26]) المصدر نفسه: 237 ـ 238.

([27]) المصدر نفسه: 42.

([28]) المصدر نفسه: 43 ـ 44.

([29]) هاشم معروف الحسني، دراسات في الحديث والمحدّثين: 314.

([30]) المصدر نفسه: 131.

([31]) المصدر نفسه: 127.

([32]) المصدر نفسه: 192 ـ 193.

([33]) المصدر نفسه: 193 ـ 201.

([34]) المصدر نفسه: 178.

([35]) هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 253.

([36]) خلاف التستري ومعروف الحسني في المنهج والمنطلقات، كما ألمحنا في مطاوي البحث، يؤكّده الخلاف حول كتاب قضاء علي (عليه السلام) للتستري نفسه، وإن كان هذا الكتاب هو أوّل ما ألّفه التستري، كما ينصّ على ذلك في حواره مع صحيفة كيهان فرهنكي، السنة الثانية، العدد الأوّل: 5، ولعلّ تطوّراً في فعله النقدي قد حصل عبر السنين، وراجع موقف الحسني من هذا الكتاب في الموضوعات: 276، 278.

([37]) المصدر نفسه: 228 ـ 229.

([38]) المصدر نفسه: 223 ـ 224.

([39]) المصدر نفسه: 221 ـ 222.

([40]) المصدر نفسه: 299.

([41]) المصدر نفسه: 188 ـ 189.

([42]) المصدر نفسه: 217.

([43]) المصدر نفسه: 293.

([44]) الأمين، أعيان الشيعة 6 : 466.

([45]) الأميني، الغدير 7 : 50 ـ 54.

([46]) المصدر نفسه: 54.

([47]) المصدر نفسه: 91 ـ 443.

([48]) المجلسي، بحار الأنوار 1 : 10.

([49]) البروجردي، طرائف المقال 2 : 162.

([50]) الحرّ العاملي، أمل الآمل 2 : 117.

([51]) راجع؛ المامقاني، تنقيح المقال 1 : 429؛ وأفندي، رياض العلماء 2 : 307.

([52]) انظر مثلاً: الكنتوري، كشف الحجب والأستار : 481.

([53]) الحسني، دراسات في الحديث والمحدّثين: 292 ـ 293، 306؛ وله أيضاً: الموضوعات: 283 ـ 284.

([54]) الحسني، الموضوعات: 176.

([55]) المصدر نفسه: 177 ـ 319، أي إلى آخر الكتاب.

([56]) المصدر نفسه: 302 ـ 303.

([57]) الحسني، دراسات في الحديث والمحدّثين: 104.

([58]) الحسني، الموضوعات: 318 ـ 319.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً