أحدث المقالات

حاجتنا إلى تجديد فكري

عبد العزيز كحيل

بعد أحقاب من العمل المتنوع العميق، اكتسب التيار الإسلامي مصداقية متزايدة لدى الجماهير باعتباره حركة تعيد بعث الحياة في مجتمعات أوصلتها التجارب السياسية والثقافية إلى مأزق، فلا هي ربحت معركة التنمية ولا هي حظيت بالاستقرار، ولا هي حافظت على هويتها وشخصيتها في عالم حثيث السير يعرف تقلبات متتابعة وانتكاسات مريرة إلى جانب انجازات ضخمة ليس للمسلمين منها نصيب يتناسب مع حجمهم وتضحياتهم ورسالتهم. فسرت إلى الأمة الإسلامية عوامل اليأس والإحباط

وزاد من معاناتها ما أصابها من نخبها المتغربة فتاهت في وعود لم يتحقق منها إلا الهزائم على كل مستوى، حينئذ رجعت إلى نفسها ويممت وجهها شطر البديل الإسلامي الذي يمثل قوة تعبئة جديدة من شأنها الاستجابة للطموحات روحيا وماديا ويعيد صياغة الشخصية ويفتح باب الأمل، ومهما عملت الأنظمة الحاكمة وأوساط صناعة الرأي وتوجيهه للإساءة إلى هذا البديل غير المتوقع فإن الجماهير برهنت في أكثر من مناسبة عن إيمانها به والتفافها حوله.

إن هذه الثقة تحمل الحركة الإسلامية مسؤولية بلورة وتجسيد مشروع في مستوى الآمال المعقودة عليه، يجمع بين مختلف مقومات وعناصر وشروط البديل الناجح، ومن الطبيعي أن يكون المجال التنظيري هو المحك الأول للمشروع المأمول، يضع القواعد ويبين الطريق ويفصل مجالات العمل ويشرح المحتوى ويعرف بالوسائل، ومما نأسف له أن غير قليل من الفصائل الإسلامية لو تعر – في المرحلة السابقة – كبير اهتمام لهذا المجال الجوهري وتكتفي برفع شعار ” الإسلام هو الحل ” ولا تتعدى طور ترديد الشعارات الحماسية والتأكيد على أن الإسلام شامل صالح لكل زمان ومكان وما أن يبلغ أبناؤه سدة الحكم حتى تستأنف الحياة الإسلامية وتعود أمجاد الماضي وتحل المشاكل، وتعوض الفصائل المقصودة انعدام البرنامج المجتمعي المفصل بجملة من الثوابت الفكرية التي تشكل محور عملها ويمكن اختصار أهمها في الآتي:

– مشكلتنا الأساسية أخلاقية أي هي مسألة سلوك وعمل وتطبيق.

– الوصول إلى الحكم هو وحده الكفيل بحل مشاكلنا كلها واستئناف الحياة الإسلامية.

– النقص الوحيد الذي تشكو منه مجتمعاتنا هو على مستوى التقدم العلمي التكنولوجي أي أن المشكلة هنا خارجية لا نملك لحلها تقاليد ذات بال بخلاف المشكلة الأخلاقية.

– الغرب بأنظمته وشعوبه ومؤسساته وأفكاره وحضارته هو العدو بل هو الذي يمثل الشر في حين يمثل الإسلام الخير.

انطلاقا من هذه القناعات حدثت مواقف وسلوكيات نخشى أن تجلب لأمتنا وبالا لا يختلف في جوهره عن الوبال الذي أصابها من خلال التجارب السابقة، كيف لا والزهادة في وضع برامج مستقبلية مفصلة تنبئ بتناول مرتجل لقضايا استراتيجيه خطيرة إلى جانب الإهمال الغريب للمجال الفكري في الوقت الذي اتفق فيه الراسخون من العلماء والدعاة والمربين أن مشكلتنا فكرية بالدرجة الأولى إذ لا يمكن أن يستقيم العمل والسلوك والإنتاج في إطار الخطة التغييرية إلا بعد تجديد المفاهيم وبناء التصور وتوضيح الرؤية، أما الاعتماد على الإخلاص والنية الحسنة فهو أقرب إلى تخريج عاملين ” ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ” ثم هناك رفض بعضهم للعمل الاجتماعي والقول بإرجائه إلى حين الوصول إلى سدة الحكم فهو ينشىء مدرسة جديدة من المرجئة تحيل أشغال اليوم المتيقن إلى غد مأمول، وإذا كان ذلك يحدث عن حسن نية فهو قطعا بسبب جهل في فقه سنن التغيير إضافة إلى كونه حيلة نفسية تبرر السلبية وتجمد الطاقات الموجودة أو تهدرها، فما يمكن فعله اليوم على مستوى العمل الشعبي كفيل باستيعاب مواردنا البشرية والمادية والتأثير إيجابيا في حركة المجتمع والتهيئة الميدانية للتغيير المنشود أما اعتبار هذا من قبيل التمديد في عمر الجاهلية فنحسبه من رواسب فكر الخنادق والانزواء الذي ما جنينا منه سوى مزيد من التهميش والعزلة وهما موئل العنف والتكفير، ذلك أن الإسلام وأمتنا في حاجة إلينا حاضرا ولن نثبت مصداقيتنا إذا اكتفينا بالإحالة على عهد السلطة فالله تعالى يعبد في كل الظروف والأحوال وليس عبر كرسي التمكين وحده، والملاحظ أن التهارش من أجل الوصول السريع إلى الحكم أهدر طاقات ضخمة وشوه صورة الإسلاميين عندما أصبح بعضهم تيارا سياسيا دنيويا بحتا يرفع شعار الإسلام ويكتفي بالتمسك بأشكال الدين على حساب جوهره وصلبه

إن مجالات العمل التربوي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي -في ظل النظام الدولي الجديد- أرض خصبة لبروز المواهب التي تبعث على طمأنة الخائفين من الحل الإسلامي كما هي ميادين جديدة لمعايشة مشاكل الأمة واكتساب الخبرة في تسيير شؤون العامة وتجسيد كثير من المشاريع التي أشبعت تنظيرا.

ويشكل الموقف من الغرب عقدة مستفحلة تعاني منها قطاعات كبيرة من الإسلاميين الذين هيمنت عليهم ذهنية المحاصر فتحول مركب النقص عندهم إلى استعلاء غير بصير أورثهم رفض الغرب نهائيا – باستثناء الاستعانة بتقنيته- وأوردهم موارد مهلكة كالتفسير التآمري للأحداث والتركيز على مساوئ الغرب والتغاضي عن محاسنه وعدم التفريق بين حكامه وشعوبه وإنكار الإسهامات المختلفة لأمم كثيرة في الحضارة الإنسانية الخ…كل هذا أدى إلى مزيد من الانغلاق على الذات ورفض حقائق هي بمثابة مقاصد إسلامية لا لشيء إلا لأنها من إبداع الحضارة الغربية وهكذا رفضت معاني الحرية والإخاء والمساواة والديمقراطية وغيرها بدعوى أنها شعارات ماسونية رغم أنها في جوهرها مبادئ إسلامية غفل المسلمون عن تجليتها وممارستها منذ عصور الانحطاط وبرع الغرب في خدمتها وتجسيدها عمليا ولو على نطاق شعوبه فحسب، وقابل هذا الرفض لمنجزات الخصم نوم عميق على التغني بالأمجاد والأحلام الوردية والتبشير بسقوط الحضارة الغربية في أمد قريب..وهذا ما نسميه بعقلية الفقير المتكبر، فهو لا يملك مقومات الحياة العادية ويعامل غيره بصولة وعجرفة، لهذا عده الرسول صلى الله عليه وسلم من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم لأنه سقط في تناقض يتنزه عنه عقلاء الناس فضلا عن المؤمنين منهم، وحرمتنا هذه العقلية غير السليمة من الاستفادة من منجزات البشرية في مجال العلوم الإنسانية بزعم أننا نملك ثروتها ونمسك بناصيتها، والحقيقة أن هذا ادعاء مجاني لأننا نملك حقا ذخائر لا تقدر بثمن ولكن أين هي؟ إنها بين دفتي المصحف الشريف وفي كتب السنة النبوية، هل خدمناها؟ بل هل استخرجنا عشرها؟ كثير من الإسلاميين يردد للأسف أننا سبقنا الغرب في تقرير الحقيقة الفلانية بأربعة عشر قرنا، لكن ماذا أفادنا هذا السبق عندما تركنا ثرواتنا في حالة خامات بينما تفنن غيرنا في البحث والتجريب والنظر والتطبيق الميداني الفعال؟ هل ينكر منصف قوة مناهج البحث عند الغرب؟ عندنا ابن خلدون واحد وعندهم آلاف العلماء في الاجتماع… نعم إن فرويد يهودي وتحليله النفسي نمقته فأين البديل الذي قدمنا؟وقل مثل ذلك في العلوم الإنسانية التي نشكو ضحالة شديدة في مجالها، و لن يفيدنا الاشتغال بالعلوم الشرعية مراجعنا الشرعية إلا إذا اعتمدنا أحدث الأساليب العلمية أما الانكفاء على خاماتنا الثمينة بوسائل ضعيفة ومناهج بدائية فلن يذهب بنا بعيدا في التمكين للمشروع الإسلامي.

إن بعض هذه الأفكار طرحت في منتدى إسلامي فردها على الفور أحد الحاضرين ممن لهم باع في الدعوة ويعتبر قدوة حركية بزعم أنها أفكار استشراقية لكننا نطرحها للنظر والنقاش مستأنسين بتبني علماء فحول ودعاة عاملين لها…ونأمل أن نتناول بالتفصيل جملة من هذه الأفكار ونحن نتوخى تكوين قاعدة من الربانيين الذين يسهمون في وضع برامج مفصلة لمشروعنا بدءا بتوضيح وتحديد مفاهيم عديدة كالحرية والشورى والثقافة والفن مع التنويه بقضايا الاقتصاد والمرأة وفكرة المؤسسات والفصل في مسائل المحن والابتلاء في الدعوات والضمانات المطلوب التعامل على أساسها إسلاميا إلى جانب مواضيع الواقعية والأخذ بالأسباب وعقلية المعجزة وغيرها من الأمور التي لا نظن أن الطرح النظري التقليدي قد فصل فيها بما يناسب عصرنا وظروفنا.

إننا أصحاب مشروع تجديدي ينشد إحداث التغيير الجذري لبعث مجتمع متوازن سعيد يقوى على تحديات العصر ويحسن التعامل مع النصوص الشرعية والأحداث الواقعية والإشكالات العالمية فلا يمكننا الاقتناع بالنظريات الجاهزة _ إلا ما كان وحيا صريحا _ وإنما علينا أن نتجدد حتى نجدد.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً