أحدث المقالات

أولا: إن القول بالثقافة البانیة یقتضی أمرین اثنین: أولهما: أن الثقافة المنعوتة بكونها بانیة تضطلع بمهمة البناء، منذ البدء وعلى وجه التدرج، وفق سنن البناء وقواعده وأدواته للوصول إلى غایات محددة سلفا. وثانیهما: أن تحمل هذه الثقافة على عاتقها أمانة البناء فی المجال الذی هی منوطة بالبناء فیه، بعد حصول الهدم والتخریب الذی یطول الإنسان الذی هو من صنع الله. وفی هذه الحالة نكون أمام إعادة البناء، وهی فی نهایة الأمر بناء على كل حال. والثقافة البانیة التی نحن بصدد الحدیث عن عوائقها مؤهلة لكلتا العملیتین، وتاریخ هذه الثقافة الزاخر بالإنجازات الرفیعة یؤكد هذه الحقیقة الناصة. ومصطلح الثقافة البانیة ظهر أول ما ظهر، وراج استعماله على ید الشاعر والناقد الدكتور حسن الأمرانی خلال مقالاته التی أصدرها تباعا بمجلة المشكاة(1) تحت شعار كبیر یحمل الاسم نفسه: "نحو ثقافة بانیة: بل هی فتنة"، یقوم الدكتور حسن الأمرانی بتشخیص للثقافة السائدة من ال تحدیده للآلیات المحركة لها، والعلل المستحكمة فیها، ویمیز فی هذه الثقافة بین "ثقافة جامدة"، و"ثقافة منبتة" وقد آلى الأستاذ الأمرانی على نفسه – فی سیاق الإسهام فی إعادة تجنید الثقافة البانیة – أن یكشف مثالب وعورات الثقافة المنبتة التی كانت تعیش أوج صولتها الإیدیولوجیة فی ذلك الزمان، وذلك من خلال عرضه لنماذج منها عرضا نقدیا فاحصا واستخراج المنطلقات الإیدیولوجیة الكامنة وراءها. ثانیا: تحدید مفاهیم الموضوع: 1) المعوقات جمع معوِّق، وهو ما یحول دون تحقیق شیء ما، والمقصود بالمعوقات – فیما نحن بصدده – هو كل ما یعرقل مهمة الثقافة البانیة، ویحاول سد المنافذ أمامها، بوصفها رؤیة عقدیة ونسقا من القیم ذا صبغة خاصة، یؤدی تمثلها إلى صیاغة نموذج حضاری متفرد. 2) الثقافة: یذهب الدكتور الشاهد البوشیخی إلى أن مفهوم "الثقافة" مُحْدَثٌ ووافد كذلك لأن هذا التصور –بصفة عامة- للمعانی التی تؤخذ من تفاعل الإنسان مع الأرض- مفهوم غریب على الأمة الإسلامیة؛ لأن أصل التلقی فی هذه الأمة من الوحی (العلم) ولیس من الأرض. یقول الله -سبحانه وتعالى-: {فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم یرد إلا الحیاة الدنیا ذلك مبلغهم من العلم}(2) (النجم/30). وقصارى ما یمكن فعله فی تأصیل لفظ "ثقافة" لا یعدو(3) أن یتم على نطاق اللغة العربیة، بحیث نجد أن من بین معانیه معنى التقویم (أی تقویم الاعوجاج). ویرى الدكتور الشاهد البوشیخی أن "الوضع الأصلی هو أن تنبت الأمور من جذورها، وهذه هی الموالید الشرعیة للمواریث الحضاریة".(4) وإذا نحن أخذنا بهذا المفهوم (الثقافة) فبناء على كون أحد معانیه فی اللغة العربیة التقویم فإنه یشكل الحصیلة المتوخاة من التفاعل مع العلم الذی یعطیه الوحی، ویمكن أن نعتبر أن المشكل قد حُلً بصورة غیر مباشرة، بقولنا: إن "التقویم" الذی تتضمنه مادة "ث ق ف" لا یتم حقا إلا عبر الأخذ بمنهج الإسلام، ومنظومته القیمة. غیر أن مشكلا آخر یواجهنا فی هذه الحالة، وهو أن هذا التخریج سیجعل من وصف الثقافة بـ "البانیة" مجرد تحصیل لحاصل؛ لأن التقویم هو بناء بمعنى من المعانی. والذی یخرجنا من هذا الإشكال –فی اعتقادی- هو الانطلاق من كون الثقافة مجموعة من القیم والمعاییر وأنماط التصرف والسلوك السائدة فی مجتمع ما أو أمة من الأمم، تختلف أشكالها وتجلیاتها وطبیعتها باختلاف منطلقاتها وأصولها الفلسفیة (5) غیر أن الذی یمیز هذه فی الإسلام أنها بانیة، على العكس مما هی علیه فی غیر ظل الإسلام. 3) بانیة: والمقصود بها ما هو فی مقابل "الهادمة" أو "الهدامة". 4) الثقافة البانیة: وهی تلك التی تمارس عملیة البناء وفق النموذج الإسلامی وبناء على التصمیم والمواصفات التی یقدمها الإسلام، وتتخذ لذلك مجمل الوسائل والقنوات المتاحة والمتجددة باستمرار. 4-1: من خصائص الثقافة البانیة: من خصائص الثقافة البانیة أنها تستهدف مجمل بناء الإنسان، على أساس من الواقعیة والتوازن والشمول فلا تبنی عقله دون روحه، ولا تصوره دون سلوكه أو ذوقه، ولا تُعِدُّه لدنیاه دون أخراه، بل تجعل الأولى مزرعة للثانیة. غیر أن السمة الفارقة التی تتمیز بها البانیة – دون منازع- هو تقدیرها للفطرة وتجاوبها العمیق معها، على اعتبار اشتراكهما فی الأصل الواحد، إنْ على مستوى الصیاغة والوجود، أو على مستوى الهدف والغایة، یقول الله -سبحانه وتعالى-: {فطرة الله التی فطر الناس علیها لا تبدیل لخلق الله ذلك الدین القیم ولكن أكثر الناس لا یعلمون} (الروم/30).

ویقول الرسول -صلى الله علیه وسلم-: "كل مولود یولد على الفطرة، فأبواه یهودانه أو یمجسانه أو ینصرانه، كما تنتج البهیمة بهیمة جمعاء، هل تجدون فیها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها"(6). وبناء على دلالات هذا الحدیث، وألفاظه یمكننا أن نصف الثقافة البانیة بأنها "ثقافة الجمع"، وما سواها بـ "ثقافة الجدع". ومما تورثه ثقافة الجمع إذا توفرت لها الشروط، وتوفر لها المناخ والاستواء النفسی الناتج عن الاطمئنان القلبی مصداقا لقول الله –تعالى-: ﴿الذین آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب﴾(الرعد/28)، وبناء الإنسان الرَّسَالیَّ الذی یشرئب بكیانه نحو الآخرة ویقیم حیاته وفق ذلك النزوع، مترسماً فی ذلك قوله –تعالى-: ﴿وإن الدار الآخرة لهی الحیوان لو كانوا یعلمون﴾ (العنكبوت/64) غیر أن ذلك لا یعنی البتة الإعراض الكلی عن الدنیا، فالثقافة البانیة أو ثقافة الجمع لا تمانع فی أن یأخذ ابن آدم نصیبه من الدنیا، ﴿وابتغ فیما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصیبك من الدنیا وأحسن كما أحسن الله إلیك ولا تبغ الفساد فی الأرض إن الله لا یحب المفسدین﴾ (القصص/77) لأن ذلك الأخذ مما تتحقق به مقصدیة الإنجاز الرسالی؛ لأن بنیان الفطرة یقتضیه، وطبیعة الإنسان النقیة تتطلبه. ومن الأحادیث الشریفة التی تعكس خاصیة "ثقافة الجمع" فی مقابل "ثقافة الجدع"، الحدیث الذی رواه أنس عن النبی -صلى الله علیه وسلم-: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه فی قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنیا وهی راغمة، ومن كانت الدنیا همه جعل الله فقره بین عینیه، وفرق علیه شمله، ولم یأته من الدنیا إلا ما قُدّر له"(7). إن الخروج من مجال الثقافة البانیة، أو "ثقافة الجمع"، یفضی بصاحبه حتماً إلى بوتقة "ثقافة الجدع" التی من مظاهرها وثمارها تفریق شملِ مَنْ خَضَعَ لسلطان تلك الثقافة، أو ملازمة شبح الفقر له ملازمة قهریة. إن الثقافة البانیة تشق طریقها وسط أمواج عاتیة من المكر والفساد، الأمر الذی قد یهدد مسیرها بالتعثر، وربما بقدر غیر قلیل من الخسائر، هذا إذا لم تحكم دفاعاتها، وتحصیناتها، وتطمح إلى الانتقال إلى عملیة الهجوم والاقتحام. والحقیقة التی لا مراء فیها، والتی تمثل سنة من سنن الله-تعالى- فی كونه وخلقه، هی أن عاقبة الصراع بین هذین النوعین من الثقافة إنما هی للثقافة البانیة. یقول الله -سبحانه وتعالى-: ﴿والذین جاهدوا فینا لنهدینهم سبلنا وإن الله لمع المحسنین﴾(العنكبوت/69). إن معوقات عنیدة تقف فی وجه الثقافة البانیة، وهی تحتاج إلى إصرار عنید، وخطة محكمة لزحزحتها وإبطال سمومها. وأول سلاح فی هذا السیاق یجب امتلاكه هو المعرفة الواعیة والدقیقة بتلك المعوقات من حیث أسسها ومكوناتها ومظاهرها وتجلیاتها. وفیما یلی سأحاول الوقوف عند طائفة من تلك المعوقات والتحدیات: التی یمكن تصنیفها إلى معوقات مفاهیمیة، ومعوقات اجتماعیة بنائیة ومعوقات نفسیة تربویة ومعوقات ثقافیة سلوكیة.   أولا: المعوِّق المفاهیمی: ویتمثل فی المفهوم المنحرف للثقافة، الذی یًرَوَّجُ ویراد له أن یَقَرَّ فی الأذهان، إن المفهوم الأنثروبولوجی أو المعرفی للثقافة الذی ینظر إلیها على أنها حشد من المعارف تحشد فی الرؤوس، أو مجموعة من العادات والاعتقادات وأنماط الحیاة، والممارسات التی تطبع مجتمعا بعینه، هذا المفهوم التایلوری للثقافة، هو "الذی على أساسه تؤسس الوزارات والمؤسسات الجِهَوِیَّة والقطریة والدولیة، من مثل الیونسكو، إن هذا المفهوم الشائع للثقافة الذی كاد یصبح من المُسَلَّمات التی لا تحتاج إلى رد أو برهان، یشكل –بحق- حجابا سمیكا فی أذهان من یعتنقونه من المسؤولین عن الأجهزة والمؤسسات التی یناط بها أمر الثقافة، یحول دون الإدراك الصحیح للثقافة فی معناها الحق، بوصفها مستبطنة لمعانِ من قبیل الصقل والتهذیب والتقویم، وهذه الحیلولة من شأنها أن تدیم واقعا منحرفا یتمثل فی تهجین الناس.   ثانیا: المعوقات الاجتماعیة البنائیة: والمقصود بها جملة المكاید والمحاولات المحمومة والمؤامرات الدؤوبة الرامیة إلى إنهاء دور الأسرة بوصفها نواة المجتمع الصلبة التی یناط بها أمر تنشئة الأجیال وضمان سریان القیم واستمرارها عبرها. إن أعظم معقل وأخصب مناخ تزرع من خلاله عناصر وبذور الثقافة البانیة إنما هو الأسرة، فأی توهین لنسیجها یلحق أضرارا بلیغة بإمكانیة توسیع نطاق الثقافة البانیة، بل إنه لیهددها فی وجودها. وهناك مُعَوِّق آخر ضمن هذا النوع وهو ذلك المتصل بالنسیج القانونی أو التشریعی السائد فی المجتمع. فغیاب تطبیق الشریعة الإسلامیة، وإحلال القوانین الوضعیة محلها -یؤثر سلبا على التزام أفراد المجتمع بالعقیدة الإسلامیة، وعلى استعدادهم للخضوع لمقتضیاتها على مستوى العمل والممارسة. إن عملیة نشر الثقافة البانیة فی بیئة تكتنفها القوانین الوضعیة- عملیة محفوفة بالمشاقّ والصعاب، مشحونة بالمعاناة، ومع ذلك فهی لا تعدم نتاجها أو ثمراتها على مستو لإعداد النفسی وإعداد الخمائر لمستقبل مرتقب لا ریب فیه، وإن یكن ذلك محصوراً فی الأغلب الأعم داخل نخبة ممَّنْ أوتوا جِدَّةً فی الوعی، ورهافة فی الحس، وحرارة فی الغیرة، بسبب مستواالعلَمی ورصیدهم الخلقی التربوی، ومواقعهم التی یحتلونها، أو التی هم مرشحون لاحتلالها.   ثالثا: المعوقات النفسیة التربویة: وأعنی بهذه المعوقات ما تمثله المؤسسة التعلیمیة من جهة، والمؤسسة الإعلامیة من جهة أخرى من أدوار خطیرة على مستوى إفساد العقول والنفسیات، وإلحاق تشوهات مریعة بالفطرة، هی بتعبیر الحدیث الشریف جدع للشخصیة البشریة وإتلاف لجوهرها الحق. فالمؤسسة التعلیمیة تحتوی على عوائق معرفیة وتقنیة ویكون علینا أن نعمل على تجاوز قضایا ومسائل الهدم من أجل البناء الشامل. أما عن المؤسسة الإعلامیة فحدِّثْ ولا حرج، إنها تعمل بإصرار، وبشكل رهیب، من خلال أذرعها الأخطبوطیة على امتصاص عناصر الثقافة البانیة، السابحة فی سدیم المجتمع، وإضعاف مقاومتها وصمودها. إن جملة من الآلیات التی ارتبطت بممارسة الإعلام بشكل عام، والمرئی منه بشكل خاص تمثل معوقا حقیقیا فی وجه الثقافة البانیة، یتطلب من هذه أن تقوِّیَ قواعدها وتطور وسائلها، من أجل البقاء ثم التجاوز. وسأورد بعض تلك الآلیات المؤسسة على خبرات ومعطیات ذات صلة بـ"علم تحریف النفس"، فیما یلی: * إن أول آلیة فی هذا السیاق تتمثل فیما یسمیه الدكتور عبد الرحمن عزی، الأستاذ بقسم الإعلام بجامعة الملك سعود بالریاض، بجمهرة الثقافة (أو تبسیطها وتشویهها): "وتعنی الثقافة الجماهیریة تلك الثقافة التی تنتجها وسائل الاتصال (كالمسلسلات والأفلام والإعلان… إلخ)، والساعیة إلى التأثیر الدعائی وإحداث احتیاجات وهمیة أو حقیقیة لدى الجمهور الواسع"(8). إن هذه الآلیة من شـأنها أن تخلف آثارا بلیغة على مستوى عقلیة المشاهدین، تتمثل فی بلادة الحس، وإضعاف القدرة على التمییز، والحكم، وأكثر من هذا وذاك توهین جهاز المناعة الثقافیة، الذی یتجلى فی سرعة الانسیاق والتصدیق، والقابلیة للانسحاق والرضوخ لآلیة الإقران الشرطی الذی یصبح الناس بموجبه أقرب فی عقلیاتهم وسلوكهم إلى نظریة بافلوف منهم إلى الآدمیین الذین یملكون زمام نفوسهم، ویستعلون على غرائزهم. •     وتتمثل الآلیة الثانیة فی خلق الإعلام لرموز وأبطال ذوی مواصفات خاصة كبدیل لرموز الثقافة البانیة، إن تسلیط الأضواء الكاشفة على نجوم السینما والریاضة والغناء، وتركیز الاهتمام علیهم -یرفعهم فی عیون الناس وخاصة الشباب إلى أعلى مقام، إن ترسیخ هذه الرمزیة الزائفة من خلال وسائل الإعلام یشكل بدوره عقبة كؤودا أمام الثقافة البانیة، ویتطلب منها جهودا جادة ومضاعفة لزحزحة تلك الرموز الكاذبة عن عروشها الوهمیة، واستبدال الرموز الحقیقیة مكانها. ومن الجدیر ذكره فی هذا المقام أن هذا الأمر یتسم بخطورة أشد بالنسبة لشریحة الأطفال الذین یعبث الإعلام ببراءتهم كیفما شاء، ویبث فی نفوسهم الصغیرة ما یرید. وترتب هذه الوضعیة مسؤولیات ضخمة على أصحاب الثقافة البانیة لمواجهتها بما یحمی الطفولة ویحفظ لها فطرتها من كل عوامل التلوث. •     وتتمثل الآلیة الثالثة فی "إضعاف الحساسیة تجاه الممنوعات الثقافیة" یقول د. عبد الرحمن عزی مبرزا معطیات بعض الأبحاث: "إن بعض محتویات وسائل الاتصال كأفلام العنف والجنس واللغة التی تخل بالقیم تعمل مع الزمن على إضعاف درجة الانفعال أو المقاومة التی تصاحب هذه المحتویات فی بدایة أمرها، ویرى الباحثون فی المجال أن التلفظ بالعنف یعد إلى حد ما مشاركة فیه، فذلك یعد مقدمة لما قد ینجر عن ذلك من سلوكیات، وعلى هذا الأساس عمدت العدید من الثقافات إلى وضع حدود لما لا یمكن التلفظ به، خشیة تحول ذلك إلى فعل. وبَیَّنَ هؤلاءِ الباحثون أن تكرار الرسالة التی تخرج عن سیاق الثقافة قد یؤدی إلى إضعاف الحساسیة desensibilization، ومن ثم لا یقدر المتلقی على نقد الرسالة أو الشك فیها، ویدخل فی إطار ذلك تأثیرات أفلام العنف والجنس، إذ أظهرت الدراسات هذه التأثیرات السلبیة العدیدة التی تبرز فی أشكال التقمص (تقلید الصفات السلبیة) والتعلم (مثل تعلم مهارات السرقة مثلا) والتحفیز والتعزیز (بإثارة النزعات العدوانیة التی قد تكمن فی الفرد)(9). رابعا: معوِّق العولمة: إن معوق العولمة یمثل بحق أعظم التحدیات للثقافة البانیة، ویطمح إلى استئصالها أو تجفیف منابعها، مستغلا فی ذلك جمیع القنوات والمواقع التی تعرضت لها آنفاً، وغیرها من المواقع، وأبرز ملمح یتمثل فیه سلطان العولمة الآن، فی عتوها وطغیانها، هو اصطناعها للشرعیة المسماة بـ "الشرعیة الدولیة" التی یسلط سیفها على رؤوس خلق الله جمیعا، ویهدد كل من یأبى الرضوخ والامتثال بالعقوبة الصارمة التی تتراوح بین الرشق بقاموس من النعوت، كالإرهاب والأصولیة والعنف، وبین شن الحروب التی تأتی على الأخضر والیابس، وتتحلل من أدنى شرط من شروط "الاتفاقیات الدولیة"، التی حظیت بمصادقة دهاقنة العولمة أنفسهم،. إن هذه العولمة لها كتابها المقدس الذی یحدد منظومة القیم المرضیة ومنظومة القیم المرفوضة والمحرمة، ولها أنبیاؤها وكهانها وسدنتها ولها معابدها، ومؤسساتها ونظامها الجنائی، ولها قضاتها الذین لا یُعْصَى لهم أمر/ أو یرد لهم قرار. إن مكمن الخطر فی هذه العولمة أنها تسعى جاهدة وبالقوة والإكراه من أجل تنمیط العالم وصبه فی قالب ثقافی واحد ووحید، وتدخل المؤتمرات المنعقدة حول الطفل والمرأة، وما إلیهما فی سیاق هذا التنمیط. ویذهب المفكر منیر شفیق(10) إلى أن العولمة ربما احتملت نوعا من المناورة والمناقشة والمساومة لتعدیل بعض بنودها أو التخفیف من قبضتها الخانقة. أما بعد 11سبتمبر فنحن فی مواجهة القطبیة، التی تملی أوامرها، وتمتد یدها إلى كل شیء، تحت ذریعة محاربة الإرهاب.   خامسا: معوق ثقافة اللغو والتسكع: إذا كانت قیمة الزمن والحفاظ علیه قیمة حضاریة كبرى یحرص علیها الإسلام أشد الحرص لأنه وعاء البناء الحضاری -فإن اتساع هامش اللغو فی حیاة الأمة المسلمة یعد بحق خرقا مَهُولاً فی صمیم ذلك البناء، ولذلك فإن الإسلام یعلن علیه الحرب بشكل واضح، إن القرآن الكریم یورد الإعراض عن اللغو ضمن صفات المفلحین المستحقین للفردوس الأعلى، یقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿والذین هم عن اللغو معرضون﴾ (المؤمنون/3). ومع ذلك فإن الأمة –مع الأسف الشدید- قد غرقت حتى الأذقان فی لجج اللغو الذی جرد حیاتها من المعنى، إنه فی غمرة هذا الضیاع تنشأ الأجیال القادمة على حب اللغو بمختلف مظاهره وجعله ركیزة أساسیة من ركائز الحیاة، فیأخذ مركزا أصلیا ومحورا حیویا فی حیاة الناس، یدور فی فلكه كثیر من شؤون حیاتهم، ویتشكل حسب الاتجاه اللغوی الاتجاه العقلی والثقافی عند غیر قلیل منهم، فیظن كثیر من الناس أن اللغو أو ما یعبرون به عنه- حاجة أساسیة فی حیاة الناس ولا یستغنی عنه أبدا"(11). إن ثقافة اللغو لم تترك منطقة من مناطق الحیاة لدى مجتمعات المسلمین، إلا واكتسحتها وعششت فیها وفرخت وباضت. وهكذا نجد أنفسنا محاصرین داخل أشكال من اللغو بكل لون من ألوان النشاط والتصرف فی الحیاة: "لغو فی القول، لغو فی العمل، لغو فی الفعل، لغو فی النظر، لغو فی السماع، لغو فی التفرج، لغو فی الدعابة، لغو فی القراءة، لغو فی الریاضة، لغو فی السوق، لغو فی المنزل، لغو فی المدرسة، لغو فی التجارة، لغو فی الإعلام، لغو فی التعلیم والتعلم، لغو فی الإدارة، لغو فی السیاسة، لغو فی الحب، لغو فی الكراهیة، لغو فی المنشط، لغو فی المكره. سادسا: معوق التلوث البیئی: وأقصد به هنا التلوث فی بعده الأخلاقی، الذی یؤدی الإمعان فیه إلى ما هو أشد خطرا على الإنسانیة من خرق طبقة الأوزون، ویتمثل هذا التلوث فی مجمل العناصر المرضیة والمظاهر المشینة التی تلحق الأذى بالناس الأسویاء، وتشكل بذلك اعتداء على عقیدتهم وقیمهم وأذواقهم، وتحرمهم من العیش وفق النموذج الحضاری الذی یؤمنون به ویسعدون بمعانقته. ویعد التلوث البیئی اعتداء على حق الإنسان فی العیش فی بیئة سلیمة، وهو أحد الحقوق التی تنادی بكفالتها حتى المواثیق الدولیة لحقوق الإنسان، ولكن وفق مفهوم مبتور لذلك الحق؛ لأن المقصود بالتلوث فی ذلك المفهوم أبعاده الطبعیة المادیة، دون أبعاده الأخلاقیة الروحیة. إن الذی یلقی نظرة على بیئتنا الاجتماعیة وهو سلیم الرؤیة، مرهف الذوق تتبدى له لوحة مزعجة لا تسر. خاتمة: تلك بعض المعوقات والتحدیات التی تواجه الثقافة البانیة متذرعة فی ذلك بمختلف الوسائل والأسالیب، التی تتفتق جعبة هذا العالم المنفلت عنها فی كل مرة لتعزیز القدرة على الغوایة وإسقاط المزید من الضحایا فی مصاید الشر ومراتع الرذیلة والفساد. وإن هذه الوضعیة المؤلمة المأساویة والكئیبة لمما یستدعی استنفار أنصار الثقافة البانیة "ثقافة الجمع" لجمیع طاقتها، ورص صفوفها، والعمل على استرجاع المواقع والمساحات التی اكتسحتها ثقافة الجدع بنوعیها: "الجامدة" و"المنبتة". وإن لها فی مخزون الفطرة خیر معین، وكذا فی حكمة الله وقوته ومدده، فهو القائل -سبحانه وتعالى-: ﴿بل نقذف بالحق على الباطل فیدمغه فإذا هو زاهق ولكم الویل مما تصفون﴾ (الأنبیاء/18)، وهو القائل -عز من قائل-: ﴿ألم تر كیف ضرب الله مثلا كلمة طیبة كشجرة طیبة أصلها ثابت وفرعها فی السماء تؤتی أكلها كل حین بإذن ربها ویضرب الله الأمثال للناس لعلهم یتذكرون. ومثل كلمة خبیثة كشجرة خبیثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار﴾ (إبراهیم24/26). 

الحواشی 

كاتب مغربی مختص بالدراسات الإسلامیة. (1) صدر العدد الأول منها فی شهر رجب من سنة 1403هـ، إبریل 1983م. (2) "المضامین التنمویة للثقافة الإسلامیة" عرض مقدم فی ندوة: الثقافة والمجتمع تنظیم جمعیة النبراس الثقافیة، وجدة. (3) نفسه بتصرف. (4) المرجع السابق. (5) أقترح للثقافة التعریف التالی: "الثقافة – من حیث هی كیان تجریدی – هی نسق من القیم ذات الصلة بموقف الإنسان من الأولویة والكون والحیاة والإنسان، ومن حیث هی نشاط سلوكی هی تعبیر عن تفاعل عقلی ووجدانی وحركی، جزئیاً وكلیاً مع ذلك النسق ویجد مستواه الأرقی فی التمثیل العمیق لقیمة من القیم والتحرك بموجبها فی الواقع. (6) أخرجه البخاری: كتاب الجنائز، 92، وورد عند مسلم بلفظ "كل إنسان تلده أمه على الفطرة" كتاب القدر. (7) رواه الترمذی وابن ماجه (بلفظ متقارب). (8) عبد الرحمن عزی "الثقافة وحتمیة الاتصال – نظرة قیمیة" مجلة المنهل، شوال – ذو القعدة 1422هـ، دیسمبر 2001 ینایر 2002م (ص26). (9) المرجع السابق (ص29-30). (10) محمد خلیل جیجك "اللغو ومظاهره فی حیاة الناس" مجلة البنیان (تصدر عن المنتدى الإسلامی) العدد 171، ذو القعدة 1422هـ، ینایر – فبرایر 2002م (ص43). (11) المصدر السابق. 

 

 

 

 


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً