أحدث المقالات

د. الشيخ خالد الغفوري الحسني(*)

دراسة وتقويم ونقد الآراء والاتّجاهات الفقهيّة المطروحة حول أسباب المِلْكيّة

لقد أشَرْنا الى أنّ المتعارف في الفقه الوضعيّ هو إطلاق مصطلح (أسباب المِلْكيّة)، وأمّا في فقهنا الإسلاميّ فالمتعارف:

1ـ بيان مصاديق الأسباب، أي أسباب المِلْكيّة بالمعنى الشائع. ومنها يُمكن انتزاع أسباب المِلْكيّة.

2ـ وندرَ مَنْ تعرَّض إلى حَصْر أسباب المِلْكيّة.

ومهما يكن من أمرٍ فقد ورد في الفقه الإسلامي التعرُّض إلى مصادر المِلْكيّة، على اختلافٍ في الآراء؛ فالذين تعرَّضوا لأسباب المِلْكيّة وأسبابها يذكرون عادة أسباباً عديدة لمِلْكيّة الإنسان لأمواله المنفصلة عنه([1]). أجل، احتمل بعضٌ انحصارها في سببٍ واحد. ولنذكر هذه الآراء أو الوجوه:

الاتجاه الأوّل: الحيازة حَصْراً

حصر المِلْكيّة في سببٍ واحد، وهو الحيازة، الذي هو السبب الوحيد للمِلْك أوّلاً وآخراً، ولا سبب سواه. وأمّا ما يُظَنّ أنّه من الأسباب، كالنواقل، مثل: البيع وسائر المعاملات، فحقيقتها الإعراض، الذي هو مقابلٌ للحيازة؛ إذ إنّ البائع والمشتري يتواطآن على أن يرفع كلٌّ منهما يده عمّا يملكه؛ ليحوزه الآخر، فلا تمليك، ولا نقل، بل هو إعراضٌ بإزاء إعراضٍ. والإعراض أيضاً جهتيٌّ، فكلُّ مُعْرِضٍ رافعٌ لليد من جهة صاحبه، لا من كلّ الجهات. فلو أراد غير صاحبه الاستيلاء على العين لمنعه وزاحمه. فكلٌّ رافعٌ لليد لأجل صاحبه، وغير مزاحمٍ لصاحبه، بإزاء رفع صاحبه لليد، وتركه لمزاحمته. ثمّ كلٌّ يستولي على العين، ويملك العين بحيازته، فلا سبب مملِّكاً سوى الحيازة، بلا قبول المِلْك للنقل من مالكٍ إلى آخر.

وهذا الوجه احتمله المحقِّق الإيرواني على بُعْدٍ، قال&: «ويُحتمل بعيداً أن تكون حقيقة البيع وسائر المعاملات هو الإعراض، ثمّ المشتري يملك المبيع بالحيازة. فالسبب الوحيد للملك هو الحيازة أوّلاً وآخراً، لا سبب سواه. فالبائع والمشتري يتواطآن على أن يرفع كلٌّ منهما يده عمّا ملكه؛ ليحوزه الآخر، لا تمليك، ولا نقل، بل هو إعراضٌ بإزاء إعراضٍ، والإعراض أيضاً جهتيّ، فكلُّ مُعرِضٍ رافعٌ لليد من جهة صاحبه، لا من كلّ الجهات. فلو أراد غير صاحبه الاستيلاء على العين لمنعه وزاحمه، فكلٌّ رافع لليد لأجل صاحبه، وغير مزاحم لصاحبه، بإزاء رفع صاحبه لليد، وتركه لمزاحمته ثمّ كلٌّ يستولي على العين، ويملك العين بحيازته، فلا سبب مملِّكاً سوى الحيازة، بلا قبول المِلْك للنقل من مالكٍ إلى آخر»([2]).

أجوبةٌ وشواهد

1ـ قد أُجيب بأنّ الظاهر من حال المتعاملين في المعاملات خلافه؛ فإنّ كلاًّ منهما يملِّك الآخر، لا أنّه يرفع اليد عمّا يملكه بالحيازة والاستيلاء، بعد أن التحق المال بالمُباحات، بإعراض المالك الأوّل عنه، ورفعه لليد عنه([3]).

أقول: الظاهر أنّ الملحوظ في هذا الجواب كون ما قصده المتعاملان كشخصين خارجاً هو التمليك، لا الإعراض.

2ـ إنّ فرضية إرجاع المعاملات إلى الحيازة، على الرغم من كونها معقولةً ثبوتاً، إلا أنّها خلاف الارتكاز العقلائي العامّ؛ فإنّه قائمٌ في المعاملات على المبادلة بين الأموال والأعراض، لا المبادلة بين إعراضٍ وإعراضٍ. وهذا أمرٌ ندركه بوجداننا العُرْفي.

ويشهد له:

أوّلاً: تخصيص العقلاء كلّ معاملةٍ باسمٍ وعنوانٍ خاصّ بها. وفيما لو أرادوا أحياناً المعاملة على الإعراض فإنّهم يُنشئون إنشاءً خاصّاً يُفيدها، ولما اكتفوا بأسامي المعاملات المتعارفة والمتداولة.

ثانياً: كما يشهد له أيضاً قياس المعاملات المالية بغيرها، كعقد الهُدْنة الذي هو عقدٌ سياسيّ، وعقد الصلح الذي هو عقدٌ اجتماعي، وعقد الاستئمان الذي هو عقدٌ أمني، وكعقد النكاح الذي هو عقدٌ اجتماعي وإنساني، وليس معاوضة على البضع ـ أي الاستمتاع الجنسي ـ في مقابل الصداق، كما يُقال عادةً؛ إذ إنّ الانتفاع هنا من الطرفين([4])، لا من طرف الزوج فقط؛ كما أنّه لا يُشترط ذكر المهر في العقد، فلو انعقد من دون ذكر مهرٍ صحّ([5])، ومن هنا عبَّر بعضهم بأنّها ليست معاوضةً مالية مَحْضة([6])؛ وأيضاً لو تلف المهر بفعل الزوج أو بغير فعل أحدٍ كان الضمان فيه ضمان يدٍ، لا ضمان عقدٍ([7])، فلا يفسد النكاح بتلفه بعد ذلك، ولا بردِّه، ولا يضمن الزوج مهر المثل، بل قيمة المهر التالف([8])، ولا يسقط بمنعها نفسها إلى موتها([9])، ولو كان الطلاق فَسْخاً لرجع الزوج بتمام المَهْر([10])، وقد عبَّر القرآن الكريم عن الصداق بأنّه نِحلةٌ وهديّة وعطيّة وهبةٌ([11])، قال تعالى: ﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً﴾ (النساء: 4)، فهو ليس معاوضةً، ولا عقداً مالياً، لا من حيث الماهية، كما هو واضح عقلائيّاً كارتكازٍ نظري، وأيضاً هو واضحٌ من قصد الزوجين عند إيقاع العقد خارجاً؛ فإنّ الزوجين يقصدان الحياة المشتركة.

وكذلك هو ليس معاوضةً، ولا عقداً ماليّاً، من حيث الأحكام، ومن حيث الآثار المترتِّبة عليه، كما يتَّضح هذا من خلال إجراء أدنى مقارنةٍ بينه وبين سائر المعاوضات والعقود المالية.

وعليه، فإنّ مثل هذه العقود غير المالية كيف يمكن إرجاعها إلى الإعراض؟! فإنّ العقود مشتركةٌ في معنىً واحد، وهو الالتزام من الطرفين بإيجاد الأثر المترتِّب عليه، وتحقيق الغرض.

وأمّا ما ورد في بعض النصوص الشريفة، قرآناً وسنّةً، من التعبير بالأجر ونحوه فلا يُراد به المعنى الحقيقي. ومن هنا احتاط بعض الفقهاء بالتعبير بأنّ النكاح فيه معنى المعاوضة، أو فيه شائبة المعاوضة، ولم يجرؤ على التعبير بأنّه معاوضةٌ.

ومن الغريب أنّ المحقِّق الإيرواني قد صرَّح بإرجاع النكاح إلى المعاوضة، بل إلى الإجارة، قال: «…وممّا ذكرنا يسهل لك الأمر في بقية المعاملات؛ فإنّها يرجع كثير منها إلى ما ذكَرْنا؛ فإنّ مآل النكاح إلى الإجارة، وتسليط الغير على منفع النفس منفعةً خاصّة، وهي منفعة البضع. وكذا المزارعة والمساقاة، وهما من جزئيات الإجارة، وقد تخصَّصتا بالتعلُّق بمتعلَّق خاصّ»([12]).

فمع التسليم بكونه معاوضةً كيف يُدَّعى أنّه إجارةٌ؟!

أجل، رُبَما يكون لهذه الدعوى وجهٌ بالنسبة إلى النكاح المؤقَّت، وإنْ كنّا نرفضها أيضاً.

وعلى أيّ حالٍ فمع فرض التسليم بكون النكاح معاوضةً أو إجارةً كيف يتمّ تصويره طبقاً لفرضيّة الإعراض؟!

هذا، وقد عثرتُ أخيراً على بيانٍ للشهيد الصدر في هذا المضمار، بمناسبة البحث عن التمليك المجّاني، قال: «ولعلّ من هذا القبيل: المَهْر، وإنْ قال الفقهاء بأنّه مُطعَّمٌ بالمعاوضة([13])، لكنّ المقصود من ذلك وجود الداعي على نحو الحيثية التعليليّة، لا التقييدية، فليس في البَين معاوضةٌ بحَسَب قانون المعاملة، ولا بحَسَب المُنْشَأ فيها، فالزواج ليس معاملةً أو معاوضةً أو مبادلةً، وإنّما هو إكرامٌ وإحسانٌ وإنعامٌ للمرأة من قِبَل الزوج، وتمليكٌ شبه مجّانيّ، لا يُشترط فيه القبض خارجاً»([14]).

3ـ ثمّ ما هو حال سائر النواقل، كالإرث؟! فهل يتمّ التمليك فيه على أساس الحيازة؟! فإنّه من المستَبْعَد جدّاً إرجاعه إليها. ولنا رؤيةٌ خاصّة حول الإرث، عسى أن نُوفَّق لبحثها لاحقاً، إنْ شاء الله تعالى.

4ـ ولستُ أدري ماذا يقول هذا المحقِّق الكبير بالنسبة إلى مِلْكيّة الإنسان لنفسه ومنافعه وأعماله، بناءً على ثبوت المِلْكيّة الاعتبارية لها، كما هو الصحيح عندنا؟! فهل يملكها بالحيازة؟!

5ـ وأيضاً ما هو السبب في حصول مِلْكيّة النماء؟ فهل هي الحيازة؟!

6ـ كما أنّ هذا الافتراض مبتنٍ على كون الإعراض مُسْقِطاً للمِلْكيّة ومُزيلاً لها، فلو رفضنا المبنى ـ كما رفضه المشهور ـ لما استقام هذا البناء.

7ـ ثمّ ما معنى الإعراض الجهتيّ؟! فإنّ المالك إذا أعرض عن ماله أصبح مباحاً لجميع الناس؛ نظراً لانقطاع علقته به، ولا معنى لأن يكون مباحاً لشخصٍ، دون غيره؛ لانتهاء سلطنته عليه.

وأمّا دعوى كون المالك إنّما قصد بهذا الإعراض وقوعه بإزاء إعراض الطرف الآخر، لا مطلقاً، فلا يجوز لطرفٍ ثالث اغتنام الفرصة بعد الإعراض والقيام بالحيازة؛ تذرُّعاً بأنّ الإعراض الاستطراقيّ لا يفسح المجال إلاّ للمستطرَق إليه أن يمارس الحيازة، طبقاً للمرتكزات العقلائية([15])، فغير صحيحةٍ؛ فإنّ هذا القصد مجرّد داعٍ لا أثر له فيما لو بقي موضوعٌ للتأثير؛ إذ بإعراضه رفع موضوع التأثير على المال، فالإعراض معناه التخلّي عن الشيء ورفع اليد عنه، وبعد رفع يد المالك لا سلطان له على المال حتّى يمنع غير صاحبه من حيازته، لا من خلال الداعي، ولا من خلال القيد.

8ـ إنّ هذا الافتراض لا يتمّ في بعض حالات البيع، مثل: بيع الكُلِّي بالذمّة، كبيع السَّلَف، فهنا لا مِلْكيّة بالحيازة، لكنّ المِلْكيّة واقعةٌ بالبيع([16]).

9ـ بل بناءً على مبنى المحقِّق الإيرواني من صحّة بيع المنافع([17])، مثل: بيع العمل، لا يتمّ هذا الافتراض أيضاً، فهنا أيضاً لا حيازة.

وعليه لا بُدَّ من الإقرار بعدم رجوع التمليك البيعيّ إلى التملُّك بالحيازة، وإلاّ فلن يُتصوَّر في ما لا يُمْلَك بها([18]).

10ـ إنّ البيع غير محتاجٍ إلى القبض بحَسَب الخارج؛ فإنّ المرتكز عقلائيّاً في تأثير البيع أنّه يؤثِّر حتّى قبل القبض والإقباض الخارجيّين.

وعلى أيّ حالٍ لو صحّ ما يُستشمّ من كلمات الفقهاء الواردة في موارد مختلفة، من أنّ الارتكاز العقلائي يقتضي أن تكون أفراد المعاملة تامّةً بمجرّد المعاملة، وبلا حاجةٍ إلى حيازةٍ خارجية من قِبَل المشتري، فلا إشكال في أنّ هذا الارتكاز لا يمكن تفسيرُه وفقاً لهذا الافتراض؛ لأنّه يستدعي حيازة المشتري للعين، والمفروضُ عدمُها، فقبل الحيازة والقبض يكون النقل والانتقال تامَّيْن، ومعه لا بُدَّ من فرضِ مِلاكٍ آخر لتماميّتها([19]).

محاولةٌ فنّية لتكييف إرجاع البيع إلى الحيازة البقائيّة

لقد طرح الشهيد الصدر& افتراضاً آخر لتفسير الحيازة في البيع، وذلك «أن يُقال: إنّ مرجع البيع إلى أنّ البائع يحوز بقاءً للمشتري، لا لنفسه.

وتوضيح ذلك: إنّ الحيازة ـ وهي من المملِّكات ـ تارةً تقع من الشخص نفسه، فيقصد الحيازة لنفسه؛ وأُخرى يقصدها لغيره، فيملك ذلك الغير المُحَاز له، سواءٌ أكان هو الحائز نفسه أم شخص آخر. فالبائع يُبدِّل هذه الحيازة لنفسه، والتي اقتضَتْ مِلْكيّته للعين، إلى الحيازة للمشتري، فيصبح الأخير مالكاً؛ لأنّه هو المُحَاز له.

وهذا الافتراض يُمثِّل محاولةً تستهدف إرجاع المِلْكيّة المعاوضية إلى الحيازة، وأنّ التملُّك يكون بها، غايته بهذا النحو الخاصّ» ([20]).

ثمّ إنّ الشهيد الصدر، بعد ذكره لهذا الافتراض، تصدّى لتقييمه ومناقشته وردِّه. وأفاد بهذا الشأن: إنّ هذا الافتراض يختلف عن الافتراض السابق في أنّه لا يأتي عليه الإشكال الأخير ـ أي الإشكال العاشر بحَسَب ترقيمنا ـ، لكنّه ما زال يُواجه الإشكالين الثامن والتاسع ـ بحَسَب ترقيمنا وكيفيّة عرضنا ـ؛ لأنّ جملةً من الأشياء التي تُنْقَل بالبيع لا تُمْلَك بالحيازة، كالعمل والكُلِّي في الذمّة، وبهذا يكون هذا الافتراض مخالفاً للارتكاز العقلائي([21]).

إشكالٌ وإيراد

في البدء أُنبِّه على أنّني شخصيّاً أشعر بوجود خَلَلٍ في هذا البيان. والظاهر أنّ المُراد أنّ الشخص كما يمكنه ابتداءً أن يحوز لنفسه، ويحوز لغيره، يمكنه بعد حيازته للعين بقاءً أن يحوز لغيره أيضاً، فلو حاز عَيْناً لنفسه أوّلاً صار مالكاً لها، وبحكم مِلْكيّته التي ثبتت له يستطيع بعد ذلك أن يحوز هذه العين مرّةً أخرى لغيره. وهذه الفكرة نُطبِّقها على البائع؛ فإنّه ابتداءً ملك عَيْناً بحيازتها لنفسه، ثمّ يحوز هذه العين مرّةً أخرى بقصد أن تكون للمشتري. فإنْ كان هذا هو المُراد فإنّه ـ مُضافاً إلى الإشكال الذي سجَّله الشهيد الصدر على هذا الافتراض (والذي فكَّكناه إلى الإشكالين الثامن والتاسع) ـ يَرِدُ عليه:

1ـ نظير ما أورَدْناه في بعض الإشكالات السابقة أيضاً، من قبيل: الإشكال الأوّل؛ فإنّ البائع لا يقصد الحيازة للمشتري، كما هو واضحٌ في البيوع الواقعة خارجاً.

وكذا نظير ما جاء في الإشكال الثاني، من عدم قيام الارتكاز العقلائي على كون البيع، ولا غيره من العقود الناقلة، حيازةً، لا حدوثاً ولا بقاءً، ولذا خصَّصوا لكلّ عقدٍ اسماً وعنواناً خاصّاً به.

وأيضاً يأتي عليه نظير ما ذكرناه في الإشكال الرابع.

2ـ وأمّا الإشكال الثالث فيَرِدُ عليه هنا بشدّةٍ، فإنّ الحيازة من قِبَل الميّت للوارث غير معقولةٍ، وليست مُستَبْعَدةً فحَسْب.

3ـ إنّ هذا الافتراض مبتنٍ على إمكانية النيابة في الحيازة، فلو رفضنا المبنى ـ كما رفضه المشهور ـ لما استقام هذا البناء.

4ـ إنّ الحيازة حينما تتحقَّق تكون نتيجتها المِلْكيّة، وهذه النتيجة الحادثة تكون باقيةً، ولا تحتاج إلى علّةٍ أخرى للبقاء.

5ـ إنّ الحيازة إنّما تكون مملِّكةً فيما لو تعلَّقَتْ بالشيء المباح، وأمّا المملوك فلا يكون موضوعاً للحيازة. والمفروض أنّ الشيء المُحَاز كان قد حازه البائع ومَلَكه مُسْبَقاً، فلا معنى لعروض الحيازة عليه مرّةً ثانية، سواء صدرت من الحائز الأوّل أو من المشتري أم من شخصٍ ثالث.

6ـ ويترتَّب على هذا الإشكال الخامس أنّه لوأرَدْنا إنقاذ هذه الفرضيّة فلا محيصَ لنا من الاحتيال بسبيلٍ آخر، وهو الإعراض، وافتراض كون الإعراض جهتيّاً، وهذا ما التفت إليه المحقِّق الإيرواني، وحينئذٍ تُحيى بعضُ الإشكالات التي أورَدْناها على دعوى الإعراض، والإعراض الجهتيّ، من جديدٍ، كالإشكالين السادس والسابع.

دفاعٌ عن المحقِّق الإيرواني

قد يُقال: إنّ المحقِّق الإيرواني لم يكن بصدد حَصْر أسباب المِلْكيّة كافّةً، وإنّما كان بصدد حَصْر أسباب المِلْكيّة في الأعيان فقط، كما يظهر من بعض كلماته.

تعليقٌ وبيان

1ـ إنّه إنْ لم يكن& بصدد الاستيعاب فهذا ما يؤكِّد ادّعاءنا، ويزيد عليه، وهو عدم تصدّي الفقهاء لحَصْر أسباب المِلْكيّة. ومَنْ ظَنَنَّا تصدِّيه لبيانها فإنّما تصدّى لذلك بنحو الموجبة الجزئيّة. إذن فلم يبْقَ أيُّ عصفورٍ على الشجرة، كما يُقال في المَثَل.

2ـ لو فرَضْنا كونه في مقام حَصْر أسباب المِلْكيّة في الأعيان فقط، لا مطلقاً، فلا يتزعزع شيءٌ ممّا أورَدْناه عليه من مناقشاتٍ.

الاتجاه الثاني: الحيازة ثمّ غيرها

وهذا الرأي يمكن اقتناصُه ممّا طرحه المحقِّق الإيرواني، من تقسيمه المِلْكيّة إلى: مِلْكيّة أصليّة مبتدَأة؛ ومِلْكيّة فرعية وثانوية مسبوقة. وهو تقسيمٌ ثنائيّ. وبيانه:

القسم الأوّل: السبب الأصليّ، وهو منحصرٌ بالحيازة. وقد نعتها صاحب هذا الاتجاه بأنّها أُمُّ المملِّكات.

القسم الثاني: الأسباب الثانوية. وتتمثَّل بسائر الأسباب.

وقد اختاره المحقِّق الإيرواني مُصرِّحاً بذلك، قال: «اعلَمْ أنّ أُمَّ الأسباب المملِّكة هي الحيازات، وكلُّ ما عداها من الأسباب فهي متفرِّعةٌ عليها، واردةٌ في موضوعها، لا أنّها أسبابٌ في عَرْضها. فكلّ الأموال كانت أجنبيّةً عن الأشخاص، وكانت نسبتها إلى الكلّ نسبةً واحدة، وبالحيازة صارت مرتبطةً بالأشخاص، وورَدَتْ في سلطانها، وصارت مملوكةً لها. فالحيازة هي السبب الوحيد في حدوث الملك، لا سبب سواها؛ وأمّا سائر الأسباب فهي في المرتبة اللاحقة»([22]). ثمّ قال: «كما تحدث السلطنة بالحيازة تنتقل السلطنة من شخصٍ إلى آخر بالمعاملات الاختياريّة، وكذا بالنواقل القهرية، كالإرث. فكلّ المعاملات معاملاتٌ موجبةٌ لنقل الربط، وتحويل السلطان من شخصٍ إلى آخر»([23]). وقال في موضعٍ آخر: «وقد عرفْتَ أنّ أُمَّ المملِّكات هي الحيازات، وكلّ ما عداها من النواقل فهي تنتهي إلى الحيازات لا محالة؛ فإنْ ملَكْنا شيئاً بالشراء فقد ملَكْناه بحيازتنا للثمن، ولو بوسائط؛ أو ملَكْنا شيئاً بالهبة أو بالإرث فقد ملَكْناه بحيازة مَنْ انتقل المال منه إلينا، بما أنّ حيازته حيازتنا، كما في الإرث، أو بتفويضٍ منه حقّ حيازته إلينا، كما في الهبة»([24]).

نقدٌ وتحقيق

1ـ إنّ كون الحيازة سبباً للمِلْكيّة عقلائيّاً أمرٌ لا رَيْبَ فيه، إلاّ أنّ جعلها السبب الرئيس فقط هو أمرٌ غير صحيح؛ فإنّ هناك سبباً أصليّاً آخر، وهو الصنع والعلاج، بل لا يمكن إرجاع كلِّ المُملِّكات إلى هذين السببين، كما سيأتي بيانه.

2ـ وأمّا ما ذكَرَه من تصوير لكيفيّة إرجاع سائر الأسباب إلى الحيازة، والأمثلة التي أوردها، من قبيل: كون مِلْكيّة شيءٍ بالشراء إنّما تتحقَّق بحيازة الثمن، ولو بوسائط، فهذا ممّا يثير العجب، وممّا لا ينبغي صدوره من مثله؛ إذ إنّ مِلْكيّة الثمن لم تحصل بسبب الحيازة، وإنّما بسبب النقل والتبادل، وهذه سببيّةٌ مستقلّةٌ عن سببيّة الحيازة، وإنْ كان يُمكن أن يكون المنقول أمراً مُحَازاً.

فإنْ كان المراد بهذا البيان إلغاء سببيّة النقل وغيره فهذا رجوعٌ إلى النظرية السابقة، التي ترى أحادية الأسباب، وانحصارها في الحيازة.

وإنْ كان المراد كون الحيازة هي السبب الأصليّ، ثمّ حدث توسُّعٌ من قِبَل العقلاء، فأضافوا أسباباً ثانويّة أخرى، فهذا التصوير قاصرٌ، ولا ينهض بإفادة ذلك، مُضافاً إلى عدم انحصار المِلْكيّة الأصليّة بالحيازة، حتّى تكون الأسباب الثانوية كلّها راجعةً إليها.

وإنْ كان المراد التقدُّم الزماني للمملوك بالحيازة على المملوك بغير حيازةٍ فهذا البيان لو كان له قيمةٌ علميّة فلا يُفيد في بيان السببيّة؛ لعدم كون البحث فيها بحثاً تاريخياً، أو تحليلاً لظاهرةٍ اجتماعية تحليلاً عقليّاً، بل المرتبط بالبحث الفقهي التحليل على أساسٍ عقلائيّ واعتبارٍ عقلائيّ. ثمّ إنّه لا ملازمة بين التقدُّم الرتبيّ والتقدُّم الزماني، كما سوف نُشير إليه لاحقاً.

إذن، فالصحيح هو تعدُّد أسباب المِلْكيّة ـ الرئيسة منها والثانوية ـ، وعدم وحدانيتها، وعدم صحّة إرجاع الأسباب الثانوية طُرّاً إلى سببٍ واحد، وهو الحيازة.

فالمهمّ إذن هو بحث الاتجاهات التعدُّدية الأخرى.

الاتجاه الثالث: أسبابٌ متفرِّقة

وهو لا يحصر المِلْكيّة الأصليّة بالحيازة فقط، بل يرى تعدُّد الأسباب، ومغايرتها للحيازة. وتندرج تحته عدّة مسالك:

المسلك الأوّل: الأسباب الثلاثة

وهو يذهب إلى تثليث الأسباب، وهي:

السبب الأوّل: الناقل للملك من مالكٍ إلى مالكٍ آخر، كالبيع والهبة.

السبب الثاني: أن يخلِّف واحدٌ لآخر، كالإرث.

السبب الثالث: إحراز شيءٍ مُباحٍ لا مالك له. وهذا إمّا حقيقيّ، وهو وضع اليد حقيقةً على شيء؛ وإمّا حكميّ، وذلك بتهيئة سببه، كوضع إناءٍ لجمع ماء المطر، أو نصب شبكةٍ لأجل الصيد.

وهذا المسلك قد صُرِّح به في مجلّة الأحكام العدليّة([25]).

تنبيهٌ واعتراض

يتَّضح ممّا مرَّ ويأتي عدم جامعيّة هذا التقسيم؛ نظراً لعدم انحصار الأسباب في ما ذُكِر؛ فإنّه ممّا لا رَيْبَ فيه كون العمل والضمان والتَّبَعيّة من جملة أسباب المِلْكيّة.

المسلك الثاني: الأسباب الاختياريّة والقَهْريّة ومتفرِّعاتها

وهو متصيَّدٌ ممّا هو مذكورٌ في كتاب الشركة وأسبابها، وإنّما قلنا متصيَّدٌ لأنّه قد ذُكِر بما هو تنويعٌ وبيانٌ لأنواع المِلْكيّة، من ناحية كونها قهريّةً أو اختياريّةً، ولا يُعْلَم كونه بصدد بيان الأسباب كافّةً، وحَصْرها ضمن عناوين كُلِّية، حيث ذُكر تثنية الأسباب أوّلاً، ثمّ تقسيم كلّ نوعٍ منهما إلى أصناف، فينتج تعدُّد الأسباب. وبيان ذلك:

إنّ أسباب الملك نوعان: قَهْرية [= جَبْرية]([26])؛ واختياريّة.

النوع الأوّل: الأسباب الاختياريّة. وهي على أصناف، منها: الاكتساب، والبيع، والشراء، والصيد، والحيازة، وإحياء الموات، وما إلى ذلك.

النوع الثاني: الأسباب القهريّة. وهي صنفان: إمّا أن يكون بجَعْل الشارع؛ وإمّا أن يكون بأسباب اتّفاقيّة أخرى([27]).

فمن الصنف الأوّل: الميراث، الجنايات، الأُروش، النذور، وما إلى ذلك.

ومن الصنف الثاني: اختلاط المالين قَهْراً، بحيث لا يمكن تمييز أحدهما عن الآخر عادةً… والوصيّة بالثلث… أو وَقْف ملكٍ…([28]).

تساؤلٌ وإيراد

على الرغم من أنّ هذا التقسيم أفضل بكثيرٍ ممّا سبقه من التقسيمات، إلاّ أنّه مُبتلىً ببعض الإيرادات([29])، ومنها:

1ـ تداخل الأقسام، من قبيل: ما أورده في النوع الأوّل من عطف (البيع) على (الشراء). فيا تُرى هل هما سببان متباينان، أحدُهما غيرُ الآخر؟! وكذا الحال بالنسبة إلى عطف (الحيازة) على (الصيد)؛ ومن قبيل: ما أورده في النوع الثاني، من إتباع (الأُروش) للـ (الجنايات).

2ـ عدم جامعيّة التقسيم باعتراف صاحبه؛ حيث استفاد من عبارة: (وما إلى ذلك). ولا نعلم مُراده من هذه العبارة، وإلى أيّ شيءٍ كان نظره فيها.

3ـ إنّ ذكره (النذور) في الصنف الأوّل ليس فنّياً؛ فإنّه ليس من التمليك القَهْري؛ إذ إنّ التمليك بالنَّذْر إنْ كان النَّذْر على نحو شرط النتيجة ـ والظاهر هو الملحوظ في المقام ـ لا يصحّ؛ لأنّه غير مقدورٍ للناذر([30])؛ وإنْ كان بنحو شرط الفعل فهو تمليكٌ اختياريّ؛ لتوقُّفه على قبول المنذور له.

4ـ إنْ قيل: إنّ المُراد بالتمليك في النَّذْر هو التمليك لله تعالى؛ باعتبار أنّ حرف (اللام) الوارد في صيغة النَّذْر (لله عليَّ…)، فيكون الفعل المنذور مملوكاً لله؛ بسبب ذلك، ويترتَّب عليه أنّ المال المنذور يُمْلَك قَهْراً.

فإنّه يُقال: إنّ التعهُّد الموجود في النَّذْر يجب أن لا يُخْلَط بباب المِلْكيّة والتمليك؛ ففي قول: (لله عليَّ أن أتصدَّق بدرهمٍ) تعهُّدٌ والتزامٌ بحَسَب الارتكاز العقلائي، ولا يُوجد أيّ تمليكٍ. فالناذر بهذا القول لا يريد أن يُملِّك الله فعلاً من أفعاله، وإنّما يريد أن يتعهَّد له سبحانه بالتصدُّق بدرهم. فبابه باب العُهْدة، لا باب التمليك، و(اللام) في قوله (لله) لام الإضافة في المتعهَّد له؛ حيث إنّ المتعهَّد به يُضاف إلى المتعهَّد له، فكما يُضاف المملوك إلى المالك، فيُقال: (هذا ملك فلان)، كذا يُقال: (هذا متعهَّد به لفلان). فـ (اللام) هنا لام التعهُّد، لا المِلْك([31]).

5ـ ما ذكره من تقسيمٍ للنوع الثاني إلى صنفين؛ فإنّ الصنف الثاني لا يكون من الأسباب القَهْرية بنحوٍ مطلق، بل قد يكون في بعض الحالات من الأسباب الاختياريّة؛ إذ ما لم يقبل الطرف الآخر ـ وهو الموصى له ـ لا يدخل الموصى به في مِلْكه، بخلاف الصنف الأوّل، كالإرث، الذي لا يتوقَّف دخوله في ملك الوارث على رضاه وقبوله مطلقاً، كما هو واضحٌ.

المسلك الثالث: المِلْكيّات الذاتيّة والعَرَضيّة

وليُعْلَم أنّ هذا المسلك لم يُصرَّح به بعنوان أسباب المِلْكيّة، كما لم يُصرَّح بأنّه مطروحٌ على سبيل الحَصْر. وإنّما انتزَعْناه من التقسيم الذي ذكره المحقِّق الخوئي& لأنواع المِلْكيّة وأقسامها، وتلفيقه مع مجمل كلماته. لذا فما نذكره هنا يكون من باب أحد الوجوه المتصوَّرة، ولا نريد تحميله للمحقِّق الخوئي&:

القسم الأوّل: المِلْكيّة الذاتيّة. وقد صرَّح هو وغيره في مواضع عديدة أنّها ليست اعتباريّةً([32]).

القسم الثاني: المِلْكيّة العَرَضية، أي مِلْكيّة الأشياء المنفصلة عن الإنسان. وهي بدَوْرها تنقسم إلى قسمين:

أوّلاً: المِلْكيّة الابتدائية الاستقلالية [= الأصليّة = الأوّلية]. وهي منحصرةٌ بسببين، وهما: إمّا الحيازة؛ وإمّا الصنع وما يُلحق به من الأعمال، كالنقل أو الحفظ.

والأوّل: كما في حيازة الإنسان للمباحات الأصليّة، فإنّ العقلاء يرَوْن هذا سبباً للمِلْكيّة.

والثاني: كما إذا أخذ أحدٌ ما لا ماليّة له وحازه، كالطين، فصنعه كوزاً، فيكون مالاً. فيكون هذا الصنع منشأً لدى العقلاء لمِلْكيّة الكوز. هذا في الصنع.

وأمّا ما يُلْحَق به من الأعمال فكما إذا أتى أحدٌ بالماء من النهر، فهذا الماء حينما كان عند النهر لا ماليّة له. فصنع المالية فيه يُوجب ملكيّته عقلائيّاً. وكما لو حفظ الثلج من الشتاء إلى الصيف، فإنّه لا ماليّة له في الشتاء، لكنّه يكون مالاً في الصيف. وبذلك يصبح مملوكاً لهذا المحتفِظ به في نظر العقلاء.

وإذا اتّضح ذلك نطرح السؤال التالي: هل أنّ هذَيْن السببين للمِلْكيّة يكونان بنحو مانعة الخلوّ أو بنحو مانعة الجمع؟

يرى أصحاب هذا الرأي أنّهما على نحو مانعة الخلوّ([33])، ولا مانع من اجتماعهما في شيءٍ واحد، كما إذا حاز أحدٌ الخشب، وصنعه سريراً، فمِلْكيّته لهذا السرير بلحاظ المادّة نتجَتْ من الحيازة، وبلحاظ الصورة نتجَتْ من الصنع([34]).

ثانياً: المِلْكيّة الابتدائية التَّبّعية، التي تحصل بسبب كون المال ثمرةً لما يملكه الإنسان، كبيض الدجاج وصوف الغنم وثمر الشجر؛ فإنّها تُمْلَك بتَبَع مِلْكيّة الأصل.

القسم الثاني: المِلْكيّة الثانويّة، التي تكون في طول المِلْكيّة من القسم الأوّل. وتتمثَّل بسائر الأسباب. وتنقسم إلى قسمين:

أوّلاً: المِلْكيّة الاختياريّة، كالعقود.

ثانياً: المِلْكيّة القَهْريّة كالإرث والوصيّة ـ بناءً على أنّها من الإيقاعات ـ أو الوَقْف([35]).

نقاشٌ وتعليق

1ـ ناقش ذلك الشهيد الصدر& ـ على ما حُكي عنه ـ بأنّ سريريّة السرير تُمْلَك في نظر العقلاء تَبَعاً لتملُّك مادّته. ولذا لو حاز خشباً، ثمّ صنع شخصٌ آخر منه، بدون إذنه، سريراً، كان الأمر كما لو صنع هو منه سريراً، بل إنّ مِلْكيّة السريريّة تندكّ في مِلْكيّة المادّة، ولا تُرى عُرْفاً ملكيّةً خاصّة للسريريّة([36]).

وشَرَحه السيد الحائريّ، فأفاد: إنّ نفس هذا الإشكال يَرِدُ على السيد الخوئي في مثل مثال صنع الكوز من الطين، أو إبعاد الماء من النهر، أو حفظ الثلج إلى الصيف، وما شابه ذلك؛ فإنّ المِلْكيّة العقلائيّة للكوز مثلاً إنّما تكون في نظر العقلاء بلحاظ مِلْكيّة مادّته، وهو الطين، فلو صنع الكوز من طينٍ كان في حيازة شخصٍ آخر، بلا إذنه، كان الكوز مِلْكاً لذاك الشخص، لا لصانع الكوز. وكذا لو أبعد ماءً كان في حيازة شخصٍ آخر من النهر، أو حفظ ما حازه من الثلج من دون تملُّكه بإذنه، كان في مِلْك الشخص الأوّل.

وكأنّ السيد الخوئي وقع هنا في الخطأ على أساس تخيُّل أنّ المِلْكيّة فرع الماليّة([37])؛ عِلْماً بأنّه قد فرَّق بينهما في أوّل بحثه، الذي عنونه بـ (ما هي حقيقة المال؟ وما هو الفارق بينه وبين المِلْك؟)، وأوضح ثمّة أنّ النسبة بين المال والمِلْك نسبة العموم والخصوص من وجهٍ، ولم يكن يعتقد بوجود ملازمةٍ بينهما([38]).

2ـ اتَّضح من هذه المناقشة أنّ سببيّة الحيازة والصنع إنّما هما على سبيل مانعة الجمع. وسيأتي أنّ الاتّجاه الرابع يرى أنّ الحيازة تكون مملِّكةً في خصوص المنقولات؛ وأمّا الصنع فهو مملِّكٌ في خصوص غير المنقول.

3ـ إنّ العقلاء إنّما يرَوْن في مثال السرير اندكاك مِلْكيّة السريريّة مع مِلْكيّة الخشب؛ بسبب انعدام الحاجة إلى التفكيك، وصعوبة التفكيك في مقام التعامل؛ فإنّ الفصل بين الهيئة والمادّة فصلٌ عقليّ دقّي، وتحليلٌ فلسفيّ، وليس تحليلاً عُرْفياً.

4ـ إنّ جعل المِلْكيّة في الوصيّة من القَهْرية، بناءً على كونها إيقاعاً، غيرُ دقيقٍ؛ وذلك لأنّ الوصيّة وإنْ كانت لا تحتاج إلى قبولٍ غير أنّ للموصى له الردّ، ومع ثبوت حقّ الردّ لا تصدق القَهْرية.

5ـ كما أنّ ذكر الوَقْف كأحد مصاديق المِلْكيّة القَهْرية ليس دقيقاً؛ وذلك لأنّه لا مِلْكيّة في الوَقْف، لا للعين، ولا للمنفعة؛ فإنّ الوقف تحبيس العين وإطلاق المنفعة([39])، والواقف يقوم بفكّ مِلْكه، ويثبت للموقوف عليه حقّ الانتفاع من العين الموقوفة، لا أكثر.

الاتجاه الرابع: المِلْكيّة الأصليّة والثانويّة

وهو محكيٌّ عن الشهيد الصدر&([40]). والبيان الذي قدَّمه أكثر دقّةً وفنّيةً من الاتّجاهين السابقين؛ حيث قسَّم أسباب المِلْكيّة إلى قسمين: أصلية؛ وثانوية، وإنْ لم يُعبِّر بهذا التعبير، ولم يستعمل هذه الاصطلاحات. ونُكرِّر ما ذكرناه في المسلك الثالث من أنّ هذا المسلك لم يُصرَّح بأنّه مطروحٌ على سبيل الحَصْر. لذا فما نذكره هنا يكون من باب أحد الوجوه المتصوَّرة، ولا نُريد تحميله للشهيد الصدر&:

القسم الأوّل: المِلْكيّة الأوّليّة الاستقلاليّة، فبحَسَب هذا الاتجاه إنّ المنشأ في مِلْكيّة الإنسان لأمواله المنفصلة عنه بحَسَب الارتكازات العقلائيّة أحد أمرَيْن:

الأوّل: الحيازة.

الثاني: الصنع.

وهذا الاتّجاه يفترق عن الاتّجاه السابق بأنّ هذَيْن السببين على نحو مانعة الجمع؛ فإنّ لكلٍّ من الحيازة والصنع مورده الخاصّ به. بيان ذلك:

أوّلاً: إنّ الحيازة تكون سبباً للمِلْكيّة في خصوص المنقولات.

ثانياً: إنّ العلاج يكون سبباً للمِلْكيّة في خصوص غير المنقولات، كالأرض التي تُمْلَك بالزراعة أو العمارة([41]).

أقول: إنّ بيان هذا الفارق الدقيق بين مجالَيْ هذَيْن السببين يُعَدّ من جملة إبداعات الشهيد الصدر&.

القسم الثاني: المِلْكيّة الثانوية، وهي ناشئةٌ في طول الأولى؛ فقد حصل عند العقلاء توسُّعاتٌ في باب الحيازة من جهاتٍ شتّى، وهي:

1ـ من جهة الشخص الحائز.

2ـ من جهة المال المُحَاز.

3ـ من جهة ضمان بَدَل المال المُحَاز عند إتلافه.

4ـ من جهة ورود حيازةٍ جديدة على الحيازة الأولى([42]).

وقد تمخَّض عن هذا التوسُّع العقلائي في الحيازة عدّة أسباب:

فالتوسّع الأوّل أنتج سببيّة الإرث للمِلْكيّة.

والتوسّع الثاني أنتج سببيّة مِلْكيّة النماء.

والتوسّع الثالث أنتج سببيّة ضمان الغرامة للمِلْكيّة.

والتوسّع الرابع أنتج سببيّة العقود للمِلْكيّة.

وقد تمّ بيان مفاصل هذه الرؤية بشكلٍ مبسوط، وكذلك نقدها، في دراستين مستقلّتين، تمّ نشرهما سابقاً، فراجِعْ إنْ شئتَ([43]).

 

أهمّ نتائج القسم الأوّل من البحث

أوّلاً: في ما يتعلَّق ببيان حقيقة المِلْكيّة المبحوث عنها في عالَم التشريع والتقنين:

1ـ إنّها من الأمور الاعتباريّة، ولا غموض في تصوُّرهما لدى الذهن العُرْفي والعقلائيّ. وأمّا نوع اعتبارها فهو بالجَعْل الاستقلالي، لا بالانتزاع من الحكم التكليفيّ؛ فإنّ فرضية الانتزاع يَرِدُ عليها جملةٌ من الإيرادات، ولا يصحّ النقض عليه بإمكان افتراض انتزاع المِلْكيّة من جواز التصرُّف المشروط بالبلوغ ونحوه.

2ـ إنّ المِلْكيّة الاعتباريّة مجعولةٌ بإزاء المِلْكيّة والسلطنة التكوينيّة، كسلطنة الإنسان على جوارحه وأفعاله. وهذه المِلْكيّة الاعتباريّة لها عَرْضٌ عريض، فكما تتعلَّق بالأعيان الخارجيّة تتعلَّق بالمنافع، وأيضاً تتعلَّق بالأموال الكُلِّية التي تكون في الذمّة. وهي ليست أمراً أسَّسه الشارع، وإنّما هي من الأمور الإمضائيّة.

3ـ إنّ ما طرحه فقهاؤنا، بالرغم من دقّته ورَوْعته، ليس له أيّ علاقةٍ بتحديد مفهوم المِلْكيّة، وبيان ماهيّتها، بل هو بحثٌ في كيفيّة وجودها الاعتباريّ، وتصوير ذلك في ضوء القواعد المنطقية والفلسفية. كما أنّهم لم يتصدُّوا لتحديد ماهية المِلْكيّة وتحديد مفهومها في البُعْد الحقوقيّ، وبِمَ تمتاز عن غيرها من المفاهيم القريبة منها واللصيقة بها؟ وعليه، فنحن نطالب الفقه الإسلامي بتقديم تعريف للمِلْكيّة، وتحديد مفهومها. وهذه مؤاخذةٌ منهجية جادّة تُؤْخَذ على الفقه الإسلامي، وينبغي له أن يملأ نقطة الفراغ المنهجية هذه، وأن يسدّ هذه الثغرة.

ثانياً: وأمّا في ما يتعلَّق بمسألة تعيين أسباب المِلْكيّة، فبعد تتبُّع واستقصاء آراء الفقهاء تمّ تصنيفها في أربعة اتّجاهات، وتصدَّيْنا لعَرْضها، وتحليلها، ثمّ نقدها وتقويمها. وقد اتَّضح ما يلي:

1ـ إنّ الصحيح هو تعدُّد الأسباب، وعدم صحّة الاتّجاه الأوّل، الذي يرى وحدتها، وأنّ السبب الأوحد للمِلْكيّة هو الحيازة، لا غير.

2ـ إنّنا نرفض الاتّجاه الثاني، الذي يرى حَصْر أسباب المِلْكيّة في نوعين: سبب أصليّ؛ وسبب ثانوي، وأنّ السبب الأصليّ ينحصر بالحيازة، وأمّا سائر الأسباب فهي أسبابٌ ثانوية، ترجع إلى الحيازة.

3ـ كما نرفض المسلك الأوّل ـ من الاتّجاه الثالث ـ، القائل بتثليث الأسباب، وهي: السبب الناقل للملك من مالكٍ إلى مالكٍ آخر، كالبيع والهبة؛ وأن يُخلِّف واحدٌ لآخر، كالإرث؛ وإحراز شيءٍ مُباح لا مالك له، وهذا إمّا حقيقيّ، وهو وضع اليد حقيقة على شيء، وإمّا حكميّ، وذلك بتهيئة سببه، كوضع إناءٍ لجمع ماء المطر أو نصب شبكة لأجل الصيد.

4ـ وأيضاً نحن نرفض المسلك الثاني ـ من الاتّجاه الثالث ـ، القائل بأنّ أسباب الملك نوعان: أوّلهما: أسباب قهريّة [= جَبْرية] ـ، وهي على أصناف، منها: الاكتساب، والبيع، والشراء، والصيد، والحيازة، وإحياء الموات، وما إلى ذلك ـ؛ وثانيهما: أسباب اختياريّة، وهي صنفان: إمّا أن يكون بجعل الشارع (كالميراث، الجنايات، الأُروش، النذور، وما إلى ذلك)؛ وإمّا أن يكون بأسباب اتّفاقيّة أخرى (كاختلاط المالين قَهْراً، بحيث لا يمكن تمييز أحدهما عن الآخر عادةً…، والوصيّة بالثلث…، أو وَقْف مِلْكٍ…).

5ـ وكذلك نرفض المسلك الثالث ـ من الاتّجاه الثالث ـ، الذي يذهب إلى تقسيم أسباب المِلْكيّة إلى قسمين رئيسين: الأوّل: المِلْكيّة الذاتية؛ والثاني: المِلْكيّة العَرَضية، أي ملكية الأشياء المنفصلة عن الإنسان، وهي بدَوْرها تنقسم إلى قسمين: أوّلهما: المِلْكيّة الابتدائية الاستقلاليّة [= الأصلية = الأوّلية]، وهي منحصرةٌ بسببين، وهما: إمّا الحيازة (كحيازة المباحات الأصلية)؛ وإمّا الصنع (كصنع الكوز من الطين المحاز) وما يُلحق به من الأعمال، كالنقل (كما إذا أتى أحد بالماء من النهر) أو الحفظ (كحفظ الثلج من الشتاء إلى الصيف). كما أن هذا المسلك يذهب إلى أنّه لا مانع من اجتماع الحيازة والصنع معاً في شيءٍ واحد.

6ـ تصدَّيْنا لعرْضٍ موجزٍ للاتّجاه الرابع، الذي قسَّم أسباب المِلْكيّة إلى قسمين: أصلية؛ وثانوية.

فالأولى ـ وهي المِلْكيّة الأوّلية الاستقلاليّة ـ فإنّها المنشأ في مِلْكيّة الإنسان لأمواله المنفصلة عنه، وتتمثَّل بأحد أمرين: الحيازة (المختصّة بالمنقولات)، والصنع (المختصّ بغير المنقولات، كالأرض التي تُمْلَك بالزراعة أو العمارة). وإنّ الحيازة والصنع لا يجتمعان في شيءٍ واحد. ويرى هذا الاتّجاه أنّ العقلاء توسَّعوا في الحيازة.

وأمّا الثانية ـ وهي المِلْكيّة الثانوية ـ فإنّها ناشئةٌ في طول الأولى؛ فقد حصل عند العقلاء توسُّعات في باب الحيازة من جهاتٍ شتّى. ولم نتصَدَّ لتحليله، ولا لمناقشة وتقويم هذا الاتّجاه هنا؛ لأنّنا خصَّصنا له مقالين مستقلَّين.

الهوامش

(*) أستاذٌ في الحوزة العلميّة، وعضو الهيئة العلميّة في جامعة المصطفى| العالميّة، ومدير تحرير مجلّة الاستنباط. من العراق.

([1]) سيأتي البحث حول مِلْكيّة الإنسان لنفسه وأعماله في مقالٍ مستقلّ.

([2]) الميرزا علي الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 20.

([3]) انظر: الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 20.

([4]) انظر: الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 4: 271؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر 2: 575 ـ 576؛ العلاّمة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعية 3: 545 ـ 546.

([5]) انظر: فخر المحقّقين، إيضاح الفوائد 3: 196؛ وانظر أيضاً: 234؛ وانظر كذلك: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 8: 187؛ أحمد الأردبيلي، زبدة البيان: 644 ـ 646؛ بهاء الدين محمّد بن الحسن الفاضل الإصبهاني، كشف اللثام 7: 473.

([6]) انظر: المقداد بن عبد الله السيوري، التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 1: 314؛ المحقِّق الكركي، جامع المقاصد 13: 203 ـ 204.

([7]) انظر: الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 3: 307.

([8]) انظر: الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 8: 187.

([9]) انظر: المصدر نفسه.

([10]) انظر: الفاضل الإصبهاني، كشف اللثام 7: 473.

([11]) انظر: الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 3: 307.

([12]) الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 16.

([13]) عبَّر بعض الفقهاء: إنّ النكاح فيه شائبة المعاوضة. انظر: المحقِّق الكركي، جامع المقاصد 9: 212؛ 11: 116؛ 13: 143، 204؛ الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 8: 57؛ الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 9: 262.

وعبَّر آخرون: إنّه في معنى المعاوضة. انظر: المحقِّق الكركي، 4: 303؛ الشهيد الثاني، غاية المراد 3: 115؛ الشهيد الثاني، الروضة البهية 5: 369.

([14]) انظر: محمّد باقر الصدر، محاضرات تأسيسية (ضمن موسوعة الإمام الشهيد السعيد محمد باقر الصدر) 21: 215.

([15]) انظر: المصدر السابق: 211.

([16]) انظر: المصدر السابق: 212.

([17]) انظر: الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 20، 21.

([18]) انظر: الصدر، محاضرات تأسيسية (ضمن موسوعة الإمام الشهيد السعيد محمّد باقر الصدر) 21: 212.

أقول: إنّ الإشكالين السابع والثامن وردا في عبارة الشهيد بصورة إشكالٍ واحد، ونحن فكَّكناه إلى إشكالين اثنين، مع تصرُّفٍ في المضمون أيضاً.

([19]) انظر: المصدر السابق: 211 ـ 212.

([20]) المصدر السابق: 212.

([21]) انظر: المصدر السابق: 213.

([22]) الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 13.

([23]) المصدر السابق 2: 13.

([24]) المصدر السابق 2: 16.

([25]) سليم رستم بار اللبناني، شرح المجلّة: 679، الكتاب العاشر، الباب الرابع، الفصل الثاني، المادّة 1248.

([26]) لقد عبَّر في المجلّة العدلية في بيانه للشركة بأنّ شركة الملك قسمان: اختياري؛ وجبري. انظر: سليم رستم بار اللبناني، شرح المجلّة: 598، الكتاب العاشر، الباب الأوّل، الفصل الأوّل، المادّة 1062.

([27]) أقول: الظاهر أنّ مُراده بـ (الاتّفاقية) التوافقية، أي ما يحصل بتوافق الطرفين أو الأطراف.

([28]) انظر: محمد حسين كاشف الغطاء، تحرير المجلّة 3: 323 وما بعدها، وانظر أيضاً: 432.

([29]) أقول: إنْ أُريد استفادة الأسباب من هذا التنويع فسوف يكون ما ذُكِر من مناقشات وارداً عليه، وإلاّ فلا يَرِدُ عليه بعضها.

([30]) انظر: محمد تقي الآملي، المكاسب والبيع 1: 101 ـ 102.

([31]) انظر: الصدر، محاضرات تأسيسية (ضمن موسوعة الإمام الشهيد السعيد محمّد باقر الصدر) 21: 194.

([32]) انظر: محمد علي التوحيدي، مصباح الفقاهة 2: 7، 20؛ 4: 124؛ 6: 110، 207؛ علي الغروي، موسوعة الإمام الخوئي، التنقيح في شرح المكاسب 36: 27 ـ 28؛ وانظر أيضاً: محمد حسين الإصفهاني، حاشية المكاسب 1: 40.

([33]) انظر: الغروي، موسوعة الإمام الخوئي، التنقيح في شرح المكاسب 36: 4.

([34]) انظر: التوحيدي، مصباح الفقاهة 2: 8 ـ 9؛ الغروي، موسوعة الإمام الخوئي، التنقيح في شرح المكاسب 36: 4؛ علي الحسيني الشاهرودي، محاضرات في الفقه الجعفري 3: 10.

([35]) انظر: المصدر السابق 2: 6 ـ 9؛ الغروي، موسوعة الإمام الخوئي، التنقيح في شرح المكاسب 36: 4 ـ 6؛ الحسيني الشاهرودي، محاضرات في الفقه الجعفري 3: 9 ـ 10.

([36]) انظر: كاظم الحائري، فقه العقود 1: 30.

([37]) انظر: المصدر نفسه.

([38]) انظر: التوحيدي، مصباح الفقاهة 2: 5 ـ 6.

([39]) انظر: الطباطبائي اليزدي، محمّد كاظم، العروة الوثقى 6: 279.

([40]) انظر: الصدر، محاضرات تأسيسية (ضمن موسوعة الإمام الشهيد السعيد محمّد باقر الصدر) 21: 195.

([41]) انظر: الحائري، فقه العقود 1: 40؛ وانظر: الصدر، محاضرات تأسيسية (ضمن موسوعة الإمام الشهيد السعيد محمّد باقر الصدر) 21: 199 ـ 200.

([42]) الصدر، محاضرات تأسيسية (ضمن موسوعة الإمام الشهيد السعيد محمّد باقر الصدر) 21: 196 ـ 201.

([43]) راجِعْ مقالاً تحت عنوان: نظرية التوسُّع العقلائي في الحيازة عند الشهيد محمد باقر الصدر تحليل ونقد، مجلّة الاستنباط، العدد 1، 1439هـ ـ 2018م؛ وراجِعْ أيضاً مقالاً تحت عنوان: رؤية الشهيد الصدر حول حقيقة العقود، عَرْضٌ ونقدٌ وتقويم، مجلّة الاستنباط، العدد 2: 1439هـ ـ 2018م.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً