أحدث المقالات

حيدر حبّ الله([1])

تحرير وتنظيم: الشيخ سعيد نورا

تمهيد في مقدّماتٍ ستّ

طُلب منّي أن أتكلّم حول الولاية العرفانيّة عند الإمام الخميني، ولكنّني سوف أستعرض الولاية العرفانيّة عند العرفاء عموماً، وأشير إلى آراء الإمام الخميني هنا وهناك في شيءٍ ربما يكون قد أضافه أو امتاز به، وإلا فسائر الأفكار التي سوف نطرحها، هي أمورٌ مشتركة بين العرفاء عادةً، والسيّد الخميني يؤمن بها مبدئيّاً.

قبل أن أبدأ بالحديث عن هذا الموضوع، يهمّني أن أتحدّث عن مجموعة من المقدّمات المختصرة ذات الصلة به، وهي:

أ ـ العرفان وضرورة اللغة الواضحة ورفع الالتباسات

سوف أتناول القضايا الأساسيّة لعرض فكرة «الولاية العرفانيّة» بشكل مختصرٍ جدّاً قدرَ المستطاع، وأحاول أن لا أدخل في التفاصيل؛ لأنّ طبيعة الموضوع تتضمّن شيئاً من التعقيد؛ ولذلك أحاول أن لا أتعرّض للأمور المعقّدة والتخصّصية، خاصّة وأنّ المصطلحات التي تداولها العرفاء فيها درجة من الغموض، وملتبسة بعض الشيء بالنسبة لمن لا يعرف مزاج تفكيرهم، وهي التي سبّبت للآخرين التباساً في الفهم والاستيعاب، ممّا أدّى في بعض الأحيان إلى وقائع مؤلمة كتكفير بعض العرفاء من قبل بعض الفقهاء و..؛ ولذلك من الضروري في الدراسات العرفانيّة، أو شرح مقولات العرفاء، أن نبسّط المفاهيم قدر الإمكان؛ لنرفع الالتباسات التي قد تحول دون فهم الأمور بطريقة أفضل، إذ العرفان بالإجمال العام يعاني من لغة هلاميّة وضبابيّة بعض الشيء، والسبب في ذلك ـ كما يقولون ـ يكمن في أنّ الموضوعات التي يتكلّمون عنها، هي موضوعات ـ إذا صحّ التعبير ـ ما فوق العقل الإنساني في مدار الزمان والمكان، فمن الصعب إسقاطها في اللغة، ولهذا يجد العارف صعوبةً بالغة لعرض أفكاره وشهوده من خلال اللغة العرفيّة المتأثرة بالظواهر الماديّة الزمكانيّة بل المندكّة فيها، وهذا ما يقرّ به علماء اللسانيات والهرمنوطيقا المعاصرون أيضاً؛ لأنّهم يقولون: إنّ اللغة البشريّة تتولّد من خلال مربّع الزمان والمكان، فالإنسان قد أنشأ اللغة من خلال الصور والمفاهيم التي كان يراها من حوله، فلذلك تكون تعابيره دوماً تعابيرَ زمانيّة ـ مكانيّة، فإذا أردنا أن نعبّر عن شيء غيبي من خلال هذه اللغة، فلابدّ لنا أن نعبّر عنها بطريقة زمنيّة أو مكانيّة، وهذا ما يبرّر كثرة المجاز في كلمات العرفاء، الأمر الذي قد يوجب التباساً في الفهم تارة وأخطاء فادحة أخرى، خاصّة لمن ليس له اُنس بكلماتهم، دون أن أقصد تنزيه جميع المتصوّفة والعرفاء عمّا اتهموا به.

وهذا ما نجده في القرآن أيضاً عند بيان أمور غيبيّة تتّصل بالمبدأ والمعاد، نحو قوله تعالى: ﴿وجَاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾ (الفجر: 22) فقد عبّر بـ«جاء» لتوصيف مشهد من مشاهد القيامة، ممّا يوحي بأنّ الله سبحانه، ينتقل من مكانٍ إلى آخر؛ لأنّ ذهن الإنسان محكومٌ بإطار الزمان والمكان، فعندما يُنشئ اللغة، ينشؤها في إطارٍ زمكاني، فإذا أراد أن يتكلّم عن الميتافيزيقيّات يجد صعوبةً بالغة، ولذلك يقول العرفاء: إنّنا عندما نتكلّم تلتبس مصطلحاتنا، فنُفهَم بطريقةٍ خاطئة، ونحن نعجز أن نبيّن؛ لأنّ المفاهيم التي نتحدّث عنها بعيدةٌ تمام البعد عن فضاء الزمان والمكان، ويحتاج الإنسان أن يتحرّر قليلاً عمّا اعتاد عليه، كي يفهم الأمور بطريقة متعالية عن هذا الثنائي.

من هنا، نجد العرفاء يتحدّثون عن شيءٍ يسمّونه ضيقَ الخناق، فيقولون: ليس بأيدينا مفردات وتعابير نستطيع أن نوصل بها ما نريد إلا هذه اللغة، وجزءٌ من المشقّة البالغة التي واجهها العرفاء عبر التاريخ، يكمن في هذه النقطة بالذات.

إذن، من الضروري، خاصّةً في عصرنا الحاضر الذي تطوّرت فيه أساليب التبسيط والتوضيح، أن يتمّ السعي لتحديث لغة العرفان، وإعادة إنتاج مفاهيم العرفاء بلغة عصريّة مبسّطة، إذ يساعد ذلك على الأقلّ في رفع الكثير من الالتباسات، كما يساعد على نشر الثقافة العرفانيّة.

من هنا، سوف نقوم بعرض مختصر جداً، نسعى فيه إلى رفع أكبر قدر ممكن من الالتباسات في موضوع بحثنا، حتى تصل الفكرة بطريقة مبسّطة؛ لأنّ أكثر الناس، عندما يسمعون مقولات العرفاء، غالباً ما يفهمونها بطريقة غير واضحة، وهم يظنّونها واضحة، لكنّ الحقيقة ليست كذلك.

ب ـ عرضٌ وتوضيح، وليس تبنّياً أو نقداً أو استدلالاً

نحن هنا في هذه البحوث، لن نقوم إلا بفعل التوصيف، وهذا يعني أنّنا محايدون، لا نتبنّى ما يقولونه ولا نرفض، فقط نريد استعراض أفكارهم، ونؤجّل الكلام عن صحّة كلامهم وأدلّتهم والمناقشات التي أوردها خصومهم عليهم، إلى وقت آخر؛ لأنّه بحثٌ طويل لسنا بصدده الآن، وإنّما نحاول عرض تصوّرات العرفاء حول ما يسمّونه الولاية العرفانيّة والإنسان الكامل.

ج ـ الجوانب الأربعة لموضوعة «الولاية»: العرفاني والفلسفي والنصّي والكلامي

إنّ البحث في موضوع الولاية له أربعة جوانب، ويجب أن ندقّق فيها حتى لا تلتبس علينا الصور، وهي:

الجانب الأوّل: الجانب العرفاني، وعادةً ما يبحث في العرفان النظري، فإنّ العرفاء يقومون بتجربة روحيّة، ويخوضون في عوالم أخرى غير هذا العالم الذي نحن نعيش ـ على الأقل حسب قولهم ـ وعندما يرجعون من التجربة الروحيّة هذه، يقومون بصياغة أفكارهم، وما لمسوه في هذه التجربة، فحقيقة العالم برمّته أمامهم، من أقصى النقطة فيه صعوداً، الله سبحانه وتعالى، إلى أدنى نقطة فيه، وهي عالم المادّة، ثمّ يأتون إلى هذا العالم، ليصفوا لنا تلك التجربة الروحيّة، وكأنّهم يرسمون لوحةً ضخمة عن العالم، بمراحله ومراتبه وعلاقاتها مع بعضها بعضاً، وتشابك هذه العلاقات، نحو علاقة المبدأ بالعالم، والمعاد، وعلاقة المعاد بالدنيا، مثل الرسّام الذي يرسم لوحة ظريفة مع إمعان في التفاصيل، وهي في الحقيقة حصيلة تصوّراته حول الوجود بأكمله، تلك التصوّرات التي اكتسبها من التجربة الروحيّة العميقة.

إذن، أوّل جانب يبحث فيه عن قضيّة الولاية، هو جانب العرفان النظري الذي يمثل في خلفيّته تجربةً روحيّة تكتشف العالم، ثمّ تصوغ نفسها فيما يسمّى بالعرفان النظري.

الجانب الثاني: الجانب الفلسفي، وفي هذا الجانب يقوم الفيلسوف باكتشاف خارطة عالم الوجود برمّته، بنفس الطريقة التي يتّبعها العارف، غاية الأمر يستفيد من عقله، مستخدماً البراهين والأدلّة، بينما العارف يستفيد من تجربته الروحيّة، وهذا يعني أنّ الفيلسوف يتناول أيضاً موضوع الولاية بوصفها جزءاً من نظام عالم الوجود، لكن من زاوية مختلفة وبأدوات مختلفة.

إذن، هناك زاوية عرفانيّة، يطلّ من خلالها العارف بتجربته الروحيّة على موضوع الولاية، أثناء قراءته للعالم وخارطته، وهناك جانب فلسفي يطلّ من خلاله الفيلسوف على العالم، ليرسم خارطته، ويبحث موضوع الولاية وموقعها في هذه الخارطة، مستعملاً العقل والبرهان والتحليل.

الجانب الثالث: الجانب النصّي/الديني، وهو أن نأتي إلى النصوص الدينيّة من كتاب الله والسنّة الشريفة، لندرس خارطة العالم، ونحدّد موقع الولاية في هذه الخارطة من خلال هذه النصوص الشريفة، وهنا علينا أن نقوم بجمع الآيات والروايات، ورصدها وتحليلها، لنخرج منها برسم خارطة الوجود، ونحدّد من خلالها، موقع الولاية ودورها ومكانتها في خارطة الوجود برمّته.

وعليه، فالباحث هنا، لا يستخدم التجربة الروحيّة، ولا التجربة العقليّة التحليليّة، وإنّما يستخدم مرجعيّة النص وسلطته.

الجانب الرابع: الجانب الكلامي، أقصد من هذا الجانب، البحث المعروف في علم الكلام في قضيّة «الإمامة»؛ لأنّ مسألة الإمامة ارتبطت تاريخيّاً، خصوصاً بعد ابن عربي، بمسألة «الإنسان الكامل»، فعندما ندرس في علم الكلام قضيّة الإمامة، فنحن بوصفنا متكلّمين، يمكن أن نعالج مسألة الولاية من زاوية الأدوات الكلاميّة التي يستعملها المتكلّم، في دراساته التاريخيّة، ومساهماته العقليّة، ومساهماته في تحليل النصوص، وما شابه ذلك.

إذن، ثمّة أربعة جوانب لدراسة موضوع الولاية:

بدورنا، لن نبحث هنا في الجانب الفلسفي، ولا الجانب النصي ولا الكلامي، بل إنّما نبحث في تصوّرات العرفاء حول قضيّة الولاية التي صاغوها في العرفان النظري انطلاقاً من تجاربهم الروحيّة. نعم قد نمرّ على فكرةٍ فلسفية، أو قضيّة كلامية، أو نكتة في رواية أو آية قرآنيّة، لكنّ هذا كلّه ليس إلا بالعَرَض، وإلا فمركز بحثنا هو عبارة عن مسألة الولاية من زاوية العرفاء ووجهة نظرهم.

د ـ تعريفٌ أوّليٌّ بسيط بـ «التجربة العرفانيّة»

لقد سمّينا هذا البحث بالولاية العرفانيّة والإنسان الكامل، لكن ما المقصود من العرفان هنا؟

يمكنني القول باختصار شديد: إنّ المدرسة العرفانيّة مدرسةٌ عالميّة، وليست مدرسة إسلاميّة كما نتصوّر أحياناً، فحتى الديانات الوضعيّة مثل البوذية عندها توجّه عرفاني بطريقتها الخاصّة، فهي تجربة إنسانيّة، مثل أي قضيّة فطريّة أخرى كالتفكير وإعمال العقل مما لا يمثل حكراً على المسلمين أو قضيّةً إسلاميّة، فإنّ الملحد والمتديّن كليهما يُعملان عقلهما، وكذلك إعمال التجربة الروحيّة في معرفة الأشياء، أمرٌ يمكن أن يتحقّق في كثير من الديانات، كما هي الحال عند المسيحيّة، حيث يحظون بمدرسة عرفانيّة كبيرة وعريقة، وكذلك عند اليهود مدرسة عرفانيّة، وكذلك نجد مدارس عرفانيّة متعددة في الديانة الإسلاميّة، بل الديانات الوضعيّة غير السماويّة أيضاً عندهم مدارس عرفانيّة. وفيما بين هؤلاء جميعاً نقاط اشتراك ونقاط اختلاف، فالمدرسة العرفانيّة مدرسة عالميّة، لكنّ المسلمين ـ من موقع إسلامهم ـ يعتقدون بأنّ التجربة العرفانيّة الإسلاميّة هي أرقى التجارب وأنظفها وأصحّها، كما يعتقدون بأنّ تجربتهم العقليّة في فهم الوجود هي الأفضل.

تقوم التجربة العرفانيّة ـ فيما تقوم ـ على أربعة عناصر:

أوّلاً: الاعتماد على التجربة الروحيّة العميقة بوصفها مصدراً معرفيّاً، وليست مجرّد أحاسيس ومشاعر وعواطف وانفعالات، فإنّ مجرّد الإحساس بحالة الخوف أو الرجاء أو الشكر، ليس هو العرفان كما يتصوّره بعضٌ، وإنّما هي حالات عادية توجد في كلّ إنسان، بل ثمّة شيءٌ أعمق في باطن الإنسان وفي باطن الوجود، يستطيع أن يصل إليه العارف عبر عمليّة روحيّة معنويّة، ليجد غير هذا الذي يتراءى لنا من الوجود، بواسطة إعمال الروح والقلب، وليس بواسطة إعمال التفكير.

إذن:

ثانياً: إنّ القلب والكشف والعلم الحضوري، هو المعيار والأداة التي يكتشف العارف من خلالها الحياةَ والوجود كما هما عليه، فالعارف لا يحصل على المعلومات والمعرفة الوجوديّة من خلال الدراسة والكتب أو التعلّم عند الأستاذ، وإنّما من خلال القلب والمعرفة الحضوريّة، فلا تأتي المعلومات كصورٍ عقليّة إلى ذهنه، بل يندكّ بنفسه في الأشياء التي يريد أن يكتشف حقيقتها، ويذوب فيها، وهي تذوب فيه، ليحصل له نوعٌ من العلاقة التي تختلف عن علاقتنا نحن مع الأشياء، حيث إنّ علاقتنا العاديّة مع الأشياء علاقة الصور التي تأتي من العين وتنتقل إلى الذهن، بينما العارف ليست علاقته بالأشياء علاقة الوسائط التي تنقل الصور إلى ذهنه، وإنّما هي علاقة روحيّة قلبيّة تعتمد العلم الحضوري، ليصبح هو وذاك الشيء كشيءٍ واحد، وليس المقصود من الاتّحاد هنا الوحدة الزمكانيّة، بل شيء أعمق من ذلك.

وهذا ما كان يسمّيه السيد حيدر الآملي، بالعلم الإرثي الإلهي مقابل العلم الرسمي الاكتسابي، فهذه العلوم السائدة هي عبارة عن علوم رسمّية اكتسابيّة أما هذه وراثة وإضاءة إلهيّة على روح الإنسان تجعله يكتسب المعارف، ويعتبرون هذا العلم علماً حقيقيّاً، أما سائر العلوم فهي عندهم أشبه بالعلوم المجازيّة قياساً بهذا العلم الحقيقي.

ثالثاً: تعتبر هذه المدرسة أنّ العلوم الكشفيّة الحضوريّة القائمة على القلب والتجربة الروحيّة، أهمّ وأعمق وأدقّ وأصوب وأرقى من العلوم التي نكتشفها بالتجربة أو الحس أو من خلال استكشاف النصوص أو البراهين العقليّة والمنطقيّة.

وهذا ما نجده في أكثر العلوم في التاريخ الإسلامي، فإنّ أصحابها يهزؤون بسائر العلوم ومناهجها، فالفقهاء يهزؤون بالمحدّثين، ويعتبرون أسلوبهم سطحيّاً، والمتكلّم يسخر من الفقيه إذ يعتبر نفسه أكثر عقلانيّةً منه، والفيلسوف يستهين بالمتكلّم ويقول: أنا برهاني وأنت جدلي، والعارف يقلّل من شأن الجميع، فكلّ واحد يعتبر أنّ تجربتَه أرقى من تجربة غيره وأعمق وأكثر إضاءة على الحقيقة وأكثر ملامسةً للواقع.

رابعاً: وهو عنصرٌ مهمّ جداً، وهو أنّ التجربة العرفانيّة لها بُعدان:

البعد الأوّل: الحالات الروحيّة التي تحصل للإنسان من خلالها، وهذا شيءٌ متّفق عليه، ولا يناقش فيه أحد، مثل الإخلاص والتفاني، وتساوي المدح والذم، والفناء في حبّ الله سبحانه وتعالى.

البعد الثاني: وهو معرفة الواقع، حيث إنّ العرفاء لا يقفون عند حدود الحالات الروحيّة، مثل القبض أو البسط أو البهجة أو السرور أو الحزن أو الخوف، فالقضيّة ليست مجرّد أحاسيس روحيّة، بل وراء هذه الأحاسيس الروحيّة يدّعي العارفُ معرفةَ الواقع، وهذا ما تتميّز به أكثر المدرسة الإسلاميّة عن أيّ مدرسة عرفانيّة أخرى، فإنّ العرفان الإسلامي كان ومايزال يدّعي أنه من خلال التجربة الروحيّة يكتشف حقائق العالم، بينما المشهور عند المدارس العرفانية المسيحيّة المتأخّرة، أنّ التجربة الروحيّة العرفانيّة هي مجرّد أحاسيس، لا تستطيع أن تثبت الواقع، بل الذي يثبت الواقع إنّما هو العقل. هذه نقطة امتياز أساسيّة بين أكثر التجارب العرفانيّة المسيحيّة المتأخّرة، والتجارب العرفانيّة الإسلاميّة.

إنّ العرفان المسيحي يرى أنّ العرفانَ هو التجارب الروحيّة، مثل الشعور بالعدميّة أمام الله، والشعور بأنّ كلّ شيء جميلٌ؛ لأنّه أتى من الله سبحانه وتعالى، أو الشعور بالقبض والبسط أو البهجة، أمّا العارف المسلم، خاصّةً فيما أسّسه ونحته ابن عربي، يرى أنّ هناك شيئاً أعمق وراء هذه الأحاسيس، وهو رؤية حقائق الأشياء، فالعرفان فيه جانب روحي إحساسي، وهناك جانب معرفي إيبستمولوجي يدّعي اكتشاف الحقائق، فيكتشف اللهَ والعالم والإنسان والحياة برمّتها، ومن هنا يتحدّث عن الولاية؛ لأنّها حقيقة من حقائق الوجود، ويحاول العارف أن يعرفها من خلال التجارب الروحيّة.

والخلاصة: سيكون بحثنا في الولاية العرفانيّة عند العرفاء بحثاً تبسيطيّاً توضيحيّاً أوّليّاً لاستجلاء الفكرة في بداياتها الأوليّة دون تأييد أو رفض، ولا علاقة لنا بدراسة قضية الولاية من زواياها الفلسفيّة والنصّيّة والكلاميّة، بل نقتصر فقط على المدرسة العرفانيّة، والتي تعبّر عن مدرسة عالمية لها في الفضاء الإسلامي أربعة معالم:

1 ـ إنّها تعتمد التجربة الروحيّة العميقة من خلال تهذيب النفس.

2 ـ إنّها تعتبر القلب والكشف والعلم الحضوري وسيلة للمعرفة والوصول إلى حقائق الأشياء.

3 ـ إنّها تعتبر المعرفة القلبيّة الشهوديّة أرقى من أيّ معرفة أخرى.

4 ـ إنّها تقول: إنّ تجربتنا مشاعر وأحاسيس، وفي الوقت عينه معرفة وكشف واستجلاء للحقيقة.

هـ ـ المصادر الأساسيّة للبحث

أذكر بعض أسماء الكتب الأساسيّة التي تعالج هذا الموضوع، وهذه الكتب من أهمّ الكتب العرفانيّة، بل تعتبر من الكتب الأصليّة، وهي مصادر أساسيّة لهذا البحث:

1 ـ «فصوص الحكم»، ولعلّه أهمّ كتاب عند علماء المسلمين في العرفان النظري، من تصنيف الشيخ محيي الدين ابن عربي (637هـ أو 638هـ)، وقد كُتبت عليه عشرات الشروحات، وكثير من الردود. ومن جملة الردود التي كتبت عليه: ردّ الشيخ ابن تيميّة الحراني (728هـ).

2 ـ «اصطلاحات الصوفيّة»، لعبد الرزّاق الكاشاني (730هـ أو 736هـ).

3 ـ «مصباح الهداية»، وهو الكتاب الذي طرح فيه الإمام الخميني (1989م) تصوّره لقضيّة الإنسان الكامل وفصّل فيه.

4 ـ «نقد النصوص في شرح نقش الفصوص»، لعبد الرحمن الجامي (898هـ)، أحد كبار العرفاء.

5 ـ «تفسير القرآن الكريم»، لصدر الدين الشيرازي (1050هـ).

6 ـ «الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة»، لصدر الدين الشيرازي (1050هـ).

7 ـ «أسرار الآيات» لصدر الدين الشيرازي (1050هـ).

8 ـ «رسالة في شرح الأسفار الأربعة»، للعارف محمد رضا قمشه‌اي (1306هـ)، وهو أحد العرفاء الذين أفتى بعضُ الفقهاء بكفرهم.

9 ـ «الرسائل»، للشيخ محيي الدين ابن عربي (637هـ أو 638هـ) .

10 ـ «الفتوحات المكّية»، لمحيي الدين ابن عربي (637هـ أو 638هـ) .

11 ـ «شرح الفصوص»، لمؤيّد الدين الجندي (700هـ).

12 ـ «جامع الأسرار ومنبع الأنوار»، للسيّد حيدر الآملي المتوفّى أواخر القرن الثامن الهجري.

13 ـ «مصباح الأنس»، لابن الفناري (834هـ).

14 ـ «تمهيد القواعد» لصائن الدين ابن تركة الإصفهاني(835هـ)، وهذا كتاب مشهور جداً، كُتبت عليه شروحٌ وتعليقات كثيرة.

15 ـ «المحيط الأعظم»، للسيد حيدر الآملي.

16 ـ «مفتاح غيب الجمع والوجود»، لصدر الدين محمد بن إسحاق القونوي (672هـ)، وهذا أوّل تلامذة ابن عربي.

17 ـ «الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل»، كتابٌ مهم، لعبد الكريم الجيلي (826هـ).

18 ـ «الإنسان الكامل»، جُمعت فيه مقولات عزيز الدين النسفي (686هـ)تحت هذا العنوان.

19 ـ «رسالة الولاية»، للعلامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي (1981م)، رسالة مختصرة أشار فيها إلى هذا الموضوع.

20 ـ «الإنسان الكامل»، للشيخ الشهيد مرتضى مطهري (1979م)، لم يفصّل في هذا الموضوع، وإنّما تناوله بإجمال عام، لكنّه بحثٌ مفيد.

و ـ التسلسل التاريخي لنظريّة الإنسان الكامل

أختم هنا بنظرة سريعة جدّاً حول التسلسل التاريخي لمسألة الإنسان الكامل عند العرفاء، فأوّل من استخدم مفردة «الإنسان الكامل» كان الشيخ محيي الدين ابن عربي (637هـ أو 638هـ) في القرن السابع الهجري، وبعده حظي هذا الموضوع بأهمّية كبيرة واهتمام عظيم، وطرحت قضيّة الحقيقة المحمديّة والتجلّي التام في رسول الله|. والعرفاء منذ ابن عربي يقولون بأنّ كلّ إنسان هو إنسان كاملٌ بالقوة.

بعد أن ذهب ابن عربي جاء جيل تلامذته وبدؤوا يحلّلون هذا الموضوع أكثر فأكثر، فجاء صدر الدين القونوي (672هـ)، وشرح هذا الموضوع في كتابه «مفتاح غيب الجمع والوجود»، ثمّ جاء ابن الفناري وشَرَحه بالتفصيل في كتابه «مصباح الأنس»، ثمّ أتى بعده عبدالكريم الجيلي، وشَرَحه في كتابه «الإنسان الكامل»، وجاء بعد هؤلاء عزيز الدين النَسَفي، وشرحه في «الإنسان الكامل»، وجاء الشيخ محمود الشبستري وساهم في هذا الموضوع، إلى أن جاء العلامة الطباطبائي في رسالة الولاية وغيرها، بعد صدر الدين الشيرازي، وجاء الإمام الخميني في كتابه «مصباح الهداية»، وغيرهم من العلماء الذين ساهموا في هذا الموضوع.

فبداية الرحلة كانت ـ تدويناً ـ مع ابن عربي، وصولاً إلى يومنا هذا، وما تزال القضيّة مثار جدل وكلام كثيرين، وبحسب تعبير الشيخ مرتضى المطهري: لم يُثْرِ أحدٌ بحث الإنسان الكامل كما أثراه العرفاء.

بعد هذا التمهيد بمقدّماته، نشرع بالحديث عن موضوعنا، والمحاور التي سوف نتحدّث عنها هنا هي:

المحور الأوّل: معنى الولاية في المدارس المختلفة وعند العرفاء

تعرّض علماء المسلمين لموضوع الولاية في ثلاثة علوم أساسيّة، هي:

أ ـ الفقه الإسلامي: ثمّة حضورٌ واسعٌ لمفهوم الولاية في الأبواب الفقهية المختلفة، مثل ولاية الأب على الأبناء، وولاية الفقيه على الأمّة، وولاية المرجع على الحقوق الشرعيّة، وولاية الفقيه على الأوقاف، وولاية القاضي على المتخاصمين، وما شابه ذلك.

ب ـ الكلام الإسلامي: جرى الحديث عن الولاية في هذا العلم، بمعنى الإمامة والخلافة، فإنّ المتكلّمين المسلمين بحثوا عن الأحداث التي وقعت بعد وفاة رسول الله|، هل جاء النص على أحد بعينه ليكون خليفة بعد الرسول|؟ هل قضيّة الإمامة والخلافة قضيّة دينيّة أو قضيّة بشريّة ترجع إلى أبناء الأمّة؟ فإذا كان هذا الأمر منصوصاً فمن الذي نصّ النبيُّ عليه ليكون خليفةً من بعده؟ وإن لم يكن منصوصاً فكيف يتمّ اختيار الخليفة؟ هل يتمّ من خلال شورى المهاجرين والأنصار أو هناك طريقة أخرى لاختياره؟ فالمتكلّم عادةً ما يبحث قضيّة الولاية بمعنى الإمامة والخلافة.

وهنا ظهرت مدارس أساسيّة أهمّها: مدرسة الإمامة (النصّ) ومدرسة الخلافة ومدرسة الشورى بشكلٍ عام.

يدرس المتكلّم في هذا البحث معنى الإمامة وضرورتها، وطرق إثباتها، وصفات الإمام من العصمة وغيرها، مستعيناً بملفّين أساسيّين:

  • العلوم التاريخيّة، ليعرف القضايا التاريخيّة، ويجمع المعطيات المتوفّرة في مختلف الكتب والوثائق التاريخيّة ممّا يساعده على معرفة الحقائق التي جرت في زمن النبي|، وما تلاه من أحداث.
  • علوم القرآن والحديث، ليعرف هل ثمّة نصّ في كتاب الله أو سنة نبيه‘ يُثبت الخليفة من بعده أو لا؟

إذن، اشتغل المتكلّم على موضوع الولاية بمعنى «الإمامة والخلافة»، واستعان بالعلوم التاريخيّة، وعلوم القرآن والتفسير وعلوم الحديث ونصوصه، مستخدماً البراهين العقليّة في بعض الموارد.

ج ـ العرفان الإسلامي: طرح العرفان الإسلامي مسألة الولاية بمعنى آخر، وبشكلٍ شديد الصلة بمسألة الإنسان الكامل، فثمّة ارتباطٌ وثيق بين فكرة «الولاية» في العرفان وفكرة «الإنسان الكامل». وموضوع الإنسان الكامل يحظى بأهمّية كبيرة في تراث العرفاء، حيث يُعدّ أهمّ موضوع في العرفان بعد التوحيد، وهذا أمرٌ متّفقٌ عليه بين العرفاء تقريباً.

عندما يتحدّث العرفاء عن «الولاية»، فهم لا يقصدون الولاية القانونية والاعتباريّة التي جُعلت لتنظيم شؤون الحياة، مثل ولاية الفقيه أو الوقف أو المسجد، فهذه الولاية من الاعتبارات القانونيّة التنظيميّة، والعارفُ بما هو عارف لا تعنيه هذه الاعتبارات، فهو لا يريد أن ينظّم حياة الناس اجتماعيّاً أو سياسيّاً أو ماليّاً أو إداريّاً عندما يبحث في الولاية.

وكذلك لا يبحث العارف في «الولاية» بوصفها حدثاً تاريخيّاً يتعلّق بقضيّة الخلافة، نعم، تلتقي فكرته مع هذه أو تلك، لكنّ هذا ليس بحثه.

بل الولاية عند العارف ظاهرة وجوديّة في العالم، يجب أن نكتشفها ونحلّلها ونفهم دورها في هذا الوجود برمّته، وهي بهذا المعنى ليست شأناً تنظيميّاً، أو مسألة تاريخيّة، وإنّما هي عبارة عن ظاهرة وجوديّة كونيّة أوسع من المادّة، وهي مهمّة للغاية؛ لأنّ بها عندهم قوام عالم الوجود برمّته فيما سوى الله، وهذا هو الذي سوف نتحدّث عنه.

فما هي الولاية العرفانيّة؟

يقول العرفاء: إنّ كلمة «الولي»، جاءت من قولنا: زيدٌ يلي عمرواً، أي زيد هو التالي لعمرو ويأتي وراءه مباشرة، فكأنّه ملتصقٌ به، فالولاية هي القرب، یقول الحمیري: «[وَلِيَ]: الوَلْيُ: القُرب. يقال: وَلِيَه فهو والٍ، و تباعدوا بعد وَلْيٍ. وجلس مما يليه: أي مما يقاربه»([2]).

وعليه، فإنّ الجذر اللغوي لكلمة «الولي» في تصوّر العرفاء، هو القرب، فالولي ليس بمعنى من له حقوق قانونيّة، بل الوليّ هو القريب من الله سبحانه وتعالى، والقرب ذو مراتب عدّة نظراً لموقع الشيء من المحور، ولذلك درجات الأولياء متفاوتة عندهم، بحسب اختلاف قربهم من الله، فالمقصود من درجات الأولياء هو نسبة قربهم منه سبحانه، فالأقرب أكثر ولاية والأبعد أقلّ ولاية، فهذا هو حجر الزاوية لمجمل تصوّرات العرفاء عن «الولاية»، فالولي عندهم يعني القريب من الله، وكلّما اقترب الإنسان من مركز الوجود ومصدر إشعاعه فهو أكثر ولاية.

عندما یتحدّث العارف عن التقرّب إلى الله، فهو لا يقصد القرب المادّي، وكذلك لا يعني منه مجرّد الشعور بالله سبحانه، بل القرب من الله عند العرفاء يعني القرب الحقيقي، وهو ظاهرة وجوديّة انطولوجيّة، تجعل الإنسان يقترب من مركز الوجود اقتراباً روحيّاً، فيسير في رحلته الباطنيّة إلى الله: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ وإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (النور: 42)([3]). نحن ابتعدنا عن الله، مثل الكرة التي تُقذف بعيداً، فإذا ربطتها بحبلٍ مطّاط وبدأت بقذفها فستعود إلى المركز الذي انطلقت منه، وعلينا أن نهيّأ أنفسنا للسفر إلى الله، والآخرة لیست إلا الرجوع إليه تعالى. والعارف الحقيقي سوف يصل للآخرة ورحلة الرجوع وهو ما يزال ـ مادّياً ـ في هذه الدنيا، ولذلك يقول الفيض الكاشاني: إنّما الدنيا والآخرة حالتان من حالات قلبك. نحن المساكين الذين ابتعدنا عن الله ولم نحاول السفر إليه، نعيش في هذه الدنيا الدنيّة، أما العارف فهو عندما یعبر الظواهر الماديّة للعالم ويقترب حقيقةً من الله تعالى، فهو يعبر الدنيا إلى الآخرة؛ لأنّ باطن الدنيا هو الآخرة، كما يقول العلامة الطباطبائي في «رسالة الولاية».

إنّ هذا هو ما استفاده بعضهم من الآيات القرآنيّة، حيث جاء فيها: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ (الروم: 7) فإنّها توصّف لنا حالة أكثر الناس، فهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وغافلون عن الآخرة، وبهذا تجعل الآيةُ الآخرةَ في مقابل الدنيا، فكأنّ الآخرة موجودة في هذه الدنيا، لكنّ أكثر الناس يغفلون عنها، أمّا العارف فبما أنّه اقترب من الله، أي إلى مركز وجوهر الوجود، اقتراباً حقيقیّاً، فهو في الحقيقة يعيش في الآخرة، وإن كان جسده المادّي في هذه الدنيا.

هذا هو معنى الوليّ في المفهوم العرفاني، أي القريب من الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى للقرب، نعم قد نجد في بعض عباراتهم في تعريف «الولي»: «من تتالت طاعته من غير معصية»، لكن في أغلب كلماتهم يعرّفون الوليَّ بالقريب من الله سبحانه وتعالى، بل ربّما كان المقصود ممن تتالت طاعته من غير معصيّة بيان لازمٍ من لوازم الولاية الحقيقيّة، أو سببٍ من أسبابها، فمن كان قريباً من الله قرباً حقيقياً فلا تظهر منه معصية له سبحانه.

العلاقة بين مفهومَي: «الولاية» و «الإنسان الكامل»

لکنّ السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي العلاقة بين الوليّ والإنسان الكامل؟ هل الوليّ هو الإنسان الكامل نفسه؟ إذا كانت الولاية مفهوماً تشكيكيّاً، فهل الإنسان الكامل أيضاً أمرٌ تشكيكيّ ذو مراتب؟

إنّ الولاية العرفانيّة بمعناها العام ـ القرب من الله سبحانه ـ ذات مراتب عدّة، ومن نقطة الصفر إلى مرحلة ما يسمّونه بـ(الإنسان الكامل) مئات الدرجات، وهذا ما قد يعبّر عنه بالولاية العرفانيّة بمعناها الخاصّ، فالعارف يجب أن يمشي في سلّم الصعود إلى الله، ويعبر ويقترب اقتراباً وجوديّاً حقيقيّاً تكوينيّاً إلى أن يصل إلى درجةٍ اسمُها الفناء في الله، هنا يصبح الوليَّ العرفاني بالمعنى الخاصّ، أي الإنسان الكامل، نعم في هذه الدرجة نفسها، أيضاً درجات عدّة، لكنّها بالنهاية درجة عالية، یصل فیها العارف إلى مقام الفناء فيه سبحانه.

الولاية العرفانيّة ومفهوم الفناء في الله

إنّ «الفناء في الله» هو حجر الزاوية في تعريف الولاية العرفانيّة والإنسان الكامل، لكنّه من المفاهيم الملتبسة والإشكاليّة في العرفان؛ إذ اعتُبر مادّةً نقدٍ خصبة من قبل المعارضين، فما هو المقصود من الفناء؟ هل يبدأ من الوجود وينتهي إلى العدم؟ وإذا کان المقصود الانعدام الحقيقي فهذا يتصادم مع كلام الفلاسفة، حيث يقولون: الوجود لا يُعدم، والمعدوم لا يعود.

هنا قال العرفاء: إنّ الفناء عندنا لا يعني العدميّة، فلا نقصد من فناء العبد في الله سبحانه، أنه انعدم وتلاشى ولم يعد موجوداً على صفحة الوجود.. هذا التعبير من ضيق الخناق، فما معنى الفناء؟

قالوا: إنّ الفناء يعني الغیاب عن النفس وعن رؤية عالم الكثرات، فالفاني في الله لا يرى شيئاً إلا الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الحديث وفق نقلهم له: «ما نظرت إلى شيء إلا ورأيت الله فيه وقبله وبعده».

هذا هو مقصود العرفاء من مقام الفناء، فعندما يصل العارف إلى تلك المرحلة لا يعود يشعر بذاته والأشياء التي من حوله، بل يفتح عينه ويرى الله فيها، فهو ينظر إلى الأشياء وكأنّه ينظر إلى مظاهر وجوده تبارك وتعالى، فعندما يرى ورقة شجرةٍ مثلاً فهو لا يرى إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه يرى الله متجلّياً في العالم بأكمله، فيراه في كلّ أجزاء الوجود، فهو فانٍ في الله، أي غائبٌ عن ذاته، وغائبٌ عن الخلق وعالم الكثرات؛ لأنّه يعيش في عالم الحقّ تعالى، وهو عالم الوحدة مقابل عالم الكثرة، فلم يعد يرى آلاف الأشياء، وإنّما يرى شيئاً واحداً وهو الله سبحانه وتعالى، وهذا معنى الفناء، أي فناءٌ عن بشريّته، وعن الكثرة، فلا ما يُرى غير الله، ولا ما يُحسّ أو يُستشعر، وإنّما يشعر دائماً به وحده تعالى.

من هنا، يعبّر العرفاء عن هذه المسيرة، بالسفر من الخلق إلى الحقّ، فالعارف يسافر بقلبه من الكثرة إلى الوحدة، أي الحقّ، وهذا ما يسمّى باصطلاح العرفاء بمرحلة المحو؛ لأنّ العارف يصل إلى مرحلة تتلاشى وتنمحي كلّ الأشياء من صفحة قلبه إلا الله سبحانه، فلا يشعر ويحسّ ويُدرك إلا الله سبحانه وتعالى، وكلّ ما يدركه من حوله يُدركه تجلّياً ومظهراً له تعالى، مثل المرآة فعندما ننظر فيها لا نرى نفس المرآة، بل نرى الشخص الواقف أمامها، هنا أيضاً يكون الشيء نفسه، فعندما يرى الواصل إلى مقام الفناء حجراً أو مدراً أو إنساناً أو نباتاً..، فهو يراه مثل المرآيا التي ينعكس فيها ظلّ الله ونوره سبحانه، وبهذا يكون العارف قد فرّ من الخلق إلى الحقّ، وهذا هو السفر الأوّل من الأسفار الأربعة التي يتحدّثون عنها.

إنّه شيء أشبه بالفيزيائي الذي إذا نظر للشجر والمدر والحجر فهو لا يرى فيه شجراً ولا مدراً ولا حجراً، بل هذه سلسلة من الأوهام عنده، وليس سوى ذرات وما هو أعمق منها، وحركتها وشبكة علاقاتها هي التي تُبدي لنا الشجر والحجر، فالعالم في جهازه الرؤيوي شيء آخر غير الذي نراه نحن بعيوننا البسيطة هذه، والحال كذلك عند العارف فهو يعبر ظواهر الوجود المتكثرة نحو عالم آخر يرى الظواهر هذه فيه شيئاً واحداً بالمعنى الحقيقي للإدراك، وليس إلا الله تعالى.

تبدأ هذه الرحلة من عالم الخلق والكثرات، ويصعد فيها العارف ليصل إلى مرحلة الفناء والمحو والتلاشي والذوبان وعدم الشعور إلا بالوحدة الحقيقيّة التامّة لله سبحانه، فيصبح وليّاً من أولياء الله بالمعنى العرفاني للكلمة، وكأنّه يرى العالم من موقع الله وعيونه؛ لأنّه قريب منه.

العناصر الخمسة لتجلية مفهوم «الفناء» عند العرفاء

إذن، ثمّة عناصر خمسة يجدر الالتفات إليها لتجلية مفهوم «الفناء» عند العرفاء:

أ ـ إنّ الفناء لا يعني الانعدام الوجودي للعبد، بل بالعكس هو حقيقة وجوديّة متعالية من وجهة نظرهم.

ب ـ إنّ الفناء يعني انعدام الجهة البشريّة في الإنسان، ولذلك قد يعبّرون عنه بـ«فناء البشرية وبقاء الألوهيّة»([4]). إنّ فهم هذا الفناء أمرٌ صعب جدّاً، هناك مثالٌ يذكرونه في نصوصهم القديمة لتوضيح هذه الفكرة يستعين بتحوّلات الإنسان في نشأته، فإنّ الإنسان كان تراباً جماداً، وخرج كنطفة، ثمّ تحوّل إلى مُضغة، ثمّ تحوّل إلى علقة، ليخرج إنساناً سويّاً إلى هذه الدنيا، فالإنسان بعد أن كان جامداً فهو يتحوّل إلى شيءٍ ينمو، فيصبح نباتاً بالاصطلاح الفلسفي، وهذه المرحلة هي مرحلة فناءٍ من جهة وبقاءٍ من جهة أخرى، حيث فنت جماديّته وظهرت نباتيّته، ثمّ ينمو في بطن أمّه ليصير حيواناً قبل أن تُنفخ فيه الروح الإنسانيّة، وهذه مرحلة فناء النباتيّة وبقاء الحيوانيّة، وبعد أن تُنفخ فيه الروح يصبح إنساناً ناطقاً، وهنا لا نستطيع أن نصفه بالجماد أو النبات أو الحيوان؛ إذ فنت تلك العناصر الثلاثة لتندكّ في الناطقيّة.

هكذا هي حال العارف عندما يصعد في رحلته إلى الله، تفنى بشريّته لا إنسانيّته، ليصبح إنساناً إلهيّاً، فهناك مرحلة أخرى لم نطوها عندما نأتي إلى الأرض، وإنّما وصلنا إلى مرحلة الناطقيّة، وجميع العناصر السابقة، أي العنصر الجمادي والنباتي والحيواني، موجودة إلى جانب العنصر الإنساني في الوقت نفسه؛ لأنّ العنصر الإنساني هو العنصر الأرقى، فيكون مهيمناً على العناصر التي تحته، وكذلك العارف عندما يذهب إلى الله تفنى بشريّته، لكن عندما نقول تفنى حيوانيّة الإنسان ليصبح إنساناً ليس بمعنى لا يأكل، لكنّ العنصر الأساس والمهيمن على وجوده هو العنصر الأعلى، وكذلك عندما نقول: يصل العارف إلى مرحلة الفناء ويتخلّق بأخلاق الله، ويذوب فيه سبحانه، فهذا ليس بمعنى أنّه لا يأكل أو لا يفكّر، بل بمعنى أنّ العنصر الأساس والمهيمن عليه هو التخلّق بالصفات الإلهيّة، فإنّه يبقى يعيش مع الناس، ويفكّر ويتأمّل، لكن ثمّة خاصية أضيفت إلى كينونته الوجوديّة، فأصبح متخلّقاً بالصفات الإلهيّة.

ج ـ إنّ الفناء يعني ذوبان العارف في الجهة الإلهيّة، واتصافه بصفاته سبحانه وتعالى، وهذا ما يفهمه العارف من الرواية التي تقول: «تخلّقوا بأخلاق الله»([5])؛ لأنّه صار مجرّد مرآة ينعكس فيها الله سبحانه وتعالى، بأسمائه وصفاته، وهذا ما يسمّى بفناء البشريّة وبقاء الألوهيّة.

د ـ إنّ الفناء هو هجران الصفات المذمومة والكثرات نحوَ الصفات المحمودة والوحدة، فالوحدة عنصر مهمّ جداً في فهم العرفاء للعالم بأجمعه، حيث يعتبر العارف أنّ العالم في الحقيقة شيءٌ واحد، وكلّ ما سواه إنّما هو صور لهذا الشيء الواحد، مثل الذي يدخل في مكان توجد فيه خمس مرايا، فيظنّ بأنّ هناك أشياء كثيرة حوله، ولكنّها ليست سوى انعكاسات وتجلّيات، مثل الأمواج الكثيرة في البحر، فإنّها ليست شيئاً غير البحر، لكنّه تمظهر بأمواجه، ومثل الماء الذي يأخذ أشكالاً مختلفة في ظروف وأوانٍ مختلفة، فهو ماء واحد لكن بظهورات متعدّدة.

هذه هي نظريّة التجلّي، فالعرفاء يعتقدون بأنّ هناك حقيقة وجوديّة واحدة هي الله سبحانه، ظهرت بمظاهر كثيرة، وهذه هي نظريّة وحدة الوجود بمعنى من المعاني. ثمّة اهتمام كبير عند عرفاء الأديان كلّها تقريباً بموضوع الوحدة، فتجدهم دوماً ميّالين لإرجاع كثرات العالم إلى أمرٍ واحد، معتقدين أنّ حقيقة الوجود هي الله الواحد الأحد، وأنّ ما تبقّى هو تجلّيات له سبحانه، فظهور العوالم المتعدّدة من أرقى العوالم إلى أدناها، وهو عالم المادّة الذي نعيش فيه، ليس إلا من تجلّياته سبحانه وتعالى.

هـ ـ إنّ الفناء عند العرفاء ولادة جديدة، يعود الإنسان فيها إلى الله مركز الوجود، ويرجع إلى الأصل الذي جاء منه، ويعيش في الآخرة.

ولعلّ أوّل من استخدم هذه المفردة وطرحها في التراث العرفاني هو ابن عربي. نعم، يعتقد عرفاء المسلمين أنّ هذه الفكرة موجودة في نصوص النبيّ‘ وأئمّة أهل البيت^، لكنّ أوّل من طرحها بوصفها نظريّة في العرفان ودافع عنها هو ابن عربي.

المحور الثاني: طرق أو سبل حصول الولاية

تحصل الولاية بمفهومها العرفاني من خلال طريقين ذكرهما أغلب العرفاء، منذ ابن عربي مروراً بالقيصري، وصولاً إلى المتأخّرين، وهما:

الطريق الأول: وهو الطريق الذي يحصل من دون جهد وعناء، بل يبدأ من الجذبة الإلهيّة، وينتهي عند الفناء في الله سبحانه، ولذلك يسمّونه بطريق المجذوب السالك.

الطريق الثاني: وهو الطريق الذي يسلكه العارف ليصل إلى مرحلة الجذبة الإلهيّة وينتهي عند الفناء في الله، ولذلك يسمّونه بطريق السالك المجذوب.

ثمّة سبع خصائص للطريق الأوّل، وسبع كذلك للثاني، ويتبيّن بها ما به الاشتراك وما به الافتراق.

الطريق الأول: المجذوب السالك والخصائص السبع

إنّ خصائص هذا الطريق من وجهة نظر العرفاء، هي:

1 ـ إنّه طريقٌ يحصل العبد فيه على القرب الحقيقي من الله، ويصل إلى مقام الفناء، ليصبح إنساناً إلهيّاً، ويحقّق حالة المحو، ليذوب في الله تعالى.

2 ـ لا يحصل هذا القرب بجهدٍ وعناء، بل هو قرب يحصل بجذبةٍ تسمّى بالتدلّي، ففي هذا الطريق لا يحتاج العارف للرياضات والمتاعب والعبادات، بل فيضٌ يأتيه من الله تعالى وتحصل له جذبةٌ روحيّة إلى الله سبحانه وتعالى، ليصل إلى مقام الفناء فيه، دون جهدٍ وعناء، كما يقول الله سبحانه وتعالى في ردّ الذين ينكرون نبوّة النبي الأعظم‘: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هٰذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً ورَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف: 31 ـ 32). فالله سبحانه وتعالى هو الذي يرفع أشخاصاً درجاتٍ من فضله، ولذلك تسمّى هذه العمليّة بالتدلّي، أي كأنّما الله سبحانه ينزل إليه ويأخذه.

3 ـ إنّ الوصول إلى الفناء، ونهاية السفر الأوّل من وجهة نظرهم، يمكن أن يحصل في لحظة واحدة حسب تعبيرهم. وهذه القضيّة لا تخصّ العرفاء المسلمين، بل قد تكلّم عنها بعض العرفاء غير المسلمين أيضاً، حيث نجد قصصاً عن بعضهم كانوا أناساً عاديين، لكنّهم تحوّلوا في لحظة معيّنة من أشهر العرفاء، مثل العارف المسيحي المشهور «رودلف أتو»، حيث يقول: كان يمشي في الطريق، وجلس في مكان معيّن، وفي لحظة واحدة حصل له تحوّل عظيم، وأصبح إنساناً عارفاً مع أنّه لم يكن في هذا من قبل، لا في العير ولا في النفير، وينقلون قصصاً كثيرة، تحدث فيها حالةٌ غير معلومة السبب تؤدّي إلى تحوّل الإنسان إلى إنسان آخر، فحسب تعبيرهم يمكن أن ينتهي سفرٌ كامل من الأسفار العقليّة الأربعة في لحظة واحدة.

4 ـ من هنا، سمّي هذا السفر بـ «المجذوب السالك»، حيث قدّموا كلمة المجذوب على السالك، ممّا يعني أنّ العارف أصبح مجذوباً، ومن ثمّ صار سالكاً إلى الله، وكذلك يسمّى هذا السفر بـ «السفر المحبوبيّ»، ونجد اسمه في كتب بعض العرفاء والمتصوّفة تحت عنوان «السير الحبّي». وتسمّى الولاية التي يحصل عليها الإنسان نتيجةَ هذا السير بـ «الولاية الوهبيّة»؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يهبه إيّاها، كما تسمّى أيضاً في اصطلاحاتهم بـ «الولاية العطائيّة».

5 ـ لماذا تحصل هذه الحالة؟ يعتقد الكثير من العرفاء عل الأقلّ، بأنّ هذه العلاقة بين العبد والولاية الإلهيّة، هي علاقة أزليّة تكوينيّة، وليست تراكميّة، منذ الأزل هناك ارتباطٌ تكويني بينه وبين الله، شيءٌ ما جمّد هذه العلاقة، ولكنّه جمود ينفكّ في لحظة معيّنة. وهذا مثل النبوّة، لا ندري لماذا اختار الله سبحانه وتعالى هؤلاء الأشخاص للنبوّة والرسالة؟ فهو في علمه اختارهم واصطفاهم على العالمين، وله أسراره وحكمته، لكنّه يرجع إلى ارتباط أزلي تكويني بينهم وبين الله، فهناك سرّ تكويني معيّن، يجعل هذا الشخص يحصل على هذه الجذبة بدون عناء، والله هو العالم بالعلّة والسبب والغاية.

6 ـ يعتبر هذا الطريق من سمات المعصومين أو الذين هم في رتبة المعصومين، سواء كانوا أنبياء أم أئمة أم غيرهم.

وسيأتي أنّ بعض العرفاء عنده إصرارٌ شديد على أنّه لا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك، وكثيراً ما يركّز على هذا الأمر الشيخ جوادي آملي، وكذلك ثمّة نصوص واضحة عند ابن عربي أيضاً، فلا فرق فيه بين الذكر والأنثى؛ لأنّ جوهر الإنسانيّة فيهما واحد.

وكذلك لا فرق في ذلك بين الصغير والكبير، وهم يفهمون قولَه تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً﴾ (مريم: 12)، في هذا السياق، ولذلك يمكن أن يكون الإمام إماماً وعمره سنة واحدة، أو أقلّ من عشر سنوات، كما هي حالة الإمام الجواد×، وقد روي في سمات الوصيّ عن أبي عبدالله الصادق×: «إنّ حميدة أخبرتني بشي‏ء ظنّت أنّي لا أعرفه، وكنت أعلم به منها». قلنا له: وما أخبرتك به؟ قال: «ذكرت أنّه لمّا سقط من الأحشاء سقط واضعاً يديه على الأرض، رافعاً رأسه إلى السماء، فأخبرتها أنّ ذلك أمارة رسول الله‘، والوصي إذا خرج‏ من‏ بطن‏ أمّه‏، أن تقع يداه على الأرض، ورأسه إلى السماء، ويقول: شهد الله أنّه لا إله إلا هو الآية، أعطاه الله العلم الأوّل، والعلم الآخر، واستحقّ زيادة الروح في ليلة القدر، وهو أعظم خلقاً من جبرئيل‏..»([6]).

إنّ العرفاء يفهمون مثل هذه النصوص في إطار الجذب السلوكي، فهي عنايات إلهيّة تتّصل بشكل من أشكال التدلّي.

والجدير بالذكر، أنّ هذا الطريق، وإن كان من سمات المعصومين^، لكنّه ليس من خصوصيّاتهم الحصريّة، فبإمكان غيرهم أيضاً أن يحصلوا على مثل هذه الجذبة الإلهيّة بتفضّلٍ منه تعالى.

7 ـ يتفق العرفاء تقريباً على أنّ هذا الطريق أفضل من الطريق الثاني؛ لأنّه ينبؤ عن العناية الإلهيّة الخاصّة، ولذلك يعبّرون عنه بحصول الولاية، لا تحصيل الولاية.

بهذا نكون قد تعرّفنا باختصار على الطريق الأوّل، هو طريق المجذوب السالك، الذي يتقدّم جذبه على سلوكه، وعرفنا أنّ له خصائص سبعاً تقدّم ذكرها.

الطريق الثاني: طريق السالك المجذوب، والخصائص السبع

هذا هو الطريق الذي يسلكه العارف لتحصل له الجذبة بعد السير والسلوك، وسوف نقوم هنا بتوصيف هذا الطريق عبر ذكر خصائصه، ثمّ نقوم بمقارنته بالطريق الأوّل بشكل بسيطٍ جداً؛ لكي نكتشف ما هي عناصر الاشتراك؟ وما هي عناصر الافتراق؟ لتصبح الصورة أوضح.

وأهمّ خصائص هذا الطريق هو الآتي:

1 ـ إنّ هذا الطريق الثاني، مثل الطريق الأوّل، يوصل العارفَ إلى مقام الفناء والمحو، ويحقّق له مقام الولاية والإنسان الكامل. وهذه نقطة اشتراك بين الطريقين. وكما قلنا سابقاً فإنّ مقام الولاية العرفانيّة ـ أي الإنسان الكامل ـ يتضمّن درجاتٍ متفاوتة، وهو لا يعني بالضرورة أنّ كلّ ولي يصبح نبيّاً أو إماماً.

2 ـ يحصل هذا القرب بعد المجاهدات البدنيّة والرياضات النفسيّة، وبعد طيّ الحجب الظلمانيّة والنورانيّة، ويحتاج للعبادات الكثيرة وتهذيب النفس وتطهيرها، خالصاً لله سبحانه وتاركاً الشهوات وحبّ الدنيا، فالعارف في هذا الطريق يعاني كثيراً، وربما يبقى كلّ عمره في إطار من المعاناة الرهيبة مع النفس والذات في جميع درجات الهبوط؟! ليحصل له في نهاية عمره مقام الفناء، ولذلك يسمّون هذا الطريق، بـ«الترقّي»، في مقابل الطريق الأوّل الذي كانوا يسمّونه بـ«التدلّي». وهذه نقطة افتراق بين الطريقين.

3 ـ إنّ الوصول للفناء في طريق السالك المجذوب يكون بطيئاً عادةً، ويحتاج إلى الجهد والمعاناة والمصائب، بينما الطريق الأوّل يكون سريعاً في العادة.

4 ـ يسمّى هذ ا الطريق بـ«السير المحبّي»، وتسمّى الولاية التي يحصل عليها العارف عبر هذا الطريق بـ«الولاية الكسبيّة»، أو «الولاية الاكتسابيّة»، فهنا يكتسب الولاية، وهناك يعطاها. وهذه نقطة افتراق أخرى بينهما.

5 ـ إنّ هذه الولاية ليست أزليّة تكوينيّة، وإنّما هي تراكميّة، إذ تتالى جهود كثيرة إلى أن تتكامل بالوصول إلى هذا المنصب الروحاني.

6 ـ لا يعدّ هذا الطريق من سمات المعصومين^، بل يستطيع كلّ إنسان أن يسلكه، ليصل إلى مقام الفناء في الله.

7 ـ إنّ هذا الطريق أقلّ فضلاً من الطريق السابق.

وبعد مقارنة بسيطة بين الطريقين نصل إلى أنّ هناك نقطة اشتراك واحدة، وهو أنّ كليهما يوصل إلى النتيجة نفسها، وهي الفناء في الله وتحقّق القرب منه، لكنّهما يختلفان في ست نقاط ويوضحها الرسم الآتي:

«نقاط الاختلاف بين الطريقين»

المحور الثالث: أنواع الولاية وأنماطها

نتحدّث في هذا المحور عن أنواع الولاية بحسب التقسيم المشهور عند العرفاء؛ إذ ثمّة تقسيمات كثيرة للولاية وأنماطها وأنواعها، طرحها ابن عربي، وتبعه الكثير من العرفاء فيها، فقسّموا الولاية إلى أقسام:

النوع الأوّل: الولاية الإلهيّة

تعني هذه الولاية أنّ الله سبحانه وتعالى، يتصدّى لعالم الوجود بأكمله، وليس بعيداً عنه أبداً، وهذه الولاية خاصّة به سبحانه، وتفيد هيمنته المطلقة، وقُربه المطلق من جميع مظاهر الوجود، فهو الذي يملك سلطنة مطلقة مهيمنة على العالم، سلطنة حقيقيّة لا يكتسبها من أحد، ولا تُعطى له أبداً، فولاية الله المطلقة، شاملة مستوعبة لكلّ الخلق، ولكلّ الوجود، هي ولاية إلهيّة حقيقيّة أزليّة، لا يوجد ما هو حقيقيٌّ أكثر منها؛ إذ تنبع من الذات الإلهيّة الأقدس، وهو الموجود في نفسه بذاته ولذاته، وكلّ ولاية أخرى إنّما تأتي وتنبع من هذه الولاية الإلهيّة.

إنّ السائد في ثقافتنا الشعبيّة وكذلك في ثقافة بعض المتكلّمين، أنّ الله سبحانه وتعالى خلق العالم وهو يديره بالوسائط، وبهذا يخيّل إلينا أنّ عمليّة إدارة العالم تكون عن بُعد، حيث يديره الله سبحانه من خلال الملائكة والجنود المجنّدة والقوى التي عنده، لكن في وعي العرفاء والفلاسفة ـ خاصّة الصدرائيين ـ تبدو القضيّة مختلفة تماماً؛ إذ الله عندهم موجود في كلّ شيء في العالم، وهذا ما يفسّرون به الرواية العلويّة المشهورة: «..فارق الأشياء لا على اختلاف الأماكن، ويكون فيها لا على وجه الممازجة..»([7])، فهو داخل الأشياء لكنّه لا يمتزج بها ومعها، وخارجٌ عنها لكنّه لا يفارقها، وهذا ما يبدو للوهلة الأولى أشبه بجمع المتناقضين، لكنّ العرفاء يعتبرونه من المفاهيم العميقة التي يقوم عليها وعي نوع العلاقة بين الله ومخلوقاته، فنمط علاقته سبحانه بهم ليس مثل علاقة الرئيس بموظّفيه، بل إنّه تعالى ليس بعيداً عن جميع مظاهر الوجود، فهو معها لا بممازجة حتى لا نُسقط من قيمته، وهو خارج عنها لا بمفارقة، وهذا هو المفهوم الذي قد يصعب استيعابه للإنسان، لكنّ العرفاء قالوا بأنّنا أدركناه وفهمناه بنظريّة التجلّي، وهي نظريّة مهمّة جداً في العرفان لا نخوض فيها الساعة، بل تحتاج لدراسة مستقلّة.

وتنقسم الولاية الإلهيّة التي تمتاز بالشموليّة والاستيعاب والحقّانية المطلقة، إلى قسمين:

1 ـ الولاية الإلهيّة العامّة: وهي هيمنة الله على العالم، وقُربه من جميع مظاهر الوجود بلا فرق بينها.

2 ـ الولاية الإلهيّة الخاصّة: وهي ولايته سبحانه للمؤمنين أو المتقّين على وجه الخصوص، وذلك أنّنا نلاحظ ـ بعد مراجعة النصوص القرآنيّة ـ أنّ ثمّة قرباً خاصّاً لله سبحانه من المؤمنين، كما ورد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وهٰذَا النَّبِيُّ والَّذِينَ آمَنُوا واللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 68)، وقوله سبحانه : ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ واللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾ (الجاثيّة: 19).

إنّ هذه الولاية تخصّ المؤمنين والمتّقين، مع أنّ ولاية الله عامّة تشمل الكافرين أيضاً، غير أنّ الولاية الخاصّة هذه فيها نحو عناية؛ لأنّ المؤمن بإيمانه يقترب من الله أكثر، وسنّة الله تقول: كلّما اقتربت منّي درجة، اقتربتُ منك أكثر، وهذا هو معنى التوبة، فإنّ التوبة في اللغة العربيّة لا تعني الندم، بل هي في جذرها اللغوي تعني الرجوع، فإذا تاب العبد يتوب الله عليه.

وهذا ما أكّد عليه القرآن الكريم في آيات عدّة، منها: ﴿فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: 39)، وقوله تبارك اسمه: ﴿وَمَنْ تَابَ وعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً﴾ (الفرقان: 71)، وقوله سبحانه: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ والْمُنَافِقَاتِ والْمُشْرِكِينَ والْمُشْرِكَاتِ ويَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ وكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (الأحزاب: 73)، وقوله عزّ من قائل: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ والَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 257)، وقوله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ (الأعراف: 176).

والمقصود من توبة الله رجوعه إلى العبد، فعندما يكون الإنسان عاصياً يُعرض الله بوجهه عنه، لكن بعد أن تاب إلى الله وأصلح، فإنّ الله سبحانه وتعالى يرجع إليه، بل يحنّ إليه، وهنا تظهر الولاية الخاصّة، أي ولاية المؤمنين والمتّقين.

النوع الثاني: الولاية الملائكيّة

يتحدّث العرفاء عن ولاية خاصّة للملائكة، وعندهم تقسيمات في ولايات الملائكة نتيجة قربهم من الله وهيمنتهم على العالم، لا نريد أن ندخل في تفاصيلها، لكن بالاختصار نجد ثلاثة أقسام للولاية الملائكيّة في ثنايا كتبهم:

أ ـ الولاية المهيمنة.

ب ـ الولاية المسخّرة.

ج ـ الولاية التدبيريّة.

النوع الثالث: الولاية الإنسانيّة

وقد تسمّى بالولاية البشريّة، وهذا هو محلّ البحث في موضوع الولاية العرفانيّة والإنسان الكامل.

تنقسم هذه الولاية إلى قسمين:

القسم الأوّل: الولاية العامّة

وهي ولاية تعمّ الناس أو المؤمنين جميعاً، وتنقسم بدورها إلى صنفين:

الصنف الأوّل: ولاية الناس على بعضهم، مثل ولاية الملك على الرعيّة.

ولا علاقة لنا بهذا النوع من الولايات هنا.

الصنف الثاني: ولاية عموم المؤمنين في علاقتهم بالله، وهي تعني أنّ المؤمنين عامّة قريبون منه سبحانه.

لقد قلنا في بحث الولاية الإلهيّة، إنّ ثمّة ولاية إلهيّة خاصّة بالمؤمنين، بمعنى العناية الخاصّة منه سبحانه بهم، بينما هذه الولاية هنا هي من طرف المؤمنين أنفسهم، فهي ولاية المؤمنين عبر قربهم هم من الله سبحانه، ولو بأدنى درجات القرب؛ فحيث إنّهم مؤمنون بالله فهم يحظون على الأقلّ بدرجة بسيطة من القرب، وهذه ولاية لا يحظى بها الكافر المطلق، إذ هي تنطلق من فعل الإيمان في المؤمن، حيث إنّه يتقرّب إلى الله بالتوحيد والرسالة، وبالإيمان بالملائكة والكتب السماويّة، وبعيش الخشية من الله ولو بالمستويات البسيطة الشعبيّة العادية.

من هنا، نرى القرآن الكريم ـ بحسب فهم العرفاء ـ يركّز من جهة على الولاية الإلهية الخاصّة بالمؤمنين، كما في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.. (البقرة: 257)، فيما يتحدّث من جهةٍ أخرى عن الولاية الإنسانيّة، حيث يصف بعضاً من المؤمنين بأنّهم أولياء الله: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (يونس: 62).

فالله وليّهم وهم أولياؤه، والمقصود من الولاية هنا هو القرب، فالله قريبٌ منهم بقربٍ العناية الخاصّة، وهم أيضاً قريبون منه بقرب الإيمان والتصديق والخشية والطاعة وغير ذلك، على تفاوت في درجات فعل الاقتراب الذي يمارسه العبد المؤمن.

القسم الثاني: الولاية الإنسانيّة الخاصّة

وهي ولاية إنسانيّة تخصّ بعض المؤمنين، وقد تسمّى بالولاية المطلقة، وهنا يظهر مقام الإنسان الكامل والولاية العرفانيّة. لكن ماذا تعني الولاية المطلقة؟

لكي يتّضح الأمر، لابدّ لنا في البداية من أن نتحدّث قليلاً عن تصوّر العرفاء لنظام العالم، لنرى المكانة الحقيقيّة للإنسان الكامل في هذه المنظومة، إذ الولاية العرفانيّة ومقام الإنسان الكامل ـ عند العرفاء ـ حقيقة تكوينيّة ترتبط بنظام العالم، وليست أمراً تشريفيّاً أو اعتباريّاً.

إنّ الله سبحانه وتعالى واقع في القمّة، فهو الحقيقة التكوينيّة الأزليّة المطلقة الواحدة في الوجود وبه قوام العالم، ثم مباشرةً بعد الله يوجد أمر تكوينيّ يسمّى بـ«الحقيقة المحمديّة»، وهذا أمر مهمّ جداً، فإنّ العلاقة بين الله والحقيقة المحمديّة علاقة تكوينيّة أزليّة، فالحقيقة المحمدية هي الواسطة بين الله سبحانه وتعالى وبين كلّ العوالم، أي عالم: المادّة، والمثال، والتجرّد التام والعقول، بل هي الواسطة بين الله وجميع الأنبياء والأوصياء^ من حيث المبدأ.

وثمّة درجات لهذه الحقيقة المحمديّة، فأعلى وأظهر وأشدّ وأرفع رتبة تحقّقت فيها الحقيقة المحمدية، هي تلك التي تجلّت وتشخّصت في شخص محمّد بن عبد الله‘، ومن بعدها تأتي مرتبة الأنبياء والأوصياء والعرفاء شرط أن يكونوا واصلين حسب تعبير عبد الرحمن الجامي. والعارفُ الواصل إلى الله هو الذي حصل له مقام الفناء فيه سبحانه.

هذه هي خارطة العالم ورُتب الوجود في وجهة نظر العرفاء، وهنا يمكن أن نسأل: إنّ الكلّ يعرف أنّ النبيّ محمداً‘، وُلد قبل حوالي ألف وخمسمائة عاماً، فما معنى أنّ الحقيقة المحمديّة أزليّة، وأنّ أكمل تجلّياتها كانت في رسول الله‘ وأن كلّ العالم متفرّع على هذه الحقيقة المحمديّة المتجلّية في شخص الرسول؟!

يقول العرفاء هنا في مقام الجواب: إنّ محمّداً‘ هو أوّل خلق الله، كما جاء في بعض الروايات عن جابر بن عبد الله، قال: قلت لرسول الله|: أوّل شي‏ء خلق الله تعالى ما هو؟ فقال: «نور نبيّك‏ يا جابر، خلقه الله ثمّ خلق منه كلّ خير»([8]).

هذه الرواية المشهورة المتداولة، تصرّح بأنّ رسول الله هو أوّل ما خلق الله، ويسمّونه «مقام الحباء»، فظهور الحقيقة المحمديّة في أجلى صورها كان في رسول الله، أمّا رسول الله‘ الذي نعرفه نحن فهو الوجود الناسوتي المادّي الدنيوي له.

وهذه الفكرة تشبه قليلاً، الفكرَ المسيحي في فهم النبيّ عيسى×؛ لأنّهم يقولون: إنّ عيسى× هو الله سبحانه بمعنى من المعاني، لكنّ عيسى الذي صُلب هو عيسى الناسوتي، لا أنّ الله قد صُلب، فالله لا يموت، وإنّما الذي صُلب هو هذا الجسم الناسوتي الدنيوي، وإنّما تجلّى في هذا الجسم الناسوتي لأجل أن يتّصل بالخلق، بنوعٍ آخر من الاتصال، ليحقّق الفداء ويخلّصهم من مهلكة الخطيئة الأولى، فهناك عيسى التاريخي الناسوتي وهناك عيسى الحقيقة المطلقة المتجلّية دوماً هنا وهناك، وهو الذي يحضر في مراسم العشاء الرباني دوماً وما شابه ذلك.

ثمّة اعتقاد في الفكر الإمامي، يدور حول أنّ رسول الله‘ والأئمة^ كلّهم من نور واحد، وقد يركّز بعض العرفاء الإماميّة على هذا الاعتقاد، ويعتبرون الكثرة التي نراهم عليها كثرةً ناسوتيّة، وإلا فهم في الجوهر حقيقة واحدة، من هنا يتمّ تفسير قوله تعالى في آية المباهلة: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61)، إذ اعتبار عليٍّ نفسَ الرسول ليس إلا بهذا المعنى.

وهذا ما مكّن العرفاءَ من تفسير أحاديث «الأنوار والأشباح» على طريقتهم، إذ ثمّة أحاديث تفيد بأنّ أنوار النبي‘ وأهل بيته^ كانت موجودة قبل الخلق، الأمر الذي قد يبدو فهمه ثقيلاً على الإنسان، لكن من وجهة نظر العرفاء لا إشكال في هذه النصوص، بل هي عين الحقيقة؛ فإنّ رسول الله‘ وأهل بيته^ كانوا قبل هذا العالم؛ لأنّهم المظهر الأتمّ للحقيقة المحمديّة، وهم الذين كانوا الواسطة بين الله والعالم، وهذا الذي وجدناه من أجسامهم ليس سوى ناسوتياتهم وظهوراتهم الماديّة في حياة البشر، فلا نخلطنّ ـ من وجهة نظر العرفاء ـ بين الوجود الأزلي التام للنبيّ‘ وبين الوجودات التي ظهرت في عالم المادّة.

والجدير بالذكر، أنّ العرفاء في بناء نظريّاتهم هذه، لا يبنون على العقل أو الآيات القرآنيّة أو الروايات، بل إنّما يبنون على الكشف والتجارب الروحيّة، ثمّ بعد ذلك تأتي الفلسفة لتبرهن فكرة الصادر الأول والعقول العشرة وأمثال ذلك، أو يستعينون بالآيات والروايات لتأييد أفكارهم هذه.

وقد يتساءل سائلٌ هنا: إذا كان المستند الأساس لهذه النظريّات هو الكشف والتجارب الروحيّة التي تعتبر من العلم الحضوري وهو أرقى مراتب العلم، فلماذا نجد اختلافات كثيرة في كلمات العرفاء أنفسهم في تقريرهم لهذه الأفكار؟

وقد يجاب: نعم، إنّ الكشف الحقيقي أمرٌ يقيني لا يشوبه ريبٌ عندهم، لكن قد يخيّل للعارف أنّه كشف فيما لا يكون كذلك في حقيقة الأمر. والأهم من ذلك عندهم هو التعبير الصحيح عن هذا الكشف، فإنّ الكشف ما دام لم ينتقل إلى مرحلة التعبير واللغة يبقى سالماً مصوناً، لكن عندما يريد العارف أن يعبّر عمّا رآه بالتعابير اللفظيّة والعرفيّة، فإنّه قد یعجز عن التعبیر الصحیح، وهذا ما يؤدّي إلى اختلاف تعابيرهم وكلماتهم في هذا المجال، وعندهم كلام طويل في هذا الموضوع، لا نخوض فيه الساعة.

أمّا نحن بوصفنا الذين ندرس هذه المسألة من الخارج، والذين لم نحصل على هذا الكشف، فإذا قامت على النتائج التي يدّعونها أدلّةٌ فلسفيّة أو نصّية فنحن نسلّم بها، وإلا فنقول بأنّها لم تثبت لنا، ولكنّنا لا نكذبها إن لم تكن معارضاً لبرهانٍ عقلي أو كتاب أو سنّة؛ لأنّه حينئذٍ من حقّنا أن نقول: هذا يعارض كتاب الله أو سنّة نبيّه‘، كما هو مقتضى الحال في جميع الخلافات.

إذن، الولاية المحمديّة أو الولاية المطلقة المحمديّة أو الحقيقة المتجلّية في رسول الله‘، وعند العرفاء الإماميّة في المعصومين الأربعة عشر^، هي المظهر الأتمّ لإسم الله الأعظم، وهي الجامع الأتمّ لصفات الله وأسمائه، ولذلك يسمّون النبيّ محمّداً‘ بالولي المطلق الحقيقي، ولهم تسميات أخرى لهذه القضايا، وقد يسمّون الولاية المحمّدية بـ«الولاية الخاصّة»، وقد يسمّون الولايات التي لغير محمّد بـ«الولايات المقيّدة». وهم يعتبرون أنّ الولاية المطلقة المحمديّة واسطة بين الله وبين سائر الأنبياء والأوصياء والعرفاء الواصلين، ثمّ بعد ذلك يأتي الخلق، والإنسان الكامل هو الحقيقة المحمديّة، سواء في رتبها العليا أم في التجلّيات الأدنى لها.

نحن هنا لا نتكلّم عن الرتب الاعتباريّة، بل نتكلّم عن حقائق وجوديّة، فهم يقولون بأنّ العالم خلق بتسلسل هذه الرتب، فالقوّة والطاقة الوجوديّة من الله، نزلت إلى الحقيقة المحمّدية برتبها، ومن الحقيقة المحمديّة برتبها الأتمّ، إلى رتبها الأنقص عند العرفاء وسائر الأنبياء^، ومنها نزلت إلى الخلق، فظَهَرَ العالم، وعندما يقول العارف بأنّ النبيّ محمّداً‘ هو سيّد الخلق، فهو يقصد من ذلك أنّه سيّد الخلق تكويناً لا تشريفاً أو اعتباراً فقط، ولذلك قال ابن عربي في كتابه فصوص الحكم بأنّ هذا ليس كلامي بل هو ما أعطانيه النبي‘.

فمفروض كلامه هذا، أنّ الله تجلّى في الحقيقة المحمديّة بشكلها الأتمّ في رسول الله‘ ورسول الله‘ منح هذا الفيض لابن عربي، ولذلك قيل بأنّهم كانوا يأتونه ويسألونه عن بعض عبارات كتاب «فصوص الحكم»؛ لأنّ كتابه غامضٌ جداً، وكان يجيبهم: لا أعرف، ممّا يعني أنّه لم يكن تهمّه الألفاظ، بل المهمّ هي الحقيقة الوجوديّة التي أدركها حسب قوله.

هذه بعض تصوّرات العرفاء لأنواع الولايات، وهو التقسيم المشهور بينهم، وإلا فهناك تقسيمات كثيرة يمكن أن نجدها في مطويّات كتبهم.

المحور الرابع: خصائص الولاية العرفانيّة أو (معالم الإنسان الكامل)

بعد أن تحدّثنا عن معنى الولاية وأقسامها، ننتقل إلى دراسة خصائص الولاية العرفانيّة ومعالمها، وسأذكرها على شكل نقاط محدّدة، ولو كان بينها بعض التداخل أو التكرار، وذلك بهدف التبسيط، حتى تصبح الصورة واضحة وجليّة ما أمكن، وهي:

أ ـ تحقّق مقام الفناء

إنّ الولاية العرفانيّة ولادةٌ جديدة ناتجة عن تحقّق السفر الأوّل، ووصول العارف إلى مقام الفناء في الله، وهذا يعني أنّ بداية الولاية هي نهاية السفر الروحاني الأوّل من الأسفار الأربعة.

ب ـ تحقّق المحو والذوبان في الله

ونتيجة الفناء في الله سبحانه وتعالى يتحقّق المحو والذوبان، فتفنى بشريّة العارف، ويندكّ ـ إذا صحّ التعبيرـ في الله الحقّ، فيتجلّى الله فيه، فيصبح مجرّد مرآة لا تظهر فيها إلا صورة الله، وتتجلّى فيه الأسماء والصفات الإلهيّة.

من هنا نجد في رسالة «منطق الطير» لفريد الدين العطّار النيسابوري (618هـ)([9]) حديثاً عن طيور كثيرة، تعلن أنّها تريد أن تسافر إلى ما وراء جبل «قاف»، ما وراء العالم، ويمرّون في سفرهم هذا على سبعة أودية، وكلّ وادٍ له إسم، وعندما يصلون إلى الوادي الأوّل تتخلّى مجموعة منهم، وفي المرحلة الثانيّة تتخلّى مجموعة أخرى، وفي الثالثة تتخلّى مجموعة ثالثة، إلى أن يصلوا إلى الوادي الأخير، وعندما يصلون إلى ما وراء جبل قاف، يبقى ثلاثون منهم فقط، ولذلك سمّاهم فريد الدين العطّار النيسابوري «سِيْمُرْغ» وهي كلمة فارسيّة تعني هنا: «ثلاثون طيراً»، وعندما وصلوا إلى ما وراء جبل قاف ليروا الله سبحانه وتعالى، لم يرو إلا أنفسهم، فاكتشفوا أنّ الله يتجلّى في أقرب نقطة في الإنسان الكامل.

هذه هي خلاصة الرسالة التي يريد إيصالها فريد الدين العطّار النيسابوري. إنّها قصّة خياليّة تحكي عن تجربة السير والسلوك بطريقة أدبيّة رائعة، وهي مليئة بالإشارات العرفانيّة التي تحتاج للتحليل العميق، فقد يبدو من ظاهرها ما يخالف السائد في تصوّراتنا عن المبدأ والمعاد، الأمر الذي أدّى إلى تكفير العرفاء من قِبل بعض الفقهاء.

ج ـ تحقّق مقام «الصحو»

نتيجة تجلّي الله سبحانه وتعالى في صفحة روح العبد، يكتسب المظاهر الربوبيّة، وتتجلّى فيه الأسماء والصفات الإلهيّة، وهذا ما يفسّر به العرفاءُ قولَه تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72)، فالأمانة في هذه الآية هي حمل الصفات والأسماء الإلهيّة بحسب تفسير العرفاء، وهنا يصحى هذا العارف بالله سبحانه، بعد أن ذاب عن نفسه، فيحصل على مقام الصحو، بعد أن كان قد حصل على مقام المحو، وعندما يصحى، يصبح وكأنّه الله في صورة الإنسان ـ إذا صحّ التعبير ـ واستخدام هذه التعابير ليس إلا من أجل ضيق الخناق، وهذا هو الذي سبب اتّهامهم بأنّهم يقولون بالاتّحاد والحلول.

د ـ الولاية العرفانية أمرٌ تشكيكي ذو مراتب

للولاية العرفانيّة والإنسان الكامل درجات كثيرة لا حدود لها، فمراتب الأولياء الإلهيّة لا حدود لها، وأعلاها رتبةً هي رتبة نبيّنا محمّد| وتحتها رتبٌ كثيرة إلى ما شاء الله.

هـ ـ إنحصار الولاية المطلقة في شخص رسول الله|

إنّ أعلى درجات الولاية العرفانيّة هي الولاية المطلقة المتفرّعة عن ولاية الله سبحانه وتعالى، والتي لا يحظى بها إلا شخص محمد| في أرقى درجاته.

و ـ إنحصار الطريق في الشهود الحضوري

لا يمكن الوصول إلى الولاية العرفانيّة إلا بالشهود الحضوري، أمّا التأمّلات العقليّة والحسابات الرياضيّة، والتجربة الحسيّة وغير ذلك، فلا يمكن الوصول بها إلى مقام الولاية العرفانيّة أو الإنسان الكامل. وإنّما العلم الحضوري، الذي يتضمّن الاتحاد مع الأشياء بنوع من أنواع الاتحاد، هو الذي يستطيع أن يوصل العارف إلى هذا المقام الرفيع، ولن يحصل هذا الإدراك الشهودي إلا بالقرب من الله سبحانه وتعالى، فكلّما اقتربنا منه تعالى، زاد إدراك سائر الأشياء بالعلم الحضوري؛ لأنّ الله تبارك وتعالى، هو جوهرة الأشياء ومركزها الأصيل، فهنا نقطة البداية ونقطة النهاية، فكلّما اقترب الإنسان من الله سبحانه وتعالى، سوف يدرك سائر الأشياء بالعلم الحضوري بهذا المعنى، حيث تشتدّ إلهاماته القدسيّة قدرَ قُرْبِهِ من الله، إلى أن يحصل له مقام الفناء والصحو.

ز ـ الخروج من الصفات الإنسانيّة إلى الصفات الإلهيّة

عندما نتصرّف نحن في العادة، نتصرّف انطلاقاً من صفاتنا الإنسانيّة، فمثلاً الإنسان الهادئ يتعامل مع الأشياء من موقع صفة الهدوء التي عنده، والإنسان الغضبان، عندما يتعامل مع الأشياء ينفعل، فهذا الانفعال الذي يحصل منه في لحظة زمنيّة معيّنة ناتجٌ عن مَلَكة وصِفَة موجودة عنده عميقة في ذات شخصيّته، وهي صفة الغضب، فمبدأ أفعال الإنسان هي الصفات والملكات التي يتمتّع بها، بوصفه إنساناً وبشراً.

لكنّ العرفاء يقولون: عندما يصل هذا العارف إلى مقام الفناء، وتموت البشريّة فيه بهذا المعنى، ويصبح مرآةً لتجلّي الحقّ سبحانه وتعالى، فإنّه يفعل أفعالاً إنسانيّةً، لكنّه إنّما ينطلق فيها من صفات الله سبحانه، بمعنى إنّه إذا عطف على الفقير، فبصفة «الرحيم» الإلهيّة هو يعطف، وليس بصفته الشخصيّة البشريّة؛ وإذا غضب على شخص، فإنّه يغضب عليه من خلال صفة «الغضب» الإلهيّة، وهذا هو معنى الحبّ في الله والبغض في الله من وجهة نظر العرفاء.

إذن في مقام الفناء، ومقام تحقّق الإنسان الكامل، كأنّما العبد يخرج من صفاته الإنسانيّة، ليصل إلى مرحلة أعلى، فيأخذ صفاتِ الألوهيّة، فتصبح الصفات الإلهيّة مبدأ أفعاله وسلوكه، بعد أن كانت صفاته الذاتيّة البشريّة الإنسانيّة مبدءاً لها، فلا يفعل شيئاً إلا بتوسّط صفةٍ إلهيّة، فلا ينطلق في عمليّة اتخاذ القرار من ذاته، بل كأنّما هو مجرّد مرآة تنعكس فيها القرارات الإلهيّة، فإذا لم يرد الله، لا يمكن للعارف مهما فعل أن يتخذها؛ لأنّه لا ينطلق في أفعاله من صفاته الذاتيّة، وإرادته ورغبته، وإنّما ينطلق من صفات الله سبحانه، ولذلك نجد في مصادرهم الأصليّة تعابير من نوع:

  • يصبح العارف الواصل مرآةً لتجلّي الحقّ.
  • يصير حقّاً (إلهاً) في صورة خلق.
  • يتجلّى الله في صورة الإنسان.

وبهذا يفسّرون الرواية المشهورة والمتداولة في كتبهم كثيراً: «إنّ الله خلق آدم على صورته»([10])، فآدم× الذي هو إنسانٌ كامل خلقه الله على صورته، فكأنّه هو الله، وتتجلّى فيه الصفات الإلهيّة، ويحصل له الوجود التنزّلي لله، ويحقّق مفهوم ظلّ الله، وهذه كلّها مفاهيم حقيقيّة من وجهة نظرهم.

هناك عبارة عن عبد الرزاق الكاشاني، يشرح فيها هذه الفكرة، حيث يقول بانّ قيام العبد بالحقّ عند الفناء عن نفسه وذلك بتولّي الحقّ إيّاه، حتى يبلغه مقام القرب والتمكين، قال تعالى: وهو يتولّى الصالحين.

إنّ هذه الفكرة نفسها مردَّدة بكثرة في كلمات صدر الدين الشيرازي وسائر العرفاء، وهذا هو معنى الحديث المشهور المعروف بحديث «قرب النوافل»، وهو الرواية النبويّة المشهورة المنقولة في الكافي([11]) عن حماد بن بشير، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: قال رسول الله|:‏ «قال الله عزّ وجلّ: من أهان لي وليّاً فقد أرصد لمحاربتي، وما تقرّب إليّ عبدٍ بشي‏ء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه، وإنّه ليتقرّب إليّ بالنافلة حتى‏ أحبّه‏، فإذا أحببته‏ كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما تردّدت عن شي‏ء أنا فاعله كتردّدي عن موت المؤمن يكره الموت وأكره مساءته»([12]).

ويحمل العرفاء هذه التعابير على التنزّل الوجودي لله، فالسالك عندما يصل إلى مرحلة التجلّي، يخرج من صدور أفعاله بصفاته الشخصيّة إلى صدورها منه بصفات الحقّ سبحانه.

وهذا لا يعني أنّ العارف لا توجد له إرادة واختيار، فيكون مجبوراً في أفعاله بمعنى من معاني الجبر، بل إنّه يريد ولكنّه إذا أراد، يريد الله سبحانه، فإنّه لا يريد شيئاً غير ما يريد الله، فتصدر الإرادات منه، لكن من موقع كونه قد تجلّى فيه الله سبحانه وتعالى.

قد يُتصوّر أن هذا المفهوم الذي تحدّث عنه العرفاء ليس إلا التثليث المسيحي الذي قد يكون موصوفاً بأنّه ضرب من الشرك، لكنّ الجدير بالذكر أنّ هناك جدلاً كثيراً في معنى التثليث عند المسيحيين، فهذا المفهوم نفسه قد تطوّر في الفكر المسيحي، والتثليث الذي يطرحه المسيحيون اليوم، يصرّون على أنّه توحيد، ولهم في ذلك كتابات كثيرة، ونحن مشكلتنا أنّنا قد لا نقرأ ما يقولونه، لذلك بعض الفقهاء ـ مثل العلامة السيّد محمّد حسين فضل الله (2010م) على ما في بالي ـ يقول: (كفرُ) المسيحين ليس بسبب الشرك، وإنّما بسبب إنكار النبوّة المحمديّة فقط، وهذا رأي مطروح اليوم بين الفقهاء، فيمكن أن نحمل تصوّراً معقولاً عن مفهوم التجلّي لينسجم مع التوحيد.

ح ـ الولاية العرفانيّة والولاية التكوينيّة

إنّ المعلم الثامن من معالم الإنسان الكامل، هو تحقّق الولاية التكوينيّة للعارف، فبعد أن وصل العارف إلى مقام التجلّي، ستصبح له ـ مثل الله سبحانه وتعالى ـ سلطنة على العالم؛ لأنّه قد تجلّت فيه جميع الصفات الإلهيّة، ومنها صفة السلطنة والولاية التكوينيّة على العالم، فيصبح للعارف أيضاً نحو سلطنة، لا بمزاجيّاته ورغباته الشخصيّة، بل بالله سبحانه وتعالى؛ لأنّ من أسماء الله سبحانه «الولي»([13])، وهو الآن بات متجلّياً في العارف.

والمقصود من الولاية هنا السلطنة التكوينيّة على العالم، فإنّ الإنسان الكامل أيضاً وليٌّ، فيملك السلطنة على العالم، وهذه السلطنة لها رتب، فأعلى رتبة هي رتبة الرسول|، وباقي العرفاء تكون لهم سلطنات بنسبة قربهم إلى الله سبحانه وتعالى، ووصولهم إلى مقام الولاية.

إنّ هذه السلطنة، أي الولاية التكوينيّة على العالم، هي نفس بحث الولاية التكوينيّة الذي يطرح في علم الكلام الإمامي، لذلك هناك تشابهات كثيرة بين العرفان والكلام الإمامي في هذه النقطة بالخصوص، وثمّة علماء ـ ومنهم السيد حيدر الآملي ـ لعبوا دوراً كبيراً في الربط بين العرفان والتشيّع، وحاولوا إعادة فهم النصوص الدينيّة بطريقة جديدة، تفتح علاقات وطيدة بين المعتقدات الشيعيّة والنظريّات العرفانية، ومنها مقام الولاية التكوينيّة للإمام في العقل الإمامي، ففسّروها على أنّ الإمام قد وصل إلى مرتبة الفناء في الله، بل إلى أعلى رُتبه، فقد حاز على أعلى رتبة من رتب تحقّق الصفات الإلهيّة ومنها صفة الولاية، فكما لله سبحانه السلطنة على العالم، كذلك يكون للإنسان الكامل ـ لاسيمّا بأعلى رُتبه ـ سلطنة على العالم، لكنّها ولايةٌ على العالم بالله، لا بالمزاج والميول الشخصيّة، وهذا هو تصويرهم لنظرية «الولاية التكوينيّة» التي أصبحت اليوم مثار جدلٍ كبير.

تتجلّى هذه السلطنة على العالم، تارةً في السلطنة التكوينيّة الخَلقيّة على مظاهر الوجود من الجبال والأنهار والعوالم الأخرى، وأخرى في السلطنة على نفوس العباد، وهذا ما فسّر به العرفاء تحقّق الجذبات الآنيّة عندهم، فهناك من يحاول كثيراً في سلوكه إلى الله، ويقوم برياضات كثيرة وهو لا يحصل على شيء، لكنّه في لحظة واحدة يحصل على حالة روحيّة عجيبة، ويصل إلى ما يريد، وهو ليس إلا من تأثير العارف الواصل على نفسه، فالذي يحصل في قلوب بعض الناس من الجذبات، يمكن أن يكون تحت تأثير سلطنة العارف الواصل ولو كان بعيداً جغرافيّاً؛ لأنّ هناك ولاية تكوينيّة للإنسان الكامل على النفوس، كما له ولاية تكوينيّة على سائر الأشياء ومظاهر الوجود.

ويسمّي العرفاء هذا المقام ـ كما سمّاه ابن عربي ـ بـ«مقام كُن»، وهي التسمية المستوحاة من مثل قوله تعالى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (البقرة: 117)؛ لأنّ العارف يصل إلى مرحلة التحكّم في العالم بحيث يستطيع أن يحقّق ما يريد تبعاً لمدى قربه منه تعالى.

وبهذا يفسّرون الحديث القدسي المتداول كثيراً عندهم: «عن الربّ العلي أنّه يقول: «عبدي‏ أطعني‏ اجعلك مثلي([14]) أنا حيّ لا أموت، اجعلك حيّاً لا تموت، أنا غنيّ لا أفتقر أجعلك غنياً لا تفتقر، أنا مهما أشأ يكن أجعلك مهما تشأ يكن». ومنه «أنّ لله عباداً أطاعوه فيما أراد فأطاعهم فيما أرادوا يقولون للشي‏ء كن فيكون»([15]) أي يصبح الإنسان المطيع لله مرآةً، تتجلّى فيها صورة الأسماء والصفات الإلهيّة، لكن بدرجة تنزليّة طبعاً، وإلا فهم لا يصلون إلى رتبة غيب الغيوب أبداً.

هذا هو مقام «كُن» ومقام «الولاية التكوينيّة»، وهذه خاصيّة مهمّة من وجهة نظر العرفاء، ولذلك يقول ابن عربي: لا يُمنح مقام «كُن» الذي هو مقام الولاية التكوينيّة، إلا للإنسان، فأيّ مخلوق غير الإنسان لا يمنح هذا المقام، لأنّه من مختصّات الإنسان.

وهذا هو معنى الحديث الآخر الذي يتداوله العرفاء والمتصوّفة كثيراً، والذي نقله وذكره أكثر من مرّة الإمامُ الخمينيّ، كما في كتابه: «مصباح الهداية»، وهو حديث قد يبدو ثقيلاً على سمعنا: «إنّ الله يُنزل إليهم كتاباً فيه: من الحيّ القيوم الذي لا يموت إلى الحيّ القيوم الذي لا يموت. أمّا بعد فإنّي أقول للشيء كن فيكون وقد جعلتك تقول للشي كن فيكون»([16])، وهي تعبيرات رمزيّة لها تفسيرات متنوعّة عندهم.

ط ـ الولاية العرفانية ونظريّة الواسطة في الفيض

أدخلت فكرة السلطنة على العالم العرفاءَ في فكرة أخرى، وربطتها بخاصيّة أخرى من معالم الإنسان الكامل، وهي أرفع أشكال الولاية التكوينية، عنيتُ مقام «الواسطة في الفيض»، فإنّ أوّل ما صدر من الله، هو الحقيقة المحمديّة، وأعلى رُتبها كانت في شخص رسول الله|، كما ورد في الحديث عن جابر بن عبد الله، قال: قلت لرسول الله|: أوّل شي‏ء خلق الله تعالى ما هو؟ فقال: «نور نبيّك‏ يا جابر، خلقه الله ثمّ خلق منه كلّ خير»([17]).

وهذا يعني أنّ الحقيقة المحمديّة المتجلّية في النبيّ محمّد|، هو الصادر الأوّل، وكلّ شيء يحصل في العالم يكون بواسطته، وهذا ما يسمّى بنظريّة «الواسطة في الفيض»، وهي معنى من معاني الولاية التكوينيّة، فإنّ كلّ شيءٍ يحصل في العالم، يكون بتوسّط هذا الوليّ، لذلك يعبّرون عنه بـ «قطب دائرة الإمكان»، «قطب العالم»، «مركز الطاقة»، «مركز الدائرة»، «كأس الوجود»، «قلب العالم النابض»، «محور الخلق»، فهذه التعابير كلّها موجودة عندهم.

وينتج عن ذلك أنّ هؤلاء وسائط الفيض في الدنيا وبعد الموت، وهم وسائط الفيض التكويني ووسائط الفيض الروحي أيضاً على الناس، في هداية الناس، إرائياً، أي يذكرون ويتكلّمون، وهدايتهم إيصالياً، أي يجذبون أرواحهم إلى الله سبحانه وتعالى.

هذه نتيجة أنطولوجيّة وجوديّة مهمّة جداً، تترتّب على فكرة الإنسان الكامل، لترسم لنا صورة جديدة عن العالم بأكمله، فالله تبارك وتعالى يقع في قمّة العالم، وبعده مباشرة تقع الحقيقة المحمّديّة وهي الواسطة في الفيض على جميع الخلق، ويعيش ما سوى الحقيقة المحمديّة بواسطة فيضها، بل وجود الخلق وهويّته منوطة بتلك الحقيقة، فهي الصادر الأوّل الذي يصدر منه باقي الخلق، وبهذا يفسّرون الروايات التي تتحدّث عن أنّه لولا الحجّة أو الإمام لساخت الأرض بأهلها([18])

إنّ هذه الصورة الجديدة التي رسموها للعالم، لم تكن مألوفة في الكثير من مدارس الكلام الإسلامي، والتي تعتقد بنحو من الأنحاء بدور الخالقيّة والربوبيّة للصادر الأوّل ولكن غير مستقلّ عن الله، ولذلك يقول ابن عربي: إنّ العالم جسمٌ روحه الإنسان الكامل، فالعالم من دون وجود الإنسان الكامل، جسمٌ بلا روح ولا حياة.

ي ـ عدم انقطاع الولاية العرفانيّة

من خصائص الولاية العرفانيّة أنّها لا تنقطع أبداً بتحوّلات العارف الواصل من عالمٍ إلى عالم آخر، كوفاته في عالم الدنيا وانتقاله لعالم الآخرة؛ إذ هي ليست شأناً بدنيّاً حتى إذا توفّي البدن، تنتهي آفاقها ومدياتها، فهي شأن متعلّق بالوجود الإلهي للعارف، الذي يتعالى عن المادّة، فإذا ذهب العارف الواصل من عالم إلى عالم آخر، لن تنقطع ولايته العرفانيّة، وإذا توفّي بالوفاة الدنيويّة فإنّ ولايته تستمرُّ لا انقطاع فيها.

وهذا مبدأ مهمّ جداً، وسيأتي أنّه أحد المبادئ الأساسيّة التي تميّز مفهوم الولاية عن مفهوم النبوّة عند العرفاء؛ لأنّ إسم الله (أي الولي) لا يزول، فتبقى الولاية العرفانيّة التي تعتبر تجلّياً لهذا الإسم الإلهي مستمرّةً، سواء كان العارف الواصل حيّاً بالمفهوم الدنيوي أم كان ميتاً بهذا المفهوم، فحياته بوصفه وليّاً ليست رهينةً بالدنيا، فإذا توفّي تبقى الأمور كما كانت عليها، ويبقى دوره التكويني في العالم، ويبقى واسطةً في الفيض، فلا تزول ولايته بالموت فضلاً عن النوم، ولذلك قالوا: إنّ باب الولاية مفتوح إلى ما شاء الله، وإلى أن يقدّر الله تغيير قوانينه في العالم..

ك ـ الولاية العرفانيّة والعصمة

لا يشترط في الولاية العرفانيّة العصمة، بل يمكن ـ عندهم ـ أن يصل شخصٌ إلى رتبةٍ من رُتب الإنسان الكامل، ولا يكون معصوماً، لكن من سمات المعصوم الولاية.

إذن: كلّ معصوم وليّ، وليس كلّ ولي معصوماً.

فيمكن أن يبلغ إنسانٌ عالمٌ تقيّ في رحلته هذه إلى مقام الفناء، ونتيجة ذلك حصوله على مقام الولاية العرفانيّة، دون أن يكون معصوماً بالمعنى الذي نعرفه عن نظريّة العصمة.

ل ـ ختم الولاية

ثمّة مفهوم آخر عند العرفاء يتّصل بتحديد معالم الولاية والإنسان الكامل، وهو «ختم الولاية» مثل ختم النبوّة، فكما أنّ رسول الله| خاتم الأنبياء، كذلك عند العرفاء شيءٌ إسمه خاتم الأولياء.

لكن ما الذي يقصدونه من ختم الولاية؟

هناك أكثر من تفسير لهذا المفهوم، لكنّ التفسير الذي يتبنّاه الكثير من العرفاء في ختم الولاية هو أنّه ليس المقصود الختم الزمنيّ، مثل ختم النبوة، حيث لن يأتي نبيّ بعد رسول الله| عبر الزمان، بل المقصود أنّ خاتم الأولياء محيط بتمام الولايات الأخرى، فهو ختمٌ من جهة الارتفاع الصعودي ـ إذا صحّ التعبير ـ فلن يكون هناك ولاية أعلى منها، وإنّما تكون له الولاية التامّة، فيكون خاتم الأولياء، فإذا تركنا رسول الله| وهو المرتبة التامّة للحقيقة المحمديّة، يقول بعضهم: إنّ خاتم الأولياء ـ وهو المحيط بسائر الأولياء ـ هو الإمام المهدي×، وبهذا لا يكون مفهوم ختم الولاية مفهوماً زمانيّاً، بل هو مفهوم رتبي.

م ـ الإنسان الكامل والعلّة الغائيّة لوجود العالم

إنّ الإنسان الكامل هو العلّة الغائيّة لعالم الوجود بأكمله، وهذا أحد المعالم الأساسيّة في مفهوم الولاية العرفانيّة عند العرفاء، حيث ورد في القرآن الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، وأعلى مرتبة من العبادة هي التي تتحقّق في الإنسان الكامل، فما خلقت الجنّ والإنسان إلا لعبادة هذا الإنسان، والنتيجة: وما خلقت الجنّ والإنس إلا للإنسان الكامل.

وهذا أحد معاني ما يقال في الثقافة العقائديّة في المذهب الإماميّ، من أنّ العالم خُلق لأجل أهل البيت^، وهي الفكرة عينها التي يعرفها العرفاء، فالعالم وُجِدَ وكانت غايته هو هذا الإنسان الكامل، الذي هو أعلى مظاهر العبوديّة لله سبحانه.

كما لاحظنا: إنّ مفاهيمنا السائدة في قضيّة الإمامة اليوم تلتقي كثيراً مع المفاهيم المتّصلة بقضيّة الولاية عند العرفاء، مثل مفهوم الولاية التكوينيّة، والواسطة في الفيض، وكون الوليّ هو العلّة الغائيّة للعالم ونحو ذلك.

ن ـ الإنسان الكامل هو روح العالم

ىقول الإمام الخميني: إنّ الإنسان الكامل هو ـ من جهةٍ ـ مظهرُ الأسماء والصفات الإلهيّة، وهو ـ من جهةٍ أخرى ـ مجتمع تمام مراتب الوجود، حيث اجتمعت فيه رتبة الوجود الجمادي والنباتي والحيواني والإنساني، وكذلك رتبة الوجود المادّي والخيالي والعقلي والإلهي ـ ما شئت فعبّر من رتب الوجود ـ فإنّ الإنسان الكامل، هو مثل الأعصاب والعمود الفقري للجسم، موجودٌ من الأعلى إلى الأسفل، فالأعصاب جاريةٌ من أسفل القدمين إلى أعلى نقطة من رأس الإنسان.

دعونا نتصوّر العوالم بأكملها وكأنّها عبارة عن جسمٍ كبير، وفي داخل هذا الجسم هناك جهاز التحكّم، وهو موجود في أعلى رتبة إلى أدنى رتبة من أجزاء هذا الجسم الكبير، ويسري فيه كالروح في تمام مراتب الوجود.

لذلك كان ابن عربي يقول بأنّ الإنسان الكامل هو روح العالم، فالعالم جسمٌ بلا روح، والإنسان الكامل هو روح هذا الجسم. والروح جارية في تمام شؤون الجسم، من رأسه إلى رجله، كيفما فهمنا علاقة الروح بالجسم، وهذا الإنسان الكامل هو بمثابة الروح السارية في جميع مراتب الوجود، بحسب درجات كماله وعلوّه إلى أن يصل إلى مرتبة التجلّي الأتمّ للحقيقة المحمديّة، أي شخص نبيّنا رسول الله‘.

س ـ الولاية العرفانيّة وفكرة الصادر الأوّل

تلتقي هذه النقطة مع مجموعة كبيرة من النظريّات الفلسفيّة التي طُرحت منذ زمن ابن سينا وقَبله، ولكي أقرّب الفكرة أشرحها على الشكل الآتي:

إنّ الله سبحانه وتعالى عندما أراد أن يظهر([19]) ويبدأ بالتجلّي([20])، كان لابدّ أن يكون أوّل تجلٍّ له بالحقيقة المحمديّة بأعلى رتبها، فأوّل شيء ظهر في العالم هو الحقيقة المحمديّة، ولذلك يسمّونها بالصادر الأوّل، وكان يسمّيها الفلاسفة قديماً بالعقل الأوّل أيضاً، وعنها تبدأ تصدر المرتبة الثانيّة والثالثة والرابعة والخامسة للوجود إلى أن نصل إلى المرتبة الدانيّة للوجود، وهي عالم المادّة الذي نعيش فيه.

هذه الصورة مهمّة جداً عند العرفاء، ففكرة الصادر الأوّل بمفهومهم، تعني التجلّي الأوّل لله سبحانه وتعالى، أي أوّل خروجٍ لله من مرحلة «العماء» إلى مرحلة «الظهور»، وهذا التجلّي الأوّل كان بشخص الصادر الأوّل، أي الحقيقة المحمديّة المتجلّية في الوجود اللاهوتي لرسول الله‘، وفي الثقافة الإماميّة متجلّية في رسول الله وسائر الأئمّة^، وهذا تفسير آخر لمعنى حديث الأنوار والأشباح.

ع ـ معيار الكمال عودُ الإنسان إلى أصله

ما هو معيار الكمال في الإنسان الكامل؟ هل الكمال بالقوّة الجسديّة؟ لا، هل بالقوة السياسيّة والسلطة والنفوذ؟ لا، هل بالكمال العقلي والقدرة الذهنيّة؟ لا، هل بالكمال النفسي والأخلاقيّات؟ لا.

إنّ معيار الكمال عند العرفاء يكمن في عود الإنسان إلى أصله، أي إلى الله سبحانه وتعالى، فكلّما اقترب من الله زاد كماله، وليس المعيار القدرة الذهنيّة أو النفسيّة و..؛ والسبب في ذلك واضح؛ فإنّنا فهمنا الولاية على أنّها بمعنى القرب، فعندما نصف شخصاً بالإنسان الكامل فهذا لن يكون بمعنى أنّه لا يمرض؛ إذ هذا ليس شيئاً مهمّاً، بل الكمال في عود روحه وجوهره الإنساني إلى أصله، أي إلى ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ (الحجر : 29).

هذا هو التصوير الذي يطرحه العرفاء لقضيّة الإنسان الكامل، حاولتُ تبسيطه وتفكيك بعض مفاهميه المتقاربة بل والمتداخلة، ويمكن من خلال هذه النقاط الستة عشر أن نستخرج لمحة عامة لتصوّر العرفاء للإنسان الكامل وأبرز معالمه:

المحور الخامس: بين الولاية والنبوّة

لقد تسبّب هذا الموضوع في وقوع جدل كبير ونقاش طويل، وكان أحدَ الأسباب التي اتُّهم من خلالها العرفاء بسلسلة من الاتّهامات، كما سوف نشير إلى شيءٍ من ذلك بإذن الله.

هناك فكرة مهمّة جداً متداولة بين العرفاء، وهي عندما نتكلّم بها في أوساط المذهب الإماميّ اليوم لا تبدو غريبةً، لكن عندما نتكلّم بها في أوساط سائر مذاهب المسلمين من غير الصوفيّة، فهي تبدو في العادة غريبة جداً.

هذه الفكرة هي أنّ العرفاء يميّزون بين النبوّة والولاية، معتبرين أنّ النبوة هي القِشر والظاهر، فيما الولاية هي اللبّ والباطن؛ ولذلك اشتهر في ثقافة العرفاء والمتصوّفة، أنّ الولاية باطن النبوّة، وأنّ النبوّة ظاهر الولاية، وهذا مبدأ مشهور جداً بينهم، وسنشرح معنى الباطن والظاهر لاحقاً إن شاء الله.

ثمّة تقسيمٌ آخر يذكره صدر المتألّهين الشيرازي، وهو أنّ الشريعة تمثّل الظاهر، وباطنها النبوّة، والنبوة ظاهرٌ باطنه الولاية.

للوهلة الأولى قد نتصوّر أنّ هذا المفهوم يهزّ الثقافة الدينيّة السائدة عامّة، ويُفهم على أنّه إهانة لمقام النبوّة، فكيف يمكن أن نقبل بأنّ النبوّة هي القشر، والولاية هي الباطن؟! هذا يعني أنّ العرفاء أولى من الأنبياء؛ لأنّهم وصلوا إلى مقام الولاية!

هذه القضيّة كانت أيضاً أحد الأسباب التي أدّت إلى اتّهام بعض الشيعة من قبل بعض أهل السنّة، حيث يقولون لهم: إنّكم تقولون بأنّ الإمام أهمّ من كلّ الأنبياء^، وهذا كلامٌ مخالف للقرآن الكريم. وثمّة أجوبة كثيرة على هذه الدعوى لا نخوض فيها الساعة.

على أية حال، هذا شعارٌ أساسيّ عند العرفاء، وهو بتعبير السيد حيدر الآملي: «الرسالة قشرٌ، لبّه النبوّة، دهنه الولاية»، أي العصارة هي الولاية، واللبّ هو النبوة، بينما الرسالة تمثّل القشر، مثل التعبير الآخر الذي يستخدمه صدر الدين الشيرازي معتبراً فيه أنّ الشريعة ظاهر وباطنها النبوّة.

إنّ قصة إبراهيم× كانت بمثابة مستند أساس لكثير من العرفاء لتفسير كيف أنّ الولاية أهمّ من النبوّة، حيث تحصل بعد حصول النبوّة؟ فإذا تتبّعنا قضيّة النبي إبراهيم× في القرآن الكريم، فسنجد أنّه كان نبيّاً، ومشى في درب النبوّة، وخاض تجربته العصيبة في الحياة، ثمّ بعد أن ابتُلي بكلمات الله وأتمّها.. هناك بعد هذا كلّه حصل على مقام الإمامة: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 124). أي أنّه بعد مروره بمقام النبوّة وصل إلى رتبة الولاية، وهذا يدلّ في ثقافة العرفاء على أنّ الولاية مقامٌ أعلى وأرقى من مقام النبوّة، ويؤكّد فكرةَ أنّ الولاية لبٌّ، وأنّ النبوّة ظاهر.

لكنّ هذا كلّه لا يعني أنّ العرفاء بأجمعهم أولى من الأنبياء كلّهم؛ لأنّ الأنبياء^ كلّهم يملكون الولاية العرفانيّة أيضاً مع اختلافهم في مراتبها، كما قلنا سابقاً حيث شرحنا أنّ الأنبياء يصلون إلى مقام الولاية بطريقة المجذوب السالك، وهي أعلى ـ نوعاً ـ من طريقة السالك المجذوب، فأولوية الولاية على النبوّة، لا تعني بالضرورة ـ وفي الواقع الخارجي والعيني والتاريخي ـ أولويّةَ العارف على النبيّ؛ لأنّ النبي أيضاً يحظى بالولاية.

كما لا ينافي ذلك عندهم قضيّة النبيّ إبراهيم×، حيث قلنا بأنّه حصل على مقام الإمامة (أي الولاية العرفانيّة)؛ لأنّ الإمامة هي مرتبة الولاية التامّة، فإنّ إبراهيم× كان يملك الولاية العرفانيّة منذ أن كان نبيّاً، لكنّ الولاية ذات رُتب كثيرة كما قلنا سابقاً، وقد نال النبيّ إبراهيم مرتبة الولاية التامّة بعد عبوره عن النبوّة والولاية التي هي أقلّ منها رتبةً.

وهذا يعني أنّ الولاية ذات مراتب كثيرة، وفي بعضها تجتمع مع النبوّة، وفي بعض مراتبها العليا تكون أرقى منها، فلا يقصدون من أنّ الولاية أرقى من النبوّة، أنّ العرفاء بأجمعهم أولى من الأنبياء^، بل يقصدون أولوية مقام الولاية على مقام النبوّة بما هو مقام، وإلا فإنّ الأنبياء بأجمعهم يحظون بمقام الولاية، غاية الأمر أنّ رتب الولاية لا تنتهي عند النبوّة، بل قد تتعدّاها لتصل إلى مرحلة أعلى منها.

وثمّة تفسير آخر رديف لهذا المنطق التفسيري عند العرفاء، وهو يرى أنّ معنى كون الولاية أولى من مقام النبوّة، هو أنّ النبيَّ إنّما يصير نبيّاً بالولاية التي كانت عنده من قَبل، فالولاية هي العلّة، والعلّة خيرٌ من المعلول، لكنّ الولاية ذات رتب كثيرة، فقد تستمرّ صعوداً لتعطيه ما هو أعلى من النبوّة، أي مقام الولاية التامّة. هذه هي تصوّراتهم عن هذا الموضوع.

من هنا، نجد العرفاء ربطوا قضيّة الولاية بقضيّة النبوة؛ وأنّ النبوّة لا تنفكّ عن الولاية، لكنّ الولاية تفتح على آفاقٍ أرقى وأسمى وأعلى من النبوّة كما سوف نرى إن شاء الله تعالى، وكذلك فإنّ الولاية بدورها لا تنفكّ عن النبوّة عندهم ـ وأرجو الانتباه جيّداً هنا ـ بل كلّ ولاية تستبطن نبوّةً إنبائيّة، وليس نبوّةً تشريعيّة، فنبوّة العارف الواصل يمكنه من خلالها أن يُخبر عن الغيب، وهذا ضربٌ من النبوّة غير النبوّة التشريعيّة التي نعرفها في الأنبياء، فكلّ ولاية تستبطن شيئاً من النبوّة يسمّونها بالنبوّة الإنبائيّة، وسيأتي الحديث عن النقطة التي اصطدم الفقهاءُ بالعرفاء فيها هنا.

وعليه، فكلّ وليّ بحسب ما يملك من مقام القرب من الله سبحانه وتعالى، يحمل شيئاً من الإنباء، ويستطيع أن يخبر عن الغيب، وهم يسمّون هذه بالنبوّة الإنبائيّة، لكنّ هذه غير النبوّة التشريعيّة التي نعرفها في الأنبياء أصحاب الشرائع، مثل موسى وعيسى وغيرهما.

ولهذا هناك عبارة مشهورة عن شهاب الدين السهرودي، إمام المدرسة الإشراقيّة، قالها وهو يقف على مقصلة الإعدام، قال: «لا أموت حتى يقال لي قم فأنذر». إنّها عبارات ثقيلة ما كان يمكن أن تتقبّلها الثقافة الإسلاميّة العامّة، فما معنى: حتى يقال لي قم فأنذر؟! أليس هذا إلا ادّعاءً للنبوّة؟!

إذن، كلّ ولاية تستبطن شيئاً من الإنباء في ثقافة العرفاء، لكنّهم شدّدوا كثيراً هنا على أنّ المقصود إنّما هو النبوّة الإنبائيّة، وأمّا النبوة التشريعيّة المعروفة عند الأنبياء، فقد انتهى زمانها بعد النبيّ محمد|، فلا شريعة بعد شريعته، ولا نبيّ يحمل شريعةً بعدَه، وكلّ ما في الأمر أنّ هذا الوليّ عندما يرتقي في مدارج الكمال، تصبح عنده أخبار من الغيب، وعلوم غيبيّة، فيخبر عمّا حصل عليه، فنسمّي هذا بالنبوّة بالإنبائيّة، وإلا فنبوّة مثل أولي العزم وغيرهم محفوظة لا يدّعيها عارف. كلّ ما هو مدّعى أنّنا بوصولنا إلى هذه المقامات العاليّة، تُصبح لدينا علومٌ غيبيّة، وهذه العلوم الغيبيّة إذا أنبأنا عنها، كان ذلك تعبيراً عن نبوّة إنبائيّة نحملها.

وفي تقديري، لو لم يعبّروا عنها بكلمة «النبوّة» كان أسهلَ عليهم، ولكنّهم عبّروا بهذه الكلمة، فوقعت المعركة فيها.

ولكي يتّضح الأمر أكثر، ننتقل إلى كلماتهم في المقارنة بين «النبوّة» و«الولاية»، فإذا تتبّعنا كلماتهم سوف نرى أنّ هناك نقاطاً مشتركة بين النبوّة والولاية، وهناك نقاط اختلاف:

أما النقاط المشتركة، فأذكر ثلاثاً أساسيّة منها:

1 ـ إنّ النبيَّ والولي يشتركان في أنّهما يكشفان حقائقَ الوجود بقوّةٍ قُدسيّة ما فوق عقليّة، لا بطريقة التفكّر أو الحسّ، وإنّما بواسطة العلم الحضوري الشهودي الكشفي.

2 ـ إنّ علومَهما لا تكون عبر التعلّم الكسبي، كما هي حالنا في العادة، فعلومهم ليست من نوع علوم الرسوم كما يسمّونها، وإنّما تكون بالإلهامات وعلوم المعنى والحقائق.

3 ـ تصدر منهما الأفعال الخارقة للعادة، فكما تصدر المعاجز من النبيّ كذلك تصدر عن الولي معاجز أيضاً، قد تسمّى بالكرامات.

هذه ثلاث نقاط مشتركة تسبّبت في اتّهام العرفاء والمتصوّفة بالكفر من قبل بعض الفقهاء، إذ قالوا بأنّ النبوّة ليست إلا هذه، فالنبيّ هو الذي يحصل له إدراك للحقائق من دون عمليّة التفكير المعتادة، ودونَ تعلّمٍ من أحد، كما تصدر منه خوارق العادات، فما هي النبوّة غير هذه الثلاثة التي تدّعون أنّها موجودة ومشتركة بين الوليّ والنبيّ؟! إذاً فأنتم تنكرون خاتميّة النبوّة، الأمر الذي اتّفق عليه جميع المسلمين ونصّ عليه القرآن الكريم، فمنكر خاتميّة النبوّة منكرٌ لضروري الدين، وبهذا صار العرفاء في دائرة التكفير، وكانت هذه واحدة من الموادّ الدسمة التي أدرجها الفقهاء في ملفّ اتهام العرفاء.

من هنا، حاول العرفاء أن يدافعوا عن أنفسهم، فذكروا عناصر امتياز بين «النبوّة» و«الولاية»، رغم المشتركات الثلاثة المتقدّمة، وهي:

1 ـ إنّ النبوّة التشريعيّة منقطعة وانتهى زمانها، فلا توجد بعد محمّد| نبوّةٌ تشريعيّة، فلو جاء أكبر الأولياء بعد الرسول| فلن يأتي لا بفقهٍ ولا بشريعة ولا بديانةٍ جديدة، نحن لم ندّعِ هذا حتى نُتّهم بإنكار الخاتمية، بل غاية ما قلناه هو أنّ شخصاً يحصل على مرحلة كماليّة ويعلم أشياءَ بقوّة القلب فتحصل له نحو سلطنة على الوجود يستطيع أن يقوم من خلالها ببعض الأفعال الخارقة للعادة.

هذا النزاع جرى بعينه تقريباً بين السنّة والشيعة، فقد أشكله السنّة على الشيعة، عندما قالوا: أنتم بما أنّكم تعتقدون بتلك المواصفات للأئمّة، فأنتم في الحقيقة تنكرون ختم النبوّة، إذ النبوّة ليست إلا هذه الصفات التي تذكرونها للأئمّة. وكان جواب الشيعة مشابهاً جدّاً لجواب العرفاء، فالإمام لا يأتي بدينٍ جديد، ولا بشريعة غير شريعة جدّه|، كما لا يأتي بأفكار غير ما قاله جدّه|، لكنّه على المستوى الشخصي حصلت له هذه الكمالات، وما يقوله ليس إلا امتداداً لشريعة جدّه|.

وهذا ما يدّعيه العرفاء، إذ يقولون بأنّنا لا ندّعي النبوّة التشريعيّة، وكلّ ما ندّعيه أنّنا بلغنا مرتبة من الكمال الروحي، أدركنا فيها حقائق الأشياء بالشهود الحضوري، وأصبحنا قادرين على التحكّم بشكل من الأشكال في عالم الوجود، لكنّنا لا ندّعي أنّنا أتينا بديانة جديدة أو شريعة جديدة، أو شريعة ناسخة أو أحكاماً جديدة، حتى نُتّهم بأنّنا لا نقبل بخاتميّة النبوّات.

من هذا كلّه قالوا: إنّ الولاية هي علاقتنا بالله، أي الجانب الحقّاني، والعلاقة بالله لا تنتهي ولا تزول من الأرض، بينما النبوّة هي العلاقة بين الأنبياء^ والخَلق، أي الجانب الخلقي، التي تتجلّى في الإرسال إليهم، وإيصال الدين والشرائع لهم، وبهذا كانت الولاية أهمّ من النبوة؛ لأنّ الحقّ أولى من الخلق؛ والجانب المرتبط بالله جانبٌ سامٍ، أمّا جانب النبوّة فهو الجانب المرتبط بالعلاقة مع الخلق في تبليغهم، وهو جانب سامٍ أيضاً، لكنّه أقلّ سموّاً من جانب العلاقة بالله سبحانه.

إذن، النبوّة التشريعيّة تنقطع وتزول، أمّا الولاية فلا تنقطع ولا تزول، بل هي باقية ما بقي الدهر. وقد قلنا آنفاً بأنّه حتى لو مات الولي تبقى الولاية موجودة، وتبقى سلسلة الأولياء ساريةً إلى أن يشاء الله تعالى؛ لأنّ الولاية تتصل بالجوهر الوجودي للوليّ، لا بالجانب الدعوي أو المادّي، فيمكن أن يجلس في بيته طول عمره وهو وليّ حتى لو لم يقم بأيّ عمل دعوي تبليغي؛ لسببٍ أو لآخر.

2 ـ إنّ الأرض لا تخلو من وليّ، سواء كان ظاهراً أم باطناً، وهو نفس المفهوم الذي تطرحه بعض الروايات الشيعيّة في موضوع الإمامة([21])، بينما الأرض تخلو من نبيّ، كما هي الحال الآن، حيث خلت منهم بعد ختم النبوّة، فهذا فرقٌ ثانٍ بين النبوّة والولاية.

قد تخلو الأرض من الأنبياء ولا يضرّ ذلك بها، لكنّها لا تخلو من الأولياء؛ لأنّه لو ذهب الولي، لساخت الأرض بأهلها، ولذلك يرى السيّد الخميني أنّ الخلافة الباطنيّة مقامٌ معنوي تتمّ به مكاشفة الحقائق، والولاية ما فوق الزمان والمكان، وهي نيابة عن الله في جميع شؤونه وبها حمَل الإنسانُ الأمانة.

وقد ذكروا في سياق الاستدلال على هذا الموضوع أنّ الولاية من صفات الله، فلا بد أن تبقى؛ لأنّ صفات الله لا تزول، بينما النبوّة ليست من صفات الله، فقد تزول، دون أن تحدث أيّة مشكلة في العالم.

3 ـ إنّ الولي فوق النبيّ أو الرسول، وهذا يشبه الاعتقاد الموجود في الثقافة الشيعيّة من أنّ الأئمّة^ أفضل من الأنبياء غير نبيّنا محمّد|، هذه هي الفكرة الخطيرة التي التبست كثيراً، إذ تصوِّرُ لنا الأنبياء في الدرجة الثانية، وهذا خلاف ما أتانا به القرآن الكريم.

لكنّ العرفاء يوضحون مقصودهم بالقول: عندما نقول بأنّ الولاية أفضل من النبوّة، فلا نقصد سوى جانبها المتّصل بعلاقة الوليّ مع الله، فهي أفضل من جانب النبوّة المتصل بعلاقة النبيّ بالناس، وإلا فكلّ نبيّ يحظى بولاية عرفانيّة كما قلنا سابقاً.

إنّ الولاية بابها مفتوح على ما هو أرقى من النبوّة، ولذلك حصل النبيّ إبراهيم× على مقام الإمامة التي هي الولاية التامّة بعد حصوله على مقام النبوّة وبعد أن أتمّ كلمات ربّه، فكلّ نبي قد اجتمع فيه مقام النبوّة والولاية، لكنّ جانبَ ولايته أرقى من جانب نبوّته، لا أنّ كلّ ولي هو أهمّ وأرقى من كلّ نبي، وهذا فارقٌ أساس بين النبوّة والولاية.

ولكي نشبّه القضيّة فهي مثل الذي يقولونه في اللغة العربية، في توضيح جملة «الرجل خيرٌ من المرأة»، حيث قالوا في واحدة من تفسيرات هذه الجملة متعدّدة التفاسير: الجملة هنا لا تعني أنّ كلّ رجل هو خيرٌ من كلّ إمرأة، وإنّما المراد أنّ جانب الرجولة في الرجل خيرٌ من جانب الأنوثة في المرأة، وإلا فقد تكون إمرأةٌ أفضل من بعض الرجال، وهذا مثالٌ موجود في كتب اللغة العربيّة.

إنّ الأمر هنا قريب من ذلك جدّاً، فلا نعني أنّ كلّ وليّ هو أهمّ من كلّ الأنبياء، وإنّما نعني أنّ جانب الولاية أولى من جانب النبوّة، إذ الولاية ترتبط بالله، وهو أزلي أبدي، بينما جانب النبوّة مرتبط بالدور التبليغي الدعوي، وكلاهما مقدّس، لكن لو قارنّاهما ببعض، نجد أن جانب الولاية أفضل من جانب النبوة، لا أنّ كلّ ولي هو أفضل من كلّ نبي.

لقد أراد العرفاء بهذا كلّه تصحيح التصوّر الذي اُخذ عنهم حول قضيّة ادّعائهم بأنّهم أفضل من الأنبياء، فقالوا بأنّنا لا ندّعي ذلك؛ لأنّ الأنبياء بلغوا مقام الولايات العليا بما قد لا نصل إليه نحن، لكنّ جانب الولاية فيهم خير من جانب النبوّة فيهم، ولذلك يقولون بأنّ الأشياء التي يخبر عنها الأنبياء ليست بالضرورة من جهة نبوّتهم، فقد يخبرون عن أشياء من جهة ولايتهم؛ لأنّهم يعلمون الغيب من جهة ولايتهم أيضاً، ويدركون العوالم الغيبيّة من جهة ولايتهم كذلك، فليس كلّ ما أخبروا عنه فلابدّ أن يكون عن وحي نبويّ، بل قد يخبرون عن شيء ويكون من جهة ولايتهم والإلهامات التي وصلوا إليها.

والجدير بالذكر أنّ انسجام هذه التوضيحات مع كلماتهم، هو بحثٌ آخر لا نخوض فيه الساعة؛ إذا الكثير من الذين لا يوافقون العرفاء، لا يقبلون بهذه التوضيحات، ويقولون: إنّ كلماتكم لا تعطي هذا المعنى، وأنتم تمارسوا فقط تبريراً للخروج من المأزق الذي وقعتم فيه، لكن على أيّة حال هذه هي توضيحات العرفاء، ونحن هنا إنّما نستعرض مقولاتهم بصرف النظر عن التقويم كما قلنا مطلع هذا البحث.

4 ـ اتفق العرفاء على أنّ مقام الولاية يشترك فيه الرجال والنساء، بينما النبوّة تخصّ الرجال، ويذكرون في هذا الإطار نماذج كثيرة، مثل السيدة مريم÷ والسيدة الزهراء÷ وغيرهما من النساء اللواتي وصلن إلى مقام الولاية العرفانيّة.

المحور السادس: شرح موجز لفكرة الأسفار الأربعة

يُعتبر موضوع الأسفار الأربعة مهمّاً للغاية، ولعلّ أوّل من طرحه كان ابن عربي، وبعد ذلك جاء القيصري والقونوي وصدر الدين الشيرازي، وتحدّثوا عنه بالتفصيل، وفيما بعد جاء الإمام الخميني، وكانت له تفاصيله الخاصّة في موضوع الأسفار الأربعة، وذلك في كتابه «مصباح الهداية».

يذكر العرفاء هنا عادةً مقاماتٍ ومنازل وأسفاراً كثيرة للسائرين والسالكين. وأحد أشكال عرض الرحلات الروحيّة هو العرض الرباعي هذا، والذي أخذ شهرةً عظيمة بعد إقحام الملاصدرا الشيرازي له في عنوان كتابه المشهور «الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة». وسوف أشرح هذه الأسفار باختصار شديد جداً حتى تكتمل الصورة:

السَفَر الأول: وهو السفر من الخلق (الكثرة) إلى الحقّ سبحانه وتعالى، ونهايته الفناء في الله وتحقّق حالة المحو. وميزةُ هذا السفر أنّه صعودي إلى الله، يعبُر فيه العارف الحُجب الظلمانيّة والروحانيّة، وكذلك الحجب الجسديّة والماديّة والنفسيّة والروحيّة والعقليّة، ليصل إلى الله تعالى، مقتدياً بالشريعة المطهّرة.

وفي نهاية هذا السفر يتحقّق مقام الفناء، وتزول بشريّة العارف، وتبقى ألوهيّته، وبه يصير الإنسان وليّاً من أولياء الله بالمصطلح العرفاني.

السَفَر الثاني: السفر من الحقّ إلى الحقّ، أي من الله إلى الله، فهو جولة في أسماء الله وصفاته، وهي ليست جولة فكريّة، وإنّما هي عبارة عن جولة روحيّة في أسماء الله، يدور العارف معها داخل حقائق الأسماء والصفات، في رحلة طويلة، يدرك من خلالها أكثر فأكثر، الأسماءَ والصفات الإلهيّة.

والعرفاء ـ بالمناسبة ـ لهم معنى آخر للأسماء والصفات، فليس المقصود منها مجرّد الصفة والإسم، بل يفهمونها بما يشبه العوالم ـ إذا صحّ التعبير ـ بما لا يسع المجال للحديث عنه هنا.

وعلى أية حال، هذا السفر جولة في داخل الأسماء والصفات الإلهيّة، ويسمّونها السفر من الحقّ إلى الحق، وهي جولة عرضيّة إلهيّة، بينما السفر الأوّل كان طوليّاً صعوديّاً.

السَفَر الثالث: من الحقّ إلى الخلق، وهو يعني أنّه بعد أن وصل العارف إلى الحقّ، وجال في أسمائه وصفاته، فإنّه يرجع إلى الخلق، وهو ما قد يسموّنه أحياناً بمقام «الصحو بعد المحو»، ومقام «البقاء بعد الفناء»، فهي رحلة عودة بمعنى من المعاني.. عودةٌ إلى الخلق، وهذا يلازم الصحو، وبهذا يعود العارف فيشاهد الكثرات، بعد أن لم يكن يرى إلا الوحدة..

وفي هذه المرحلة يحصل العارف على النبوّة الإنبائيّة، فتصبح عنده قدرة الإخبار عن الغيب، لكنّه لا يملك نبوّةً تشريعيّة.

يمرّ العارف في سفره هذا بعوالم كثيرة، من عالم الملكوت إلى عالم الجبروت إلى عالم الناسوت، فيصل ويبلغ هذا العالم، فهو سفر طولي لكنّه نزولي، من الوحدة إلى الكثرة.

السَفَر الرابع: السفر من الخلق إلى الخلق بالحقّ، حيث تتمّ فيه مشاهدة حقائق المخلوقات، وهو سَفَر عرضي، لكنّه عرضي كوني، وليس سفراً عرضياً إلهيّاً مثل الثاني، وفي هذه المرحلة قد تأتيه النبوّة التشريعيّة إذا كان نبيّاً، فالذي يحصل على النبوّة التشريعيّة يكون قد عبر الأسفار الأربعة التي يتكلّم عنها العرفاء.

المحور السابع: العرفان والنظريّة السياسيّة الإسلاميّة

ثمّة جدل وقع في إيران خلال السنوات الأخيرة، لا بأس بالإشارة إليه هنا.

ربما كلّنا نعرف المفكّر الدكتور السيد جواد الطباطبائي، فهو من أبرز المفكّرين السياسيّين في إيران، وله أعمال مهمّة حول الدين والحداثة، وعنده كتاب باللغة الفارسيّة تحت عنوان (درآمدى بر انديشه سياسى در ايران) أي «المدخل إلى الفكر السياسي في إيران»، طرح فيه قضيّة أثارت جدلاً واسعاً، تعرّض فيه لانتقادات كثيرة من خصومه.

يعتقد الطباطبائي في كتابه هذا وغيره، أنّه يستحيل إقامة نظام سياسي إسلامي على أصول تفكير العرفاء، بينما العرفاء يقولون بانّه لو حكم العارف الواصل لملأ العالم نورانيّةً، والعالم مملوءٌ بالظلمة؛ لأنّ الحاكم ليس هو العارف الواصل، من هنا كان أمثال العلامة محمّد حسين الحسيني الطهراني (1416هـ) يميل إلى أنّ من صفات الحاكم الشرعي أن يكون عارفاً، أو لا أقلّ من أن يكون تحت ظلّ عارف حتّى يؤيّد حركتَه.

إذن ثمّة خلاف جذري على مستوى الفكر السياسي الإسلامي في إمكان بناء نظام سياسي إسلاميّ بعقليّة العرفاء، فبعضهم يقول بالاستحالة وبعضهم يقول بالإمكان بل الضرورة، إذ لا صلاح للعالم إلا بحكومة الإنسان الكامل العارف. وهذه نقطة أطرحها هنا للتفكير، ولا اُريد أن أخوض فيها الساعة.

إنّ ما تحدّثنا فيه عن العرفان هنا كان بعيداً عن السياسة، لكنّ العرفاء لديهم أفكار كثيرة تتّصل بما يتعلّق بتنظيم الحياة وترتيب العلاقات بين البشر وفقاً لنظريّاتهم الخاصّة، فهم يعتقدون بأنّه يمكن إقامة نظام سياسي علىها، بل بعضهم يؤمن بضرورته، فيما ينفي آخرون ذلك.

كلمة أخيرة

كانت هذه خلاصة أقلّ من موجزة حول موضوع «الولاية العرفانيّة والإنسان الكامل» وبعض معالمه وبعض إشاراته السريعة؛ لأنّ الموضوع طويلٌ جداً. وأعيد وأكرّر نحن اكتفينا بعرض ما يطرحه مشهور العرفاء في هذه القضيّة دون التفاصيل، ولا نرفض هنا شيئاً ممّا قالوه ولا نتبنّاه، والعهدة على النظر، فالكلّ يجب أن يبحث ويرى ما هي النتيجة التي يمكن أن يقتنع بها.

إنّني أدعو الجميع لتناول هذا الموضوع بحياديّة تامّة، بعيداً عن العُقد المذهبيّة أو الطائفيّة، لنصل إلى أقرب جواب للحقيقة، وكذلك أنصح جميع أطراف هذا النزاع بمراعاة الصفات الأخلاقيّة الحميدة ليتركوا تراشق بعضهم بصفات الكفر والزندقة، وليجلسوا على طاولة واحدة، وليوقف غير المختصّين بالفلسفة والعرفان إطلاقَ مواقف منهما دون دراية ولو كانوا فقهاء، والعكس صحيح.. فمن له الحقّ ـ موضوعيّاً وأخلاقيّاً ـ باتخاذ مواقف من العرفاء والفلاسفة هو الذي اختصّ بفهمهم وخبر كلماتهم وسبر عباراتهم وفهم فضاءهم الفكري ومزاجهم العام.. أعاذنا الله جميعاً من الخطأ والزلل ووفّقنا للعلم والعمل، إنّه نعم المولى ونعم النصير.

([1]) «الولاية والإنسان الكامل» عنوان لثلاث محاضرات اُلقيت في جامعة الزهراء بتاريخ: 24 ـ 25 /2/2015م، وقد قام الشيخ سعيد نورا بتقريرها وتحريرها، ثم راجعها المحاضرُ (الشيخ حبّ الله)، مجرياً عليها بعض التعديلات والتوضيحات.

([2]) شمس العلوم و دواء كلام العرب من الكلوم 11: 7292.

([3]) أكّد القرآن الكريم على هذا المبدأ في آيات كثيرة، فانظر: (البقرة: 285)، (آل‏ عمران: 28)، (المائدة: 18)، (الحج‏: 48)، (النور: 42)، (لقمان: 14)، (فاطر: 18)، (غافر: 3)، (الشورى: 15)، (ق‏: 43)، (الممتحنة: 4)، (التغابن‏: 3).

([4]) بقاء الألوهيّة هو العنصر الآخر لتجلية مفهوم الفناء، وسيأتي الحديث عنه.

([5]) لم أجد هذه الرواية في المصادر الحديثيّة، وإنّما رويت مرسلة عنه| في بعض شروح كتب الحديث، مثل: شرح صدر الدين الشيرازي على أصول الكافي 1: 222؛ وشرح المجلسي الأوّل على كتاب الفقيه والمسمّى بروضة المتقين 1: 312، ووردت في مصادر أخر متأخرة متنوّعة الانتماء، وفي بعض الكتب صيغت على شكل حديث قدسي.

([6]) دلائل الإمامة: 305.

([7]) الكليني، الكافي 8 : 18؛ وكذلك جاء في (أمالي الشيخ الصدوق: 342) بعبارة مختلفة: «.. هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج‏ منها على غير مباينة..».

([8]) المجلسي، بحار الأنوار 15: 24. وكذلك ورد عند الديلمي في (غرر الأخبار: 195): جابر بن عبد الله، قال: سألت رسول الله‘ عن أوّل ما خلق الله تعالى، فقال: «يا جابر، أوّل ما خلق الله نور نبيّك‏، اشتقّه من نوره، فأقبل ذلك النور يتردّد حتى لحق بالعظمة، فسجد لها، فقسم الله تعالى ذلك النور على أربعة أجزاء، فخلق من الجزء الأوّل العرش، ومن الثاني القلم، وقال للقلم: در حول العرش واكتب، قال: يا رب، وما أكتب؟ قال: توحيدي، وفضل نبيي محمد، فدار وكتب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عليّ ولي الله..».

([9]) إنّ أعمال العرفاء على نوعين:

أ ـ النوع الأدبيّ، وهو الذي يعتمدون فيه اللغة الأدبيّة الرمزيّة، مثل «منطق الطير» لفريد الدين العطّارالنيسابوري، و«المثنوي» لجلال الدين الرومي.

ب ـ النوع غير الأدبي، وهو مثل «فصوص الحكم» لابن عربي، و «مصباح الهداية» للسيّد الخميني.

ورسالة «منطق الطير» قصة أدبيّة رائعة، وفي الوقت نفسه بحث عرفاني كبير جداً. ونفس القصة سهلة، لكنّ الإشارات التي يريدها صاحب القصّة تحتاج إلى الكثير من التحليل.

([10]) لا يتعارف في الكتب الحديثيّة نقل هذا الحديث بصورة منفصلة، بل هو مرويّ عادةً مرفقاً بأحداث وسياقات تؤثّر على فهمنا له، ففي المصادر السنيّة نقل عادة هكذا: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفي حديث ابن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قاتل أحدكم أخاه، فليجتنب الوجه. فإن الله خلق‏ آدم‏ على‏ صورته‏». صحيح مسلم 4 : 2017. وكذلك في (مسند أحمد بن حنبل ‏12 : 382): عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ضرب أحدكم فليتجنّب الوجه، ولا يقل: قبّح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإنّ الله تعالى خلق‏ آدم‏ على‏ صورته».

وفي المصادر الشيعيّة نرى مذمّة الذين ينقولون هذه الرواية منفردةً، فقد ورد في التوحيد للشيخ الصدوق عن الحسين بن خالد قال: قلت للرضا×: يا ابن رسول الله، إنّ الناس يروون أنّ رسول الله| قال: «إنّ الله خلق آدم‏ على‏ صورته»‏، فقال: «قاتلهم الله، لقد حذفوا أوّل الحديث. إنّ رسول الله| مرّ برجلين يتسابّان فسمع أحدهما يقول لصاحبه: قبّح الله وجهك ووجه من يشبهك، فقال|: يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك؛ فإنّ الله عزّ وجلّ خلق آدم‏ على‏ صورته» التوحيد : 152 ـ 153.

([11]) والسند هو: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، وأبو علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار جميعاً، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة، عن حماد بن بشير.

([12]) الكليني، الكافي 2 : 352.

([13]) كما ورد في قوله سبحانه: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ويَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (الشورى: 28).

([14]) مِثلي أو مَثَلي على اختلاف بينهم.

([15]) الحافظ البرسي، مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين×: 104 ـ 105.

 ([16]) لم أجد هذه الرواية منقولةً في المصادر الحديثيّة من السنّة والشيعة (نورا).

([17]) المجلسي، بحار الأنوار 15: 24.

([18]) ومنها ما رواه محمد بن جرير الطبري، عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر× قال: سمعته يقول: «لو بقيت الأرض يوماً واحداً بلا إمامٍ منّا، لساخت‏ الأرض‏ بأهلها، ولعذّبهم الله‏ بأشدّ عذابه، وذلك أنّ الله جعلنا حجة في أرضه وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لن يزالوا بأمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يهلكهم، ثمّ لا يمهلهم، ولا ينظرهم، ذهب بنا من بينهم، ثمّ يفعل الله (تعالى) بهم ما يشاء» دلائل الإمامة : 436 ـ 437.

 ([19]) نستخدم تعبير الظهور في لغة العرفاء بدل تعبير الخلق، وهو غير مقامه الذي يسمّى بمقام غيب الغيوب، الذي هو مخفيٌّ حتى عن شخص نبيّنا محمد|.

 ([20]) لا نقصد من ذلك أنّ الله لم يكن متجلّياً، فإنّ الكثير من العرفاء يعتبرون أنّ الله في كلّ زمان ـ إذا صحّ تعبير الزمان ـ كان متجلّياً، فإنّ العالم عندهم قديمٌ ليس له أوّل وليس له آخر، وهذا طرحٌ موجود فلسفيّاً وعرفانيّاً، فالله دائم التجلّي؛ لأنّه دائم الجود ودائم العطاء والفيض في ثقافة العرفاء.

([21]) ثمّة روايات كثيرة في هذا الموضوع، وعلى سبيل المثل فقد عقد الشيخ الكليني في كتابه الكافي باباً مستقلاً تحت عنوان «باب أن الأرض لا تخلو من حجّة» وهو يضمّ ثلاثة عشر رواية، منها: عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله× قال: سمعته يقول:‏ «إنّ الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام كيما إن زاد المؤمنون شيئاً ردّهم وإن نقصوا شيئاً أتمّه لهم» الكافي 1: 178.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً