أحدث المقالات

دراسة منهاجية لـ «دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي»

الشيخ خالد الغفوري(*)

تمهيد

لقد عاشت الحوزة العلمية في العقود الأخيرة أزمة حادّة في المناهج التعليمية، حيث انطلقت منها عدّة دعوات تطالب بضرورة تغيير تلك المناهج التعليمية، وقد أحدث ذلك جدلاً ساخناً وقتئذٍ بين أنصار التجديد وبين الرافضين لتلك الدعوات.

وفي غضون ذلك الجدل أطلّت علينا مشاريع تجديدية في المناهج التعليمية في دائرة علم (أصول الفقه)، تمثّلت بـ (أصول الفقه)، للعلامة المظفّر، و(أصول الاستنباط)، للعلامة الحيدري، و(دروس في علم الأصول)، للشهيد محمد باقر الصدر، وتلتها ـ وربما عاصرتها ـ محاولات أخرى ولا تزال، كما طالت مشاريع التجديد علوم إسلامية أخرى، كالمنطق، والفلسفة، والعقائد، والكلام.

لكن بقيت الدائرة الفقهية بعيدة عن تلك المشاريع، ولم تجد الفارس الشجاع الذي يجرؤ على اقتحام حدودها في الوقت الذي كانت تتعالى أصداء الجدل الحوزوي حول ضرورة التجديد فيها بين متحمّس ورافض ومتردّد.

وفي ظلّ هذه الأجواء الضاغطة أطلّت علينا المحاولة الموفّقة للأستاذ البارع الشيخ باقر الإيرواني في ما قدّم من كتاب في هذا المجال، ألا وهو كتاب «دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي»، الذي وضع حدّاً لذلك الجدل العقيم، وطرح كتابه على الساحة العلمية، وملأ به فراغاً طالما شغل المهتمّين بأمر التعليم الحوزوي.

وقد حظي هذا الإنجاز الكبير بإقبال المؤسسات التعليمية داخل الحوزة العلمية، فتبنّته كمنهج. وطُبع عدّة طبعات. فجزاه الله خير جزاء، ونفع المسلمين بمواهبه، وكثّر الله أمثاله.

امتيازات الكتاب

في البدء نلفت الأنظار الى أنّ هذا الكتاب قد طُبع عدّة مرّات، والظاهر أنّ المؤلّف كان قد أجرى تغييرات عليه في الطبعات المتأخّرة، ومن هنا فقد حذفت بعض نقاط البحث؛ بسبب التعديلات التي أجريت عليه، والطبعة التي اعتمدناها هي الطبعة الرابعة، من قِبل المركز العالمي للدراسات الإسلامية، عام 1426هـ.

أوّلاً: التبويب العامّ

يبدأ الكتاب بمقدّمة نافعة جدّاً، بل لا يبعد دعوی كونها ضرورية للدارس، تحت عنوان «كيف تطوّر فقه أهل البيت^». وقد اشتملت على خمسة محاور:

المحور الأوّل: الفقه لغةً واصطلاحاً. وقد بحث فيه ـ باختصار ـ المعنى اللغوي للفقه، ثمّ تعرّض إلى معناه اصطلاحاً، وتطرّق أيضاً إلى التعريف الاصطلاحي للاجتهاد.

المحور الثاني: مدرسة النصّ ومدرسة الرأي. وقد أوضح فيه تاريخ وظروف ظهور هاتين المدرستين، وخصائص كلّ منهما، وهل ثمّة حاجة إلى مصدر ثالث غير الكتاب والسنّة؟ وتعرّض إلى مناقشة أهل البيت^ لمدرسة الرأي. كما أوضح أنّ أهل البيت^ هم امتداد لسنّة الرسول^.

المحور الثالث: مصادر التشريع في فقه أهل البيت^. وقد أفاد بأنّ مصادر التشريع اثنان: الكتاب؛ والسنّة. ثمّ حاول بيان الموقف تجاه الإجماع بإرجاعه إلى السنّة. وكذا الحال بالنسبة إلى السيرة بنوعيها: العقلائية؛ والمتشرّعية، وبالنسبة إلى الأصول العملية. وأمّا العقل فدوره الكشف، لا الحكم، فلا يعدّ مصدراً من مصادر التشريع.

المحور الرابع: مستندات حقّانية مدرسة أهل البيت^. وقد استند لإثبات ذلك إلى خمسة مستندات من الكتاب والسنّة.

المحور الخامس: الأدوار الثلاثة لفقه أهل البيت^. وقد توسّع فيه المؤلّف أكثر من سائر المحاور، وبيّن الحدود الزمنية لكلّ دور وما امتاز به من خصائص. فالدور الأوّل هو دور الرواة من أصحاب الأئمّة^، والذي يبدأ من الأيّام الأولى للتشريع وحتى بداية الغيبة الصغرى سنة 260هـ؛ وأمّا الدور الثاني فهو دور التدوين الفقهي الذي بدأ منذ بداية الغيبة الصغرى وحتى سنة 460هـ، التي توفّي فيها الشيخ الطوسي؛ وأمّا الدور الثالث فهو دور التفريع والتعميق، والذي يبدأ من بعد زعامة الشيخ الطوسي وإلى زماننا الحاضر.

وفي نهاية المقدّمة تعرّض المؤلّف إلى (منهجة الأبواب الفقهية) حسب التقسيم الرباعي المتوارث، وبيّن الوجه فيه، وأشار إشارة خاطفة إلى الحاجة الى تعديل هذا التقسيم. كما صرّح بأنّه اعتمد هذا التقسيم في كتابه.

وأمّا أبواب الكتاب فقد توزّعت طبقاً للتقسيم التقليدي المعروف، وهو التقسيم الرباعي، إلى: العبادات، العقود، الإيقاعات، الأحكام (بالمعنى الأخصّ).

ويظهر هذا بجلاء في طبعات الكتاب الأخيرة، حيث تمّ طبعه في أربعة أجزاء مستقلّة، حسب التقسيم الرباعي المتقدّم، بدأت بالطهارة، وانتهت بالديات.

وتشتمل بعض طبعات الكتاب على ديباجة للكتاب، أوردها المؤلّف في أوّل الكتاب تحت عنوان: «التكليف وشروطه».

ثانياً: تبويب الكتب الفقهيّة

ثمّ إنّه قد تمّ تقسيم كلّ واحد من تلك الأبواب الأربعة العامّة المتقدّمة إلى عدّة كتب وعناوين أخصّ:

1 ـ باب العبادات فيه (6) كتب، تبدأ بـ (كتاب الطهارة)، وتنتهي بـ (كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

2 ـ باب العقود فيه (17) كتاباً، تبدأ بـ (كتاب البيع)، وتنتهي بـ(كتاب النكاح).

3 ـ باب الإيقاعات فيه (9) كتب، تبدأ بـ (الطلاق)، وتنتهي بـ (كتاب الشفعة).

4 ـ باب الأحكام فيه (11) كتاباً، تبدأ بـ (كتاب القضاء)، وتنتهي بـ (كتاب الديات).

ثالثاًً: تقسيم البحوث والمطالب وترتيبها

1 ـ إنّ البحوث المطروحة داخل الكتاب والعنوان الفقهي الواحد مقسّمة بصورة فنّية، ولم تُطرح بشكل متناثر. ولنأخذ (كتاب الصلاة) نموذجاً في هذا المجال؛ إذ قُسِّم الى خمسة بحوث رئيسة: الأوّل: الصلاة الواجبة؛ الثاني: الصلاة اليومية؛ الثالث: صلاة المسافر؛ الرابع: صلاة الجماعة؛ الخامس: صلاة الجمعة.

وعندما ندقّق في ذلك نرى أنّ المؤلّف لم يورد هذه البحوث بشكل عشوائي، بل انتقاها بلحاظ سلّم الأولوية، ودرجة الأهمية، وفي ضوء استهدافه المنهجية التعليمية، وإلا فإنّ بحوث الصلاة أكثر ممّا ذُكر، كما هو واضح.

2 ـ تقسيم المطالب المذكورة داخل كلّ بحث. فنرى (بحث الصلاة اليومية) قد قُسِّم إلى عدّة مطالب: الأوّل: بيان الصلاة اليومية وأعدادها حضراً وسفراً؛ الثاني: شرائط الصلاة؛ الثالث: أجزاء الصلاة؛ الرابع: أحكام الشكوك.

3 ـ تقسيم المطالب إلى عناصر. فنرى مطلب (أجزاء الصلاة) قد قُسِّم إلى عدّة عناصر، وهي: الأوّل: أوقات الصلاة اليومية (وتعرّض في آخره إلى علامات الأوقات، وبعض أحكامها)؛ الثاني: القبلة؛ الثالث: الطهارة؛ الرابع: ستر العورة؛ الخامس: مكان المصلّي.

4 ـ تقسيم تلك العناصر إلى عدّة فقرات مرقّمة ومرتّبة. وتتعرّض كلّ فقرة لبيان حكم من الأحكام الشرعية، فإنّ (القبلة) تحتوي على (3) فقرات، و(الطهارة) تحتوي على (5) فقرات، و(ستر العورة) يحتوي على (8) فقرات، و(مكان المصلّي) يحتوي على (4) فقرات.

رابعاً: طبيعة المادة والمضمون

1 ـ إنّ السمة العامّة للكتاب ـ من أوّله الى آخره ـ هي كونه كتاباً فقهياً استدلالياً، فلم نعثر على مورد واحد اقتصر فيه المؤلّف على بيان الحكم فقط، دون ذكر دليله، فجميع الأحكام الواردة في كلّ فقرة من فقرات الكتاب قد تصدّى المؤلّف لبيان الاستدلال عليها بالقرآن، أو السنّة، أو سائر الأدلّة، أو الأصول العملية. نعم، أحياناً يفتقر الأمر الى بيان وجه الاستدلال وتقريبه، من قبيل: كون الاستدلال بالرواية بالمفهوم أو بالمنطوق.

2 ـ لم يلتزم المؤلّف ذكر الأقوال في كلّ مسألة، إلاّ أنّه يتعرّض لذلك بالمقدار اللازم.

3 ـ لم يتصدَّ المؤلّف لمناقشة الأقوال والآراء في كلّ مسألة، إلا أنّنا نجده يتعرّض لردّ بعض الأقوال أحياناً، وبالمقدار الذي يراه لازماً.

4 ـ الخطّ العامّ للكتاب هو اعتماد الرأي المشهور لدی فقهاء الإمامية، وربما يختلف أحياناً مع المشهور من الناحية النظرية، إلا أنّه غالباً ما ينتهي إلى الاحتياط فتوائياً.

5 ـ لحاظ التطوّر الفقهي الحاصل على الصعيدين الفتوائي والاستدلالي، حيث يُلاحظ انعكاس ذلك في عدّة موارد من الكتاب.

6 ـ التزام الكاتب بعدم تجاوز الدائرة الفقهية، فإنّه يورد المطالب والمعلومات الفقهية لا غير، سواء أكان على الصعيد الفتوائي أم الصعيد الاستدلالي.

7 ـ حرص الكاتب على مراعاة ما يقتضيه المنهج التعليمي، ومستوی العرض، وحجم المعلومات المدرجة وتناسبها، ونوع المطالب المطروحة.

خامساً: طبيعة الأسلوب والبيان

1 ـ درج المطالب في الكتاب على مرحلتين:

المرحلة الأولى: وهي مرحلة تصوّرية، تهدف إلى التعريف بالمطالب والأحكام. ومن هنا يذكر المؤلّف في البدء متناً مختصراً مجرّداً عن الاستدلال. وفي حالة كون المتن طويلاً يعمد إلى تقطيعه إلى عدّة مقاطع. وقلّما يُلاحظ التطويل في المتن.

المرحلة الثانية: وهي مرحلة تصديقية، تستهدف بيان الاستدلال، وأحياناً بيان تقريب الاستدلال. وقد يذكر بعض المناقشات.

وبهذا الأسلوب في العرض استطاع الكاتب أن يحلّ إشكالية الشروح المزجية، والتداخل بين الأحكام والاستدلال.

2 ـ وضوح الأسلوب، وسلاسة العبارة، وقصر الجمل، وخلوّها من التعقيد والضمائر المبهمة.

3 ـ فرز المعلومات بعضها عن بعض، من خلال الاستعانة بطريقة الترقيم والتعداد والتقسيم. وهذا ما يزيد في الوضوح ويخدم الهدف التعليمي للكتاب.

4 ـ درج ما يلزم من الأدلّة ـ كالآيات والروايات ـ في أصل الكتاب، والإحالة على الهامش في ما زاد.

المقارنة بين الكتاب والروضة البهية

ممّا لا يخفى أن الهدف الأساس من تدوين كتاب «دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي» إنّما هو طرحه بديلاً عن المنهج التعليمي التقليدي المعروف، ألا وهو كتاب «الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية»، للشهيد الثاني، من أجل تلافي بعض المشكلات المنهجية فيه. ومن هنا انطلق الكاتب في مشروعه التجديدي هذا وهو ناظر إلى كتاب (الروضة البهية)، ومفيداً منه باعتباره منهجاً حكم الأجواء التعليمية الحوزوية لعدّة قرون.

لذا فمن المناسب عقد مقارنة بين الكتابين؛ لكي يبرز مقدار التفاوت ومساحته ومعالمه. وذلك من خلال عرض بعض النماذج. وتخلّصاً من الوقوع في محذور الإطالة الموجبة للملل اقتصرنا على دراسة وتحليل نموذجين فقط.

وفي البدء نلفت الأنظار الى أنّ الكاتب قد شرع بمحاولته التجديدية هذه انطلاقاً من اسم الكتاب الذي حمل عنواناً متواضعاً، ومتناسباً مع الهدف، وفي الوقت ذاته كان عنواناً عصرياً إلى حدٍّ ما.

النموذج الأوّل: وهو بحث (الماء المضاف) المنتخب من بحث (الطهارة)

أ ـ قال في «الروضة»: (الماء المضاف ما)، أي الشيء الذي، (لا يصدق عليه اسم الماء بإطلاقه)، مع صدقه عليه مع القيد، كالمعتصر من الأجسام، والممتزج بها مزجاً يسلبه الإطلاق، كالأمراق، دون الممتزج على وجه لا يسلبه الاسم، وإن تغيّر لونه، كالممتزج بالتراب، أو طعمه، كالممتزج بالملح، وإن أضيف إليهما.

(وهو) أي الماء المضاف (طاهر) في ذاته؛ بحسب الأصل، (غير مطهّر) لغيره (مطلقاً)، من حدث ولا خبث، اختياراً واضطراراً، (على) القول (الأصح)، ومقابله قول الصدوق بجواز الوضوء وغسل الجنابة بماء الورد؛ استناداً إلى رواية مردودة، وقول المرتضى برفعه مطلقاً الخبث.

(وينجس) المضاف، وإن كثر، بالاتصال (بالنجس)؛ إجماعاً، (وطهره إذا صار) ماء (مطلقاً) مع اتصاله بالكثير المطلق، لا مطلقاً، (على) القول (الأصح)، ومقابله طهره بأغلبية الكثير المطلق عليه وزوال أوصافه، وطهره بمطلق الاتصال به وإن بقي الاسم. ويدفعهما ـ مع أصالة بقاء النجاسة ـ أنّ المطهّر لغير الماء شرطه وصول الماء إلى كلّ جزء من النجس، وما دام مضافاً لا يتصوّر وصول الماء إلى جميع أجزائه النجسة، وإلا لما بقي كذلك، وسيأتي له تحقيق آخر في باب الأطعمة([1]).

ب ـ قال في «دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي»: ينقسم الماء إلى: المطلق؛ والمضاف. والمضاف طاهر في نفسه، وليس بمطهّر من الحدث، ولا من الخبث. وإذا لاقى نجاسة تنجّس جميعه، مهما كان مقداره، إلا مع التدافع، فلا ينجس جميعه. والمستند في ذلك:

1 ـ أمّا انقسام الماء إلى مطلق ومضاف فهو وجداني لا يحتاج إلى دليل. أجل، إطلاق لفظ الماء على المضاف مجاز، فالتقسيم من باب تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره.

2 ـ وأمّا أنّ المضاف طاهر في نفسه فلقاعدة الطهارة المستفادة من موثّقة عمّار الساباطي، عن أبي عبد الله×: «كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك»([2]). مضافاً إلى استصحاب الطهارة مع فرض طهارة الأصل.

3 ـ وأمّا أنّه ليس بمطهّر من الحدث فهو المشهور بين الأصحاب. ويكفي لإثبات ذلك مجرّد الشك في رافعيته للحدث؛ فإنّ ارتفاع الحدث به يحتاج الى دليل؛ لاستصحاب بقاء الحدث بعد الغسل، وهو مفقود. بل الدليل على العدم موجود، وهو قوله تعالى: ﴿…فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾ (النساء: 43).

4 ـ وأمّا أنّه ليس بمطهّر من الخبث فهو المشهور بين الأصحاب أيضاً. ويكفي لإثبات ذلك عدم الدليل على ارتفاع الخبث به. بل الدليل على العدم موجود، كرواية بريد بن معاوية، عن أبي جعفر×: «يجزئ من الغائط المسح بالأحجار، ولا يجزئ من البول إلا الماء»([3])؛ فإنّه بضمّ عدم الفصل بين البول وغيره يثبت المطلوب.

هذا، والمنسوب إلى الفيض الكاشاني حصول الطهارة من الخبث بكلّ جسم مزيل للنجاسة، ولو بالمضاف.

والمنسوب إلى السيد المرتضى وشيخه المفيد عدم كفاية إزالة النجاسة بكلّ جسم، بل لا بدّ من تحقّق عنوان الغسل، إلا أنّه لا يلزم كون الغسل بالماء، بل يكفي كلّ مائع، ولو كان هو المضاف.

5 ـ وأمّا تنجّسه بمجرّد الملاقاة فهو متسالم عليه. ويمكن الاستدلال له بموثّقة السكوني، عن جعفر، عن أبيه’: «أنّ علياً× سُئل عن قدر طُبخت، وإذا في القدر فأرة؟ قال: يهرق مرقها، ويغسل اللحم، ويؤكل»([4])؛ فإنّه بضمّ عدم الفصل يثبت العموم.

6 ـ وأمّا أنّه مع التدافع لا ينجس جميعه فلأنّه لو كان يتدافع من العالي إلى السافل مثلاً، ولاقت النجاسة السافل، فلا ينجس العالي، بل السافل فقط؛ إمّا لأنّه مع التدافع يتحوّل المائع إلى مائعين بالنظر العرفي، ولا موجب مع تنجّس أحدهما لتنجّس الثاني؛ أو لأنّ العرف لا يرى تأثّر العالي بالنجاسة، ومسألة كيفية السراية حيث لم يرِدْ فيها نصٌّ خاصٌّ فلا بدّ من تنزيلها على ما يراه العرف([5]).

المقارنة بين «الروضة» و«دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي»

1 ـ من حيث حجم ونوع الفروع والمسائل الفقهية المذكورة: فقد اشتمل نص «الروضة» على المطالب التالية: الأول: تعريف الماء المضاف، وبيان مصاديقه. وهو الأنسب. الثاني: بيان حكمه في نفسه، أي طهارته. الثالث: بيان عدم مطهّريته من الحدث والخبث، وذكر قولين مخالفين في الحدث والخبث، وناقش أوّلهما. الرابع: كيفية تنجّسه. الخامس: كيفية تطهيره، وذكر قولين مخالفين، وناقشهما.

في حين اشتمل نص «دروس تمهيدية» على المطالب التالية: الأول: لم يتعرّض إلى التعريف، ولا المصاديق. الثاني: تعرّض لذكر التقسيم العامّ للماء. وهو الأنسب. الثالث: بيان حكمه في نفسه، أي طهارته. الرابع: بيان عدم مطهّريته من الحدث والخبث، وتعرّض في قسم الاستدلال إلى قولين مخالفين في الخبث، دون مناقشة. الخامس: كيفية تنجّسه، وتعرّض إلى حالة التدافع. وهو الأنسب. السادس: لم يتعرّض هنا إلى كيفية تطهيره، بل تعرّض إليه في باب المطهّرات. ولعلّه الأنسب.

2 ـ من حيث التعرّض للاستدلال: لم يتعرّض في «الروضة» هنا إلى الاستدلال على المطالب التي ذكرها بشكل صريح. أجل، يمكن فهم بعض وجوه الاستدلال من خلال المناقشة. وهو أمر بحاجة إلى تحليل، مع قلّته.

في حين أُفرِد للاستدلال في «دروس تمهيدية» قسمٌ مستقلٌّ، اشتمل على الموارد التالية: الأول: بيان وجه التقسيم العامّ للماء، وتحليل التقسيم تحليلاً ظريفاً. الثاني: استدلّ بوجهين على طهارة المضاف في نفسه. الثالث: استدلّ على عدم مطهّرية المضاف من الحدث. الرابع: استدلّ على عدم مطهّرية المضاف من الخبث باستدلال فيه تفصيل. الخامس: استدلّ على تنجّس المضاف بمجرّد الملاقاة باستدلال فيه تفصيل. السادس: استدلّ على عدم تنجّس جميع المضاف مع التدافع باستدلال دقيق مع تفصيل.

3 ـ من حيث المنهج والأُسلوب: فقد اتسم نص «الروضة» بما يلي:

أ ـ خلوّه من الإرباك؛ نظراً لكونه شرحاً مزجياً لمتن «اللمعة الدمشقية».

ب ـ غموض العبارة في نفسها، متناً وشرحاً، وللتأكد من ذلك لاحظ العبارتين التاليتين: «ومقابله قول الصدوق بجواز الوضوء وغسل الجنابة بماء الورد؛ استناداً إلى رواية مردودة، وقول المرتضى برفعه مطلقاً الخبث»، «(وطهره إذا صار) ماء (مطلقاً) مع اتصاله بالكثير المطلق، لا مطلقاً، (على) القول (الأصح)، ومقابله طهره بأغلبية الكثير المطلق عليه وزوال أوصافه، وطهره بمطلق الاتصال به وإن بقي الاسم».

ج ـ إنّه يتصدّى لبيان (ما)، وفسّرها بالعبارة التالية: أي الشيء الذي، مع أنّ لفظة (ما) واضحة، وليست بحاجة إلى تبيين.

في حين خلا نص «دروس تمهيدية» عن أيّ تعقيد في العبارة.

النموذج الثاني:  وهو بحث (خيار المجلس) المنتخب من بحث (البيع)

أ ـ قال في «الروضة»: (خيار المجلس) إضافة إلى موضع الجلوس ـ مع كونه غير معتبر في ثبوته، وإنّما المعتبر عدم التفرّق ـ؛ إمّا تجوّزاً في إطلاق بعض أفراد الحقيقة؛ أو حقيقة عرفية. (وهو مختصّ بالبيع) بأنواعه، ولا يثبت في غيره من عقود المعاوضات، وإن قام مقامه، كالصلح. ويثبت للمتبايعين ما لم يفترقا. (ولا يزول بالحائل) بينهما، غليظاً كان أم رقيقاً، مانعاً من الاجتماع أم غير مانع؛ لصدق عدم التفرّق معه، (ولا بمفارقة) كلّ واحد منهما (المجلس مصطحبين)، وإن طال الزمان، ما لم يتباعد ما بينهما عنه حالة العقد، وأولى بعدم زواله لو تقاربا عنه. (ويسقط باشتراط سقوطه في العقد) عنهما، أو عن أحدهما بحسب الشرط، (وبإسقاطه بعده)، بأن يقولا: أسقطنا الخيار، أو أوجبنا البيع، أو التزمناه، أو اخترناه، أو ما أدّى ذلك، (وبمفارقة أحدهما صاحبه)، ولو بخطوة اختياراً، فلو أُكرها أو أحدهما عليه لم يسقط مع منعهما من التخاير، فإذا زال الإكراه فلهما الخيار في مجلس الزوال، ولو لم يُمنعا من التخاير لزم العقد. (ولو التزم به أحدهما سقط خياره خاصة)؛ إذ لا ارتباط لحق أحدهما بالآخر. (ولو فسخ أحدهما وأجاز الآخر قُدّم الفاسخ)، وإن تأخّر عن الإجازة؛ لأنّ إثبات الخيار إنّما قُصد به التمكّن من الفسخ، دون الإجازة؛ لأصالتها، (وكذا) يقدّم الفاسخ على المجيز (في كلّ خيار مشترك)؛ لاشتراك الجميع في العلّة التي أشرنا إليها. (ولو خيّره فسكت فخيارهما باقٍ). أمّا الساكت فظاهر؛ إذ لم يحصل منه ما يدلّ على سقوط الخيار؛ وأمّا المخيِّر فلأنّ تخييره صاحبه أعمّ من اختياره العقد، فلا يدلّ عليه، وقيل: يسقط؛ استناداً إلى رواية لم تثبت عندنا([6]).

ب ـ قال في «دروس تمهيدية»: خيار المجلس: وهو ثابت لخصوص المتبايعين في مجلس البيع، ويستمرّ ما دام لم يحصل التفرّق بينهما.

والمستند في ذلك:

1ــ أمّا أصل ثبوت خيار المجلس في الجملة فممّا لا إشكال فيه، وقد دلّت عليه الروايات المستفيضة، من قبيل: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله×: «البيِّعان بالخيار حتى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيّام»([7]).

وفي مقابل ذلك موثّق غياث بن إبراهيم: «قال علي×: إذا صفق الرجل على البيع فقد وجب، وإن لم يفترقا»([8]).

وهو إن أمكن توجيهه بحمل التصفيق المذكور فيه على ما قُصد به إسقاط الخيار فلا إشكال، وإلا يلزم طرحه؛ لمخالفته لإجماع الأصحاب، والضرورة الثابتة بينهم.

2ـ وأمّا اختصاصه بالمتبايعين وعدم شموله لمطلق المتعاقدين، فللقصور في المقتضي.

3ـ وأمّا التعبير بـ (مجلس البيع) فهو من باب ذكر الفرد الغالب، وإلا فلو جرى العقد حال المشي ثبت الخيار أيضاً؛ لعدم تعبير النصّ بالمجلس.

4ـ وأمّا أنّ الغاية افتراقهما دون الافتراق عن المجلس فلتعبير الصحيحة بـ (حتى يفترقا)، الظاهر في الافتراق بينهما، دون افتراقهما عن المجلس([9]).

المقارنة بين «الروضة» و«دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي»

1 ـ من حيث حجم ونوع الفروع والمسائل الفقهية المذكورة: فقد اشتمل نص «الروضة» على المطالب التالية: الأول: وجه تسميته بـ (خيار المجلس) لغة. الثاني: اختصاصه بالبيع بجميع أنواعه. وهو الأنسب. الثالث: ثبوته للمتبايعين ما لم يفترقا. الرابع: متى يصدق التفرّق، ومتى لا يصدق. وهو الأنسب. الخامس: بقاء الخيار لو تقاربا. السادس: عدم سقوطه بالإكراه. السابع: موارد سقوطه وإسقاطه. الثامن: الفسخ والإجازة. التاسع: بقاء الخيار مع تخيير أحدهما وسكوت الآخر، وذكر قولاً، وناقشه.

في حين اشتمل نص «دروس تمهيدية» على المطالب التالية: الأول: ثبوته لخصوص المتبايعين في مجلس البيع، ما لم يفترقا عن بعضهما. الثاني: لم يذكر صريحاً اختصاصه بالبيع، لكنّه يُفهم من العبارة.

2 ـ من حيث التعرّض للاستدلال: فقد اشتمل نص «الروضة» على الاستدلال في الموارد التالية: الأول: الاستدلال على عدم انتفاء الخيار بسبب الحائل بين المتبايعين. الثاني: الاستدلال على سقوط خيار من أسقط خياره خاصة، دون الآخر. الثالث: الاستدلال على تقديم الفاسخ على المجيز. الرابع: الاستدلال على تعميم الحكم المتقدّم لكلّ خيار مشترك. الخامس: الاستدلال على بقاء الخيار مع تخيير أحدهما وسكوت الآخر، وذكر دليل القول المخالف.

وقد أُفرِد للاستدلال في «دروس تمهيدية» قسمٌ مستقلٌّ اشتمل على الموارد التالية: الأول: الاستدلال على أصل ثبوت خيار المجلس. الثاني: الاستدلال على اختصاصه بالمتبايعين، دون مطلق المتعاقدين. الثالث: بيان الوجه في التعبير بـ (مجلس البيع). الرابع: الاستدلال على أنّ الغاية في بقاء الخيار افتراق المتبايعين، دون الافتراق عن مجلس العقد.

3 ـ من حيث المنهج والأُسلوب: فقد اتسم نص «الروضة» بما يلي:

أـ إنّ النص هنا ـ متناً وشرحاً ـ واضحٌ نسبياً، وإن كانت طريقة الشرح المزجي لمتن (اللمعة الدمشقية) توجب عدم سلاسة العبارة، بل ربّما يسبّب الشرح المزجي نفسه غموضاً في عبارة الماتن، مع وضوحها في نفسها، لكن بسبب توسّط الشرح ـ الذي يُحدث تفكيكاً في المتن ـ قد ينقلب المتن من كونه واضحاً فيصبح غامضاً، كما هو واضح لكلّ من راجع هذا النص أو غيره في كلّ كتاب «الروضة».

ب ـ عدم سلاسة بعض العبارات؛ بسبب إقحام جمل اعتراضية طويلة نسبياً. وللتأكُّد لاحظ العبارة الأُولى، وهي: «(خيار المجلس) إضافة إلى موضع الجلوس ـ مع كونه غير معتبر في ثبوته، وإنّما المعتبر عدم التفرّق ـ؛ إمّا تجوّزاً في إطلاق بعض أفراد الحقيقة؛ أو حقيقة عرفية».

ج ـ غموض بعض الضمائر الواردة في عبارات الشارح، وإن كانت مواردها قليلة. وللتأكُّد لاحظ ضمير «عنه»، الذي تكرّر مرّتين في العبارة التالية: «… (المجلس مصطحبين)، وإن طال الزمان، ما لم يتباعد ما بينهما عنه حالة العقد، وأولى بعدم زواله لو تقاربا عنه».

وأمّا نص «دروس تمهيدية» فهو، وإن خلا من محذور التعقيد في العبارة إجمالاً، إلا أنّه يُلاحظ عليه ما يلي:

أ ـ عدم المتانة في التعبير التالي: «وهو إن أمكن توجيهه بحمل التصفيق المذكور فيه على ما قُصد به إسقاط الخيار فلا إشكال، وإلا يلزم طرحه؛ لمخالفته لإجماع الأصحاب والضرورة الثابتة بينهم»؛ وذلك: أوّلاً: إنّ الأنسب التعبير كالتالي: «ويمكن حمل التصفيق المذكور فيه على ما قُصد به إسقاط الخيار، وإلا لزم طرحه…»، ونحو ذلك من التعابير. ثانياً: كان عليه أن يقدّم ذكر (إجماع الأصحاب، والضرورة الثابتة بينهم) لو فرض ثبوتهما، فإنّه اكتفى في صدر العبارة بذكر (عدم الخلاف) فقط، لكنّه باغتنا بذكر الإجماع والضرورة في مناقشته لموثَّق غياث.

ب ـ عدم المتانة في التعبير التالي: «وأمّا التعبير بـ (مجلس البيع) فهو من باب ذكر الفرد الغالب، وإلا فلو جرى العقد حالة المشي ثبت الخيار أيضاً؛ لعدم تعبير النصّ بالمجلس»؛ وذلك لأنّ عبارة المتن الأصلي من انتخاب المؤلِّف نفسه فلا معنى لذكر عبارة غير وافية بالغرض، ثمّ الاعتذار عن ذلك بإرادة الفرد الغالب.

أجل، إن كان مراده من هذه العبارة هو شرح مصطلح (خيار المجلس) فهو صحيح، كما صنع الشهيد في «الروضة»، حيث قال: «(خيار المجلس) إضافة إلى موضع الجلوس ـ مع كونه غير معتبر في ثبوته، وإنّما المعتبر عدم التفرّق ـ؛ إمّا تجوّزاً في إطلاق بعض أفراد الحقيقة؛ أو حقيقة عرفية». وعبارة الشهيد في محلّها؛ لأنّه بصدد شرح ذلك من ناحية كونه مصطلحاً فقهياً، وأيضاً من ناحية كونه تعبيراً ورد في عبارة الماتن، فتصدّى لشرحه.

لكن العبارة الواردة في «دروس تمهيدية» قاصرة جدّاً عن إفادة هذا المعنى، كما ترى.

ج ـ عدم المتانة في التعبير التالي: «وأمّا أنّ الغاية افتراقهما، دون الافتراق عن المجلس؛ فلتعبير الصحيحة بـ (حتى يفترقا)، الظاهر في الافتراق بينهما، دون افتراقهما عن المجلس»؛ حيث عاد مرّة أُخری إلى استعمال التعبير الذي نفاه قبل قليل، وهو التعبير بلفظ (المجلس).

د ـ غموض التعبير في النقطة الثانية، وهي قوله: «وأمّا اختصاصه بالمتبايعين، وعدم شموله لمطلق المتعاقدين، فللقصور في المقتضي»، في حين أن ما يقابلها من عبارة «الروضة»، وهي قوله: «(وهو مختصّ بالبيع) بأنواعه، ولا يثبت في غيره من عقود المعاوضات، وإن قام مقامه، كالصلح»، فإنّها واضحة وصريحة.

ملاحظات حول كتاب «دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي»

إنّ المنطق العلمي يُملي علينا أن نقيّم هذا المشروع المنهاجي الذي اقترحه الشيخ الإيرواني، المتمثّل بكتابه «دروس تمهيدية في الفقه الإستدلالي» تقييماً علمياً بعيداً عن المجاملات. فإنّه على الرغم من الامتيازات الكثيرة التي امتاز بها هذا الكتاب إلا أنّه ابتلي ببعض الإشكالات، والتي ينبغي علاجها في سبيل تطوير المناهج التعليمية في الحوزة العلمية، ولاسيما في دائرة علم الفقه، الذي تحاشى كثير من العلماء تقديم مقترحات تجديدية على صعيد مناهجه التعليمية.

ونحن نشير هنا إلى بعض تلك الإشكالات:

1ـ إنّ المتن الذي صدّر المؤلّف به بحوثه الاستدلالية قد يخلو من المتانة والبلاغة أحياناً، نظير قوله: «يُعتبر في البيع ـ وهو تمليك عين بعوض ـ الإيجاب والقبول، بأيّ مبرز لهما، ولو كان لفظاً غير صريح، أو كان ملحوناً، أو ليس بعربي، ولا بماضٍ. ويُعتبر التطابق في المضمون بين الإيجاب والقبول، دون الموالاة بينهما، ودون تأخّر القبول. نعم، المشهور اعتبار التنجيز»([10]).

ونظير قوله: «خيار التأخير: من باع من دون قبض العوضين، ولا أحدهما، وترك المشتري عنده المبيع إلى أن يأتيه بالثمن، فالبيع لازم ثلاثة أيّام، وله الفسخ بعدها، ما دام لم يشترط تأخير قبضهما، أو أحدهما. ويُصطلح عليه بخيار التأخير.

ومتى ما تمّت المعاملة يلزم تسليم العوضين بعدها، فإذا امتنع أحدهما كان للآخر الفسخ، ولا يختصّ هذا بالبيع، بخلاف ما سبق»([11]).

2ـ طول المتن أحياناً، في الوقت الذي كان يمكنه تقطيعه إلى عدّة مقاطع، فلاحظ المتن الوارد في بحث الموت ومسّ الميّت: «إذا حضرت الإنسان الوفاة فالمشهور وجوب توجيهه الى القبلة كفاية بنحو لو جلس كان وجهه الى القبلة…، ومسّ الميّت قبل تغسيله سببٌ لأمرين: نجاسة العضو الماسّ بشرط الرطوبة؛ ووجوب الغُسل إذا كان المسّ لميّت الإنسان بعد برده»([12]).

ولاحظ المتن الوارد في بحث المطهّرات: «يطهر المتنجّس بأحد الأمور التالية: والمشهور في ماء المطر أنّ مجرّد إصابته للمتنجّس توجب طهارته، بلا حاجة إلى عصر أو تعدّد»([13]).

ولاحظ المتن الوارد في بحث أحكام الشكوك: «من شك في أدائه للصلاة في الوقت يلزمه فعلهما، دون ما لو شك في خارجه…، والظنّ بعدد الركعات بحكم اليقين، بخلافه في الأفعال، فإنّه بحكم الشك»([14]).

3ـ الطريقة المملّة التي اعتمدها المؤلّف من أوّل الكتاب إلى آخره، وهي قوله في بداية كلّ نقطة: «وأمّا»، فكان يمكنه تبديل التعبير.

4ـ عدم التزام المؤلِّف بالهدف الأساس أحياناً، ألا وهو كون الكتاب كتاباً تعليمياً، وليس كتاباً إفتائياً، فلاحظ قوله في المستحاضة الكثيرة: «وهل ينتقض وضوؤها باستحاضتها؟ لا يبعد ذلك؛ تمسُّكاً بالأولوية؛ فإنّ القليلة والمتوسّطة إذا كانت ناقضة فبالأوْلى الكبيرة؛ غايته لا يجب عليها الوضوء؛ لإجزاء الغسل عن ذلك، وإن كان الاحتياط بفعله أمراً مناسباً، بل لازماً؛ تحفّظاً من مخالفة المشهور القائل بذلك»([15]).

ولاحظ قوله في بحث تغسيل الميّت، فبعد ذكره لدليل قول المشهور بتقييد الطفل بثلاث سنين، وهي رواية أبي نمير، وتضعيفه لها، قال: «ولا بأس بالتنزّل إلى الاحتياط؛ بناءً على إنكار كبری الانجبار بفتوی المشهور»([16]).

ولاحظ قوله في بيان أفعال الحجّ: «… ومن كلّ هذا يتضح أنّ الحكم بوجوب الحضور من بداية طلوع الفجر مبنيّ على الاحتياط تحفُّظاً من مخالفة المشهور، وإلاّ فأصل البراءة ينفي ذلك»([17]).

5 ـ من السمات البارزة في الكتاب هو الطرح الموضوعي للآراء. فتراه يستدلّ على رأي المشهور بما يمكن من الوجوه، وإن ناقشها بعد ذلك. وموارد ذلك في الكتاب كثيرة جدّاً. إلا أنّه غَبَن بعض الآراء في طريقة البيان والاستدلال. فلاحظ عبارته في بحث علامة الفجر، وهي التبيّن التقديري: «وأمّا أنّ المراد به التقديريّ دون الفعلي فلأنّ التبيّن يُؤخذ عرفاً بنحو الطريقية، دون الموضوعية، فهو طريق لإثبات ذلك الوقت الواقعي، ولو كان مأخوذاً بنحو الموضوعية، بحيث يلزم تحقّقه بالفعل، لزم الحكم بعدم تحقّق الفجر في حالة وجود الغيم أو غيره من الموانع، إلا بعد فترة طويلة، كما يلزم اختلاف وقت الفجر في الليلة الواحدة، بفرض تحقّق الخسوف فيها وعدمه، فيتقدّم لو فرض تحقّق الخسوف، ويتأخّر لو فرض عدمه. وهو بعيد».

ولم يكتفِ بذلك، بل قال عقيب العبارة المتقدّمة: «وبهذا اتضح أنّ ما اختاره الشيخ الهمداني، وبعض الأعلام من المتأخّرين، من اختلاف الفجر باختلاف كون الليلة مقمرة أو لا موضع تأمّل»([18]).

6 ـ على الرغم من سلاسة عبارات الكتاب ووضوحها إلا أنّه ثمّة ارتباك وفوضوية، وكرّ وفرّ مملّين في بعض العبارات، وخروج عن الحجم والمستوى العامّ للكتاب. فلاحظ الفقرة التالية الواردة في بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكون الوجوب كفائياً، قال: «وأمّا كون الوجوب بنحو الكفاية فقد وقع محلاً للخلاف؛ فقيل: بكونه عينياً؛ تمسُّكاً بالأصل، وظاهر الخطابات المتوجّهة الى الجميع. لكنّ ذلك مدفوعٌ بعدم المعنى للعينية بعد إمكان تأتّي الغرض بفعل البعض، ومعه لا يبقى مجال للتمسّك بالأصل. كما أنّ التمسّك بظاهر الخطابات لا وجه له بعد كون الخطاب في الكفائي عامّاً أيضاً، حيث تتوجّه التكليف في البداية إلى الجميع، ولكنّه يسقط بفعل البعض.

وممّا يؤكّد الكفائية الآية الأولى، بناءً على كون (مِن) للتبعيض».

 ومهما يكن من أمر فيبدو أنّ المطلب انتهى من حيث البيان والاستدلال، لكن لست أدري لِمَ أصرّ المؤلّف على مواصلة الكلام في المطلب ذاته مع طول المقطع، فقال عقيب ذلك: «ثمّ إنّه إذا حصل الجزم بأحد الاحتمالين أخذنا به، وإلا وصلت النوبة إلى الأصل العملي، وهو يقتضي الكفائية؛ للشك في توجّه التكاليف بعد تصدّي البعض له.

ولا يُقال: إنّ الخطاب في البداية حيث هو متوجّه إلى الجميع فالشك عند تصدّي البعض له شك في السقوط، وهو مجری لقاعدة الاشتغال.

فإنّه يُقال: إنّ الخطاب في الكفائي في البداية وإن كان موجّهاً إلى كلّ فرد لكنّه مشروط بعدم قيام الآخرين به».

ثمّ قال: «وتظهر الثمرة بين الاحتمالين فيما لو تصدّی مَن به الكفاية، ولم يتحقّق الغرض بعدُ، فعلى الكفائية يسقط عن البقية، بخلافه على العينية.

وهذه الثمرة إن تمّت فبها، وإلاّ فتصوّر الثمرة بين الاحتمالين مشكل»([19]).

7 ـ وجود نقص في بعض المطالب الضرورية، والمناسب طرحها بحسب مستوى الكتاب، من قبيل: بيان أفعال الحج، حيث لم يتعرّض إلى الاستدلال على وجوب طواف النساء، مع أنّه ذكره في المتن([20]).

8 ـ إنّ التعابير المألوفة في الكتب الفقهية في مقام الترجيح بين الآراء هي: الأصح، الأولى، الأظهر، الأقوى، ونحو ذلك على اختلاف في موارد الاستعمال بحسب طبيعة الأدلّة المعتمدة. لكنّنا نواجه ألفاظاً غير مألوفة يكثر استعمالها في الكتاب، من قبيل: المناسب، والأنسب، فلاحظ قوله في بحث حكم الجرح والقتل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «والمناسب أن يُقال: أمّا القتل فلا يجوز؛ لأنّ المفهوم من أدلّة النهي نهي الشخص عن المنكر، فلا بدّ من افتراض بقاء الشخص ليُنهى عن المنكر…»([21]).

ولاحظ قوله في بحث غسل الجنابة وسببه: «…وإذا تمّت هذه الوجوه كلاًّ أو بعضاً حكمنا بالجنابة، وإلا يبقى الاحتياط أمراً مناسباً»([22]).

9 ـ طرح الاستدلال بغير المنهج المتعارف الذي ينبغي أن يتربّى عليه الطالب المتعلّم، وهو عدم لحاظ الأدلّة طرّاً، وفي عرض واحد، بل يلاحظ قسماً منها منعزلةً عن بعضها الآخر، كما في الموارد التالية:

أـ قوله في بحث محرّمات الإحرام: «وأمّا حلّية صيد البحر فيمكن استفادتها من آية تحريم صيد البرّ بمفهومها. ومع التنزّل، وتسليم أنّ الوصف لا مفهوم له، فيكفي لإثبات ذلك أنّ المستفاد منها تحريم صيد البرّ فقط، ويعود صيد البحر لا دليل على حرمته، فيتمسّك لإثبات حلّيته بأصل البراءة، بل لا حاجة إلى كلّ هذا بعد آية حلّ صيد البحر الآتية». ثمّ قال: «هذا لو نظرنا إلى الآية الأولى فقط، وأمّا لو نظرنا إلى الآية الثانية، وصحيحة الحلبي، كان المقتضي لتحريم صيد البحر ـ وهو الإطلاق ـ تامّاً، ولكن نرفع اليد عنه، لقوله تعالى: {أحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيّارَةِ} (المائدة: 96)؛ فإنّه ناظر الى حالة الإحرام، كما يظهر من السياق بعد مراجعة الآية الكريمة»([23]).

علماً بأنّ كلا النصين القرآنيين ـ ما دلّ على حرمة صيد البرّ، وما دلّ على حلّية صيد البحر ـ وردا في آية واحدة، والثاني ورد في صدر الآية.

ب ـ قوله في بحث صلاة الجمعة: «أمّا بالنسبة إلى أصل الوجوب فمحلّ خلاف. والأقوال المشهورة ثلاثة: الوجوب العيني؛ والوجوب التخييري؛ وعدم المشروعية».

ثمّ قال: «والمناسب أن يُقال: لو لاحظنا الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) لما وجدناها تدلّ على وجوب عقدها ابتداءً، بل متى ما عُقدت ونودي لها لزم الحضور. ومقتضى الإطلاق عدم شرطية حضور الإمام×، ويُقتصر في تقييده على بقية الشروط التي دلّ الدليل على اعتبارها، وليس منها الحضور.

ولو لاحظنا صحيحة زرارة، عن الباقر×: «إنّما فرض الله عزّ وجلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها الله عزّ وجلّ في جماعة، وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومن كان على رأس فرسخين»([24])، لوجدناها تشمل بمقتضى إطلاق كلمة (الناس) الجميع إلى يوم القيامة، بما في ذلك عصر الغيبة، ولكنّها لا تدلّ على وجوب إقامتها ابتداءً، بل أعمّ منه ومن وجوبها عند النداء لها؛ لعدم إحراز كونها في مقام البيان، إلا من ناحية بيان عدد الفرائض ومن تجب عليه. وعليه فالمناسب الحكم بوجوب صلاة الجمعة تعييناً في مرحلة البقاء، دون الحدوث؛ لأنّ الوجوب التعييني في مرحلة الحدوث لا دليل عليه، فيُنفى بالبراءة، بخلافه في مرحلة البقاء، فإنّ الدليل على ثبوته موجود…»([25]).

10 ـ إعراض المؤلّف عن المتون الفقهية السابقة تماماً، كمتون المتقدّمين أو المتأخّرين، وقد عثرت صدفةً على متن فقهي من كتاب «جواهر الكلام» ورد في آخر بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([26])، علماً بأنّ «الجواهر» ليس متناً فقهياً بما للكلمة من معنى، بل هو كتاب استدلالي مرجعي.

ومن الواضح أنّ غياب المتون التقليدية عن المنهج التعليمي يُحدث قطيعة بين الطالب والمصادر الفقهية، ولا يمكن التقليل من شأن هذه الإشكالية المنهجية.

11 ـ عرفت أنّ الكتاب قد تمّ طبعه وتنقيحه عدّة مرّات، لكن لا زلنا نعثر بين الفينة والأخری على بعض الأخطاء المطبعية. ولا أهمية لذلك لو لم يكن الكتاب منهجاً تعليمياً. ولكن مع اعتماده كتاباً للتدريس يُعدّ ذلك قدحاً. وهذا ما يبرّر ذكرنا لهذه النقطة. فلاحظ العبارات التالية:

أ ـ قوله: «وأمّا الثاني: فلأنّ فعل الإمام× لا يدلّ على الوجوب، بل أقصى ما يدلّ عليه هو الرجحان من الوجوب»([27]).

ب ـ قوله: «وأمّا الثاني فلأنّ التعبير بجلمة (دون ثياب إحرامها) يدلّ على مشروطية لبس ثوبي الإحرام للمرأة، دون الوجوب»([28]).

ج ـ قوله: «ومثال الرابع: صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله×: «… وتكتمل المرأة المُحرمة بالكُحل كلّه إلا كُحْلاً أسود لزينة»([29]).

دـ قوله: «… على أنّ التصدير بكلمة (لا) و(بلى) يساعد على اعتبار ذلك»([30]).

وإنما يقع اللوم في ذلك على مقوّم النص والمراجع، وليس على المؤلّف الذي قام بهذه الخدمة الدينية والحضارية الخطيرة خير قيام، فجزاه الله خير الجزاء، ونفع الله المسلمين بعطائه الغزير.

الخاتمة

1ـ لقد اتضح من خلال هذه الجولة السريعة في كتاب «دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي» ما امتاز به من نقاط إيجابية، وهي كثيرة جدّاً. وأيضاً تمّت الإشارة إلى ما عثرتُ عليه من نقاط ضعف قابلة للعلاج ـ كلاًّ أو جلاًّ ـ بحسب ظنّي.

2ـ إنّ وجود كتاب «دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي» كان قد وفّر فرصة ذهبية للتفكير الجادّ بحلّ إشكالية المناهج التعليمية، ولاسيما في الدائرة الفقهية؛ نظراً لشدّة تعقيدها. وهذا ما يُفسّر لنا تحاشي الكثير من الفطاحل من التصدّي لمثل ذلك.

والذي نقترحه بهذا الشأن هو أن يتصدّى لهذا المشروع الخطير عدّة لجان؛ لإعداد منهج محكم بالإفادة من النموذج الحيّ والتجربة الغنّية المتمثّلة بكتاب «دروس تمهيدية في الفقه الاستدلالي».

الهوامش

(*) أستاذ في الحوزة العلمية، وباحث متخصِّص في الفقه الإسلامي، ورئيس تحرير مجلة فقه أهل البيت^، من العراق.

([1]) الروضة البهية 1: 201 ـ 202.

([2]) وسائل الشيعة 3: 467، باب 37 من النجاسات، ح 4.

([3]) وسائل الشيعة 1: 317، باب 9 من المضاف، ح 6.

([4]) وسائل الشيعة 1: 206، باب 5 من المضاف، ح 3.

([5]) دروس تمهيدية 1: 41 ـ 43.

([6]) الروضة البهية 3: 339 ـ 342.

([7]) وسائل الشيعة 12: 345، باب 1 من الخيار، ح 1.

([8]) وسائل الشيعة 12: 347، باب 1 من الخيار، ح 7.

([9]) دروس تمهيدية 2: 28 ـ 29.

([10]) دروس تمهيدية 2: 13.

([11]) دروس تمهيدية 2: 36 ـ 37.

([12]) دروس تمهيدية 1: 78 ـ 79.

([13]) دروس تمهيدية 1: 106 ـ 107.

([14]) دروس تمهيدية 1: 152 ـ 153.

([15]) دروس تمهيدية 1: 60.

([16]) دروس تمهيدية 1: 82.

([17]) دروس تمهيدية 1: 36 ـ 37.

([18]) دروس تمهيدية 1: 130.

([19]) دروس تمهيدية 1: 318 ـ 319.

([20]) دروس تمهيدية 1: 379.

([21]) دروس تمهيدية 1: 324.

([22]) دروس تمهيدية 1: 64.

([23]) دروس تمهيدية 1: 318 ـ 319.

([24]) وسائل الشيعة 7: 295، باب 1 من صلاة الجمعة، ح 1.

([25]) دروس تمهيدية 1: 173 ـ 174.

([26]) دروس تمهيدية 1: 324 ـ 325.

([27]) دروس تمهيدية 1: 255.

([28]) دروس تمهيدية 1: 256.

([29]) دروس تمهيدية 1: 291.

([30]) دروس تمهيدية 1: 295.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً