أحدث المقالات

قراءة جديدة في شروطه وملاكاته ومعاييره

أ. مهدي موحدي محب(*)

تمهيد

إيجاد حق الشفعة في الفقه والحقوق المدنية مشروط بشرائط، منها: أن يكون المال من الأموال غير المنقولة، والقابلة للتقسيم، وأن يكون شركة بين اثنين على نحو الإشاعة، وأن يباع أحد السهمين بتمامه. نعم، يوجد خلاف في بعض الشروط المذكورة.

والمقال الحاضر في صدد دراسة أدلة ومباني حق الشفعة، وبيان أن أكثر الشروط المذكورة ليست بتوقيفية، وإنما المحور الأساس في تعيينها وتحديدها هو «الضرر». ويرى أن بعض الشروط المذكورة في الروايات إنما هو بلحاظ دورها في تحقق عنوان الضرر عرفاً، وهذا هو الاحتمال الراجح في هذه الروايات. ويرى إمكان حذف وتغيير العديد منها. وأخيراً، ومن خلال تقسيم الشروط المذكورة ينتهي إلى أن الأسباب الأصلية لحق الشفعة هي خصوص الشركة في المال، وكونه بين اثنين، ونقل حصة من سهم أحد الشريكين إلى ثالث، وأن الشروط الأخرى يمكن إضافتها من قبل المقنّن بلحاظ العوامل المؤثِّرة في تحقيق مفهوم الضرر عرفاً في كلّ زمان بحسبه، بل وبلحاظ اختلاف موضوع الشفعة.

 مقدمة

في ما يتعلق بإيجاد حق الشفعة ذُكرت في الفقه، وتبعاً له في القانون المدني، عدة شروط، تصل أحياناً إلى تسعة شروط، منها: أن يكون المال من الأموال غير المنقولة، وأن يكون قابلاً للتقسيم، وأن يباع سهم أحد الشريكين، وأن تكون الشركة بين اثنين، ونقل تمام الحصّة بالبيع، وإسلام الشريك إذا كان المشتري مسلماً، وإشاعة الملك، و…([1]). والسؤال المطروح هو: هل أن الشروط المذكورة تعبدية وتوقيفية، وأن كل واحد منها ثابت بدليل خاص في عداد الشروط الواردة لإيجاد هذا الحق، حتى لا يمكن تغييرها، بحيث لو لم يتوفر أحد الشروط المشار إليها لم يكن حقّ الشفعة، أم أنه يوجد سبب ومعيار واحد هو السبب الرئيس لإيجاد وتشريع هذا الحق، وتتّخذ الشروط المذكورة شكلها؟

إذا كان جواب السؤال الأخير إيجابياً ـ كما هو الفرض في هذا المقال ـ فلا ضرورة لعدّ الشروط المذكورة توقيفية، وإنما يلزم تكريس دراستنا وبحثنا حول النقطة التالية: أيُّ الشروط المذكورة من قبل الفقهاء يلعب دوراً أساسياً وفاعلاً في إيجاد المعيار المذكور في الإطار الأصلي لهذا الحق ـ والذي نعتقد أنه «الضرر»، وبناء الشارع على نفيه ـ، كي نقضي ببقائه في عداد الشروط الأخرى أو حذفه منها؟

واستمراراً في البحث، وبعد تعريف الشفعة، والبحث في أركانها، تعرضنا لتحليل أدلة كلّ واحد من الشروط المشهورة، كي نتعرف من خلال دراسة الأدلة الشرعية، ولحاظ الملاكات المذكورة فيها، على الشروط الضرورية والثابتة لإيجاد هذا الحقّ، وتمييزها عن غير الضرورية والمتغيِّرة.

ما هو حقّ الشفعة؟

الشفعة مشتقة من الجذر «شفع»، بمعنى الزوج، بخلاف «الوتر» الذي يعني الفرد([2]). وكتب الجوهري في تاج اللغة: «ناقة شافِعٌ: في بطنها ولد ويَتْبَعُها آخر»([3]). وكما هو واضح من المعاني المذكورة فإن المعنى الأساسي للشفع هو الاثنينية.

وتمتد جذور المعنى الاصطلاحي للشفعة في المعني اللغوي، حيث لا تطلق الشفعة إلاّ إذا كان شخصان شريكان في مال على نحو الإشاعة. نعم، قد يضيف المقنِّن شروطاً أخرى لها.

وجاء تعريف هذا الحق في المادة 808 من القانون المدني كالتالي: كلما كان المال غير منقول، وقابلاً للقسمة، شركةً بين اثنين، وباع أحد الشريكين حصته لثالث، كان للشريك الآخر حقّ تملك الحصة بالقيمة التي باعها بها للثالث. ويسمّى هذا الحق بحق الشفعة، ويسمى صاحبه شفيعاً.

المادة القانونية المذكورة مستلهمة من فقه الإمامية، وقد تضمَّنت جميع شروط الشفعة تقريباً. واستمراراً في البحث، وبعد دراسة مبانيها، سنضعها على طاولة التحكيم؛ لنرى ضرورة أو عدم ضرورة كل واحد من الشروط المذكورة.

أدلة ثبوت حق الشفعة

إذا ألقينا نظرة على أدلة تشريع الشفعة ـ والتي تتمثل في الروايات غالباً ـ واجهنا طائفتين من الروايات، هما:

الأولى: الروايات التي ذكرت حق الشفعة، وأنه مشروط بشرط أو ببعض الشروط، دون أن تبين الملاك لذلك، نظير الروايات التالية:

1ـ رُوِيَ عَنِ الصَّادِقِ× أَنَّهُ قَالَ: »إِنَّمَا جَعَلَ رَسُولُ اللهِ| الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وصُرِفَتِ الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ»([4]).

2ـ وكذلك ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر× أنه قال:» اِذَا وَقَعَتِ السِّهَامُ ارْتَفَعَتِ الشُّفْعَةُ»([5]).

3ـ ومن جملة هذه الروايات يمكننا عدّ رواية يونس، عن أبي عبد الله×، في عداد الروايات الصريحة والواضحة في شمول حق الشفعة، حيث جاء فيها: «سَأَلْتُهُ عَنِ الشُّفْعَةِ لِمَنْ هِيَ؟ وفِي أَيِّ شَيْءٍ هِيَ؟ ولِمَنْ تَصْلُحُ؟ وهَلْ يَكُونُ فِي الْحَيَوَانِ شُفْعَةٌ؟ وكَيْفَ هِيَ؟ فَقَالَ: الشُّفْعَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ مَتَاعٍ، إِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لا غَيْرِهِمَا، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وإِنْ زَادَ عَلَى الاثْنَيْنِ فَلا شُفْعَةَ لأَحَدٍ مِنْهُمْ»([6]).

الثانية: الرواية التي ذكرت عدة شروط للشفعة، ثم ذكرت سببه ضمن قالب ملاك عامّ، وهي رواية عقبة بن خالد، عن الإمام الصادق×، أنه قال: «قَضَى رَسُولُ اللهِ| بِالشُّفْعَةِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِي الأرَضِينَ والمَسَاكِنِ وقَالَ: لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ. وقَالَ: إِذَا رُفَّتِ الأرَفُ، وحُدَّتِ الْحُدُودُ، فلا شُفْعَةَ»([7]).

و على هذا الأساس يمكننا القول بأن العلة والملاك الأصلي لتشريع حق الشفعة هو الضرر الذي يحصل ببيع الشريك حصته من ثالث، وتحميل الشريك الآخر الشراكة غير المطلوبة له، فقنّن الشارع المقدَّس حق الشفعة لدفع هذا النوع من الضرر.

ومن جانب آخر فإن أحكام المعاملات ليست بتوقيفية أو تعبدية، وإنما أوكلت إلى عرف العقلاء، وتتبع أسساً وملاكات قابلة للفهم، فالإصرار على عدم إمكان تغير هذه الشروط لا يعني شيئاً سوى أنها أحكام تعبدية.

على هذا الأساس، ومن خلال ضم إحدى المقدمتين السابقتين إلى الأخرى، يبدو أن الأساس لكل واحد من الشروط المذكورة لحقّ الشفعة هو الضرر الذي تنتهي إليه أخيراً. ولهذا ينبغي أن يصاغ حق الشفعة وشروطها بلحاظ الأوضاع والأحوال المختلفة، وبلحاظ خصائص كل زمان، بل وبلحاظ كل موضوع، على أن تصاغ الشروط المذكورة بحيث يكون لتوفُّر كلٍّ منها دخل في صدق عنوان الضرر عرفاً، وأن تكون من مقوِّماته.

على هذا الأساس لا نرى ضرورة في عدّ شيء من الشروط المذكورة في عداد شرائط إيجاد حق الشفعة، إلاّ أن يصدق عليه إحدى الحالتين التاليتين:

‌أـ أن يكون أرضية لمفهوم حق الشفعة، بحيث لو انتفى هذا الشرط فقدت الشفعة موضوعيتها.

‌ب­ ­ـ أن يكون بنحوٍ يعدّ من أسباب إدخال الضرر على الشريك نوعاً، وتحققه ضروري في صدق عنوان الضرر عرفاً.

وعلى هذا الأساس يبدو في النظر أن أكثر الشروط المذكورة من قبل الفقهاء لإيجاد حقّ الشفعة، والتي ذكروها اعتماداً علي الروايات أو الأصول اللفظية، لا موضوعية لها في إيجاد حق الشفعة، وإنما كانت تعدّ في زمان التشريع أسباباً نوعية لإيراد الضرر، وبالتالي فإذا فقدت هذا الوصف لم تبقَ ضرورةٌ لاشتراطها أيضاً.

وفي الوقت ذاته فإن بعض الشروط ـ وكما أشرنا آنفاً ـ تلعب دوراً فاعلاً في تحقيق مفهوم الشفعة، ولها موضوعية في ذلك. فهي من أركان هذا الحقّ. ومن الطبيعي أن يكون فقدان هكذا شرط مؤثِّراً في انتفاء الشفعة من الأساس، ولا يبقى للشفعة موضوع، نظير الشركة.

من هنا ـ وتبعاً للتقسيم المذكور ـ فإننا سنتعرض للموارد التي وقع أبسط الخلاف فيها، وعدّها الفقهاء شروطاً ضرورية للشفعة، وتبعاً لهم، ورعايةً للاحتياط، عُدّت ضرورية أيضاً في القانون المدني، حيث إنه تابع الفقه الإمامي في ذلك، كما تقدم.

شروط حق الشفعة، دراسة وتحليل

المجموعة الأولى

وهي الشروط التي يتوقف عليها وجود وحياة هذا الحقّ، وهي من أركانه الأساسية، ومن أرضيّات تحقُّق مفهومه. وبدون أحدها لا تبقى للشفعة موضوعية. وهي عبارة عن الشروط التالية:

1ـ الشركة في المال

وهذا الشرط هو أحد الأركان الأصلية للشفعة([8])؛ وذلك أنه إذا لم تكن شركة في المال لم يكن بين الشخصين علقة بتاتاً، وكان أحدهما أجنبياً عن الآخر بالمرة. ولا نملك دليلاً عقلياً، ولا نقلياً، على وجود حق الشفعة بين هكذا شخصين، بل إنه لا يوجد شخصان أجنبيان يكونان موضوعاً لخطاب الشفعة، وتصوُّر هكذا حق غير ممكن أساساً. حتى أن الجوار بما هو جوار ليس موضوعاً لهذا الحقّ إذا ما تم تفكيك الملكية([9]). ففي الحقيقة وجود الشركة يهيئ الأرضية لتصرُّف الشركاء في ذلك المال على نحو الشركة، وهذا هو أول وأساس القضية. ولما اختلف الأفراد في حسن التصرف مع الشريك، ومقدار الانسجام والتفاهم والتواؤم معه، فلذلك لا يريد الشارع فرض شريك على شخص معين.

 2ـ إشاعة سهم كلٍّ من الشريكين

تبرز ضرورة هذا الشرط من جهة أن إشاعة الملكية تعني أن كلّ جزء من أجزاء المال هو ملك للشريكين معاً. وفي الحقيقة فإن كلّ موضع وجزء منه مملوك لشخصين، ولهما حقّ التصرُّف فيه. ومن الطبيعي فإنّ كل تصميم بشأنه لابدّ أن يستند إليهما معاً. ولاتفاق رأيهما أهمية بالغة، مع أنهما إذا اتفقا على تقسيم المال لم يكن لأحدهما حقّ التصرف في القسم الآخر. ولهذه الجهة يضعف أو ينعدم احتمال وقوع الخلاف بينهما.

3ـ أن تكون الشركة بين اثنين

تقدم أن الشفعة مشتقة من «شفع»، بمعنى الزوج، فقد كتب ابن منظور في هذا المجال قائلاً: «…وقيل: الوتْرُ هو الله الواحد، والشفْع جميع الخلْق، خلقوا أزواجاً»([10]). وعلى هذا فإن حق الشفعة ملازم لوجود الشريكين؛ وذلك أن مفهوم الشفعة رهين له. ولهذا فإن هذا الشرط أساسي وضروري أيضاً([11]). ولا يبعد أن تكون الروايات التي ذكرت هذا الشرط قد اعتمدت على هذه الحقيقة([12]). وكما تقدم فإن المهم عند تحقق هذا الحق أن يكون الشركاء اثنين لا أكثر، سواء كانوا حقيقيين أم حقوقيين. وأما انتقال حق الشفعة إلى وارث ذي الحق، حتى إنْ كان متعدداً، فهو بعد ثبوت أصل الحق، وتوفُّر شرائطه. وعلى هذا الأساس لا يلزم بيع الشريك تمام حصته لثالث. ولهذا نقرأ في جواهر الكلام قوله: «ثم إن المنساق من الأدلة والفتاوى عدم الشفعة مع الكثرة السابقة على عقد البيع… أما إذا كانت لاحقة… فالظاهر ثبوتها»([13]). النقطة الأخرى في هذا المجال هي أنه إذا باع الشريك حصته تدريجاً؛ بمعنى أنه باع جزءاً من حصته لثالث، ثم باع جزءاً آخر منها لرابع، ففي هذه الحال يثبت حقّ الشفعة للشريك الثاني فيما لو تملك الجزء الأول، وأما إذا علم بالبيع الأول فلم يرتِّب عليه أثراً، ولم ينتفع من حقه في الشفعة، فلا يثبت له حق الشفعة في بيع الجزء الثاني للشخص الرابع؛ وذلك أن الشركة صارت بين ثلاثة، ولا شفعة في مثلها([14]). نعم، هذا إذا لم نشترط في حقّ الشفعة بيع تمام الحصة.

‌المجموعة الثانية

وهي الشروط التي لا يتوقف عليها وجود حق الشفعة، ولا يبعد أن تكون مستقاة من الأصول اللفظية أو بناء العقلاء، أو الأعراف والعادات السائدة، ولكن ذكرت في الروايات في عداد شروط الشفعة؛ باعتبارها مما يتحقق ويتبلور بها مفهوم الضرر عرفاً. وهي عبارة عمّا يلي:

1ـ أن يكون المال غير منقول

اعتبر أكثر المتأخِّرين هذا الشرط ضرورّياً لتحقق الشفعة([15]). وفي الوقت ذاته يرى أكثر المتقدمين من فقهائنا أن هذا الحق ثابت في كل مبيع، منقولاً كان أم غيره([16]).

فالذين اعتبروا في الملك كونه غير منقول استندوا إلى روايات ذكرت حق الشفعة في الأرض والبيت، نظير: رواية عقبة بن خالد، عن أبي عبد الله×، والتي تقدم نقلها.

وفي جواب هؤلاء ينبغي القول:

أولاً: إن الأصل هو عدم اشتراط هكذا شرط في الشفعة.

ثانياً: نظراً للفقرة الأخيرة في هذه الرواية، والتي جاء فيها «لا ضرر ولا ضرار»، يمكننا القول بأن الضرر هو العلة الرئيسة لإيجاد هذا الحق؛ كي لا يكون ذكر بعض النماذج، كالأرض والدار، مضرّاً بشمول الحكم.

ثالثاً: في قبال هذه الرواية يمكن الاستناد إلى الروايات التي ذكرت أن الشفعة ثابتة في جميع الأملاك، نظير: ما روي عن الصادق× من أنه قال: «…الشُّفْعَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ مَتَاعٍ، إِذَا كَانَ الشَّيْءُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ لا غَيْرِهِمَا…»([17]).

2ـ كون المال قابلاً للقسمة

ذكر ابن حمزة الطوسي هذا الشرط في عداد الشروط الضرورية لإيجاد حق الشفعة([18]). وفي مقابله ادّعى السيد المرتضى الإجماع على ذلك، قال&: «ومما انفردت به الإمامية إثباتهم حق الشفعة في كل شيء من المبيعات، من عقار وضيعة ومتاع وعروض وحيوان، إنْ كان ذلك ممّا يحتمل القسمة أو لا يحتملها»([19]). وبشكلٍ عامّ فإن أكثر المتأخِّرين يرون ضرورة هذا الشرط([20]). ولعل مبناهم في ذلك هو الضرر الناشئ من طلب تقسيم المال؛ وذلك أن هذا الضرر منتفٍ على فرض عدم قابلية المال للقسمة.

وفي الجواب يمكننا القول: على فرض كون المال غير قابل للقسمة فإن تحميل الشفيع شريكاً لا يرتضيه، والاستمرار في هذه الحالة، هو نوعٌ من الضرر. وعلى هذا يمكن القول بأن الضرر في هذه الحالة إنْ لم يكن أكثر من الضرر في حال النزاع وطلب القسمة ـ والذي يؤدي إلى نقص القيمة ـ فهو مساوٍ له. وعليه يمكن تصور الضرر في كلتا الصورتين. وبناءً على المعيار الذي اعتمدناه لا يبقى لدينا دليل على اعتبار هذا الشرط في تحقق الشفعة. ومضافاً إلى ذلك فقد ادّعى السيد المرتضى الإجماع على عدم اعتباره([21]).

وكتب البجنوردي في هذا المجال قائلاً: «فقد يقال بأن الشفعة خلاف الأصل؛ لأنها عبارة عن ثبوت حقّ في مال الغير ينقله إلى نفسه، والأصل عدمه، فإذا شك في أنه هل للشفيع مثل هذا الحق في المال المشترك الذي ليس قابلاً للقسمة؟ فمقتضى الأصل عدمه. وفيه: إنه لا مجال لجريان هذا الأصل مع إطلاقات أدلة الشفعة». وعلى نحو هذا النموذج استند إلى الرواية النبوية: «الشفعة في كلّ شيء»، واستند إلى إطلاقها، ثم استمر قائلاً: «وخلاصة الكلام: إنه مع وجود هذه العمومات والإطلاقات لا يبقى مجال للاستدلال بأصالة عدم ثبوت هذا الحق»([22]).

3ـ نقل تمام الحصّة

إذا نقل الشريك بعض حصته لثالث فهناك ترديد في ثبوت الشفعة للشفيع؛ وذلك أن مقتضى الاستصحاب هو عدم ثبوت الحق المذكور. ولهذا حكم البعض باشتراط نقل تمام الحصة. وينسب إلى بعض الحقوقيين قوله بأن المستفاد من إطلاق المادة 808 من القانون المدني هو أن حق الشفعة إنما يثبت للشريك فيما لو نقل الشريك تمام حصته لثالث»([23]).

والذي يبدو في النظر ـ في ما يتعلَّق بما ذكره ـ هو أن المستفاد من إطلاق المادة المذكورة هو عكس ما ذكره، وذلك بالبيان التالي: إن مفاد إطلاق المادة المذكورة، وعدم تقييدها بلزوم نقل تمام الحصة، هو أن نقل بعض الحصة يوجد حقّ الشفعة. وأساساً فإن إطلاق المادة 808 من القانون المدني قاصرٌ عن إثبات الدعوى المذكورة، بل هو على خلافها. وإن القائل لما استند إلى الإطلاق فهو في الواقع قد جعل النتيجة ضيق دائرة الحكم، مع أن النتيجة الطبيعية للاستناد إلى الإطلاق هي الشمول والسعة، لا الضيق.

ومع غضّ النظر عن جميع ما ذكر فإننا إذا التفتنا إلى ملاك هذا الحق، والذي يتمثَّل بإيراد الضرر على الشريك، فإننا سندرك أن الضرر متوجِّه إليه في كلتا الحالتين: بيع تمام الحصة؛ أو بعضها. ففي صورة بيع تمام الحصة سيُحمّل الشركة مع مَنْ لا يرتضيه، وفي صورة بيع البعض، مضافاً إلى الضرر السابق، سيزداد عدد الشركاء، ممّا قد ينتهي إلى صعوبة الاتفاق معهما، وهو أحد مصاديق الضرر عرفاً. ولهذا يمكن عدّ الضرر في هذه الحالة أشدّ منه في الحالة السابقة.

وبهذا يرتفع الترديد المتقدم، ويتضح أنه لا حاجة إلى الرجوع إلى الأصل العملي لإثبات عدم ثبوت حق الشفعة ببيع بعض الحصة؛ وذلك أننا نعلم أن الأصل دليل حيث لا دليل. نعم، لو لم يكن عندنا هكذا ملاك ففي تلك الحال يمكن الاستناد إلى دلالة التعبير «انتقال الحصة»، والتي تنصرف إلى انتقال جميع الحصة، ومقتضى الاقتصار على القدر المتيقن من الانتقال هو «نقل الكل»، ولقلنا عندئذ: إن الشرط المذكور معتبر في تحقق الشفعة.

4ـ نقل الحصة بالبيع

مقتضى هذا الشرط هو أنه إذا نقل الشريك حصته لثالث بعقد الصلح أو الهبة المعوضة أو… فلا حق شفعة للشريك عندئذٍ([24])، على الرغم من أن البعض يرى إشكالاً في اختصاص الشفعة بالبيع، فيما إذا كان متعلَّقها الأرض والدار([25]).

وكتب ابن إدريس في مقام استدلاله على ضرورة هذا الشرط قائلاً: «ولا تستحق بما ليس ببيع، من هبة أو صدقة أو مهر أو مصالحة أو ما أشبه ذلك؛ بدليل إجماع أصحابنا عليه؛ ولأن إثبات الشفعة في المهر والصلح والهبة وغير ذلك يفتقر إلى دليل شرعي، وليس في الشرع ما يدل عليه»([26]). وبشكل إجمالي فإن الإجماع وفقد الدليل المعتبر على إيجاد حقّ الشفعة بنقل الحصّة بغير البيع يمثّلان الأدلة التي قدَّمها. وعلى الأقلّ فإن مشهور الفقهاء قائلون بذلك([27]).

وبعد أن نقل الشهيد الثاني قول المحقِّق، الدالّ على اعتبار نقل الحصة بالبيع، كتب قائلاً: «هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل كاد يكون إجماعاً، وليس عليه دليل صريح، وإنما تضمنت الروايات ذكر البيع، وهو لا ينافي ثبوتها بغيره»([28])، ثم استمر قائلاً: «خالف ابن الجنيد، فأثبتها بمطلق النقل، حتى بالهبة بعوض وغيره؛ لما أشرنا إليه من عدم دليل يقتضي التخصيص، ولاشتراك الجميع في الحكمة الباعثة على إثبات الشفعة، وهو دفع الضرر عن الشريك. ولو خصها بعقود المعاوضات ـ كما يقوله العامة ـ كان أقعد»([29]).

إذاً خالف ابن الجنيد اشتراط انتقال الحصة بالبيع، ويرى أنّ حق الشفعة ثابت بانتقال الحصة لثالث بأيّ شكل من الأشكال، حتى الهبة المعوضة وغيرها؛ للأدلة التي أشرنا إليها، ومنها: عدم الدليل الدالّ على اختصاص الشفعة بالانتقال بالبيع خاصّة، مضافاً إلى أن جميع النواقل تشتمل على الحكمة من تشريع الشفعة، وهي دفع الضرر عن الشريك، ولو خصّ هذا الحق بجميع عقود المعاوضات كان أفضل وأقوم، كما يقوله العامة([30]).

واستدلال الشهيد الثاني يؤيد تماماً فرضية هذا المقال، من جعل المحور في شروط الشفعة هو الضرر على الشريك. ومن جهة أخرى فإن نقل الحصة بأيّ سبب، سواء كان بالبيع أم بغيره، كالهبة المعوضة، يوجب الضرر على الشريك، ولا دليل على اختصاص هذا الحكم بالنقل بخصوص البيع.

ولهذا فإننا لو جعلنا المعيار في النقل هو عقود المعاوضات ـ كما قاله الشهيد الثاني& ـ كان أفضل. وفي الوقت ذاته يمكن استفادة ما ذكرناه بوضوح من رواية ابن حمزة الغنوي، عن الصادق×، حيث يقول: «الشُّفْعَةُ فِي الْبُيُوعِ إِذَا كَانَ شَرِيكاً فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ بِالثَّمَنِ»([31])؛ وذلك أن لفظ «البيوع» تستعمل بمعنى عقود المعاوضات من باب التغليب، كما صرح بذلك البجنوردي، حيث قال: «ولكن أنت خبير بأن ذكر البيع من باب أحد النواقل، واختصاص الذكر به لأنه هو الغالب في النواقل عند أهل العرف. واحتمال هذا المعنى يكفي في عدم ظهوره في اختصاص كون الناقل هو البيع في ثبوت هذا الحق»([32])، وخاصة أن الوارد في رواية ابن حمزة هو «البيوع»، لا «البيع»، وهذا الاستعمال للفظ (البيع) يمكننا أن نلحظه في القرآن الكريم أيضاً([33]).

ومضافاً إلى ذلك فإن الإجماع على لزوم انتقال الحصة بالبيع، والذي استند إليه ابن إدريس الحلي، فاقدٌ للاعتبار؛ لأنه إجماع مدركيّ.

وأما القانون المدني فإنه تابع قول المشهور، واشترط ذلك في تحقق الشفعة. كتب أحد الحقوقيين في هذا المجال قائلاً: «هذا الشرط من النظرة الحقوقية غير قابل للتوجيه، ويبدو أن شهرته في الفقه هي التي دعت كتّاب القانون المدني لاشتراطه، واتّخاذ جانب الاحتياط… إن النظام الحقوقي يجب أن يتحرَّر من التلاعب بالألفاظ، ويتجه نحو تأمين المتطلبات الاجتماعية والعقلية. فحقّ تقدم الشريك في شراء السهم المشاع لشريكه يمثِّل ضرورة معقولة، إلا أنَّ على المقنّن أن يحترم هذه المؤسسة القديمة والتاريخية، وأن يعاملها بحيث لا تصطكّ بالقواعد مهما أمكن»([34]).

وبالإيمان بالفرضية المطروحة في هذا المقال يفتح أمامنا طريق معقول، وملاك فاعل، وإطار واقعيٌّ، لهذا الحقّ نوعيّاً، ويعرفه بنحو يتناسب مع الفهم العرفي في مختلف الأزمنة والظروف.

5ـ أن يتعلق البيع بالسهم المشترك

هذا الشرط قد ذكر هو الآخر تبعاً لاستصحاب عدم إيجاد الحقّ، ورعايةً للاحتياط. ونظراً لما تقدم آنفاً فلا ضرورة لاعتبار هذا الشرط بالمرّة.

ومن الشروط الأخرى التي ذكرها الفقهاء لإيجاد حق الشفعة: إسلام الشفيع فيما لو كان المشتري مسلماً([35])، دون ما إذا كان الشريك كافراً، والمشتري مسلماً؛ لئلا يكون للكافر حقّ التملك القهري، ومن جانب واحد ـ ومن دون لحاظ رضا المشتري ـ، للحصة التي اشتراها المسلم. ودليله هو الآية الكريمة: ﴿لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرينَ عَلَى المُؤْمِنينَ سَبيلاً﴾ (النساء: 141)، التي تنفي سلطة الكافر على المسلم بجميع أنواعها، والتي يمكن عدُّها مخصِّصاً لقاعدة الشفعة الكلّية.

ومن الشروط الأخرى: القدرة على أداء الثمن من قبل الشفيع، والفورية في الأخذ بالشفعة. وهما من شروط إجراء الشفعة، لا من شروط إيجاد حق الشفعة. ولهذا فإنهما خارجان عن محلّ البحث.

خاتمة واقتراح

إذا لاحظنا مبنى الشفعة وملاكها الوارد في الروايات فالذي يبدو في النظر أنه لا يمكن الموافقة بسهولة على أنها تأسيسية صرفة، وعلى خلاف القاعدة، وخاصة أن دأب الشارع المقدس في مجال العقود والمعاملات هو عدم تأسيسه للأحكام التعبدية، والمخالفة للقواعد المعروفة بين العقلاء. ولهذا فإن الذي يبدو في النظر أن العقلاء ليسوا في معزل عن هذا الحق، على الرغم من أننا لا ننكر دور الشارع في تثبيته، وإسباغ النظم عليه، وإمضائه له، وتأكيده على نفي الضرر.

وعلى هذا الأساس فإن الذي نقترحه هو أن على المقنِّن أن يلحظ ويتعرّف على كل القيود والشروط التي لها دخل في تحقق الضرر النوعي من المنظار العرفي، ويصوغ على أساسها إطاراً واقعياً ومضبوطاً لحق الشفعة. بل يمكنه أن يلحظ ذلك في الموضوعات المختلفة بصورة مستقلّة، مع تهذيب الشروط الحقيقية عن غيرها، فقد تكون بعض الشروط دخيلة في صدق عنوان الضرر سابقاً، إلا أنها فقدت فاعليتها بمرور الأيام، أو أنه تم استنباطها لتصور أن جميع الأحكام تعبدية ـ بما فيها المعاملات ـ، مع الغفلة عن الملاك الأصلي لتشريعها، فتجعل في إطار ملحق إصلاحي، ليحلّ محل القانون المدني المتعلِّق بحق الشفعة. ولا يتوهَّم أن هذا الأسلوب عدول عن أصول الشريعة، وإنما بهذا الأسلوب تظهر قدرة الفقه وقابليته بوضوح.

 النتيجة

المتحصِّل ممّا سبق هو أنه يلزم في تعيين إطار الشفعة وشروطها لحاظ الملاك والمعيار الأصلي لتشريعها، وهو دفع الضرر. وعلى أساسه تدرس الموارد. فكل موردٍ له دور فاعل في صدق عنوان الضرر النوعي في المنظار العرفي هو من شروط هذا الحق. وعليه فالشروط المذكورة من قبل الفقهاء على قسمين:

‌أـ الشروط التي تعيِّن الإطار العام للشفعة، وتوجد الأرضية لتحقق مفهومها. وبطبيعة الحال لها موضوعية في إيجاد هذا الحق. وهي عبارة عن الشروط التالية:

1ـ الشركة.

2ـ إشاعة حصص الشريكين.

3ـ أن يكونا شخصين لا أكثر.

‌ب ­ـ الشروط التي لا يدور تحقُّق الشفعة مدارها، وإنما ذكرت في الروايات باعتبارها مصاديق نوعية لمقومات الضرر عرفاً، ولهذا فهي ليست بتوقيفية أو غير  قابلة للتغيير.

وأما بقية الشروط التي ذكرها الفقهاء فهي مندرجة في القسم الثاني.

والذي نقترحه هو أن المقنِّن الوضعي في كلّ زمان يقوم من خلال دراسة الأسباب النوعية لتحقق الضرر بالتعرف على الموارد الدخيلة في تحققه، حتى بلحاظ الموضوعات المختلفة، فيقوم بإدراجها في الشروط المذكورة في الفرع (أ)، كي يأخذ هذا الحق إطاراً واضحاً ومضبوطاً وعقلائياً وعملياً، وذلك من خلال الالتفات بدقّة إلى ملاك تشريع الشفعة.

الهوامش

_______________

(*) طالب دكتوراه في قسم الفقه والحقوق الإسلامية في جامعة طهران، من إيران.

([1]) ابن حمزة، الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 258 ـ 259.

([2]) ابن منظور، لسان العرب 8: 183.

([3]) الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية 3: 1238.

([4]) النوري، مستدرك الوسائل 17: 99.

([5]) الطوسي، تهذيب الأحكام 7: 163، ح724.

([6]) الكليني، الكافي 5: 281؛ الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 79، ح3377؛ الطوسي، تهذيب الأحكام 7: 164، ح730؛ الطوسي، الاستبصار 3: 116، ح413، الحر العاملي، وسائل الشيعة 17: 321، ح3.

([7]) وسائل الشيعة 17: 319، ح1؛ تهذيب الأحكام 7: 164، ح727.

([8]) الصدوق، فقه الرضا: 264 ـ 265.

([9]) الخميني، تحرير الوسيلة 1: 555.

([10]) لسان العرب 5: 273.

([11]) الوسيلة: 9، 258؛ الصدوق، المقنع: 406.

([12]) الكافي 5: 281؛ تهذيب الأحكام 7: 164 ـ 165، ح730؛ الاستبصار 3: 116، ح2؛ مستدرك الوسائل 17: 103، ح1.

([13]) النجفي، جواهر الكلام 37: 276.

([14]) کاتوزيان، درسهايي أز شفعه …: 20.

([15]) البحراني، الحدائق الناضرة 20: 285.

([16]) المرتضی، الانتصار: 215؛ الطوسي، النهاية: 423.

([17]) تهذيب الأحكام 7: 164 ـ 165، ح730.

([18]) الوسيلة: 259 ـ 285.

([19]) الانتصار: 215.

([20]) الحدائق الناضرة: 284.

([21]) الانتصار: 215.

([22]) البجنوردي، القواعد الفقهية 6: 181.

([23]) إمامي، الحقوق المدنية 3: 18.

([24]) الوسيلة: 258 ـ 259.

([25]) الخوئي، منهاج الصالحين 2: 73.

([26]) ابن إدريس، السرائر 2: 386.

([27]) السبزواري، كفاية الأحكام: 104؛ ابن زهرة،  غنية النـزوع: 232؛ القمي، جامع الخلاف: 280.

([28]) الشهيد الثاني، مسالك الأفهام 12: 273 ـ 274.

([29]) المصدر نفسه.

([30]) المصدر نفسه.

([31]) تهذيب الأحكام 7: 164، ح728.

([32]) القواعد الفقهية 6: 158.

([33]) الجمعة: 9؛ البقرة: 254 و282؛ إبراهيم: 31.

([34]) درسهايي أز شفعه …: 18.

([35]) الوسيلة: 9، 258.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً