أحدث المقالات

جداليات الوحدة والتقريب في الاجتماع الاسلامي المعاصر في ما يتعدّى الفتنة

يحيي ميرزائي*

تندرج مواجهة الفتنة ونُذُر المنازعات الأهلية في مقدّم الاولويات المطروحة علي المرجعيات

والنخب والمفکرين في المجتمعات الاسلامية المعاصرة. وفي هذا الصدد لا يقتصر الأمر علي النطاق السياسي الذي غالباً ما يفضي الي تبسيط القضية عن طريق جعلها مادة للتداول في حقول التوظيف، بل ايضاً واساساً علي ما هو اعمق من ذلک ونقصد به النطاق الحضاري والمعرفي الاشمل.

لعل الوجه الأکثر استدعاءً للنقاش اليوم بين المرجعيات الدينية والفکرية هي عودة اطروحة التقريب بين المذاهب لتحتل مقام الصدارة. وهو ما تفترضه جملة تحولات ظهرت معها اشارات الفتنة الکبري علي نحو ينذر بمخاطر جمة علي وحدة الشعوب والاوطان والمجتمعات في العالم الاسلامي.

لکن ثمة اشکاليات تثيرها اطروحة التقريب في سياق التعاطي معها بوصفها قضية معرفية

وعملية في آن. ما سيحملنا علي بسطها ومناقشتها وإيلائها عناية استثنائية. ولاسيما لجهة تناول احدي ابرز اشکاليات الوحدة والتقريب، عنينا بها التداخل الحاصل بين السياسي والمعرفي في هذه القضية.

ليس من شک انه بسبب اهمية الوحدة والتقريب وما يمكن أن ينجم عنها من خير للحياة للمجتمعات الاسلامية المعاصرة، وبسبب مما نجم عن الفرقة التي عشناها في خلال تأريخنا الطويل نرانا ملزمين في شيء من صراحة القول، علّ هذا ينبِّه الى واقع الحال، ويسهم بإعادة مبدأ اللحمة والرحمة إلى منظومة العلاقات الإسلامية.

و لا مناص لنا في مستهل الکلام علي الوحدة وال- تقريب انه علي الرغم من أثرها الوازن في تخفيف التوتر، وفي تذويب بعض الجليد التاريخي بين المذاهب الإسلامية، لا يبدو ان المشاريع الوحدوية والتقريبية أفلحت في تحقيق كلِّ غاياتها. كما أنها لم تفضِ الى بديل صالح، وحالة مقبولة، في أرجاء العالم الإسلامي. ومع تقديرنا لجهود رجالات التقريب في مصر وإيران والمملكة العربية السعودية ولبنان وسوريا وغيرها من البلاد الإسلامية والعربية ، فإن الواقع الإسلامي لم يشهد على هذا الصعيد تحوّلاً كبيراً وجوهرياً. وهو ما يظهر بوضوح حيث لا تزال تلك الاطراف تراوح مكانها رغم الطروحات الإصلاحية، والنهضوية، والقومية والتجديدية. وهي الطروحات التي يحلو لأصحابها عادة أن يسمّوا مشاريعهم بها.

ولأننا نلاحظ حالة كارثية في علاقة المذاهب والتيارات الفكرية بعضها مع بعض، فليعذرنا الراغبون في تمجيد وتكريم المحاولات التاريخية في المجال التقريبي. خصوصاً إن نحن مضينا في إضاءة نواحي الفشل والإخفاق، وانطلاقاً من رؤية تقوم على أولوية الإهتمام بنقد صريح لإشكالية الوحدة والتقريب، وبالتالي النقاش الواضح على أسباب تمادي التمزّق والوهن في الواقع الإسلامي. ومع هذا، فلايعني ذلك بالطبع الاستخفاف بما بُذِل في تاريخنا الإسلامي الطويل من جهود جبّارة على صعيد الإئتلاف والتقارب.

وفي اعتقادنا، أنّ البداية الصحيحة تكمن في وعي شامل، وحقيقي للوقائع والحيثيات التاريخية غير المعرفية، الدخيلة على المسار الفكري الإسلامي. الأمر الذي يفترض دراسة معمّقة للتأريخ الإسلامي بعيداً من التحديدات المذهبية الضيّقة. إن وعي هذه الضرورة مرجِعُه الى فهم حقيقة أنّ التصنيفات المذهبية ليست هي الصورة المثالية للإسلام في كلّ عصر، وأن للتضاريس التأريخية الدور المهم جداً في توليد الانقسامات والانشقاقات الحادّة؛ ما أربك الكثير من محاولات التقريب، وبخاصّة في النطاق المتعلّق بتداخل السياسي مع المعرفي؛ وايضاً في ضوء المآرب والغَرَضيّات السياسية التي تطلّبت أحياناً قيام بعض الجهات السلطوية من أطراف شتى، وعبر استعمال الغطاءات المذهبية، بتفتيت الصفّ الإسلامي وجعل الأمة شِيَعاً وفِرَقاً وطوائف.

 

مأزقية المنهج

والوجه الأخطر في ذلك، هو تسرّب هذه المعضلة أدّي إلى أعماق المناهج المعرفية والأنساق الإجتهادية. الشيء الذي أسسِّ لفهم فريقي ومذهبي للدين، وبالتالي أدّي الى تفسيره تفسيراً طائفياً بدلاً من أن يكون التفسير الديني هو المرجعية المعرفية التي تحكم التيارات والتوجهات المذهبية. ولو قرأنا صورة المعضلة ودينامياتها لوجدنا أن الأغلب الأعم من السلطات والمرجعيات لا ترى المقاييس، والموازين، والأحكام إلاّ من داخل الحصرية المذهبية. ومن وجه آخر فإن هذه المرجعيات تجاهلت الجوهر والمرجعية الكبرى للدين. عنينا الكتاب وقطعي السنّة، إلى جانب دور العقل وتشخيص الثابت والمتغيّر في صحيح النّص والسنّة.

وإلى ذلك فإن المنهج المألوف في المذاهب عموماً، والمتمثّل بالتمسك بالجزئي والفرعي كأولوية تسبق الكلّي والأساسي، قد شكّل إعاقات وازنة أمام تحقق منهج سليم مؤسِّس لإنتاج المعرفة الدينية الإسلامية. لقد أدّت هذه المشكلة إلى أن يغلب مدلول الحادث التأريخي على العقل الاجتهادي. كما انتهت إلى إيجاد حالة مَرَضية في التعامل بين بعض أطراف المشكلة.

وهكذا بات من الواضح أن المزيد من التشبّث بالجزئي والفرعي من دون التماس القواعد

ووالمقاصد والأسُس، ولَّد موانع جدّ كبيرة أمام الوحدة والتقريب. ففي الوقت الذي يفكّر بعضنا في أن يفهم الإسلام بطريقة إنسانية وحضارية، وبعقلانية تؤسّس لمجتمع يعيش الإنسان فيه بأمن وسلام مهما كان انتماؤه وفكره ومذهبه.. وفيما ينبغي أن نؤكّد ونرسخ عالمية العقيدة الإسلامية، فإننا نشهد مخاضاً صعباً لانزال ننتظر فيه ولادة مفهوم إسلامي يجمع أطراف الأمة ويقيم الحد على ظاهرة الفِرقة والتفتيت. ولعّله من المفارقات الخطيرة أن نجد من حين لآخر حلقات إضافية من التصدّع. بينما نحن على يقين بأن بعضاً من أسباب ذلك يعود إلى النظرة غير الواقعية إلى مقولات الوحدة وقضايا التقريب، وتالياً إلى فشل علماء الإسلام في الخروج من الدوائر التأريخية، والضيقة، في بناء أصول اجتهاد ترتكز إلى مقاصد الإسلام العامّة، مشفوعاً بإظهار تسامح كبير فيما دون ذلك.

ومن هذا المنطلق، من المهم والضروري، الإشارة إلى الأثر السلبي المترتب على وجود ملابسات إجتماعية سياسية محضة في بعض الجهود والمشاريع الأساسية في نظريات التقريب، ما جعل مستقبل ومصير تلك الجهود عرضة لعواصف إجتماعية أخرى آتية من اتجاه معاكس. ولا شك في أنّ الأرضية السياسية للتقريب مهما بدت مهمّة، أو ذات سلطة وقوة إجتماعية، الاّ أنها ظلَّت كنارٍ موقدةٍ تحت الرّماد، وأن الحالة الإسلامية فيها مرشحة للإنتكاس والتراجع.

وعلى ما يبيِّن الدكتور طه جابر العلواني فإن، معالجة " التراث الموبوء" بطريقة حكيمة ودقيقة، وتطهيره من كلّ ما تعلَّق به من عوارض، وعناصر دخيلة، ومن ثم العمل الإسلامي الجادّ على وضع مناهج اجتهادية تؤسس لنخبة من المجتهدين يملكون الشجاعة الكافية في إعادة ترتيب وتصنيف أولويات وطبقات التراث في ضوء القرآن الكريم وقطعي السنّة.. كل هذا من شأنه أن يخفف من الاحتقان الحاصل في علاقة المذاهب بعضها ببعض. ولا يخفى على أحد ما للمصادر اليقينية وثوابتها من مرجعية لهذه الحركة الاجتهادية التصحيحية الصعبة.

وما يبدو لنا بوضوح، فإن خطوط المواجهة بين المسلمين راحت تترسخ وتتموضع داخل الإسلام بمذاهبه وتياراته المختلفة، بفعل إفرازات غير بريئة جاءت من خارج مقاصد الشريعة وغاياتها. وفي ضوء ذلك، سنجد كيف أنّ صدامات خطيرة قد وقعت، ثم ما فتئت أن تمنهجت. حتى لقد باتت إمكانيات وطاقات الأمة عرضة للتبديد والاستنزاف. ومن دون الإصرار على الخوض في بيان هذه الأسباب التي وقع فيها الجميع بنحو وآخر، فإن ما يفترض بالحريصين على وحدة الأمّة أن يفعلوه هو بذل الجهد العلمي الجادّ والمنهجي باتجاه نقل المعركة من الصفوف الإسلامية إلى خارجها. أي الى قلب الاتجاه الذي يعمل اليوم تحت أخطر وأبشع العناوين لضرب القيم ولتحطيم وحدة وتماسك المجتمع الإنساني، والذي يرى الإسلام بوصفه القوة الأشد ممانعة لتحقيق مآربه. نقول هذا لأننا نعتقد بأن الفكر الإسلامي في بنيته التحتية وأسسه الثابتة من شأنه أن يتحول إلى البديل الأقوى للمشاريع الحضارية، حيث فشل سواه في استنقاذ المجتمع الانساني من قهره وغربته وآلامه.

 

جدل الاختلاف والائتلاف

لقد اتخذت مسارات التقريب ومساعي الإئتلاف الإسلامي مناحي إنحرافية في بعض الحالات. ظهر ذلك من خلال انعقادها الوثيق على التعامل السياسي أكثر مما انعقدت على حقيقة اتفاق والتقاء المذاهب الإسلامية على أسس وثوابت ومقاصد الشريعة. ومن المهم جداً الإلتفات إلى ضرورة تصحيح منطلقات الوحدة، وتخفيف فاعلية الدور السياسي في المشاريع الوحدوية لصالح تفعيل الدور الاجتهادي والمعرفي. وكذلك إلى وجوب إعادة صياغة علم ومعرفة الدين، وتنزيل مراتب الفروع من كونها المنزلة الأولى في الفكر الديني. وبالتالي إلاعتقاد الراسخ بأن الوحدة الحقيقية تمكث في وحدة الرؤية الاستراتيجية والمقاصدية والفلسفية لأساس الدين. انّه هدف لو تحقّق لشهد الفضاء الإسلامي الكثير من الانفتاح والرّحمة، ولظَهَر بوضوح أن الشدّة واللاَّتسامح قد تحوّلا إلى عمق الجبهة المعادية لقيم الإنسان السامية، ثم لسَادَت علاقات سلمية بين كافة المذاهب الإسلامية مهما اختلفت أَفهامها واجتهاداتها.

وينبغي لنا القول إنّ الحالة الوحدوية لا تعني وضع حدّ للإختلاف والتعدد، ولا يقصد منها السعي إلى التوحيد الإجتهادي، وإعاقة حركية ودينامية منطق ومنهج الفهم الديني، وإنّما المراد الجوهري، هو وجوب توحيد المرجعيات على المفاهيم والاسس العليا وتركيز العمل الإسلامي على هذه الأسس، وتوسيع نطاق التسامح فيما دون ذلك. ولا داعي للخشية من القول إنّ الحالة الراهنة في الإجتهاد الديني المرتكز إلى تغليب المذهبية على الأسس الثابتة والقطعية، لن تنتهي برأينا إلى تكوين نهضة الأمة. اللهم الاّ في رأي واعتقاد من يختصر الأمّة إلى مذهب خاص دون غيره.

وانه لمن المؤسف أن يرى المرء هنا ما تنطوي عليه محاولات تأسيس حالات طائفية ومذهبية حادّة. لاسيما ذاك الذي يجري في المنطقة العربية والاسلامية هذه الأيام. الأمر الذي ينذر بمخاطر تعميق وتجذير، بل وتأصيل التفرّق والتشرذم. ولعّله من الواجب هنا إبداء أعلى درجات الغرابة مما يجري في العراق، حيث نجد المذاهب الإسلامية تنغلق على نفسها كما لو كانت منفصلة إلى ممالك أجنبية متنافرة فيما هي تحاول بلا هوادة تسجيل النقاط والامتياز على بعضها البعض.

إن الخطاب السياسي في عراق اليوم، هو خطاب مذهبي وطائفي وغير صحّي. وهو يشمل الأطراف كلها من دون استثناء. حتى لقد بتنا لا نجد حالة وطنية عراقية الاّ في النطاق المذهبي والإثني، رغم وجود محاولات مشكورة وشعارات جيدة في الوجهة المعاكسة. هذه هي الحقيقة التي يجب أن تقال مهما ثَقُلت على بعضنا. والسبب الأساسي في ذلك يعود إلى عامل تأريخي مزمن لا يجوز الاستخفاف به، أو التوهم في سهولة تجاوزه، لأن من عادة الديكتاتورية، والسياسات التوتاليتارية عموماً، أنها تقحم في مجالاتها مواقع مذهبية ممّا يعقِّد المشاريع الوحدوية. علماً أنّ الموقع السياسي لن يكون الجهة الفضلى في إصلاح العلاقات بين المذاهب.هذا إن لم نقل بأنه يشكل الأساس التأريخي في إعاقة هذه المشاريع الوحدوية.

إن تأملات صادقة في منحى القرار السياسي، والخطاب الإجتماعي في العراق وغيره من المجتمعات الإسلامية، تحكي وجود هيمنة غيرفكرية ولا عقلانية على المسار المعرفي الديني. وتؤكد وجود امتداد مزمن لحركة الإستغلال المذهبي من كافة الأطراف. وهذه حالة لا تنسجم مع غايات الإسلام ومقاصده العليا، ولا تتناغم مع مقوّمات الإجتماع الديني.

 

الهوامش:

– باحث من ايران0

– رئيس مرکز الحضارة للدراسات الايرانية – العربية0

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً