أحدث المقالات
النص الديني، هو شكل من أشكال حضور الله الدائم بيننا، هو عالميحيط بنا من كلّجانب،فيداخله شيءيريد الوصول إلينا أينما كنا وحينما كنا،يدعونا للإنصات له،والخضوع لكينونته الملغّزة التيلا تنضب. مايدفع الذات،فيسعيها لإيجاد حيّزها الوجوديالمتحرّر من إكراهات المعنى التييمليها النص عليه أو تملى باسمه لا إلى الهروب منه،بل للدخول فيه من جديد،والتحرّك فيأرجائه،لغرض بناء شروط اتصال جديدة معه،تدشّن فضاءات معنىغير مسبوقة،وتفتتح عوالم تسهم جميعها فياكتشاف الذات لذاتها وإعادة بنائها.

   قراءة النص الديني، بهذا المعنى، ليست نشاطاًعلمياًفحسب،بل هيأيضاًتجربة اختبار ذاتية،وفعل إضاءة لزوايا الذات المعتمة،يكون فيها أيتغيير أو تعديل أو تجديد فيبنية التصوّرات التينحملها عن النص،تغييراًلواقع الذات وحياتها،يشعر معه المرء أنّه مشروع شخص آخر ويفهم نفسه بطريقة مختلفة.

  مناسبة هذا الكلام صدور الكتاب الجديد للباحث وجيه قانصو"النص الديني في الإسلام من التفسير إلى التلقّي" ( دار الفارابي) وهو كتاب يندرج في سياق القراءات التأويلية للنصوص التأسيسية في الإسلام، على غرار الأدبيات التجديدية التي طرحها كل من محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وآخرون، وقد اختمرت فيه أسئلة وهموم وتطلعات عاشها الكاتب من أجل وعي ديني متحرّر وخلاّق في إطار الجدلية المستمرة: علاقة الوحي بالتاريخ.

  حاول صاحب كتاب "التعددية الدينية" في بحثه الجديد إثبات إشكالية قصور آليات التفسير والفهم المتّبعين فياستجلاء معانيالنص،وعجزها عن إشباع فضول قارئ النص وتسكين قلقه، مستحضراً استشهادات هائلة لمفكرين وفلاسفة وعلماء اجتماع وعلماء لسانيات وعلماء سيميائيات، معاصرين وسابقين، على غرار؛ بول ريكور، امبرتو إيكو، والتر أونج، محمد عابد الجابري، ميشال دوبوا، هشام جعيط، رولان بارت، عبد الكريم سروش، جورج غادامر، كارين أرمسترنغ، جيل دولوز، ميشيل فوكو، جاك دريدا، وغيرهم.

 كما استحضر العديد من الكتابات الدينية الإسلامية لأسماء من قماشة محمد باقر الصدر، محمد حسين الطباطبائي، أبو القاسم الخوئي، جعفر سبحاني، ناصر مكارم الشيرازي، محمد مجتهد شبستري، مالك بن نبي، سيد قطب، حيدر حب الله، وغيرهم.

  ولكنه فيخضم البحث، بدلاً من حصوله على أجوبة واضحة لأسئلة محدّدة فإذا به ينتهي لصياغة أسئلة جديدة؛ عن أينص نتكلم؟ وما هو هذا الآتيمن الزمن البعيد؟ وكيف تشكّل وكيف وصلنا؟ كيف نتلقاه فيزماننا،وكيف تحصل عملية قراءته أو فهمه فيالزمن الحاضر؟. أيتحوّل السؤال من التدقيق حول ما قيل فيالنص إلى المواجهة المباشرة مع النص والتساؤل عن حقيقته والعلاقة التيتربطنا به أو تربطه بنا.

   يسلّط قانصوالضوء، في هذا الكتاب، على ما يعترضنا عند محاولة اجتراح فضاء حرّللتفكير حول النص  من إحاطة محكمة من التراث التفسيريالمؤطر تأطيراًمذهبياًخاصاً والذي ينزع إلى تقديم أجوبة واثقة ومفصّلة،عن كلّتساؤل مطروح أو محتمل،مدعّمة باستدلالات عقلية وحجج تاريخية واستنباطات دينية،ومبادئ تحدّد صلاحية وصحة تداول النص الدينيوالنظر فيه والتفكّر فيدلالاته. مايعنيأن تلقّيالنص الدينيخاضع داخل منظومة الوعيالدينيلنظم علاقات وأطر وعي،تشكل بمجموعها ملازمة لحقيقة النص ومسبقة ضرورية فيكلّفعل اقتراب منه،يحمل بعضها، بحسب الكاتب، صفة العقيدة الدينية التيتشرط الانتساب إلى الإسلام،ويحمل البعض الآخر أحكاماًسلوكية تحدّد شروط الاستقامة والنجاة.

  هذا التحصين المبرم لمقولات الفهم والتفكير فيالنص أدّى، وفق استنتاج الّمؤلف، إلى نقلها من صفة الإجراء التدبيريوالرعاية السياسية والتوافق الجماعيحول ترتيب خاص فيتدوين النص الدينيوجمعه وتصنيفه،ومن تشكيلات دلالية مقترحة وآليات استنباط مبتكرة،إلى بديهية من بديهيات النص الدينينفسه،وسبيلاًحصرياًللدخول فيمعانيه والكشف عن مقاصده وأحكامه،لتكون هذه النظم والأطر حاضرة فيكلّعملية احتكاك بالنص أو فعل استكشاف له،فتضبط الإيقاع الدلاليللنص وتحصر محتملات معانيه فيوجهة محدّدة،وتفرض على القارئ أو المفسّر خياراته وأدوات كشفه.

  يخرج قانصو بخلاصة مفادها أننا أمام نص دينيلايأتينا وحيداً،ولسنا أحراراًفيتلقيه كيفما نشاء،وليس ـأي النص ـ حراًفيإفاضة معانيه علينا،بليأتينا داخل: فضاء وعيورؤى كونية وشبكة بديهيات معرفية تشرط التفكير فيالنص وتوليد المعنى منه،وآداب وقواعد سلوك تشرط تداوله،ونظرة خاصة إلى التاريخ التأسيسيللإسلام (زمن النبيوالخلفاء الراشدين على وجه الخصوص)،ونظام علاقة خاص بين النص وشبكة المفسّرين الذين تلقوه وتصدّوا لفهمه.

    يعني هذا،أنّنا أمام فلسفة نص ديني،تقوم على معايير أخلاقية وأطر نظرية ومرتكزات معرفية،تجعل الشروع فيقراءة النص وفهمه،دخولاًفيعوالم المعنى والحقيقة والوجود والحياة التيوبقدر ما تدعونا إلى التعرّف إليها والإنصات لها،فإنّها تستثير فينا،بحكم السمة الإكراهية، فيأكثر تعاليمها،الرغبة فيتعرية بداهاتها والكشف عن قصر مداها،تمهيداًلبناء تجربة اتصال وتحاور جديدين مع النص الديني،لا تهدف فقط إلى استعادة عناصر تلقٍّ كانت مغيبة فيفهمه،واستحضار محتملات دلالية كانت مستبعدة،بل تهدف أيضاًإلى اكتشاف (أو خلق) عوالم جديدة من داخل النص الذيهو أيضاًاكتشاف وخلق جديد للذات القارئة.

  سعى قانصو إلى أن يكون البحث متركّزاّ على إعادة بناء مشهد تكوين النص وإعادة صياغة سيناريو فهمه وتأويله "لا لغرض القطيعة مع مقولات منظومة التفسير القائمة"،بل لغرض" إعادة الاعتبار لأصالة الحاضر فيبناء تجربة فهم جديدة للنص"تستجيب لإلحاحات وشروط الإنوجاد فيه،وتراعيالمقتضيات المنطقية والموضوعية لتلقّيالنص الدينيفيه. وهذا لايكون، برأي قانصو، إلاّبالانطلاق من إعادة تركيب للذاكرة المعرفية والدينية فيمجرى وعينا وفكرنا الراهنين،من خلال استحضار رصيد الخبرات التاريخية فيفهم النص الدينيوتفسيره،بالاستفادة من منجزاتها حيناً،وتفحّص كلياتها وبناءاتها والتدقيق فيصلاحياتها التاريخية حيناًآخر،ليتسنىلنا إيجاد حيز تأويليراهن قادر على التعامل مع مفارقة الالتقاء الجدلية بين أفق النص الدينيالقادم من زمن بعيد وأفق الحاضر الذيلايملك المفسّر أو المؤوّل إلاّالانتماء إليه.

   ثلاث محاور فرضت نفسها فيتقسيم كتاب وجيه قانصو،أولهايتعلّق بتشكّل النص الدينيفيفترة صدوره الأولى وفترة تدوينه وجمعه وتصنيفه،وثانيها استعادة السؤال الأوّل حول حقيقة النص الدينيوطبيعته وبنيته الداخلية وخاصية اللغة الخاصة التياستند إليها فيبناء عباراته وشبك جمله ومقاطعه،وثالثها: فحص آليات القراءة وتقنيات فهم النص المتبّعين والنظر فيإمكانية بناء مجال تأويليراهن.

   تعقّب المؤلف في المحورالأول، مراحل تشكل النص الأوّل،فيمرحلة صدوره عن الجهة العليا وصور تلقيه من النبيوالتفاعلات الحاصلة فيعملية التلقي،وفيمرحلة تدوين القرآن وجمعه وتوحيده،والكشف عن الشروط التاريخية التيحصلت فيها تلك العملية ومجمل الإجراءات والترتيبات والتقنيات التياعتمدت،بالإضافة إلى المتغيرات والتحوّلات التيلحقت بالنص القرآني،من كلام شفاهيموحى به إلى النبيإلى كلام مكتوب مدوّن ومحصور فيمصحف جامع.كما تابع فيهذا المحور،عملية تدوين السنّة النبوية ومراحل تدوينها وجملة الفاعليات والتجاذبات التيواكبت وأحاطت بها منذ ظهورها وحتى استقرارها على هيئة مدوّنات رسمية مجمع عليها. بالإضافة إلى النظر فيمفهوم الإجماع الذيتحوّل من ترتيب إجرائيوضروريللحمة الجماعة الدينية إلى نص دينييستدل به على ثبوت حكم أو تقرير موقف ديني،ليُنصَّب بذلك ركناًمن أركان المنظومة النصيّة المتقوّمة  بالقرآن والسنّة والإجماع.

  في المحور الثاني، بحث الكاتب فيطبيعة اللغة على وجه العموم،من أجل التعرّف إلى خصوصية اللغة التييعبّر بها الله عن نفسه ويكشف لنا عن ذاته ومشيئته من خلال كلماته. وبحث أيضاًفيطبيعة النص القرآنينفسه،وخصوصياته اللغوية،وتكويناته البنيوية،وتمايزاته الدلالية،ومكانته الوجودية،بالإضافة إلى مكامن وسرّ إعجازه. كذلك التعرّف إلى قوانين التطوّر الداخليللنص ومنطق التواصل والتوليد الحاصل بين آياته،ليتسنى لنا من خلال ذلك اكتشاف حركية النص ومفهوم الزمن فيه. كما عمد إلى إبراز خاصية التناص القرآنيالتيتؤكد أنّالنص القرآنيلميأت من لا شيء ولميكن نصاًمغلقاًأو منعزلاًعن سياق الدعوات الدينية التيسبقته وعن التجارب اللاحقة لها.

  في المحور الثالث، عمد المؤلف إلى عرض القواعد والمبادئ والشروط التي استقرّ عليها التراث الإسلاميفي فهم النص الديني عموماً، وتفسير القرآن بالخصوص،ثمّ تناول مبدأ التأويل،لجهة علاقته بالتفسير، والإشكالات المثارة حوله، ثمّ تعرّض إلى الآليات والمقاربات المتعدّدة التي اعتمدها علماء التفسير والفقه للوصول إلى دلالات النص،الظاهر منها والباطن،المتبادر منها والبعيد،المحكم منها والمتشابه، الكلي منها والجزئي، ثمّ عمد إلى استحضار العناصر الفاعلة والمؤثّرة في عملية قراءة النص الديني وفهمه والتي تمّ تغييبها في عملية التفسير التقليدية والتي منها: حضور النص، فاعلية القارئ كذات واعية،التفاعل بين النص والقارئ، حضور المتكلّم أو مؤلف النص، الأفق الاجتماعي والثقافي لعملية القراءة، الرقابة على عملية القراءة،التعارض بين أفق النص وأفق القارئ، وجدلية الفهم واللغة، كما أظهر المتغيّرات الأساسية فيتلقّي النص الديني، الحاصلة بين الزمانين: زمن التلقّيالأوّل للنص،وزمن التلقّيالراهن، فبيّن أثر هذه المتغيّرات على الخطاب الديني نفسه، وعلى أركان التواصل الحاصلة بين المتكلّم (أو المؤلف) وبين المتلقّي المعاصر للنص، وعلى عملية فهم النص الديني، وهو أثر أحدث تغيّراً حتمياً في تشكيلة النص الدلالية وشبكة معانيه.

  هدف وجيه قانصو من البحث فيهذه المحاور إلى معالجة جملة إشكالات تعانيمنها ممارسات فهم النص الدينيوتأويله،وهيإشكالات لا تتخذ طابعاًفنياًأو تقنياًبحتاً،بل تحيل بشكل مباشر إلى نظام العلاقة مع الله،ورؤية التاريخ،والوعيبالذات،والنظرة إلى العالم والآخر. هذه الإشكالات نذكرها تباعاً:

 ـ منظومة النص الديني:

 يرى قانصو أنه ترسّخ فيالإسلام مايمكن تسميته بالمنظومة النصيّة الدينية التيلا تقتصر على النص القرآني،بل تشمل ما دوّن عن النبيمن قول وفعل وما "أجمع" عليه المسلمون من فعل ورأيوإجراء. فلميعد النص الدينيبذلك مرجعاًموحّداًفيكتاب جامع ذيبنية منسجمة وإيقاع متناغم،بل أصبح عبارة عن منظومة نصيّة،تضمّفيداخلها سلسلة وثائق ومصنّفات ومرجعيات متفرّقة ومتباعدة،من قرآن وسنّة وإجماع،تمّتدوينها فيأزمنة مختلفة،وتختلف فيما بينها فيالهيئة والصياغة والمضامين الوظيفية والدلالة،ويختلف تعيين مصنّفاتها المعتمدة (ما عدا القرآن) باختلاف المذاهب الإسلامية،حيث تتناقض النصوص فيما بينها،فيالمغزى والدلالة،داخل مصنّفات مذهب معين،وتتناقض أيضاًمع النصوص داخل مصنّفات مذهب آخر،الأمر الذيفرض على علماء الإسلام،بناء منظومات فكر واستدلال لغرض توحيد وجهة المنظومة النصية وتحقيق التكامل بين محاورها المتعدّدة،من خلال إيجاد شبكة اتصال بين نصوص هذه المرجعيات،وتنسيق إيقاعها وتحقيق التناغم بين مؤدّياتها ومعانيها،ليتمّبذلك الانتقال بالنص من حضوره العفويوالمشتّت إلى حضوره المعقلن والمنظّم والمراقب الذيلايكتفيبحل التعارضات والإرباكات الحاصلة داخل النص،بليضفيعلى معانيالنص تماسكاًمنطقياًوقوّة حضور وحجّة عقليتين.

 ـ تشكّل الوثائق الدينية وطمس جانبها التاريخي:

   يعتبر الكاتب أن الاحتفاء الفائق بالنص الديني،القرآنيعلى وجه الخصوص،فيفترة لاحقة على تدوينه،وإعلاء شكله وترتيبه وألفاظه،أغلق بنحو واعٍومدبّر مجال البحث العلميحول ظروف وسياقات تكوين النص،وعزل النص،بطريقة مبرمجة ومسندة فكرياًوفقهياً،عن ملابسات تدوينه التاريخية والإجراءات السياسية والضغوط الاجتماعية التيأوصلته إلى صيغته وشكله المعهودين. ورغم أنّالنصوص الدينية،من قرآن وسنّة،قد وصلتنا عبر وسائط بشرية وبجملة إجراءات فنية وترتيبات سياسية وضغوط تضامنية،إلاّأنّالمسلمين، حسبما يكشف الباحث، راحوايخلطون كلياًبين النصوص الدائرة بين أيديهم من جهة وبين هيئة صدورها الأول من جهة أخرى ويطمسون الطابع التاريخيلتشكّل هذه النصوص سواء أكان فيلحظة صدورها الأوّل أو فترات تدوينها وتجميعها وتصنيفها وتبويبها.

  يشير قانصو، هنا، إلى أن المسلمين أخذوا يشحنون النصوص الدينية بالقداسة بواسطة عدد من الشعائر والطقوس،ويغلّفونها بسواتر سميكة من الدعم الفكريوالإسناد الاستدلالي،حتّىيمكن إهمال الجانب التاريخيالظرفيمن السياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية التيترسّخت فيها وعبرها هذه النصوص. هكذا صار الوعيالديني،وفق عملية تاريخية بطيئة من الانتقاءات والحذف،يتداول هذه النصوص كوثائق مطابقة لقول اللّه وقول الرسول،بعد أن تمّفصلها عن سياقات تشكّلها التاريخية والتحوّلات التيخضعت لها،سواء أكان ذلك فيمرحلة صدورها الأولى كوحيتلقاه النبيوتفاعل معه ثمّبلّغه إلى الناس،أو فيمراحل تدوينها وجمعها وتصنيفها التيتحقّقت داخل توجّهات ثقافية وترتيبات سياسية وعبر تفاعلات وعلاقات تضامنية وبمشاركة فاعليات اجتماعية.

 ـ خصوصية التعبير الدينيومحدودية اللغة:

 يرى المؤلف أنّ النص الديني جرى اختزال تعقيده اللغويوالأدبيوالدلالي،ولا سيّما النص القرآني،إلى نوع من البلاغة الإعجازية الموجّهة لإغناء المعنى الحرفيوالإبهار به. فتمّتسطيح الخطاب الدينيالمنفتح على التعدّد،واختزاله إلى مستوى الحرفية الظاهرية أو المفهومية الأحادية الجانب،الأمر الذيأدّى إلى أنيرهن الفقهاء التشريع بقيود العلاقة بين اللفظ والمعنى،وهيعلاقة، حسبما يستنتج المؤلف، محدودة مهمايكن من اتّساع لسان العرب. ذلك أنّاستثمار النص انطلاقاًمن اللفظ وطرق دلالته على المعنى،كان لا بد أنينتهيإلى استنفاد جميع الإمكانيات التيتتيحها اللغة وهيإمكانيات محدودة بحكم أنّاللغة المعتمدة هيلغة العرب قبل وقوع الاختلاط.

  على ضؤ ذلك، يرفض الكاتب اختزال اللغة الدينية إلى مجرّد لغة عادية كبقية اللغات،لأنّه لايمكن تفكيك شيفرة تلك اللغة،بالاعتماد الحصريعلى علم النحو العربيوعلم المفردات والبلاغة وعلم المعانيكما فعل الأصوليون،فطريق التعرّف إلى النص الدينيوفهمه ولا تختزل،بحسبغيرها رد،إلى "مجموعة قواعدكما أنّحيازة جميع المعلومات اللغوية والتاريخية حول النص الديني،على مايقول شلاير ماخر،لايكفيان على الإطلاق لفهمه،إذ ما تزال تنقصنا،رغم توفّر هذه المعلومات، الرؤى العميقة لذلك.

ـ فهم عملية الفهم واستعادة عناصرها المغيّبة:

 انهماك علم التفسير التقليدي فيوضع القواعد "الصحيحة" لفهم النص والكشف عن معناه، أدى وفق تصوّر المؤلف، إلىتجاهل واضح لعملية الفهم والقراءة،وميل إلى التقليل من أهميتها فيتحصيل معنى النص،وغياب وتغييب للعديد من عناصرها فيمبادئ التفسير المعتمدة والتيأهمها دور المفسّر أو القارئ فيعملية الفهم،الأفق الثقافيوالتاريخيلعملية التفسير.فالتفسير "الممدوح" وفق منهج التفسير المتّبع،يتطلّب تحييد الذات المفسِّرة،ويتجاهلها ككينونة تنتميإلى سياق تاريخيوأفق ثقافيخاصّين ومحمّلة بأسئلة وهواجس ورهانات ذاتية،فيكون التفسير بذلك، عملية آليةيتحكّم فيها مأثور السلف،وتضبط إيقاعها قواعد اللغة العربية اللازمنية،ليصبح المعنى الدينيلازماًمنطقياًوضرورياًلقواعد مقرّرة مسبقاًتفترض معنى "موضوعياً" أو "واقعياً" واحداًللنص،يجهد المفسّر أو المؤوّل أو المجتهد فيالكشف عنه. فلايعود المعنى الدينينتاجاًللتفاعل بين النص والمفسّر الذييستدعيبطبيعته تعدّداًوتنوّعاًفيالدلالة والمعنى،بليقتصر دور المفسّر على تلبّس دور ذيقواعد مقرّرة ومجمع عليها،لا مكان داخلها للشخصيأو الذاتيأو الزمنيأو النسبي،بل هو دور نوعييستدعيفهماًنوعياً (لا شخصياً) ومعنى نوعياًللنص،يتكرّر كلّما تكرّرت ممارسة دور التفسير وتكرّر تطبيق القواعد المناطة به.

ـ التجاذب بين أفق النص وأفق القارئ المعاصر:

 يكشف قانصو في سياق إلإشكاليات المتعدّدة التي يوردها، عن ارتكاز المفسّرين فيتفسيرهم،والفقهاء فياجتهادهم، على تماثل ووحدة شروط تلقّيالنص الدينيفيكلّالأزمنة،وعلى مطابقة وهمية بين الفهم المعاصر للنص الدينيوقصد النص نفسه. وذلك لغرض تعميم المعنى المفهوم أو الحكم المستنبط من النص الدينيلكلّالأزمنة والعصور،متجاهلين بذلك عقبة لايمكن القفز فوقها،وهيأنّالقارئ لايمكنه القفز فوق تقليده التاريخيالذيينتميإليه،ولايمكن أيضاًسلخ النص الدينيعن أفقه التاريخيالذينشأ فيهفهناك، وفق هذه المقولة، أفقان،أفق القارئ وأفق النص،لايمكن ألغاؤهما ولايمكن المطابقة بينهما،ولا نملك فيأحسن الأحوال،فيسياق عملية الفهم،سوى إظهارهما واستحضارهما فيالوعي،والعمل على التقريب وإحداث تسوية بينهما.

  فعلى الرغم من وحدة المادة المتلقاة عند المتلقّين الأوّل والمعاصر،لجهة الكلمات والحروف والجمل،إلاّأنّالنص، بحسب المؤلف، يعرض نفسه على كلّمنهما بطريقة وهيئة وشكل وتركيب وتقديم وتأخير مختلفة فيكلّمرّة،كما أنّ وضعية التلقّي التي تغيّرت كامل عناصرها ومقوّماتها بين المتلقّيالأوّل والمتلقّيالمعاصر، تفرض تغيّراً في الخطاب وبالتالي تعديلاً في الدلالة التي لا تنحصرتحقّقها بالرسالة اللفظية بل بكامل عناصر التواصل القائمة بين النص والمتلقّي. فالفارق بين المتلقّي الأول والمتلقّي المعاصر ليس اختلافاًفيالدرجة والمستوى،بل هو فارق فيالطبيعة،بحكم الاختلاف فيفضاءات التفكير بين الزمانين،حيثيرتكز كلّمنهما على مرجعيات مختلفة ورهانات معنى مغايرة ونمط فهم خاص بكلّمنهما للذات والعالم والوجود. مايستدعيحركة معنى وسياق دلاليوانطباعات نفسية متباينة بين واقعتيالتلقّيالأولى والمعاصرة. إنّها انطباعات تتماثل وتتشابه فيبعض أجزائها،إلاّأنّها تتباين فيمنطقها وطبيعتها وحركتها.

 ـ زمن التلقيالأوّل للنص وزمن تلقّيه الراهن:

 يلفت المؤلف إلى أنّ قراءة النص الدينيفيالحاضر،تستدعيالنظر فيالمتغيرات التيتفرض نفسها،بين زمن صدور النص وزمن تلقيه المعاصر،وهيمتغيّرات، حسب قانصو، ليست عارضة أو شكلية،بل تدخل فيصميم المعنى الظاهر للنص،وفيصميم نظامه الدلاليالذييولّد مدلوله. فيصبح فهم النص عند المؤلف، ليس مجرد بحث لغويفيطرق استعمال المفردات والجمل،وليس مجرّد فهم عرفيللقول،بل هو تفاعل بين عناصر عدّة،تمّتغييب أكثرها فيالتراث التفسيري،وحركة قلقة ومضطربة تتجدّد مع كلّقراءة جديدة وصراع بين أقطاب متعدّدة،ليس النص سوى واحد منها.

 يناقش قانصو في هذا الإطار، فكرة "النص الدينيلكل زمان ومكان"  فيستنتج أنها تدلّعلى أنّلدى النص الديني شيء جديديقوله فيكلّزمان ومكان،ولا تعني،كمايتم ممارسته،وجود استمرارية بنيوية وتماثلية معنوية ما بين الزمن الأوّليللنص وبين الزمن الراهن،حيثيتمّفيالوعيالدينيالحاليالانتقال بين الزمنين مع تغييب كامل للفوارق الجوهرية القائمة بينهما،ومن دون طرح أيتساؤل بخصوص شروط إمكانيةوصحة هكذا ممارسة.

 يساجل الباحث، أيضاً، مقولة "حلال محمد وحرامه إلىيوم القيامة" ، في أنها تستلزم القول بشمول الخطاب الدينيالمباشر لكلّالأزمنة أو أنّما حرّم أو حلّل فيالعصر الأوّل هو عين ما قديحلّل أويحرّم فيالعصورالأخرى، فيرى أنّالحرام أو الحلال من تبعات الخطاب الذيتتحدّد معالمه بعملية التلقّيالحاصلة للنص، وأنّ ذلك يتعرّض للتغيير مع تغيّر عناصر التلقّي. فالثابت، على ما يقول، هو قدرة النص على إثارة اهتمام المتلقين وعلى إقامة حالة اتصال حميمة أو مثيرة للجدل مع الأجيال المتعاقبة،من دون أنيستدعيذلك القول بوجود منظومة تشريع ثابتة ذات مضامين نهائية. فالخلاف هنا ليس مع الذينيقولون بصلاحية النص الدينيفيتوفير المعنى والدلالة من كلّالأزمنة،بل مع القائلين بثبات الخطاب المباشر الذيكان فيسياقه ومنطق إنشائه وصياغته اللغوية موجّهاًإلى مخاطبين خصوصيينينتمون إلى أفق تاريخيمحدّد وفضاء وعيوفهم خاص،قديتقاطع فيبعض تفاصيله مع مفردات جزئية فيواقعنا الراهن،لكنّه مغاير لأفقنا التاريخيومنطلقات الوعيالراهن حول الذات والعالم والوجود.

 يرى المؤلف أنّ  تجميد حركة المعنى فيالنص من خلال إلصاق معاني "ثابتة" لم تعد تعنيللإنسان المعاصر شيئاً،بل أصبحت مصدراًلإرباكاته وتأزّماته لأنّها تلغيفوارق الأزمنة وتطابق بين رهانات المعنى الخاصّة بكلّزمن فتضع الإنسان المعاصر أمام أزمة،فإمّا اختيار الإيمان ومصادرة كلّمايمليه العصر،وإمّا الاستجابة لمتطلبات العصر ورميالإيمان فيزاوية الحكايا القديمة،وهيمعضلة ما كنّا لنواجهها لو اكتفينا، بحسب المؤلف، بتثبيت النص من حيث هو وثيقة دينية مدوّنة لما نزل إلى النبي وما صدر عنه، وشاهد حيّعلى تجربة حضور الله فيالتاريخ،وقمنا بالمقابل بتحريك الخطاب الدينيالذييتولّد مع كلّعلاقة تلقّ جديدة للنص،ويميط بدوره اللثام عن معنى ودلالة راهنينيعكسان زمن الاحتكاك بالنص. ولكن ماحصل هو أنّنا،وبحكم الوهم بالمطابقة بين الأزمنة،طابقنا بين الخطاب المباشر للنص فيزمن التأسيس والخطاب الذييتواصل فيه النص فيزمان آخر.

 يتوقف قانصو عند التفكير الفقهي في تعاطيه مع النص الديني فيستنتج أنّ أحد مآزق هذا التفكيرهيالفصل بين الخطاب من جهة ووضعية التلقّيوأفق المتلقين من جهة أخرى،واعتبار هذه الوضعية عوامل عرضية على دلالة النص ومنطق الخطاب اللذين تمّحصرهما بلفظ النص وحده مع قطع النظر عمّنيتلقاه وطريقة تلقّيه،. عدم الفصل هذا بحسب قانصو، هو الذيأدّى إلى توحيد الخطاب لكلّالأزمنة وإلى التطابق بين ما قيل فيزمان خاص لجماعة محدّدة ومايمكن أنيقوله النص فيزماننا لزماننا،ليستقرّالوعيالدينيعلى القول بجوهرية وثبات وذاتية الأحكام الدينية وفصلها عن أياعتبار إنسانيووضع بشريوظرفيتاريخي. يقول الكاتب أنّ المنظومة الفقهية ظلّت قابعة فيالأفق الخاص بزمن الصدور الأوّل للنص،مرتكزة على مصادرة التساويبين المتلقين فيكلّالأزمنة وعرضية وضعية التلقّيفيدلالة الخطاب وحركة المعنى لتتمكّن من تمديد صلاحية القول المباشر فيزمن الصدور الأوّل إلى كلّالأزمنة الأخرى.

 يرفض صاحب كتاب "أئمة أهل البيت والسياسة" مقاربة "المقاصد" التيأشار إليها الشاطبي،وعمل بعض المعاصرين على استدعائها،لحلّمعضلة الجمود عند مجموعة أحكام دينية جزئية تابعة لزمن خاص،لإنّ هذه المقاربة،على ما يقول، لايمكنها القيام بمهمة الكشف عن راهنية النص،والعبور من الخطاب المباشر الأوّليإلى الخطاب المباشر فيالزمن الراهن. فالمقاصد، بحسب قانصو، أقرب إلى بناء كليات تبقى تابعة للفضاء الثقافيوالأفق التاريخيلتجربة الوحيوتجربة النبوة فيزمن التأسيس. فالتعاليبجزئيات التجربة والكشف عن معانيالتجربة الكليّة وغاياتها الكبرى فيذلك الزمن،لايكفيللقول براهنية هذه الغايات والمقاصد،ولايكفيلنقلها من زمن إلى آخر،أو سلخها عن أفق معنى وإلصاقها أو فرضها على أفق آخر،لأنّها تنتميإلى فضاء تفكير ومسلّمات إنسانية خاصّة ونظم علائقية أخرى،تبقى معبّرة عن روح تلك التجربة فيذلك الزمن وأفقها ومداها.

وكذا، يتوصل إلى عدم وجود مقاصد فيالمطلق،بل معانيكلية ووجوديةيستوحيها من النص أهل كلّزمن تبعاًلأفق تفكيرهم وفضاءاتهم الثقافية،والتيتقبل التغيّر بتغيّر أطر التفكير ومرتكزات الوعيفيكلّعصر.

 لايقرّ الكاتب الاستناد إلى الكشف عن" الثوابت اللاتاريخية" فيالنص الديني لبناء جسر عبور للنص من ماضيه التأسيسيإلى الزمن الراهن. فلعبة الثابت والمتحرّك، وفق ما يتصور الكاتب، هيمسألة نسبية،تحدّدها مرجعيات متحرّكة ومتقلبة،ومنطلقة من ذهنية قروسطية بجوهرية الحقائق والأوضاع الإنسانية وتعاليها على التاريخ والوضع الاجتماعيوالثقافي. فالدعوة إلى ثبات أطر ونظم العلاقات الإنسانية وسكونية العلاقة مع الله،هيمسعىغير معلن فينمذجة زمن التأسيس الدينيوتغلّبه على كلّالأزمنة اللاحقة بعد تهميش مستجداتها وتعطيل فاعليتها الخاصة.

  لا يختلف الموقف من "مدرسة علم الكلام" في تعاطيها مع النص. فعلم الكلام، وفق ما يرى قانصو، هدف إلى بناء أسوار ومحاجّات عقلية حول النص ومداليله اللغوية وملازماته العقلية،لتصبح بمثابة حاجز منهجيومانع معرفيفيالوصول إلى مناطق أكثر اتصالاًبالله وتواصلية معه،تواصلية حضور لا تواصلية انمحاء،وتواصلية انوجاد فيالعالم لا تواصلية خروج وهروب منه،وتواصلية باحثة عن كلمة الله الناطقة التيلا تتجمّد عند تعالي الله واحتجابه، والمبالغة فيرسم الفواصل المانعة من استكشافه والتكلّم معه. لقد أصبحت علوم الكلام،  والمنظومات العقيدية، على ما يقول قانصو، بمثابة موانع وحواجز أمام أيجهد فيبناء قناة ولغة اتصال جديدة مع الله،وأمام أيفعل استكشافيلحضور الله فيحياتنا المعاصرة.

 لا ينادي المؤلف بالقطيعة مع الإستنطاق الأول للنص، بل على العكس من ذلك، يرى أن الاستنطاق المعاصر للنصيستدعيالمرور بإيقاعاته الدلالية التيتعاقبت فيالتاريخ،والوقوف على الظلال التيألقاها فيالأزمنة المتلاحقة. فسياق الأزمنة التاريخي بحسب قانصو، ليس مجرّد تجاور بين قطع زمنية منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض،بل هو سلسلة انبثاقات وولادات مستمرّة ودائمة بين الأزمنة السابقة واللاحقة،يكون فيها الزمان الراهن ثمرة سيرورات وتحوّلات واستحالات لما سبقه من أزمنة،وليس مجرّد تحقّق دفعيوخروج مفاجئ إلى الوجود. مايعنيأنّراهنية النص أو تحرّره ليست فيالقطيعة مع تراكمات المعنى التيالتحقت به من الماضي،بل بالوقوف عليها باعتبارها خبرات سابقة للعبور إلى خبرة جديدة تحويمعنى ونسقاًدلالياًمختلفين،أيأنّراهنية النص لا تكون بالتغاضيعن ماضيه،بل بوضع حركة معانيه وسيرورات تلقيه داخل سياق تاريخيتتواصل جميع أجزائه وتتوالد من بعضها البعض ويكون تحرّر النص بمعنى أنّلديه دائماًشيئاًجديداًيقوله،وأنّكلّما قيل فيه وعنه هو أشكال تاريخية وتمظهرات بشرية متعدّدة،يبقى النص فيها قادراًعلى اختراق دوائرها وتصديع أسوارها،والخروج عن الصمت المطبق الذيتفرضه سلطة المعنى الثابت حوله،والتيتفرض أنيطابق قوله مع ما تقرّره مؤسسة التفسير الموكلة بتحديد معناه.

 لعل الرسالة الأساسية التي أراد وجيه قانصو توجيهها من خلال كل هذا الجهد البحثي تكمن في كشفه عن أنّ "كلّمايوجّهه النص مباشرة ليس موجّهاًبالأساس للمتلقين ما بعد زمن الوحي،وليسوا مشمولين ومندرجين ضمن المخاطبين الأوائل به" .فالمتلقّيالراهن وفق قانصو، لايتلقّى الوحيمباشرة بليتلقّى وثيقة مدوّنة عنه هيالمصحف، يضاف إليها مصنّفات روائية لأقوال النبيّوأفعاله. مايعنيأنّنا نتلقّى وثائق مدوّنة عن تجربة الوحيوالدعوة الدينية فيزمان خاص " ولايوجد أيّة وضعية تخاطب وتواصل مباشر بين تلك الوثائق والمتلقّيالمعاصر". وهذا على خلاف المتلقّيالأوّل الذيكان فيوضعية تواصل مباشر مع كلام الوحي كانت تستدعيبذاتها ردّفعل من المخاطب،بالرفض أو القبول أو الاستجابة،أو ردّمضاد من المرسل أو المتكلّم  كالاستنكار أو المدح أو التوضيح وهو ما لايمكن حصوله فيأيّزمن آخر.

  مايقوله لنا النص، إذن،  ليس عين ما قاله مباشرة، ولايتطابق مع خطابه المباشر الذيوجّهه إلى المتلقّين الأوائل. فهذاينتميإلى زمان آخر ولايمكن نقله إلى زماننا، على ما يقول الكاتب، إلاّبالاصطناع وسلطة الإيديولوجيا والضغط الاجتماعيوالإكراه السياسيوليس بفعل الاستكشاف الذيتحقّقه عملية القراءة الراهنة.

 إنّ التلقيالراهن للنص، بحسب المؤلف، لميعد قائماًعلى التخاطب المباشر أو التواصل الحي،فهذا منحصر بزمن الصدور الأوّل،بل أنّهنالك علاقة قائمة بين متلقّ أو قارئ جديد لميتوقّعه النص فيخطابه المباشر ويتوقّعه فيتكويناته العميقة،ونصيوثّق أحداث وتجربة وحيونبوة حصلت فيزمن تاريخيمعينيشعر القارئ أنّهغير مشمول فيخطابه المباشر وخارج دائرة الاتصال التيبناها النص وأسّسها. مايعنيطروء فجوة،لايمكن ردمها، بين الطرفين، النص والمتلقّيالمعاصر ، فجوةتحجب الاتصال والتفاعل المباشر بينهما،وتغيّب وضعية التخاطب المباشر وحالة الفعل وردّ الفعل التيكانت قائمة زمن التواصل الأوّل،الأمر الذييُعرّض النص للتلقّيالبارد أو اللامباليمن القارئ المعاصر لو خلّيونفسه من دون أيضغط ثقافيأو اجتماعي،ويجعل القارئ مربكا أمام حشد من  "الحقائق والتعليمات" لايدريماذايصنع بها وماذا تعنيله،لأنها بالأساس آتية إليه من بعيد وليست موجّهة إليه.

  على ضؤ ذلك، يطالب المؤلّف المتلقّين المعاصرين للنص الديني، بالعبور من توصيف وإدراك ملامح الخطاب الديني الذي كان موجّهاً لأشخاص معيّنين في زمان خاص إلى ما يمكن أن يقوله النص في زماننا، والاجتهاد في توقّّع ما يمكن ان يخاطبنا به الله من خلال النص. هذا الأمر بنظر المؤلّف، يشكّل تحدّياً كبيراً ليس فيالرجوع إلى الزمن الماضيوالمكوث فيه،فهذا خروج من تاريخ واصطناع لتاريخ آخر،بل فيجعل النصيعبر من ماضويته إلى حاضرنا عن طريق حفظ كلتا الفاعليتين: فاعلية النص فيماضويته وفاعلية الراهن فيحضوره. أي أنّ ما هو مطلوباً، بعد انقطاع الوحي، أن نوَلّد وحياًمعاصراًمن الوحيالذينزل فيزمن خاص،وأن نصوغخطاباًمباشراًلنا من النص الذينتلقاه باعتباره وثائق مدوّنة ومسجّلة لتجربة نبوّة ووحيحصلت فيالتاريخ.

 إنّه وفق نتائج الدراسة، الذهاب إلى النص وماضيه والعودة به إلى الحاضر والكشف عن حاضريته القابعة داخل ماضويته. إذ طالما أنّالنص الدينيلميكن موجّهاًإلينا بشكل مباشر فلايكفيالوقوف عندما قاله وعبّر عنه،فهذا من توابع الماضي،بل علينا،انطلاقاًممّا قاله لغيرنا،معرفة وتشخيص مايمكن أنيقوله لنا وبناء الحوار المفترض بيننا وبينه لو جاءنا بنفسه وقرّر أنيخوض معنا تجربة اتصال جديدة،ليكون الذييقوله لنا ليس بتكرار لما قاله أو إعادة إنتاج لما عناه بل هو خطاب إخر بعَنْي جديد.

 لا يتوقع قانصو من النص أنيحضر بنفسه أويقول وحده مايريد فهو آت من زمان بعيد ولايمكنه التكلّم أو النطق فيالحاضر إلاّباستنطاق واستثارة له من الحاضر،وباستحضاره من قبل القارئ المعاصر الذييخوض معه مغامرة الكشف والاكتشاف والتخمين والافتراض والبناء والتفكيك وإعادة البناء،فلايعود المعنى الجديد ثمرة كشف عمّا فيطيّات النص من دلالة بل هو نتيجة ظهور من النص وإظهار من القارئ،وثمرة كشف وإبداع معاً،يحميالكشف فيها النصّمن تعسّف القارئ،ويضمن الإبداع حضور القارئ ودوره فيحركة المعنى الراهن. علّنابهذه الطريقة، على ما يتصور المؤلف، نرفع حالة الاغتراب والغربة بين النص الدينيوالقارئ المعاصر ونضمن وضعية تفاعل بين طرفيالتلقّي. هذه الوضعية، كما يقول قانصو، تتحقّق فيداخلها عمليتان متزامنتان ومتّحدتان فيآن: عملية كشف النص عن معنى راهن وعملية اكتشاف الذات القارئة لذاتها وتحقيق أبعاد جديدة من وجودها.

 هي إذن، دعوة من المؤلف إلى إيجاد حيوية حوارية مع النص الدينيفيالزمن الراهن وبناء خطاب دينيمباشر لزماننا،لاينفك عن تصوّر الذات الإلهية التيتحاورنا وتوجّه خطاباًمباشراًلنا. فتصوّر الخطاب، بنظر المؤلف، لاينفكّ بحال عن المرسِل صاحب الخطاب الذييرمز النص الدينيإلى أشكال حضوره فيالتاريخ وينقل لنا مواقفه وتقويمه لأحداث التاريخ،وينقل لنا عباراته وأقواله داخل سياق تاريخيخاص. فالكشف عن الخطاب المباشر الذينبنيه من النص،هو أيضاًكشف عن الذات الإلهية المتكلّمة التييمكن أن تخاطبنا وتحاورنا وتوحيإلينا وتتحدّث إلينا ونتحدّث إليها. وهو كشف سيبقى فيدائرة التخمين والتقدير والتوقّّع لا فيدائرة الجزم واليقين والتملّك والحيازة. فالعلاقة مع الله، كانت وستبقى بين حدّيالغموض والوضوح،الظهور والخفاء،اليقين والشك،الظهور والاحتجاب،وهيالحدود الضرورية التيتبقيالله أكبر من أن تشمله معرفة ويحيط به تصوّر،وتجعله دائماًمحلاًللمفاجأة والانبهار. أي أنّ ما فهمنا أنّه مراد الله، هو ليس كلّمايريده الله،بل هنالك فائض معنىيفيض به النص،لكن الكشف عنه لايكون هذه المرّة بانتظار قدومه إلينا،بل علينا أن نذهب إليه ونكتشفه بعد رحلة شاقّة داخل المدوّنات التيوثّقت حضورالله التاريخيفيهذا العالم.

  نحن، بهذه المحاولة، على ما يقول المؤلّف، لا نتعرّف إلى خطاب دينيموجّه إلينا فقط،بل نتعرّف إلى ذات متكلّمة تخاطبنا ونتحسّس حضورها فيثنايا الخطاب والمعنى،نعيشها ونشعر أنّها تعرف ما بداخلنافلا نستدعيبذلك " تعليمات" بل نستحضر ذاتاًتخاطبنا،وذاتاًحيّة متكلّمة نتحاور معها ونشركها فيمشاكلنا وهمومنا،فلا تعود معرفتنا وعلاقتنا بالذات الإلهية تدور فيفلك الأوصاف المطلقة والمتعالية لله التيلايزيد تصوّرنا لها إلاّتعميقاًللفاصل والبُعد بيننا وبين الله،بل تتحرّك معرفتنا بالله داخل وضعية تواصلية وحوارية بين ذات إلهية متكلّمة وذوات حاضرة باحثة عن معنى لوجودها وواقعهامايجعل الذات الإلهية ذاتاًقريبةيمكن الوصول إليها والتحاور معها،فيكون علمها بكلّشيء وقدرتها على كلّشيء، لا أدلّة قوّة وتعال واحتجاب وضرورات خضوع وانسحاق أمامها وإقرار بالرّقية والعبودية لها، بل أدلّة حضور فاعل لها فيكلّالأزمنة،وإمكانية اتصال بها ومخاطبتها ومحاورتها والتكلّم معها،ومقدرتها على الاستجابة لنا وتلبيتنا فيمجرى سعينا لتحقيق إمكاناتنا كما فيالآية: {وإذا سألك عباديعنيفإنيقريب}

 "النص الديني في الإسلام من التفسير إلى التلقّي"  دراسة قيّمة جديرة بالقراءة والنقد والتحليل لما تحمله من مقاربات سجالية تتمرّد على السائد الفكري وتشتبك معه. ولكنها في الوقت عينهتمثّل إضاءة مهمّة لمشروع ترشيد المتلقّي المعاصر للنص الديني إلى كيفية القراءة الفعّالة والمثمرة للنص، وخارطة طريق لأطروحات مستقبلية، من أجلإحراز تحرّرين: تحرّر للقارئ من إكراهات المعنى وإلزامات المداولة التياعتمدها السلف فيتلقيّ النص الديني،وتحرّر للنص الدينيمن دلالات مقرّرة مسبقاً تفرض عليه مايجب قوله وتحجب عنه مايمكن أن يقوله.

 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً