أحدث المقالات

دراسة في النصوص والاحتمالات

د. محمد رسول آهنگران(*)

مقدمة ـــــــ

يمكن الاستدلال لإثبات وجود الإمام المهدي×، وميلاده وغيابه عن الأنظار، وخروجه، وإقامة حكومته وملء الدنيا عدلاً بيده، بما ورد في كتب الشيعة والتاريخ وكتب الحديث عند أهل السنة؛ غير أن إثبات خروج الإمام المهدي#، الذي يتبعه إثبات وجوده وحقّانيته×، بالاعتماد على القرآن أمر له أهمية بالغة؛ لأن القرآن كتاب قد تم تنزيله من عند رب العالمين.

ونحن نحاول في هذا المقال الإجابة عن الأسئلة التالية، وهي:

1ـ هل يمكن إثبات خروج الإمام المهدي# بالآيات القرآنية؟

2ـ ما هي الآيات التي يمكن الاستدلال بها في إثبات حكومة الإمام المهدي× إثباتاً لا يمكن الشك فيه؟

الوعد القرآني بخروج المهدي، فكرة إظهار الدين ـــــــ

وردت في القرآن الكريم آية ـ مع بعض الاختلاف ـ في ثلاث سور، وهي توضّح صدق دعوانا أكثر من أية آية أخرى.

1ـ ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:33).

2ـ ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ (الفتح: 28).

3ـ ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصف: 9).

وفي هذه الآية يقول تعالى: إنه قد بعث النبي بالبراهين والآيات الهادية والمعجزات الكافية ودين الحق، والهدف الرئيس من هذا البعث هو إظهار الدين الإسلامي على الدين كله، وهزيمة جميع الأديان أمامه، وهذا أمر لا يعجب المشركين ولا يروقهم.

ومن المعروف أنه حتّى الآن لم يتحقق هذا الوعد والهدف، ولا يمكن القول بأن هذا الوعد لن يتحقَّق؛ إذ معنى ذلك:

1ـ أنّ ربنا تعالى قد أخلف الميعاد، وهذا أمر لا يصدر منه سبحانه تعالى.

2ـ أنّ ربنا تعالى يعجز عن تحقيق الهدف المذكور، وهذا أمر لا يمكن تصوّره وافتراضه في حقه تعالى.

3ـ أنّ ربنا تعالى قد وعد وعداً وحدد هدفاً لا يمكن تحقيقه أبداً، وهذا ما يستحيل صدوره عن الله الحكيم، حيث يصبح جميع ما عمله لغواً وبلا فائدة، لأن الهدف المنشود من وراء بعث النبي لم ولن يتحقق.

ومن جهة أخرى فإن الغرض والهدف من بعث نبينا’ هو تحقق الوعد الذي أشار سبحانه وتعالى إليه، فإذا أصبح هذا الوعد غير محقق أبداً كان إرسال النبي| وبعثه لغواً وأمراً لا يستفاد منه، ولا شك أنه سبحانه تعالى بريء عن القيام بلغو وعمل لا فائدة فيه.

ومن ذلك كله نستنتج أنه يجب أن يأتي زمان يظهر الإسلام على الدين كله، ولا يستثني ديناً دون آخر، وتشير كلمة الدين مع «ال الاستغراق» إلى جميع ما هو دين، وليس واحداً دون آخر.

ولم يقتصر القرآن في إشارته إلى شمولية حكم غلبة الإسلام على جميع الأديان بذكر كلمة (الدين)، بل ذكر بعده كلمة (كله)، كي يتبين بصورة جلية أنه سبحانه وتعالى أراد غلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان، ولا يستثني ديناً دون آخر.

تبشرنا الآيات الثلاث المذكورة أعلاه بأن اليوم الذي يظهر الإسلام على الدين كله آتٍ لا محالة. وفي اليوم الموعود تذهب جميع مساعي المشركين للحيلولة دون غلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان مدارج الرياح.

ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هاهنا هو: بيد من يتحقق هذا الوعد؟ وهذا ما سنتطرق إليه اعتماداً على المصادر التفسيرية.

احتمالات تفسيرية في آيات إظهار الدين ـــــــ

وهناك مفسرون طرحوا بعض الملاحظات والمعاني المحتملة في تفسيرهم الآيات الثلاث المذكورة آنفاً، وسنحاول مناقشتها في هذا المجال أيضاً.

1 ـ الإظهار بمعنى الإخبار والإطلاع ـــــــ

يقول البعض: المقصود من <الإظهار> هو الاطلاع والإخبار، ويرجع الضمير المتصل في <ليظهره> إلى نبينا’، وعلى هذا الأساس تدل الآية على أن ربنا تعالى أرسل النبي بالهداية ودين الحق كي يطلعه (النبي) ويخبره عن جميع شرائع الدين الإسلامي، لئلا يبقى شيء غير معروف ومجهول للنبي حول هذه الشريعة([1])([2]).

نقد الاحتمال الأول ـــــــ

هذا المعنى الذي ذكره بعض المفسرين للآيات الثلاث المذكورة مرفوض؛ للأسباب التالية:

أـ جاء في بداية الآيات أن الله قد أرسل نبيه محمد’ بالهداية ودين الحق، فلا معنى أن يكون ذلك (بعث النبي) من أجل إطلاعه على تمام الدين الإسلامي. وبعبارة أخرى: ليست هناك أية علاقة منطقية بين العمل والهدف من القيام به، حيث إذا تمسكنا بالمعنى المذكورة لكلمة <الإظهار> فالمعنى أن الله تعالى أرسل نبيه بالهداية ودين الحق حتى يجعله’ مطّلعاً على تمام الدين.

لو اعتمدنا على المعنى الاحتمالي الأول فسيظهر لنا عدم التناسق بين العمل والهدف من القيام به في العبارة المذكورة أعلاه بصورة جلية، حيث لا معنى لبعث النبي وإتيان دين الحق بيده للناس إذا كان الهدف منهما إطلاع الرسول على الدين الإسلامي.

ب ـ كما ذكر في بداية الآيات الثلاث فإن النبي’ قد أرسل بالهداية ودين الحق، وظاهر هذا الكلام يدلنا إلى أنه تم اطّلاع نبينا على الدين الإسلامي بأكمله اطلاعاً كافياً، ومن بعد ذلك أرسل’ حتى ينفع الآخرين، فنظراً لما سبق لا معنى لأن يعيد ربنا ـ سبحانه تعالى ـ قوله، ويعتبر اطّلاع النبي على تمام الدين الهدف المنشود من بعث النبي.

إذا قيل: إن النبي‘ قد أرسل بالهداية ودين الحق فمعنى ذلك أنه تلقى الدين بأكمله، لا أنه سيتلقاه من بعد ذلك.

ج ـ إذا قلنا: إنّ معنى الإظهار هو الإطلاع فلن تبقى مناسبة بين ﴿لِيُظْهِرَهُ﴾ و﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، حيث يدل ظاهر الكلام أن المشركين يكرهون تنفيذ وتحقيق الهدف المنشود من إرسال النبي الذي يعارض مصالحهم، وإذا اعتبرنا الهدف من إرسال النبي إطلاعه‘ على الدين الإسلامي بأكمله فهذا لا يعارض مصالح المشركين حتى يكرهوا تحققه.

ومن جهة أخرى لا يطّلع المشركون أبداً على إتمام تلقيه‘ الدين الإسلامي كله كي يكرهوا ويبغضوا هذا الأمر.

وملخص القول: إنّ القضية المشار إليها في الآيات الثلاث المذكورة تدور حول هدف اجتماعي هام يكره المشركون تحقيقه.

ومن الجدير بالذكر هنا أن بعض المفسرين أكدوا أن كلمة «الإظهار» ليست بمعنى «الإطلاع»، حيث لا مناسبة بين «الإظهار» وعبارة ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾([3]).

2 ـ الإظهار بمعنى الغلبة الفكرية والبرهانية ـــــــ

يقول البعض: إن المقصود من الإظهار هو إظهار الدين الإسلامي على سائر الأديان بالبراهين والأدلة الواضحة. وقد ذكر هذا الرأي البغوي في تفسيره نقلاً عن حسين بن فضل([4])، كما ذكره الثعلبي في تفسيره قائلاً: إن حسين بن فضل يرى المقصود من إظهار الدين الإسلامي على جميع الأديان هو الإظهار بالحجج الواضحة والبراهين القاطعة([5])([6]).

نقد الاحتمال الثاني ـــــــ

هذا المعنى الاحتمالي الثاني الذي ذكره بعض المفسرين مرفوضٌ؛ للأسباب التالية:

أـ يرفض الرازي هذا المعنى مؤكِّداً أنه سبحانه تعالى لا يقصد بقوله: إظهار الدين الإسلامي على سائر الأديان الإظهار بالحجج الواضحة والبراهين القاطعة؛ لأن صياغة الآيات تدل على أنه ـ سبحانه وتعالى ـ يعد ويبشر بأمر لم يتحقَّق ساعة نزولها، في حين أن غلبة الدين الإسلامي على سائر الأديان بالحجج الواضحة والبراهين القاطعة شيء قد حصل في بداية الأمر.

وملخص القول: إن الوعد والبشارة يخص أمراً لم يتحقق؛ بل إن تحققه سيكون في المستقبل؛ فالمعنى الاحتمالي الثاني الذي ذكر ضعيف([7])([8]).

ب ـ إذا قلنا: المقصود من <الإظهار> هو الإظهار بالبراهين الواضحة والحجج القاطعة فمعنى ذلك التأكيد على نوع خاص من الغلبة، الذي هو الغلبة العلمية، وعلى هذا الأساس تشير الآيات إلى غلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان علمياً بالبراهين الواضحة والحجج القاطعة.

والمشكلة في قبول هذا المعنى عدم وجود أية قرينة على اتخاذ هذا المعنى الخاص من الغلبة، فلماذا نضع المعنى العام من كلمة <الإظهار> جانباً، ونتمسك بالمعنى الخاص لهذه الكلمة، حيث لا يجوز لنا أن نترك المعنى الظاهر إلا أن يكون هناك سبب مقنع.

ويهدينا ظاهر الكلام في الآيات الثلاث إلى أن المقصود هو المعنى العام من كلمة <الإظهار>، وإذا اتخذنا المعنى الخاص فمعناه حمل الآيات على خلاف المعنى الظاهر.

ج ـ ليست الغلبة العلمية في حد ذاتها المقصود المنشود من الآيات الثلاث، حيث لا معنى لأن يكون الهدف من بعث النبي’ وإتيان الدين الإسلامي بيده هو إثبات حقانية الدين عند الله؛ لأن هذا الإثبات ليس رهناً ببعث النبي إلى الناس، بل هذا الأمر قد أثبت لله تعالى قبل بعث النبي.

وملخص القول: إن المقصود من الآيات الثلاث هو الغلبة العلمية وإثبات حقانية الدين الإسلامي عند المسلمين وغيرهم من متبعي الأديان غير الإسلامية، بحيث يتبين لهم أن الإسلام حق، أما إذا كان معنى الآيات الثلاث ما ذكرناه (إثبات حقانية الإسلام للمسلمين وغير المسلمين) فتتبين مسألة ملازمة الغلبة العلمية، يعني الغلبة بمعناها الخاص، مع الغلبة بمعناها العام من جهتين:

أـ لا يمكن الغلبة العلمية وإثبات حقانية الإسلام لغير المسلمين إلا عندما يملك الإسلام القدرة، حتى يقدر على إبلاغ رسالته للعالم، ويردع الحملة الدعائية ضدها، ويبطل مفعول هذا النوع من الحملات.

ولا يمكن لشعوب العالم أن يسمعوا كلام الحق بين حملات أعداء الإسلام الدعائية إلا إذا كان الدين الإسلامي صاحب قدرة كاملة، وفي غير هذه الحالة لا يصل خطاب ورسالة الدين الإسلامي إلى مسامع العالم، حتى يقوموا بتقويم هذا الخطاب، وتصديق حقانيته في ظروف سالمة.

ومن جهة أخرى فإن توفير ظروف سالمة للتفكير يحتاج إلى عدم عناصر، كي نتأكد من إيصال خطاب ورسالة الدين الإسلامي إلى غير المسلمين بصورة صحيحة؛ لأن هؤلاء (غير المسلمين) إذا ثبت لهم حقانية الإسلام سيتخذون قراراً حراً ويصدقون حقانية الإسلام وينتمون إليه.

فواضح الأمر أنه إذا أمسك غير المسلمين أمور بلد بأيديهم فإنهم يبذلون قصارى جهودهم في سبيل الحملة الدعائية ضد الإسلام وتشويه صورة الدين الإسلامي في أفكار ذلك البلد العامة، وعليه لن يتصرف أهل البلد في تقويمهم للإسلام حيادياً وموضوعياً، ولا يمكن إثبات حقانية الإسلام في مثل هذه الظروف.

ب ـ إن تثبت لغير المسلمين حقانية الدين الإسلامي، ويغلب الإسلام على جميع الأديان، يعتنق عامة الناس الإسلام ديناً على وجه الفور ومن دون أي تأخر، ويدخلون الإسلام أفواجاً. وبعبارة أخرى: لا يعقل أن يرفض عامة الناس بفطرتهم التواقة إلى الحق وإرادتهم الحرة الدين الذي ثبتت لهم حقانيته. والجدير بالذكر أن حديثنا يدور حول عامة الناس الذين يمتلكون فطرة تواقة ومشتاقة إلى الحق، وليس الذين يعارض قبول الإسلام مصالحهم الشخصية.

ونستنتج مما سبق أن لابد أن يكون للمسلمين قدرة كاملة وعالية حتى يقدروا على ردع الحملات الدعائية ضد الإسلام، ويتمكنوا من إيصال رسالة الإسلام إلى مسامع العالم.

وهذه الظروف التي تحدثنا عنا لم نرها على أرض الواقع حتى الآن؛ وبعبارة أخرى: لم يأتِ بعدُ زمانٌ تكون فيه قدرة المسلمين فوق قدرة غيرهم، والدين الإسلامي غالب على سائر الأديان، حتى تتوفر الأرضية المناسبة لإيصال رسالة الإسلام إلى غير المسلمين([9]).

3 ـ انحصار الإظهار بجغرافيا الجزيرة العربية  ـــــــ

هناك رأي آخر طرحه المفسرون في تفاسيرهم حول الآيات الثلاث، وهو أنّ إظهار الإسلام على جميع الأديان يختصّ بجزيرة العرب، وقد حدث ذلك عملياً.

وقد ذكر هذا الرأي في بعض التفاسير من دون الإشارة إلى قائله أو قائليه([10]).

نقد الاحتمال الثالث ـــــــ

وهذا الرأي ـ مهما كان قائله ـ ادعاء لا يصدق؛ حيث إنّ هذا القول يعارض فحوى الآيات.

وبعبارة أخرى: هناك إشارة واضحة في الآيات المذكورة إلى أن الإسلام يغلب ويظهر على جميع الأديان، ووجود كلمة <كل> أحسن دليل على ذلك، وليس هناك أي دليل يجعلنا نقبل بحدوث هذا الأمر (الإظهار) في منطقة خاصة من العالم؛ لأن هذا الفهم وهذا الاعتقاد يعارض الظاهر، ولا يعتمد على حجّة.

وقد ذكرت كلمة <الدين> في الآيات الثلاث المتشابهة مع «ال الاستغراق»، وذلك يدل على أن هذا الحكم يشمل الأديان بأجمعها. ومن الجدير بالذكر أن القرآن لم يقتصر على ذكر كلمة <الدين> مع <ال الاستغراق>، بل زاد عليه كلمة <كله>، التي تؤكد لنا شمولية الحكم.

وبعد هذا كله لا يمكننا تصديق أن المقصود من الآيات المذكورة هو غلبة الدين الإسلامي على الأديان الموجودة في الجزيرة العربية قديماً.

وكأنّ مَنْ تصور المعنى الاحتمالي الثالث للآيات المذكورة يظن أن القرآن قد أنزل للجزيرة العربية فحسب، وإذا جاءت كلمة تدل على العموم في القرآن فإنها تخص العموم في الجزيرة العربية.

4 ـ الإظهار بمعنى الغلبة في بعض البلدان، مطالعة ونقد ـــــــ

يرى بعض المفسرين أن مقصود الآيات الثلاث غلبة الإسلام على سائر الأديان في بعض البلدان، كإخراج اليهود من الجزيرة العربية، وإبعاد النصارى من الشام، وسحق المجوس في بلادهم([11]).

وهذا المعنى الاحتمالي كالمعنى الاحتمالي السابق غير معروف قائله، حيث لا يدرى صاحب هذا الرأي.

وهذا المعنى الاحتمالي لا يمكن قبوله؛ حيث يعتبر قبوله معارضاً لظاهر الآيات الثلاث، وإنكاراً لشمولية الحكم؛ لأن الآيات المذكورة تدل على أن الدين الإسلامي سيغلب على جميع الأديان، ولا يمكن حمل كلمة <كل> على كلمة <البعض> من دون قرينة دالة على ذلك، فيعارض قبول هذا الرأي الأخير ظاهر الآيات وشمولية الحكم.

5 ـ ارتباط الإظهار برحلـــتي الشتاء والصيف، قراءة نقدية ـــــــ

يقول بعض المفسرين: إنه كانت قبل الإسلام لأهل الجزيرة العربية رحلتان: رحلة الشتاء؛ ورحلة الصيف، وكان يقصد أهل الجزيرة في رحلتهم الشتوية بلدين: العراق؛ واليمن، وكانوا يقصدون الشام في رحلتهم الصيفية. ولما بزغ الإسلام في الجزيرة العربية انقطعت تلك الرحلات الشتوية والصيفية؛ للاختلاف الديني الذي طرأ بينهم وبين أهل البلدان المذكورة، فانقضى الزمان هكذا حتى دخل المسلمون على النبي’ سائلين إياه: متى تبدأ الرحلات؟ ومتى تمكننا الرحلة إلى تلك المناطق؟ فتلا النبي آية ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ﴾([12]).

بعد الرجوع إلى التفاسير المختلفة التي تضم الروايات النبوية لم نجد رواية شبيهة بما سبق، كي نتأكد من صحة هذ الرواية؛ في حين أن الكتب الروائية التفسيرية تضم روايات كثيرة تشير إلى المعنى الذي يؤكد عليه كاتب المقال، فنستنتج مما سبق أن المعنى الاحتمالي الخامس مرفوض من جهتين:

أـ لم تذكر أية رواية أو حديث ـ ولو كان غير صحيح ـ في كتب أهل السنة والجماعة حول هذه الآيات الثلاث.

ب ـ تضم كتب التفسير روايات وأحاديث تشير إلى غلبة الإسلام الشاملة على جميع الأديان، حيث لا تخص هذه الغلبة منطقة خاصة.

6 ـ الإظهار بمعنى الغلبة المستقبلية التامة على العالم ـــــــ

تبشر الآيات الثلاث المتشابهة المذكورة في بداية المقال بغلبة الإسلام على جميع الأديان، وبإتيان زمان يظهر الإسلام على الدين كله، ويعتبر الهدف من بعث النبي’ إتيان اليوم الموعود؛ لأنه لا تنفذ التعاليم الإسلامية والأحكام الدينية بصورة صحيحة وكاملة إلا بعد غلبة الدين الإسلامي على سائر الأديان بشكل دائم.

إذاً الهدف من بعث النبي هو أن يأتي زمان ينفذ الدين الإسلامي في جميع أرجاء العالم، وقد جاء الإسلام حتى يعم العالم في اليوم الموعود.

المفسرون ورؤيتهم تجاه الآيات الثلاث المتشابهة ـــــــ

قال الرازي: <لا يكون إظهار شيء على آخر إلا بالحجة أو بالكثرة أو بالغلبة. معلومٌ أن ربنا تعالى بشرنا بهذا الإظهار، وليست البشارة إلا لأمر لم يحصل، بل أُرجئ حصوله إلى المستقبل. إظهار الدين الإسلامي بالحجة أمر ثابت ومعلوم ومحصول، فلذلك علينا أن نحمل كلمة الإظهار على الغلبة»([13]).

إذاً فإن صاحب التفسير الكبير لا يعتقد أن ظاهر الآيات الثلاث يدل على غلبة الدين الإسلامي على سائر الأديان فحسب، بل يعتقد أنه يجب علينا أن نتمسك بالإظهار بـ <الغلبة> في تفسير الآيات من دون الإظهار بـ <الكثرة> و <الحجة>؛ ولكنه عندما يواجه هذا السؤال بأنه إذا كان المقصود من الإظهار هو الغلبة فلماذا لم يتحقق هذا الوعد الإلهي بعد؟ يطرح معان محتملة، أشرنا إلى بعض منها في هذا المقال، وأثبتنا عدم صحتها، وسنتطرق إلى واحد من المعاني المحتملة في ما بعد.

وبغض النظر عن جميع المعاني الاحتمالية التي طرحها الرازي في تفسيره رداً على سؤال حول أسباب عدم تحقق الوعد الإلهي حتى الآن، فإن الرازي نفسه يؤكّد أن المقصود من الإظهار هو الغلبة، ولا يمكن أن نحملها على معنى آخر، وإذا أمعن القارئ في ما قاله الرازي فبإمكانه الانتباه إلى عدم صحة ما طرحه الرازي من المعاني المحتملة للآيات الثلاث في الرد على السؤال المذكور حول أسباب عدم تحقق الوعد الإلهي.

ونحن في إطار تطرقنا إلى المعاني المحتملة للآيات الثلاث المتشابهة أجبنا عن الاحتمالات المطروحة من جانب، وبقي احتمال واحد يصدق رأي الكاتب وما يريد إثباته في المقال.

وعندما يصل الطبري، الذي له مكانة مرموقة بين المفسرين، ويطلق عليه عنوان <إمام المفسرين>، ويعتبر تفسيره من أوثق وأفضل تفاسير القرآن الكريم، إلى الآية 25 من سورة الفتح والآية 9 من سورة الصف يبدي رأياً يؤيد رأي كاتب المقال، حيث يصرّح في تفسيره الآية 25 من سورة الفتح بأن الله تعالى يبطل بالدين الإسلامي جميع الملل والأديان، ولا يبقى دين إلا الإسلام. ومن الأفضل أن نذكر نفس العبارة التي استخدمها الطبري في تفسيره كي يتبين الأمر بصورة جلية، قال: <ليبطل الله به الملل كلها حتى لا يكون دين سواه>([14]).

ويقول الطبري في تفسيره الآية 9 من سورة الصف: <ليظهر الإسلام دينه الحق على كل دين سواه>([15]).

وهاتان العبارتان اللتان ذكرهما إمام المفسرين تدلان بوضوح على أن الله سيمنح المسلمين الفوز على جميع الملل، وسيصبح غير المسلمين مقهورين أمام الدين الإسلامي، حيث لا يبقى دين في العالم إلا الإسلام.

ونستنتج مما ذكره الطبري في تفسير الآيتين: 25 من سورة الفتح، و 9 من سورة الصف، أنه سيأتي زمان لا يبقى غير الإسلام ديناً.

هذا الرأي الذي طرحه الطبري حول الآيتين جدير بالاهتمام والعناية، وتكمن أهميته في أنه لم يختر في تفسير الآيتين إلا رأياً واحداً، ولم يشر أيّة إشارة إلى بقية الآراء.

ويقول الآلوسي في تفسيره، الذي لا تخفى أهميته على أحد من متخصصي التفسير: <يعتقد البعض أن المقصود من إظهار الدين الإسلامي على سائر الأديان هو غلبة المسلمين على غيرهم، وهذا أظهر المعاني وأجلاها>([16]).

ويقول المفسر ابن عاشور حول تفسير الآيات الثلاث المتشابهة: <سيغلب الدين الإسلامي على جميع الأديان>.

ومما يلفت الانتباه في رأي ابن عاشور حول تفسير الآيات الثلاث قوله: إن مصدر <الإظهار> إذا تلاه حرف <على> يتعدى إلى مفعول، ويصير معناه <النصر>.

ويضيف ابن عاشور: <أي لينصره على الأديان كلها، أي سيكون أشرف الأديان وأغلبها>([17]).

قد لا يكون بين التفاسير الموجودة ما يساوي <تفسير ابن كثير> شهرةً. يقول ابن كثير في تفسير الآية 33 من سورة التوبة أنه سيأتي زمان يغلب الدين الإسلامي على جميع الأديان، مؤكداً أن هذا المعنى تؤيده الأحاديث النبوية، ذاكراً تلك الأحاديث النبوية([18]).

ويقول القاضي أبو محمد الأندلسي في تفسير الآية 33 من سورة التوبة، بالاعتماد على ما جاء في تتمة الآية، والذي يشير إلى كره المشركين ذلك اليوم الموعود: <تدل الآية على غلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان، وهذا أظهر وأجلى معنى للآية مقارنة بما ذكروا من المعاني، ومنها أن الله تعالى سيعلم جميع الشرائع الدينية، وهو’ سيطلع على الدين كله، وما يثبت صحة رأينا حول دلالة الإظهار على الغلبة هو الجملة ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ المذكورة بعدها>([19]).

أما القرطبي، الذي اشتهر بآرائه الجديدة بين أهل السنة والجماعة، ويعتبر من كبار المفسرين، فيُصرِّح في تفسيره للآية 25 من سورة الفتح بأن معنى إظهار الدين الإسلامي على سائر الأديان هو جعل الدين غالباً على سائر الأديان.

كما يذكر في تفسيره للآية 9 من سورة الصف آراء مختلفة، قائلاً: سيكون الإظهار بالبراهين الواضحة والحجج القاطعة، كما سيكون بالغلبة والفوز في الحرب أيضاً.

ويشير القرطبي إلى <أنه ليس المقصود من إظهار الدين الإسلامي هو زوال جميع الأديان من دون الإسلام، بل المقصود هو أن المسلمين سيعلون على الجميع وسيغلبونهم>؛ ولكنه يقول في نفس الوقت: <قد يكون المعنى أنه في آخر الزمان ستزول جميع الأديان، ولا يبقى دين إلا الإسلام>([20]).

إذاً يعتقد القرطبي أنه ليس المقصود من الإظهار في الآيتين: 25 من سورة الفتح و 9 من سورة الصف، نوعاً خاصاً من الغلبة، بل كلمة الإظهار كلمة شاملة، وتدل على جميع أنواع الغلبة.

قد تبين مما ذكرنا آنفاً من آراء كبار علماء التفسير أن المفسرين يرون الآيات: 33 من سورة التوبة، و 25 من سورة الفتح، و 9 من سورة الصف، دالة على الوعد الإلهي، والهدف من بعث النبي’، الذي هو غلبة الإسلام على الدين كله.

وها هنا أسئلة تطرح نفسها، وهي: هل تحقق الوعد الإلهي؟ هل حدث حتى الآن أن هُزمت الأديان كلها أمام الدين الإسلامي والمسلمين؟ وإذا لم يتحقق الوعد الإلهي بغلبة الدين الإسلامي على الدين كله فلابد أين يأتي يوم يتحقق فيه الوعد الإلهي، فمتى سيكون ذلك اليوم؟ فحسب ما ورد في القرآن الكريم وما صرّح به المفسرون تدل الآيات دلالة قاطعة على أن يوم غلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان يوم لا ريب ولا شك في إتيانه، ولا يمكن إنكار الوعد الإلهي لمسلم؛ ولكن السؤال: متى سيكون ذلك؟ هذا ما نحاول الإجابة عنه في هذا المقال.

دلالة الآيات على النظرية المختارة، مقاربة في ضوء كلمات المفسرين ـــــــ

عندما يواجه الرازي الآيات التي تشير إلى مجيء يوم يغلب فيه الدين الإسلامي على الأديان كلها، ولا يمكن تأوليها بأي شكل آخر من جهة، وعدم تحقق الوعد الإلهي بإتيان ذلك اليوم حتى الآن من جهة أخرى، يطرح في رده على سؤال حول معنى الآيات عدة أجوبة: ثانيها عن أبي هريرة، وهو يؤكد على أنه سيحدث في يوم خروج سيدنا عيسى×؛ كما يشير في تفسيره إلى حديث منقول عن السدي، وهو يؤكد فيه أنه سيحدث يوم خروج المهدي([21]).

ويقول إمام المفسرين والمؤرخين عند أهل السنة في ثلاثة مواضع من تفسيره بأن تحقق الوعد الإلهي بغلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان سيحدث عند خروج سيدنا عيسى×، إلا أنه يقول عند تفسيره الآية 33 من سورة التوبة، نقلاً عن أهل التأويل والتفسير، أنه يتحقق الوعد الإلهي بغلبة الإسلام على جميع الأديان يوم خروج سيدنا عيسى، ويؤكد في موضع آخر على نفس المعنى دون أن ينسب كلامه إلى أحد، قائلاً: إنه سيتم تحقق الوعد الإلهي بغلبة الإسلام على الدين كله عند خروج سيدنا عيسى.

والجدير بالذكر أن إمام المفسرين يرى خروج عيسى× يحدث في آخر الزمان، وفي نفس الوقت يذكر لسيدنا عيسى أعمالاً عند خروجه، كقتل الدجال، الذي تُجمع كتب الحديث عند الشيعة والسنة على أنه من العلامات والأعمال التي يقوم بها الإمام المهدي في حكومته([22]).

ويقول الطبري عند تفسيره الآية 9 من سورة الصف: <إنه سيتحقق الوعد الإلهي بغلبة الإسلام على الدين كله عند خروج عيسى×>، مصرحاً أن تحقق الوعد الإلهي سيكون في آخر الزمان الذي تتحول فيها الأمم إلى أمة واحدة، ولا يبقى غير الإسلام ديناً([23]).

لا يشير الطبري بعد التعبير عن رأيه إلى المعاني الأخرى المحتملة للآيات الثلاث، بل يكتفي لإثبات قوله بنقل ما ذكره أبو هريرة من أن تحقق الوعد الإلهي سيكون حين خروج سيدنا عيسى× في آخر الزمان، ولا يخفى على أهل العلم أن كتاباً إذا ذكر رأياً، وأردفه بنقل كلام من عالم، فإنه يريد بهذا النقل تأييد رأيه وإثباته، ولا يقوم بذلك لذكر الأقوال والآراء فحسب.

يقول الماوردي، الذي لا تخفى على أحد أهمية تفسيره الفائقة بين التفاسير: للآية 33 من سورة التوبة ستة تأويلات: أولها: تحقق الوعد الإلهي عند خروج سيدنا عيسى×، حيث يعبد الله تعالى بالإسلام، وينسب الماوردي قوله هذا لأبي هريرة.

ويقول البغوي في تفسيره للآية 33 من سورة التوبة، نقلاً عن أبي هريرة وضحاك: إن الوعد الإلهي لا يتحقق إلا عند خروج سيدنا عيسى×.

ويضيف البغوي، نقلاً عنهما: <إنه سيعتنق غير المسلمين بأجمعهم الإسلام ديناً>، مصرِّحاً بأنه <نقل أبو هريرة عن نبينا قوله’: في ذلك اليوم (يوم إظهار الإسلام) ستهلك جميع الأمم إلا الأمة الإسلامية>([24]).

ويقول القاضي أبو محمد في تفسيره، نقلاً عن أبي هريرة وأبي جعفر محمد بن علي وجابر بن عبد الله: تشير الآية 33 من سورة التوبة إلى أن الدين الإسلامي سيظهر على جميع الأديان، وسيكون هذا الإظهار عند خروج سيدنا عيسى×، باعتناق غير المسلمين الإسلام ديناً([25])([26]).

ويقول القرطبي في تفسيره الآية 33 من سورة التوبة: ليس المهدي هو عيسى×، كما يتصور البعض؛ لأن المهدي من آل رسول الله’، فنستنتج من ذلك أنه لا يمكن القول بأن المهدي هو عيسى× نفسه.

ويضيف القرطبي: قال البيهقي في كتابه (البعث والنشور): قد روي الحديث <لا مهدي إلاّ عيسى> عن محمد بن خالد الجندي، وهو رجل مجهول، وروى محمد بن خالد الجندي الحديث المذكور عن أبان بن أبي عياش، وهو رجل متروك، وروى أبان بن أبي عياش الحديث عن حسن، وهو عن النبي’، حيث نجد هنالك انقطاعاً في الإسناد، في حين أن الأحاديث السابقة التي تشير إلى خروج المهدي ونسبته إلى آل رسول الله أصح إسناداً([27]).

والجدير بالذكر أن القرطبي يقول في تفسيره للآية 9 من سورة الصف، بعد إشارته إلى أن من معاني إظهار الدين الإسلامي هو زوال جميع الأديان من دون الإسلام في آخر الزمان، نقلاً عن مجاهد: إن هذا الإظهار سيحدث عند خروج سيدنا عيسى×، ولا يبقى دين إلا الإسلام. ويضيف القرطبي، نقلاً عن أبي هريرة: إن إظهار الدين الإسلامي سيحدث عند خروج سيدنا عيسى×، ذاكراً حديثاً عن مسلم فحواه: إن النبي’ قال: ربنا تعالى سيرسل ابن مريم، وهو سيتولى قيادة حكومة عادلة، وسيكسر الصليب، وسيهلك الخنزير، ويحدد الجزية، وفي ذلك العصر لا يرغب الناس حتى في أغلى الأموال، ولا يحاولون الحصول عليها، ولا يبقى حسد وكره في العالم، ولا يضحي أحد بنفسه في سبيل المال([28]).

إذاً لو جمعنا كلام القرطبي الذي يقول فيه ـ حسب ما ورد في الأحاديث ـ: إن غلبة الإسلام ستحدث عند نزول سيدنا عيسى× مع كلامه عن خروج المهدي# لوصلنا إلى هذه النتيجة، وهي أنّ نزول سيدنا عيسى سيصادف زمنياً خروج المهدي؛ لأنه (المفسر) أثبت في ما سبق أن خروج المهدي وانتماءه إلى آل رسول الله’ نسباً قضيتان لا يمكن إنكارهما ـ حسب الأحاديث الصحيحة ـ؛ كما أثبت استناداً للأحاديث الموجودة أنه سينزل سيدنا عيسى في يوم غلبة الدين الإسلامي على جميع الأديان.

إذاً فقد تبين أن نزول عيسى× سيتزامن مع خروج المهدي#([29]).

النتيجة ـــــــ

تبين لنا عند دراسة الآيات: 33 من سورة التوبة، و25 من سورة الفتح، و9 من سورة الصف، أن الهدف من بعث النبي’ هو غلبة الدين الإسلام على جميع الأديان؛ لأنه في مثل هذه الظروف (ظروف الغلبة) يمكن تنفيذ ما يأمر به الإسلام.

والجدير بالذكر أن هذه الغلبة يكرهها قادة الكفر والشرك، الذين يجدون مصالحهم في نشر الأديان الباطلة، ولكن عامة الناس بفطرتهم التواقة والمشتاقة إلى الحق عندما يطلعون على منطق الإسلام القوي يعتنقون الإسلام ديناً، وبعبارة أخرى: بالنسبة لهؤلاء ستكون الغلبة علمية، كما لاحظنا عند المفسر المبدع الكبير القرطبي، الذي يقول: إن المقصود من الغلبة الغلبة العلمية والغلبة الحربية.

إذاً ففي الآيات الثلاث المذكورة وعد وبشارة بغلبة الإسلام العالمية بشكل لا يقبل التأويل، وهذا أمر يؤكد عليه كثير من مفسري أهل السنة، ومن جهة أخرى لا يشك أحد في عدم حدوث هذه الغلبة حتى الآن، كما لا يشك أحد في ضرورة وجوب تحقق هذا الوعد، حيث إذا لم يتحقق الوعد المذكور سيكون بعث النبي بالدين الإسلامي أمراً لغواً لا ترجى منه أية فائدة؛ لأنه ـ سبحانه تعالى ـ قد جعل تحقق وعده الهدف من بعث النبي’.

فإذا فهمنا من الآيات الثلاث المتقدمة أن الله يريد وعدنا بغلبة الإسلام (كما يؤكد جماعة من كبار المفسرين عند أهل السنة على ذلك)، وإذا قلنا في نفس الوقت: إن هذا الوعد لن يتحقق، فمعنى ذلك أن الله عاجز عن تحقيق الهدف والوعد المذكور، وذلك الأمر مستحيل. فإذا قبلنا بأن غلبة الإسلام العالمية على جميع الأديان أمر ثابت ولا يمكن تصور عدم تحققه فإن سؤالاً سيطرح نفسه وهو: متى ستكون هذه الغلبة؟ إذا قلنا أنه يحدث في يوم غير  يوم خروج المهدي# فهل يمكن تصور معنى مقبول لخروج المهدي؟

اعتبر كثير من كبار المفسرين عند أهل السنة يوم غلبة الدين الإسلامي على الدين كله يوم يخرج فيه سيدنا عيسى×، وإذا جمعنا هذا الاعتقاد بما ورد في كتب الحديث عند أهل السنة والشيعة حول التقاء يوم نزول سيدنا عيسى بيوم خروج المهدي# فستكون النتيجة:

أـ لا يمكن قبول المعاني المحتملة المذكورة للآيات الثلاث، إلا المعنى الذي يدل على غلبة الإسلام العالمية على جميع الأديان.

ب ـ هناك أحاديث مختلفة تشير إلى كون الوعد الإلهي بغلبة الإسلام على جميع الأديان في يوم خروج المهدي.

والنتيجة أنه لابد لمن يعتبر القرآن نصاً مقدساً سماوياً أن يعترف بخروج المهدي#، أو أن ينكر الآيات الثلاث.

الهوامش

 _________________________________

(*) أستاذ مساعد في جامعة طهران (فرع قم).

([1]) تفسير البغوي: 554.

([2]) هذا المعنى الاحتمالي ذكره البغوي في تفسيره، ناسباً إياه لابن عباس، غير أن الطبري في تفسيره للآية 33 من سورة التوبة ينسب هذا الرأي إلى جماعة من الأشخاص، ويطرح معنيين احتماليين، ينسب أحدهما إلى أهل التأويل (وسنتطرق إليه بالتفصيل)، وهو خروج سيدنا عيسى.

ويذكر الطبري رأياً آخر، وهو اعتقاد البعض بأن معنى الإظهار هو إخبار الله النبي عن شرائع الدين، وجعله مطلعاً عليه كي لا يخفى عليه شيء عن الدين. (تفسير الطبري 4: 150).

وما نقله الطبري يعارض ما نقله البغوي؛ لأنه جاء في تفسير البغوي: <إن هناك خلافاً بين المفسرين في معنى الآية. وحسب الرأي الأول الذي يتعلق بابن عباس إن ضمير الهاء في {ليظهره} يرجع إلى النبي’، وهناك رأي آخر اختاره الآخرون، وقالوا: إن ضمير الهاء في {ليظهره} يعود إلى دين الحق>.

فحسب ما ذكره البغوي رأي ابن عباس يختلف عن رأي الآخرين، والجدير بالذكر أن البغوي هو المفسر الوحيد الذي نسب الرأي المذكور إلى ابن عباس (تفسير البغوي: 554).

وعلى أية حال لا فرق أن يتعلق هذا الرأي بابن عباس أم بغيره؛ لأنه مرفوض لأسباب مختلفة.

([3]) تفسير القاضي أبو محمد الأندلسي 3: 26.

([4]) تفسير البغوي: 554.

([5]) تفسير الثعالبي 5: 36.

([6]) حسب أقوال هذين المفسرين فإن هذا المعنى منسوب إلى حسين بن فضل، غير أن الماوردي يقول: هذا رأي جماعة غفيرة من العلماء، مضيفاً <لهذه الآية ستة تأويلات: أحدها: إن في الآية إشارة إلى حدوث إظهار الدين الإسلامي على جميع الأديان بالحجج القاطعة والبراهين الواضحة> (تفسير الماوردي 2: 355 و356).

([7]) تفسير الرازي 8: 32 ـ 33.

([8]) يستفيد الرازي في رده على هذه القضية من عبارة <يمكن الجواب>، حيث يتبين لنا أن الرازي نفسه لا يعجبه هذا الجواب، وما يدلنا على وجود هذا الإحساس عند المفسر استخدامه عبارة <يمكن الجواب التي تشير إلى ضعف هذا الجواب. ومن جهة أخرى ذكر الرازي في السطور السابقة معنى آخر مؤكداً على وجوب حمل الآية على ذلك المعنى، وكما تعرفون إذا أصدرنا رأياً بوجوب حمل الآية على معنى خاص فمعناه علينا أن لا نحمله على معنى آخر، وهذا هو هدفي من كتابه المقال، وسأتطرق إن شاء الله في المقال إلى هذا الرأي موضحاً لكم سبب عدم صحته.

([9]) يجب هنا أن ندقق في الأجوبة التي عرضها الرازي في رده على الإشكالية المطروحة من جانبه. يقول الرازي ـ كما بينا في قسم الرد على المعنى الاحتمالي الثاني ـ: إن الآية تضم وعداً وبشارة، والوعد والبشارة تخص أمراً يتحقق في المستقبل، ولكن غلبة الإسلام على غيره من الأديان التي نعبر عنها بـ <الغلبة العلمية> من خصائص الدين الإسلامي من البداية.

يبدأ الرازي، في معرض رده على الإشكالية التي طرحها نفسه، كلامه بعبارة <يمكن الجواب>، ويقول: يمكننا القول بأنه في بداية بزوغ الإسلام كانت هناك شبهات كثيرة حول الدين، وأدى ضعف المسلمين، وقوة الكفار والمشركين، ومحاولة أعداء الإسلام منع الناس من التأمل في حجج الدين، إلى عدم إظهار الإسلام بالحجج؛ غير أنه بعد ذلك ضعف الكفار، وكسب الدين الإسلامي قدرة فائقة. وكان هذا هو المقصود من الوعد الإلهي (تفسير الرازي 8: 33).

ونقول في تعليقنا على قول الرازي الأخير: إن يكن من الضروري للحصول على الغلبة العلمية كون المسلمين في قدرة تامة، وكون أعدائهم من الكفار والمشركين في الضعف والفشل، فمتى كان أهل الإسلام غالبين على غير المسلمين في جميع البلدان والممالك؟ تدل كلمة <كله> الواردة في الآية على أن المقصود غلبة الإسلام على جميع الأديان، وهل حدث للمسلمين أن يتمتعوا بقوة كاملة، وأن يكون غيرهم في ضعف وشلل، حتى يسجل الإسلام الغلبة بالبراهين والحجج لنفسه، وأن يبلغ رسالته بصورة شفافة إلى غير المسلمين بأجمعهم؟ هل تحقق الوعد الإلهي المذكور في عهد النبي أم بعد؟

كيف يجيب الرازي عن الإشكالية المطروحة من جانبه، في حين ذكر نفسه في بضعة أسطر سابقة أنه لم تحدث حتى الآن غلبة الإسلام على سائر الأديان في مملكة الهند والصين والروم وسائر أراضي الكفر؟ فكيف يمكن أن نقبل منه ما قاله في الرد على الإشكالية التي طرحها نفسه من أن المسلمين كسبوا القدرة الفائقة وهزموا جميع الكفار وتمكنوا من إيصال رسالتهم إلى مسامع العالم؟.

([10]) تفسير الماوردي 2: 356؛ تفسير الرازي 8: 33؛ تفسير الثعلبي 5: 36.

([11]) تفسير الرازي 18: 33.

([12]) تفسير الماوردي 2: 356.

([13]) تفسير الرازي 8: 33.

([14]) تفسير الطبري 7: 22.

([15]) تفسير الطبري 7: 306.

([16]) تفسير الآلوسي البغدادي 26: 122.

([17]) تفسير ابن عاشور الأندلسي 10: 74.

([18]) تشمل الأحاديث التي ذكرها ستة أحاديث يُبشرنا فيها نبينا’ بأنه سيمسك مقاليد الأمور في مشارق الأرض ومغاربها أمة محمد، وأن ستفتح مشارق الأرض ومغاربها لأمة محمد، ولا يبقى أحد إلا أن يدخل في الإسلام، وسيكون دخوله في الإسلام إما طوعاً وعزة وإما كرهاً وذلة (تفسير ابن كثير القرشي: 875).

ينقل الثعلبي، الذي يدعى بالإمام عند أهل السنة، في تفسير الآية 33 من سورة التوبة حديثاً جاء فيه: قال رسول الله’: لا تنتهي الأيام والليالي إلا أن يعود البعض إلى عبادة اللات والعزى، فقالت عائشة: لم أكن أتصور أنه بعد نزول الآية {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} أن يحدث ذلك، فأجاب النبي: هذا لا شك فيه، وسوف يحدث في المستقبل، وقتما وقعت الإرادة الإلهية على ذلك فسوف تهب ريح طيبة، وتدرك من يكون في قلبه أدنى ذرة من الإيمان، وتترك من لم يدخل الإيمان في قلبه، وسيعود غير المؤمن إلى دين أبيه.

(تفسير الثعلبي 5: 36).

هذا الحديث موجود في صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل، وكثير من كتب الحديث، وذكره أيضاً ابن كثير في تفسيره بصورة كاملة (تفسير ابن كثير القرشي: 875)، ولكن ما نقله الثعلبي في تفسيره لا يشتمل إلا على القسم الذي يخبر فيه نبينا عما سيحدث آخر الزمان.

وقد ذكر جلال الدين السيوطي من تفسير أهل السنة في تفسيره الآيات الثلاث عدة أحاديث تشير إلى صحة رأي الكاتب، حيث ينقل حديثاً عن نبينا’ يقول فيه: سيغلب ديننا على جميع الأمم (تفسير السيوطي 4: 175).

([19]) يقول البغوي في تفسيره: يرى الإمام الشافعي المقصود من الإظهار في الآية {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} أنه لو سمع أحد رسالة الإسلام ليعتبرها حقاً ويعد غيرها باطلاً (تفسير البغوي: 554).

يقتضي ما رآه الشافعي توفير ظروف مناسبة يصبح فيها الدين الإسلامي في قوة كاملة، وأقوى من أديان أخرى حتى تتوفر الظروف الجيدة لغير المسلمين ليسمعوا نداء الحق بمعزل عن الدعايات الباطلة؛ لأنه إذا امتلك غير المسلمين القدرة يتوسلون بدعايات كاذبة وآليات مختلفة لمنع وصول رسالة الدين الإسلامي إلى عامة غير المسلمين؛ لأن تلك الرسالة تعارض مصالحهم.

فيلازم قول الشافعي هذا المعنى أنه سيأتي ـ حسب ما وعد به القرآن ـ يومٌ سيصبح المسلمون أكثر قوة وقدرة مقارنة بغيرهم، وسيغلبونهم، حيث إذا سنحت هذه الفرصة سيصل نداء الإسلام إلى غير المسلمين في ظروف مناسبة ودون أي رادع.

([20]) تفسير القرطبي 8: 332.

([21]) تفسير الرازي 8: 33.

([22]) تفسير الطبري 7: 22.

([23]) تفسير الطبري 7: 306.

([24]) تفسير البغوي: 554.

([25]) تفسير القاضي أبو محمد الأندلسي 3: 26.

([26]) ذكر في هذه التفاسير التي تعتبر في نوعها من أهم المصادر التفسيرية أن تحقق الوعد الإلهي بغلبة الإسلام على جميع الأديان سيكون عند خروج سيدنا عيسى×، غير أننا إذا نظرنا في  الأحاديث المذكورة في المصادر الروائية المشيرة إلى التقاء نزول عيسى بخروج المهدي زمنياً (انظر: تفسير الصافي: 497) يتبين لنا أن الأقوال تؤيد هذا الرأي بأن وعد ربنا سيتحقق عند خروج المهدي×، ومن ناحية أخرى هناك مفسرون، كالآلوسي، ما إن يقولوا: إن الوعد الإلهي بغلبة الإسلام على جميع الأديان سيتحقق عند نزول سيدنا عيسى حتى يتطرقوا إلى قضية خروج المهدي#، حيث يظهر للقارئ أن من يعتقد بتحقق الوعد الإلهي عند نزول سيدنا عيسى يعتقد بالتقائه زمنياً بخروج سيدنا المهدي. (تفسير الآلوسي 26: 123).

يشير صاحب تفسير روح البيان، بعد قوله: <إن الوعد الإلهي بغلبة الدين الإسلامي سيتحقق عند نزول سيدنا عيسى×>، إلى أنه قد قيل: هذا الوعد سيكون تحققه عند خروج المهدي.

ينقل هذا المفسر الحنفي الكبير حديثاً فحواه أن العالم يذهب نحو الشر والفساد، ويواصل ذكر الحديث حتى يصل إلى عبارة <لا مهدي إلا عيسى ابن مريم> فيقول: لا صاحب للمهدي إلا عيسى ابن مريم، وهو (عيسى) سينـزل لنصرته، والمهدي إمام عادل من آل بيت النبي، وليس رسولاً أو نبياً. (الحقي الخلوتي، 2003 للميلاد، ص 437).

ويقول الشيخ محمد عبده في تفسيره للآية 23 من سورة التوبة: إن في هذه الآية بشارة بظهور سيدنا المهدي# في آخر الزمان، ناسباً قوله إلى جماعة من العلماء، مضيفاً: <إنني أثبتُّ في تفسير سورة الأعراف أنه لا يمكن إنكار الأحاديث الواردة حول سيدنا المهدي.

وما هو جدير بالانتباه في تصريحات الشيخ محمد عبده قوله في بداية تفسيره للآية 33 من سورة التوبة، حيث يؤكد على <أن بعض العلماء يرون في الآية بشارة بخروج سيدنا المهدي× في آخر الزمان>، مضيفاً عبارة <وما يردفه من نزول عيسى ابن مريم>.

فيفهم القارئ من كلام الشيخ محمد عبده أن خروج المهدي× سيأتي تلوه نزول عيسى ابن مريم، وسيكون هذا النـزول بعد ذلك. (تفسير محمد عبده 10: 460).

([27]) تفسير القرطبي 4: 463.

([28]) تفسير القرطبي 9: 332.

([29]) يجدر هنا أن نذكر لكم الرواية التي استفاد منا الرازي في تفسر الآية {ويؤمنون بالغيب} حتى يستكمل استدلالنا، ينقل الرازي حديثاً يقول فيه نبينا: لو بقي من عمر العالم يوماً ليطيله ربنا تعالى حتى يخرج من آل بيتي رجل اسمه اسمي وكنيته كنيتي وهو سيملأ الدنيا عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً (تفسير الرازي 1: 27).

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً