أحدث المقالات

مشروع تقارب إيراني ـ عربي

معنى الثقافة ودورها ـــــــ

ثمّة مشكلة مشتركة بين الإيرانيين والعرب، تتمثل في عدم تحديد مفهوم الثقافة؛ فقد يُتصور أنها مواكبة أفكار العصر وأنّ النخب المثقفة تهتمّ بذلك وتتابع آخر الصرعات الفكرية الغربية. وقد تُفهم أنها العادات والتقاليد الموروثة، وتتجه وزارات الثقافة في عالمنا الإسلامي إلى تنشيط الثقافة غالباً عبر الاهتمام بالفلكلور والفنون التقليدية.

ومع كلّ ما تمتلكه النخب والدول من إمكانات في النشر والطباعة والإعلام فإن واقع الثقافة العام متخلّف؛ لأن الثقافة ـ في اعتقادي ـ مشروع تحريك الجماعة البشرية نحو الإبداع الحضاري في جميع المجالات، ولو فهمناها هكذا، أي لو فهمناها المزيجَ الفكري والعاطفي والنفسي الذي يوجّه حركة المجموعة البشرية نحو هدف معين، فسيمكننا القول: إنّ السموّ الثقافي يعني تعبئة طاقات الأمّة ودفعها نحو تحقيق أهدافها الإنسانية في جميع مجالات الحياة، وأن الانحدار الثقافي يعني هبوط حركة المجتمع وضياع الهدف.

والثقافة التي سادت المجتمعات العربية والإيرانية في قرون متوالية منذ القرن الهجري الأول حتى عصر الاستعمار، كانت وراء توحيد الأمة وحركتها نحو تثبيت الهوية وإثبات الوجود على الساحة البشرية، فحركة التاريخ تمرّ في الواقع عبر نشاطات المجموعات البشرية لإثبات هويتها.. وبمقدار ما تمتلكه الأمة من ثقافة فهي تساهم في حركة التاريخ، من هنا نفهم أهمية الثقافة في وجودنا ومستقبلنا.

ولا يمكن فصل ثقافة الأمّة عن جذورها التاريخية، وعن مزيجها النفسي الموروث، وعن تراثها ومفكّريها، وعن إيمانها ومعتقداتها، وكلّ محاولة لهذا الفصل إنما تؤدي إلى مسخ الأمة والقضاء على مخزونها اللازم للحركة والإبداع، وهذا لا يعني الوقوف عند الموروث، بل اتخاذه أساساً وقاعدةً للحركة واستشراف المستقبل، وثقافة منطقتنا الإسلامية ـ التي يعيش فيها الإيرانيون والعرب ـ مشتركة، مهما أريد تجزئتها باسم القومية والإقليمية والطائفية.

وأعظم سهم في إثراء هذه الثقافة وتعميقها ونشرها كان سهم الإيرانيين والعرب، وهم لذلك يتحمّلون السهم الأوفى من مسؤولية إحيائها ونفض ما رانَ عليها من غبار، ودفعها لمواكبة متطلّبات العصر، وتفعيلها كي تستعيد دورها في الإبداع الحضاري.

مجالات تنشيط التعاون الثقافي بين إيران والعرب ـــــــ

الغزو الثقافي الذي يواجهه العرب والإيرانيون تحت أسماء مختلفة مثل: العولمة، والشرق أوسطية، والتطبيع و.. يفرض فرضاً لا خيار آخر لهم فيه أن يتعاونوا ثقافياً، وهذا التعاون فيه اليوم العديد من المشجّعات التي ينبغي استثمارها وتطويرها، وهذه الورقة تتضمّن ذكر بعض المجالات التي يُمكن فيها تنشيط التعاون الثقافي بين إيران والعرب، مع بعض الاقتراحات. آملاً أن تكون حافزاً على فهم أهمية المسألة، وأهمية السعي لاستثمار هذه المجالات وتطويرها.

1 ـ وضوح الخطاب الإيراني ـــــــ

كان خطاب إيران الإسلام يقوم منذ انبثاق الثورة الإسلامية على أساس وحدة الأمة الإسلامية والتقريب بين فصائلها ومذاهبها، لكنّ هذا الخطاب كان معتّماً، ومشوباً بتضليل إعلامي كبير، كما كان مصحوباً بأخطاء هوّلتها وسائل الإعلام المعادية، واستمرّت هذه الحال طوال العقد الأول من عمر الثورة، ثم خفّت بالتدريج في العقد الثاني؛ نتيجة ظروف سياسية كشفت أوراق المزيّفين، ثم ها هو العقد الثالث من عمر الثورة يشهد وضوحاً تامّاً في الخطاب الإيراني، وجسور الثقة بدأت تمتدّ بين القيادات السياسية الإيرانية والعربية، كما أن الفئات المثقّفة من الجانبين بدأت تتواصل بكثافة أكبر.

غير أن الطريق الذي تمرّ به العلاقات الإيرانية العربية سيكون ملغوماً بما يحاول تفجير الموقف ويصادر المكتسبات؛ لأنّ هذا التقارب سيفوّت على المستفيدين من تأزم العلاقات الإيرانية العربية فرصاً كبيرة، ونحن نلاحظ اليوم أنّ وسائل الإعلام العالمية في هذا العقد الثالث من عمر الثورة بدأت تركّز على الإثارات الطائفية والقومية بين الإيرانيين والعرب، كما نشاهد نشر كتب مشبوهة في هذا المجال، أضف إلى ما تمارسه الدوائر الاستكبارية من عمل مكثف يستهدف تصوير تخلّي العرب والإيرانيين عن هويتهم ومقدّساتهم، وقبولهم بواقع الهيمنة الأمريكية.

ويتحمّل العرب والإيرانيون مسؤولية استثمار هذه الفرصة المتاحة ومواصلة الطريق بخطى حثيثة، وبوعي لأخطار الطريق، عليهم أن يستغلّوا كلّ فرصة للحوار والتعاون.

2 ـ الاهتمام الكبير الموجود في إيران لتعلّم اللغة العربية، والاهتمام النسبي الموجود عند العرب لتعلم اللغة الفارسية ـــــــ

الحاجز اللغوي أمرٌ لا ينبغي أن نتجاهله، ولابد من إزالته عن طريق فهم لغة الآخر، فروّاد النهضة في إيران اهتمّوا باللغة العربية، ونشهد مظاهر هذا الاهتمام في ارتباطهم بعيون الأدب العربي وبأدبيات النهضة في العالم العربي، وفيما أقرّ بعد انتصار الثورة الإسلامية في الدستور بشأن اللغة العربية، وفيما نراه من نشر واسع لهذه اللغة، يفوق ما ينشر في كثير من البلدان العربية، غير أن كلّ ذلك لم يبلغ الدرجة المطلوبة بسبب عدم تعاون العالم العربي مع العاملين في إيران على نشر اللغة العربية، وعدم وجود برامج متطوّرة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.

وفي العالم العربي، تقف مصر في مقدّمة البلدان العربية التي اهتمّت باللغة الفارسية، فلكلّ جامعاتها ـ على ما أعلم ـ فروعٌ متخصّصة في اللغة الفارسية، وفي كلّ العالم العربي يأخذ طالب اللغة العربية والتاريخ وبعض فروع العلوم الإنسانية عدداً من حصص اللغة الفارسية، غير أنّ كلّ هذا الاهتمام لم يبلغ مستوى تلبية حاجة العالم العربي لمتخصّصين في هذه اللغة وفي الشؤون الإيرانية، يضعون المهتمّين في العالم العربي في صورة المشهد الثقافي الإيراني، كما يصنع المتخصّصون العرب في اللغات الإنجليزية والفرنسية والروسية مثلاً.

وإذ قلت: إنّ العالم العربي غير مهتم بنشر لغته بين الإيرانيين، فإن في إيران أيضاً قصوراً وتقصيراً في تعليم اللغة الفارسية للعرب، أقول ذلك؛ لأنّني في إيران من المهتمّين باللغة العربية، وقد كنت في سوريا من المهتمّين باللغة الفارسية، وأشاهد كلّ ما في هذا المجال من العلاقات الثقافية من سلبيات، لكنّ وجود الرغبة لدى الجانبين أولاً، ووجود محاولات جادّة في هذا المجال ثانياً، يشجّع على المضي في تطوير ما هو موجود؛ ليبلغ مستوى الطموح، ووزارات الثقافة والتعليم العالي في إيران والعالم العربي، وهكذا مراكز الدراسات الشرقية فيهما تتحمّل مسؤولية النهوض بهذه المسؤولية، إضافة إلى المعاهد والمنتديات المهتمّة بالتقارب الإيراني العربي.

3 ـ الاهتمام المتبادل في حقل الأدب ـــــــ

كان للأدب العربي تأثير واسع على الأدب الفارسي، وكان للأدب الفارسي أيضاً تأثيره الواضح على الأدب العربي، وهذا التأثير المتبادل أثرى الأدبين أكبر الإثراء؛ لما حدث بينهما من تفاعل جادّ حقيقي يعود إلى اشتراكهما في الجذور والثقافة.

وبعد عصر الاستعمار، انقطع هذا التفاعل بالتدريج؛ بسبب الحواجز السياسية، ثم ما إن حدثت النهضة العربية الحديثة حتى تحسّس روّاد النهضة بضرورة الاتصال بين الأدبين: العربي والفارسي، فنجد كثيراً منهم على اتصال بالأدب الفارسي أمثال: محمود سامي البارودي رائد نهضة الشعر في مصر، ومحمد الفراتي وعبدالرحمن الكواكبي من رواد النهضة في سوريا، وجميل صدقي الزهاوي ومحمد مهدي الجواهري من رواد الشعر العراقي الحديث.

وقد تنبّه الدكتور عبدالوهاب عزام إلى أهمية التفاعل الأدبي بين إيران والعرب؛ فنشط في ذلك أيّما نشاط، وربّى في مصر جيلاً من المهتمّين بالأدب الفارسي تلته أجيال لا تزال حتى اليوم تهتمّ بالأدب الفارسي دراسةً وترجمة وتعليماً.

وفي إيران أيضاً، اتجه من تنبّه إلى أهمية التفاعل بين الأدبين: العربي والفارسي، نحو قراءة الأدب العربي وترجمته والتعريف بالأدباء العرب؛ لأنهم وجدوا في الأدب العربي القديم والمعاصر ما يغنيهم عن الآداب الأوروبية التي لا تمتّ إلى جذورهم بصلة، وأذكر ـ على سبيل المثال ـ أنّ أحد زملائي من كبار الشعراء ذهب إلى أمريكا ليطّلع على آداب تلك القارّة، فعاد ليكتب كتاباً عن الأدب العربي المعاصر؛ لأنه وجد في المكتبة الأمريكية ما استهواه من عيون الشعر المعاصر.

وقد شهدت السنوات الأخيرة اهتماماً نشطاً بالأدب الفارسي في مصر وسوريا والإمارات العربية المتحدة والكويت، عن طريق ترجمة الشعر والرواية والقصّة، وكتابة دراسات، وإقامة ندوات، ومن المتوقع أنّ هذه الحركة ـ لو استمرّت ـ لاستطاعت أن تنقذ الأدبين: العربي والفارسي مما أصيبا به من ضعف؛ نتيجة اللقاء المهزوم الذي تمّ بينهما وبين الأدب الغربي، ولاستطاعت أن تعيد للأدبين الأصالة والاستمرار في التطوّر القائم على الجذور.

ولا يخفى ما للحركة الأدبية من تأثير على إحياء روح النهضة، ولا يمكن لمشروع نهضوي أن يتجاهل دور التطوّر الأدبي فيه.

4 ـ الاهتمام بتبادل الفكر الأصيل المعاصر ـــــــ

كانت حركتنا الفكرية في إيران والعالم العربي مشتركةً على مرّ العصور، والتيارات الفكرية التي ظهرت في العالم الإسلامي لم يكن لها حدود جغرافية، ثم جاءت التيارات الفكرية الغربية لتدخل إيران والعالم العربي في أشدّ فترات هبوط الفكر وخلوّ الساحة من القادة المبدئيين في هذه المنطقة، وانفعل العالم الإسلامي بهذه التيارات ولم يتفاعل معها، وسادت موجةٌ من الإلحاد والتشكيك في الدين، والاستهانة بالتراث، وبكلّ ما هو أصيل، وانفصل الأزهر عن الجامعة الحديثة، تبعه انفصال الحوزات العلمية في إيران عن الجامعة، ثم حين تخلّى قطاع من المثقفين عن ولائهم السياسي لأوروبا / اليمين، اتجهوا إلى جانب أوروبا / اليسار، وكأنّ أوروبا أصبحت هي القبلة التي لا مناص من التوجّه إليها على أيّ حال.

ولو استقصينا موجة التغرّب بين الإيرانيين والعرب لرأيناها واحدةً في منطلقاتها وتوجّهاتها وخطابها، دون أن يكون بينها صلة غالباً.

ثم ظهر تيار العودة بكلّ سلبياته وإيجابياته المشتركة في العالم العربي وإيران، سلبياته المتمثلة في ما شابَهُ أحياناً من السطحية وفقدان الرؤية المستقبلية الواضحة وفقدان المنهجية في الحركة، والإفراط والتفريط في النظرة إلى التراث وإلى الغرب، وإيجابياته المتمثلة في رفض الهزيمة، والعزم على استعادة العزّة، والإيمان بأن استعادة الكرامة لا يمكن أن تكون إلا على أساس من الأصالة والاستمداد من الجذور.

وهذا التيار، بكل ما يتضمّنه طيفه من ألوان التوجّهات والأذواق والرؤى، له مكانته الكبرى في واقع إيران والعرب، وعليه تعقد الآمال في مستقبلٍ حرّ كريم.

وأهم ما يعانيه هذ التوجّه الفكري هو الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهذا الجمع يتطلّب فهماً واضحاً معمقاً للتراث بعيداً عن النصيّة والتحجّر والتقليد، كما يتطلّب فهماً للواقع بعيداً عن الهزيمة والذوبان والتبعية، وليس هذا الأمر بالسهل، لكن كلاً من العرب والإيرانيين يمتلكون في هذا المجال تجارب لا يُستهان بها؛ فالعرب يمتلكون هذه التجارب منذ وقت مبكر.. أي منذ أن دخلت خيول نابليون الأزهر، والإيرانيون امتلكوها منذ وقت متأخر عن ذلك حين حدثت الحركة الدستورية (المشروطة) في أوائل القرن العشرين، ثم هم دخلوا في تجربة عملية رائدة للجمع بين الأصالة والمعاصرة بعد إقامة الدولة الإسلامية في إيران.

وتبادل هذه التجارب على غاية من الأهمية؛ لوقاية هذا التوجّه الفكري من كلّ ما ران عليه من سلبيات، وإثراء الإيجابيات، من هنا أرى من الضروري اجتماع النخب الفكرية من الإيرانيين والعرب لتأصيل فكرنا ودفعه نحو مواكبة متطلّبات العصر.

5 ـ الاهتمام المشترك بالجمع بين القومي والإسلامي ـــــــ

استطاع المشروع الإسلامي في عصور التاريخ الإسلامي أن يزيل التناقض بين التوجه القومي والتوجه الديني، ولذلك أمثلة لا تحصى، كلّها تثبت زيف ما يقال: إن التوجه القومي كان هو المسيّر لأحداث القرون الإسلامية الأولى، رغم اعترافنا بوجود نزعات قومية عشائرية، غير أن الهوية الإسلامية كانت هي الغالبة في التوجّه العام للمجتمع الإسلامي، ولا نعني بغلبة الهوية الإسلامية إذابة الاختلافات القومية القائمة في اللغة والعادات والتقاليد ومصالح القوم، بل نعني أنّ هذه الاختلافات أخذت مكانها المناسب ضمن إطار الهوية الإسلامية، ولم تطغ على هذه الهوية، أو تصطدم بها.

ثم تضخّم المشروع القومي في القرن الأخير نتيجة التأثير الأوروبي واصطدم بالمشروع الإسلامي، فكانت هناك الدعوة القومية أو المليّة ـ بحسب التعبير الإيراني ـ والدعوة الإسلامية، وهذا الاصطدام كان له أكبر الأثر في تخلّف حركة التقدّم في العالم العربي، كما أنه أحبط أكبر مشروع لحركة التحرير أيام تأميم النفط في إيران.

ثم ظهرت في إيران والعالم العربي موجة المصالحة بين القومي والإسلامي، لكنّ العملية تحتاج إلى مزيد من الحوار للتوصّل إلى مشروع يضمن تطلّعات الطرفين.

العالم العربي شهد حواراً جاداً بين التيارين: الإسلامي والقومي، وإيران تشهد مثل هذا الحوار، لا على مستوى الندوات والمؤتمرات، بل على مستوى الصحافة ومستوى اتخاذ المواقف العملية المنسجمة مع المبادئ والمصالح القومية، فالمسألة لم تحسم عند الجانبين، وأعتقد أن تبادل التجارب في هذا المجال يعمل على تسريع عملية وضع الصيغة المناسبة للمشروع الذي يحفظ المصالح القومية في الإطار الإسلامي، كما يعمل على إزالة الحساسيات القومية الموروثة من عصر التنافر القومي بين الإيرانيين والعرب، وأقترح أن يكون في الأمانة العامة للحوار الإسلامي القومي أحد رجال الفكر الإيرانيين، أو يدعى على الأقل في مؤتمرات هذا الحوار.

6 ـ الاهتمام المشترك بالاستقلال العلمي ـــــــ

من خلال علاقاتي المباشرة بالجامعات العربية والإيرانية، تبيّن لي أن ثمّة إيماناً بدأ يترسّخ في أوساطنا الجامعية يرى أن التعاون مع الجامعات الغربية، رغم ما فيه من اكتساب للمعارف والعلوم، لا يعطينا الأسس اللازمة للتطوّر العلمي، بل يفيدنا في تراكم المعرفة لا غير، ولابدّ لتحريك روح الابتكار والاختراع في العقول والنفوس من تعاون بين جامعات ما يسمّى بالدول النامية، لكنّ هذا التعاون يحتاج إلى جهود ضخمة لتذليل العقبات الإدارية، واجتياز موانع البيروقراطية المهيمنة مع الأسف على جامعاتنا، كما يحتاج أيضاً إلى إيمان عام يسود أفراد مجتمعنا بأنّ عقولنا ليست بأقلّ من عقول أبناء البلدان المتطوّرة، أي لابدّ من استعادة الثقة بالنفس، مقدمةً لازمة لهذا التعاون.

لقد ألفيت من خلال ارتباطي بمراكز الأبحاث العلمية في العالم العربي وإيران، أنّ العرب والإيرانيين المهاجرين يشكّلون نسبةً عالية من الطاقات العلمية المبتكرة والمخترعة في أوروبا وأمريكا. كما أنّ كثيراً من الاختراعات العلمية في العالم العربي وإيران يقدّمها الباحثون العرب والإيرانيون إلى مراكز البحث العلمي الأوروبي لقاء ثمن بخس، ثم تستثمرها تلك المراكز باسمها.

ربما لا نستطيع ـ نحن العرب والإيرانيون ـ أن نواكب التطوّر التقني في العالم الصناعي؛ لهبوط الإمكانات المالية أو لعدم الاهتمام أصلاً بالتخطيط العلمي، ولكنّ العقول لم تعقم ولم تنضب، بل تنقصها الثقة والدعم، وإذا قُدّر لهذه العقول أن تنشط ضمن برنامج مدروس لأمكن أن تكون عائدات بلداننا من بيع المعلومات العلمية أكثر بكثير من عائدات مودانا الخام، أضف إلى ذلك أنّ هذا التفعيل للعقول وتوجيهها يساهم في تطوير المشروع الحضاري للعالم الإسلامي، ويسجّل له المكانة المناسبة على صعيد التطوّر العلمي في العالم.

أعتقد أن العالم الإسلامي بحاجة إلى مجمع لمخترعين، وأهميته لا تقلّ عن أهمية المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ومن الممكن أن يكون نشاطه ضمن الاسسكو، شرط أن لا يقع في الشكليات، وأن لا يُكتفى بأضواء الإعلام، بل إن الاعلام في هذا الحقل مضرّ، فلابدّ من العمل بهدوء ودقّة وضمن دائرة مغلقة لا تتسرب منها المعلومات.

7 ـ الاهتمام المشترك بمواجهة الغزو الثقافي ـــــــ

يواجه العالم بأجمعه غزواً ثقافياً باسم «العولمة»، هدفه فرض نمط الحياة الأمريكية على الكرة الأرضية، ثم هناك الصهيونية التي تعمل ـ جنباً إلى جنب ـ مع السياسة الأمريكية لمسخ هوية الشعوب، وإشاعة البهيمية في ربوعها، مستخدمة الفضائيات العالمية، ومخترقةً فضائيات المنطقة.

وتواجه إيران منذ انتصار الثورة عمليةً مكثفة لتزلزل النفوس المؤمنة بثورتها وعقيدتها، والتشكيك في كلّ القيم والمقدسات، وإشاعة روح الهزيمة واللامبالاة، والعالم العربي أيضاً يواجه عملية غسل دماغ واسعة لمواكبة عملية التطبيع، ولكسر روح المقاومة والصمود، وإبعاده عن استشعار العزّة والكرامة.

من هنا، فإننا نعيش تحدّيات مشتركة تريد أن تحوّلنا إلى جسد ميت لا يحسّ بألم الجراح، ولا يثور إذا ما طُعن في كرامته وعزّته، وفي تراثنا الثقافي الديني والأدبي ما يستطيع أن يقي أمتنا هذا الغزو المكثف، شرط أن تتظافر الجهود لإحيائه ونشره وتعميقه في النفوس.

بإمكاننا أن نضع خطةً عامة تُسخّر لها الكتب الدراسية ووسائل الإعلام ومراكز التربية والفنون الأدبية والاستعراضية والسينمائية؛ لصيانة هويّتنا من هذا الغزو، وهذا ما يتطلّب إيماناً عاماً بتعرّضنا لغزو، ومعرفةً بطبيعة هذا الغزو، وسبله ومحاور عمله.. ثم وضع الخطّة الشاملة لمواجهته.

8 ـ التعاون التراثي ـــــــ

تضمّ إيران كنوزاً كبرى في التراث الإسلامي العربي، وأقول: «العربي»، لأن جلّه مدوّن باللغة العربية، والمكتبات العربية تضمّ هي الأخرى كنوزاً تراثية، هذا غير آلاف المخطوطات في المكتبات العالمية.

وهذه الكنوز فيها كلّ ما يفيدنا لأن نبني عليه حركتنا الحضارية، لكنّ حركة إحياء التراث في منطقتنا الإسلامية ليست على المستوى المطلوب؛ لأسباب أهمّها:

1 ـ روح الاستهانة بالذات، فكلّ ما هو أصيل لا يلقى عندنا اهتماماً، اللهم إلا إذا اهتمّ به الغرب، وأذكر أنّ العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان كان يقول: نحن لا نمجّد شخصياتنا العلمية إلا إذا مجّدها الغرب، فابن سينا كان من ربوع وطننا، وكتبه كانت موجودةً بين ظهرانينا، لكنّ جامعاتنا لم تهتمّ به إلا بعد أن اهتمّ به الغربيون، فكأنهم قد اكتشفوه لنا، ونحن رحنا على أثرهم ندبّج المقالات ونقيم الندوات والمؤتمرات.

2 ـ عدم وجود المشروع الحضاري الذي يستطيع أن يستمدّ من التراث مقوّماته، فمادام هذا المشروع غائباً، وما دامت حركة الامتناع الحضارية متوقفة، فإننا لا نستطيع أن نستوعب التراث ونفيد منه؛ لذلك ننظر إلى كتب التراث وكأنها «ألسنة الأموات»، كما شاع في كلام المتغرّبين الإيرانيين، بينما ساهم هذا التراث ـ بشكل جادّ ـ في صنع الحضارة الغربية، كما يمكن أن يكون أساساً لنهضتنا الحضارية.

من هنا، يمكن أن يكون بين العرب والإيرانيين توجّه جديد إلى التراث، يحييه وفق منظور حضاري واضح، وعملية الإحياء إن كانت قائمةً على وضوح الرؤية والنظرة المستقبلية فإنها تساهم ـ إلى حدٍّ كبير ـ في إزالة روح الهزيمة النفسية، كما تساهم في تجميع لبنات المشروع الحضاري للأمة الإسلامية.

وتوجد في إيران مؤسّسات متخصّصة بإحياء التراث في قم، وطهران، ومشهد، كما توجد مراكز إحياء التراث العربي في أكثر العواصم العربية، ويمكن أن يكون بينها تعاون وثيق في إطارٍ بنّاء.

وهنا أسجل ملاحظة تبعث على الأسف، هي أن مؤسسةً إيرانية لإحياء التراث وجدت في المراكز الثقافية الفرنسية والألمانية اهتماماً كبيراً في التعاون المشترك على إحياء التراث الإسلامي أكثر مما وجدته من المراكز العربية، كما بودّي أن أسجل ملاحظةً أخرى، وهي أن كتب التراث المطبوعة أصبحت من التحف التي يقتنيها الموسرون ليزيّنوا بها بيوتهم، ولذلك أسرع تجّار الكتب إلى طباعة المخطوطات دونما تحقيق متقن، واكتفوا بالتجليد المذهّب المزركش، فأساؤوا إلى التراث بدل إحيائه، وكم هو نافع لو قام مركز مشترك للمخطوطات بين العرب والإيرانيين يتحرّى مظانّ التراث في كلّ مكتبات العالم، ويشرف ـ بشكل دقيق ـ على تحقيقه وفق معايير فنية، ويدرّب الشباب على العمل المتقن في مجال المخطوطات، ويدفع بذخائرنا إلى الدراسة والطباعة حسب أولويات الحاجة إليها، درءاً للعشوائية القائمة في انتقاء المخطوط، ومن الممكن أن يبدأ تشكيل مثل هذا المركز بين إيران وأيّ بلد عربي آخر أولاً، ليكون نواةً لعمل إيراني ـ عربي موسّع في المستقبل.

9 ـ التعاون الفني ـــــــ

تمثل الفنون جانباً هاماً من ميزة الهوية الحضارية للعرب والإيرانيين، ولا يمكن فصل الفنّ عن الطابع الحضاري للأمّة، وقد كانت فنون هذه المنطقة الحضارية توحّدها من أقصاها إلى أقصاها، في حقل العمارة والموسيقى والرسم و.. وفي العصر الحديث بقيت هذه الفنون ـ بدرجة وأخرى ـ تطبع منطقتنا بطابعها الخاص، غير أنها لم تتطوّر بسبب ضعف التحرّك الحضاري، ثم انفتح عالمنا على فنون أوروبية جديدة لم ينغلق أمامها، بل أخذها وحاول أن يوائم بينها وبين موروثه الثقافي، ويتوقّف مدى نجاح عملية المواءمة على القدرة الفنية الإبداعية وعلى التعمّق في روح التراث، ولاتزال هذه العملية تراوح بين النجاح والإخفاق، وتعتبر من التحدّيات الهامة التي تواجه هويتنا الحضارية وموروثنا الثقافي.

وقد قطعت إيران بعد الثورة أشواطاً هامّة على طريق تطوير الفنون القديمة وتأصيل الفنون الحديثة؛ ففي مجال الفنون القديمة التي أوشك بعضها أن يُنسى سعت الأجهزة التراثية إلى حشد أساتذة هذه الفنون ودفعهم إلى تطوير فنّهم، وإلى تعليم طلبتهم، ثم إنّ كلّ البلدان العربية لها من هذه الفنون التقليدية ما تحرص على صيانته وتطويره، والتوجّه المشترك بين البلدان العربية وإيران نحو تطوير الفنون القديمة يصون عمارتنا من المسخ وموسيقانا من الابتذال وفنوننا من التقليد العشوائي، كما أنّ بذل المساعي المشتركة على طريق تأصيل الفنون الحديثة يفسح لنا المجال لننفتح على الفنون الحديثة ونتفاعل معها، لا أن ننفعل بها، ونجعل منها مشروعاً حوارياً عملياً بين الحضارات، يحافظ على نقاط القوّة، ويتجاوز مساحات الضعف التي لا تنسجم مع الفطرة الإنسانية، وأقترح في هذا المجال تأسيس مركز خاص بالتعاون الفنّي بين إيران والعرب، يركّز على الفنون الجميلة، وفنون السينما والمسرح، ويمكن أن يكون ذلك على مستوى الدراسات الجامعية النظرية، أو على مستوى العاملين في مؤسّسات هذه الفنون.

10 ـ التعاون في حقل صيانة الوحدة الوطنية ـــــــ

الوحدة الوطنية هدفٌ هام من أهداف إيران وكلّ بلد من البلدان العربية، فالتعدّدية القائمة في منطقتنا ـ رغم ما يمكن أن يكون فيها من عطاء إيجابي ـ كانت سبباً لإثارة النزاعات وتمزيق الوحدة الوطنية؛ فإيران ـ كسائر بلاد العرب ـ فيها تعدّدية مذهبية ودينية وعرقية، وهي تعدّدية يمكن أن تكون ـ كما ذكرت ـ مصدر عطاء وثراء، وهكذا كلّ تنوع يمكن أن يرتفع إلى هذا المستوى إذا توفّرت له البيئة السليمة، وأبعد عن الحالة التي تعرّضه إلى الاستفزاز، وأعتقد أن جوّ الحوار أسلمُ طريقة لتوفير البيئة المذكورة ووقايتها من التعرّض للمسيئين.

لقد كانت لإيران والعرب في العصر الحديث تجربةٌ رائدة في مجال الحوار المذهبي؛ إذ تأسّست في منتصف القرن العشرين دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، والتقريب كلمة تحمل كلّ ما كان يريده أصحابه من الدار، فهي لا تريد إلغاء المذاهب؛ لأنه مستحيل، ولأنه يلغي اجتهادات مفيدة في حقول العلم والعمل، وقطعت أشواطاً رائعة في طريق إزالة الحساسيات المذهبية الموروثة، وخلقت بين السنّة والشيعة حالةً سليمة من الحوار الهادئ القائم على احترام الرأي الآخر، ثم تواصلت التجربة في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية ضمن إطار المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، واهتمّ بهذا الحوار التقريبي المغرب والأردن والمملكة العربية السعودية، ومن المؤكّد أنها موضع تأييد كلّ المهتمين بالوحدة الوطنية والوحدة الإسلامية في هذه المنطقة.

وبالمناسبة، فالحوار الإسلامي ـ الإسلامي مطلوب في إطار أوسع من الحوار السنّي ـ الشيعي؛ لما تشهده منطقتنا من أفكار شاذة أو متطرّفة أو التقاطية تتسمّى باسم الإسلام، وتعمل على بلبلة المجتمع، من هنا أرى أننا بحاجة إلى مجمع للفكر الإسلامي، وحاجتنا إليه لا تقلّ عن حاجتنا إلى مجمع الفقه الإسلامي؛ لأن الفكر هو الذي يرسم المشروع العملي العام لحركة الفرد والمجتمع.

ثم هناك أيضا مجال الحوار الإسلامي ـ المسيحي، وهو أيضاً قادر على أن يصون وحدتنا الوطنية، إضافة إلى قدرته على إحلال التفاهم بين الشرق والغرب، ولإيران وكثيرٌ من البلدان العربية جهود داخلية أو عالمية في هذا المجال، فالتعاون بين العرب وإيران في حقل الحوار الإسلامي ـ المسيحي يمكن أن يثري التجربة، ويوحّد منطقتنا الحضارية في عملية حوار الحضارات، ضمن إطار الحوار بين الغرب والعالم الإسلامي.

هذه نماذج من سبل تنشيط التعاون الثقافي بين إيران والعرب، ويمكن أن تأخذ مسارها العلمي دون التأثر بالخلافات السياسية، بل يمكن أن تكون مقدّمةً للتفاهم السياسي والتعاون الاقتصادي والأمني بين إيران والعرب؛ لأن التعاون الثقافي يمسّ شغاف القلب، ويرفع العلاقة إلى مستوى إنساني نبيل مترفّع عن المصالح الآنية الضيّقة.

(*) أستاذ في جامعة طهران، والمستشار الثقافي الإيراني السابق في سوريا، عضو الهيئة الاستشارية لمجلّة «نصوص معاصرة»، وناشط في مجمع التقريب بين المذاهب، رئيس مركز الدراسات الثقافية الإيرانية العربية، والأمين العام لجمعية الصداقة العربية الإيرانية.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً