أحدث المقالات

 لماذا الكيل بمكيالين؟!

الشيخ محسن غرويان(*)

ترجمة: السيد حسن علي مطر الهاشمي

مدخل ـــــــ

تتعرّض ثورتنا حاليّاً للهجوم من مختلف الجهات، وخاصّة من الناحيّة الثقافية حيث يتعرّض معها أصل كياننا الديني القائم بفعل الجهاد الطويل وفصول طويلة من بذل الدماء، إلى الهجوم بأساليب دقيقة وغير محسوسة. وفي هذا النطاق تتعرّض المؤسسة الدينيّة لغارة شعواء بوصفها حاملة لواء الثقافة الإسلاميّة في الوقت الحاضر والعالم المعاصر ورائدة الثورة الإسلامية، وبوصفها داعية للدين والمذهب في العالم المعاصر، وفي هذا المجال تعرض بعض الشبهات في الصحف والمجلات؛ من هنا وجدنا من الضروري والواجب علينا أن نجيب عن هذه الشبهات حتى لا يبقى أيّ إبهام في هذا الخصوص، إذ من الواجب على الحوزة العلميّة أن يكون لها موقفها إزاء الهجمات التي تطالها، وأن تجيب عن التشكيكات والشبهات التي تتعرّض لها المؤسّسة الدينيّة والإسلام والثقافة الإسلاميّة؛ من هنا أحسسنا بالواجب الذي يحتم علينا الإجابة عن الأسئلة والإبهامات التي تثار من قبل بعض المتأثرين بالفكر الغربي.

وسأبدأ بمقدّمة، ومن ثمّ أستعرض بعض النقاط حول مقال نشر مؤخراً في صحيفة كيان. أما المقدّمة التي انتخبتها لتناسب البحث فتشير إلى التيارات الممهّدة للغزو الثقافي في القرنين الأخيرين في إيران.

مجموعتان ممهّدتان للغزو الثقافي في إيران ـــــــ

نشطت في إيران منذ قرنين من الزمن مجموعتان معروفتان، وعملتا على الترويج للثقافة الغربيّة ومكافحة الإسلام، وتتمثل إحدى هاتين المجموعتين بالمثقفين والمستنيرين المنبهرين بالغرب، حيث بدأت هذه الجماعة نشاطها بُعيدَ التغييرات التي حصلت في أوروبا بعد عصر النهضة في القرن السادس عشر والسابع عشر للميلاد، بغية إحداث تغيير في إيران مسانخٍ ومشابهٍ للتغيير الذي طرأ على أوروبا بعد العصور الوسطى.

ويمكن أن نذكر عدة ميّزاتٍ للتنوير بعد عصر النهضة:

خصائص عصر التنوير ـــــــ

1 ـ الإيمان بالعلم التجريبي ـــــــ

وكأنّ هذه المجموعة من المثقفين والمستنيرين قد ذهبت إلى تأليه العلم التجريبي، وقامت ـ بالاعتماد على الأفكار التي ظهرت بعد أوغست كونت ـ على تسمية المرحلة الجديدة بمرحلة العلم، مختتمةً بذلك المرحلة الفلسفيّة والمرحلة الإلهيّة، حيث قالوا: إننا نعيش حاليّاً في عصر العلم التجريبي الذي يمكننا من خلاله حلّ جميع الأمور والقضايا.

2 ـ العقلانيّة المفرطة ـــــــ

العمل على ترجيح العقل البشري وتقديمه على الوحي الإلهي، واعتبار العقل البشري بديلاً عن الكتب السّماوية، من هنا كانت بداية ظهور العلمانيّة ونظريّة فصل الدين عن السّياسة، وأنّ الدين غير قادرٍ على إدارة المجتمع البشري المعاصر، وعلينا نحن إدارة شؤوننا الحياتيّة بالاعتماد على وحي عقولنا، من دون أن تكون لنا أيّ حاجة إلى الوحي السماوي والكتب والأنبياء.

3 ـ التصريح بمعارضة الدين ومكافحته ـــــــ

وأمّا خلاصة تاريخ التنوير في إيران فهي كالآتي: منذ عصر الشاه عبّاس الثاني وبعد عصر فتح علي شاه بدأت البعثات الطلابيّة بالتوجه إلى أوروبا للدراسة فيها، وأوّل جامعيّ ذهب إلى أوروبا من إيران في عصر الشاه عباس الثاني اسمه محمّد زمان، وقد قيلَ فيه: إنه لم يتعلّم من أوروبا سوى الانغماس في الشهوات والانكباب على الحياة والإغراق في الملذات. وفي عصر فتح علي شاه القاجاري توجّه عددٌ من الأشخاص نحو أوروبا ومن بينهم: الميرزا صالح الشيرازي، وحسن علي آقا ذكري، حيث انتسبا فور وصولهما إلى إنجلترا إلى الماسونيّة. ومن بين هؤلاء المغتربين في العهد القاجاري والذين يعتبرون من أبرز الأدوات التابعة للغرب: عسكر خان أفشار، والميرزا أبو الحسن الإيلجي، والميرزا جعفر مشير الدولة، وخاصّة فتح علي آخوند زادة، حيث كان هذا الأخير علمانيّاً قلباً وقالباً، وكان يجاهر بمعارضة النبي والأحكام الشرعيّة، وكان عميلاً للحكومة الروسيّة القيصريّة، ولديه كذلك ميول قوميّة، وكان أيضاً متفقاً مع الزرادشتيّة في مخالفته الصريحة للإسلام. وكانت هذه الفئة من المستنيرين والمثقفين تقدّم الغرب للإيرانيين بوصفه آلهةً تعبد من دون الله، وترى في الإسلام والدين دليلاً على التخلّف والرجعيّة، وتعتبر الإسلام والدين والقرآن من الأسباب الرئيسة لتخلّف المسلمين.

ظهور الماسونية ونشاطاتها في إيران ـــــــ

أمّا المجموعة الأخرى التي ظهرت في إيران منذ قرنين من الزمن ومهّدت الأرضيّة لظهور التفكير الغربي ومحاربة الدين، فتتمثل بالجمعيات الماسونيّة. والماسونيّة لفظ فرنسيّ مشتق من كلمة <Freemason> والتي تعني: أحد أفراد نقابة البنائين الأحرار في العصور الوسطى، حيثُ كان لهذا الصنف آنذاك نقابة تحمل هذه التسمية، ثمّ تمّ التوسّع في استعمالها فأخذت هذه التسمية تطلق ـ منذ القرن الثامن عشر للميلاد ـ على كلّ تجمعٍ اجتماعي وسياسي سرّي، حيثُ أقيم أوّل تجمع للماسونيّة في إنجلترا، وباشر نشاطه تحت مظلّة الدولة الإنجليزيّة لتنشط في سائر البلدان الأخرى وخاصّة الإسلاميّة منها آنذاك مثل إيران والدولة العثمانيّة ومصر، حيث عملت هذه التجمعات على إضعاف الثقافة الدينيّة، وسوق المسلمين إلى الحضارة الغربيّة.

وكرّست هذه المنظمات الماسونيّة جهودها في البلدان الإسلاميّة على استقطاب المفكرين والنخب الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وحثها على الانتساب والعضوية والانخراط في هذه المنظمات السرّية من خلال بذل الأموال الطائلة وتوفير كافة الإمكانات ووضعها تحت تصرّف هذهِ النخب، لتصل من خلالها إلى أهدافها في البلدان الإسلاميّة.

وفيما يلي أذكر بعض العبارات التي دوّنتها حول أهداف الحركة الماسونيّة وجمعيّاتها، كي نقف على مقدّمات ظهور الحركات الموجودة على الساحة الاجتماعيّة الراهنة وبداية نشاطها، وتدركوا أنّ الجهود المستميتة التي يقوم بها هؤلاء المثقفون والمستنيرون من العملاء ما هي إلا استمرار لتلك الحركة التي نشأت في إيران منذ قرنين لتستهدف القضاء على الإسلام!

فقد قيل في أهداف الماسونيّة: لا ينبغي للحزب الماسوني الاكتفاء بدولةٍ واحدة أو دولتين أو حتى عدّة دول، بل عليه أن يبسط سلطانه على جميع الكرة الأرضيّة، وأول الخطوات في طريق تحقيق هذه الغاية يبدأ في القضاء على الدّين وعلمائه الذين يعتبرون من أكبر الأخطار على المشروع الماسوني، حيث قالوا: «لابدّ من القضاء على (الدّين) بوصفه العدوّ الأكبر للإنسانيّة، وعلى الماسونيّ عدم الإيمان بأيّ دين، لكن يجوز لـه التظاهر بالتديّن بغية خداع الناس»! هذا جزءٌ من المشروع الماسوني الذي بدأته الحكومة الإنجليزيّة، ثمّ نسجت الحكومة الفرنسيّة على منواله في تأسيس مثل هذا المشروع على أرضها؛ وبذلك نلاحظ أنّ القضاء على الدين وعلماء الدّين يقع في سلّم أولويّات وأهداف هذه الحركة.

ويعود تاريخ تأسيس الماسونيّة في إيران إلى العصر القاجاري، حيث كان عسكر خان أفشار الرومي أول ماسوني إيراني، إذ عُيّن سفيراً لإيران في فرنسا عام 1223ش، وهناك انتسب إلى عضويّة البيت الماسوني، ثمّ تلاه الميرزا أبو الحسن الإيلجي حيث أرسله فتح علي شاه عام 1224ش إلى لندن فانبهر بالغرب، وقد صنّف كتاباً ضمّنه مشاهداته في هذا السَفر، حيث يمكن الوقوف على انبهاره بنمط الحياة الغربيّة من عنوانه؛ إذ أسماه (كتاب الانشداه) للدلالة على عميق دهشته وانبهاره بعظمة أوربا والحياة الغربيّة!

لقد ذهب هؤلاء إلى الغرب ودخلوا في عضويّة الماسونيّة، إلا أنّ أول من عمل على تأسيس فرع للماسونيّة في إيران هو الميرزا ملكم خان ناظم الدولة، حيث أقام قبل قرنٍ من الزمان وفي عام 1274ش بالتحديد أوّل مجمعٍ للماسونيّة في إيران وأطلق عليه اسم (دار النسيان) وقد تمّ إغلاقه فترة من الزمن، ليعاد افتتاحه فيما بعد ليواصل أعماله باسم (جامع الإنسانيّة). وأوّل مجمع للماسونيّة تمّ تأسيسه في إيران وحظي بالاعتراف العالمي والدولي كان في عام 1325ش باسم (مجمع الصحوة الإيراني). وفي عام 1352ش أي قبل انتصار الثورة بسبع سنوات نشرت الولايات المتحدة قائمة بأسماء أعضاء هذا المجمع، وقد ظهر فيها اسم (شريف إمامي) بوصفه أستاذاً كبيراً في هذا المجمع، وفي عام 1367ش/1988م أعلنت القناة الإنجليزيّة الرابعة تعطيل النشاط الماسوني في إيران بعد الثورة وانتقالها إلى ولاية كاليفورنيا في الولايات الأمريكيّة المتحدة، وهذه على نحو الإجمال هي المجموعة الثانية من الماسونيين والتي كانت تطغى عليها الصبغة السياسيّة وعملت على محو الدين والإسلام وعلماء الدين في إيران.

كتابات المستنيرين المعاصرين امتداد للمشروع الماسوني ـــــــ

وإنما ذكرت هذه المقدّمة، لتعلموا أنّ الكلمات التي تصدر حاليّاً وتظهر في كتابات بعض هؤلاء المثقفين والمستنيرين والمنبهرين بالغرب والمتأثرين به ليست شيئاً جديداً. وإنما تعود جذورها إلى ما قبل قرنين من الزمن، حتى تحوّلت المواجهة مع علماء الدين في عصر رضا خان إلى العمل واستخدام العنف والقوّة وتجريد العلماء من زيّهم للقضاء على المؤسّسة الدينيّة. وكان ذلك بدعم هذه المنظمات الماسونيّة حيث كان نظام رضا خان ومحمد رضا منقاداً إلى الإنجليز والحكومات الغربيّة بشكلٍ مطلق، وكانت المخالفة للمؤسسة الدينيّة على قائمة أهدافهم. وها نحن نشاهد حاليّاً عودة بعض هؤلاء المثقفين والمستنيرين الذين أخذوا يواجهون علماء الدين بأشكالٍ مختلفة، وعملوا ردحاً من الزمن على التشكيك بمضامين العلوم والتعاليم التي يتلقونها في الحوزات العلميّة. وعملوا حيناً على طرح الإدارة العلميّة إلى جانب الإدارة الفقهيّة وقالوا: لابد من إدارة المجتمع علميّاً، متهمين الإدارة الفقهيّة بعدم الكفاءة. ومن الواضح أنّ الإدارة الفقهيّة تعني الإدارة الدينيّة وإدارة علماء الدين والمؤسّسة الدينية، وإن مخرج هذه الكلمات واحد فهي وجوه لعملة واحدة وإن اختلفت في الظاهر، وإلا فإنّ غاية هؤلاء السادة واحدة تتمثل في محو أساس الدين تحت ذريعة عدم كفاءة الدين والإسلام في إدارة المجتمعات البشريّة المعاصرة، ولابدّ من القضاء على المؤسّسة الدينيّة بوصفها المتكفلة بتنفيذ الأحكام الدينيّة والشرعيّة.

مشروع سروش مع المؤسسة الدينية ـــــــ

وقد لاحظتم في المقال الأخير [مقال الدكتور سروش] الذي ظهر على صفحات مجلة كيان كيف تعرّضت المؤسّسة الدينيّة إلى هجومٍ من نوعٍ آخر حيثُ اُتهمت بالارتزاق على الدين، وعليه فالدين الذي يقدّمونه إلى الناس إنما يداعبون به عواطف الناس ويقدّمونه على نحوٍ ينسجم مع رغبات العامّة ولا يوافق النصوص الدينيّة الحقيقيّة، وعليه لا يمكن الركون والاعتماد على هذا الدين وهذا التفسير الذي تقدّمه المؤسّسة الدينيّة الراهنة للوحي.

الشيء الآخر هو أن لا تتحوّل المؤسّسة الدينيّة بوصفها صنفاً منظماً، وبعبارةٍ أخرى أن لا يكون للمؤسّسة الدينيّة لجانٌ ومنظمات. وهذا نمطٌ آخر من الهجوم على الحوزة العلميّة الذي قاده في السابق أمثال الميرزا ملكم خان وفتح علي آخوند زادَة، وتقي زادَة، ورضا خان. فماهيّة العمل واحدة وإن اختلفت أشكالها ومضامينها باختلاف العصور والأزمنة، وإنّ هذه السلوكية هي من بعض الجهات تقليد للحركة البروتستانتية في أوروبا ضد الكاثوليكية، وهي أداء غربي يقوم به بعضُ المثقفين عندنا. وخاصّة حينما يتمّ التعريف بهم في الصحف والمجلات الأمريكيّة وتشبيههم بـ (مارتن لوثر) في العالم الإسلامي، ولذلك يبدو لنا أنّ هؤلاء يؤدّون اختبارهم ويحاولون النجاح في تقليدهم للحركة البروتستانتيّة الأوروبية. حيث نعلم أنّ البروتستانتيّة لا تؤمن بنظامٍ موحّدٍ للمؤسّسة الدينيّة المسيحيّة، ويقولون للكاثوليك: لا ينبغي أن يكون لنا نظامٌ واحدٌ منسجم، أو ندير حياتنا المعيشيّة من خلال موردٍ أو قناةٍ واحدة، ولابدّ من القضاء على المؤسّسة الدينيّة. وحاليّاً يقوم هؤلاء المستنيرون والمثقفون في الداخل بتقليد الشيء نفسه.

وأشير هنا إلى بعض النقاط في مقال الدكتور سروش بشكلٍ عابر.

عنوان المقال (حرّية المؤسّسة الدينيّة) ومفاده أنّ المؤسّسة الدينيّة الراهنة لا تتمتع بالحريّة الكافية وذلك بسبب ارتباطها المعيشي بالناس، إذ فقدت بذلك الكثير من عزتها وكرامتها. وعندما قرأت هذه المقالة وجدت فيه الكثير من التناقضات، بالإضافة إلى الكلمات المتناقضة مع أقوال كاتبه في غيره من المقالات.

سروش بين فقدان الحقيقة والانتصار لها!! ـــــــ

وقبل البدء نذكر أنّ صاحب المقال يبدو في جميع مواطن هذه الكتابة شديد القلق والحرص على حقيقة الدين ويقول: إنّ المؤسّسة الدينيّة الراهنة وبسبب تبعيّتها للعامّة تقدّم للناس ما يوافق مذاقهم، فلم تعد قادرة على بيان حقيقة الوحي والدين، وبذلك فقدت حقيقة الوحي والدين قداستهما وعظمتهما! وكأنه غفل عن إيمانه في موضعٍ آخر بأننا حاليّاً لا نمتلك حقيقة الدين، وأنّ ما عندنا لا يعدو أنْ يكون فهماً للدين دون حقيقته! وليس للفهم والمعرفة أيّ قداسة، حيث يذهب في مقالات (القبض والبسط) إلى أنّ الفهم والمعرفة الدينيّة ـ كأيّ المعارف الأخرى ـ خاليّة من التقديس، فما عدا مما بدا هنا حيث يبدو شديد الغيرة والحرقة على حقيقة الدين ونصوص الوحي!! وهذا سؤالٌ جدليّ عليه الإجابة عنه! وكأنه ينسى ما قاله في المواطن الأخرى، إذ على الفرد حينما يلتزم بنظرية، أن يلتزم بها دائماً وفي جميع المواطن.

أطروحة سروش في الوضع المالي للمؤسسة الدينية، وقفات نقدية ـــــــ

ثمّ يتطرّق إلى هذا البحث ويقول: كان الشهيد مطهّري يرى آفة الآفات في نظام المؤسّسة الدينيّة في تبعيّتها للعامّة وارتزاقها على الدين. وقبل كلّ شيء أشير إلى معنى الارتزاق على الدين وهل هو صحيحٌ أم لا؟ إنّ للمؤسّسة الدينيّة حاليّاً ميزانيّة تؤمّن لها من قبل الدين وتتمثل في الحقوق الشرعيّة المفروضة على الناس الذين يؤدونها بدورهم إلى مراجع تقليدهم، فيعمل أولئك المراجع على إنفاقها في إعداد الطلاب وإدارة شؤونهم والحوزات العلميّة والمؤسّسة الدينيّة بغية التفرّغ لطلب العلم والأمور الدينيّة. وهذا جزءٌ من الميزانيّة التي تنفق على المؤسّسة الدينيّة. ولا بأس من الإشارة هنا إلى أنّ صاحب المقال أصدر في هذا المجال فتوى مفادها: لا يصح إنفاق الحقوق الشرعيّة في هذا المجال، معتبراً هذا الإنفاق من النماذج البارزة للخطأ في تشخيص الموضوع! (نأمل أن يطيعه مقلّدوه في هذه الفتوى فلا ينفقونها في هذا المجال!!)

والسؤال الأساسيّ هنا في المورد المالي الذي يجب توفيره للمؤسّسة الدينيّة، وهو ما بحثه الكاتب في هذا المقال وذكر فيه رأي الشهيد مطهّري وردّه. وللكاتب هنا رأيٌ مفاده أنّ المؤسّسة الدينيّة السنيّة تعتاش على أموال الدولة. وأمّا المؤسّسة الدينيّة الشيعيّة فهي وإن لم ترتزق على أموال الدولة، لكنها تابعة للناس في ذلك، وفيه نفس المحذور والتبعات والأضرار، حيث لا يمكن للمؤسّسة الدينيّة أنّ تبيّن الدين للناس على حقيقته. إذ سيتحدث علماء الدين حينها بما يناسب أذواق الناس لينتفعوا بالعطاء المادي الذي يتلقونه منهم بإزاء تعليم الدين، وهذا ما أدّى إلى زوال كرامة وعزة المؤسّسة الدينيّة. ويرى أنّ الذين يحصلون على قوتهم من جهاتٍ أخرى أو يمكنهم كسب قوتهم من طرقٍ أخرى عليهم الاعتماد على دخلهم الذاتي، وبذلك ربما يقلّ الإقبال على المؤسّسة الدينيّة والتلبّس بالزيّ الديني، إلا إنّ تفاني هذه المجموعة القليلة والمستوى الكيفي، سيعمل على جبر قلّة العدد والضعف الكميّ.

وقال في موضع آخر من هذا المقال: سواءٌ أخذ عالم الدين معاشه من الناس أم الدولة أم من صندوق مركزي تابع للمؤسّسة الدينيّة (كما يذهب الشهيد مطهري حيث يقترح فتح صندوق مركزي لتوفير نفقات الجميع من أئمّة الجماعة والخطباء والوعّاظ، على أن يكون ذلك الصندوق تحت إشراف المراجع والكبار في المؤسّسة الدينيّة) فإنّ هذا لا يغيّر من الواقع شيئاً، فالمشكلة لا تزال قائمة، حيث يرتزق الفرد في جميع هذه الموارد على الدين.

على نظرية سروش: كيف يعيش عالم الدين؟!! ـــــــ

فإذا لم يُضمن معاش المؤسّسة الدينية من قبل الناس أو الدولة، ولا من خلال صندوقٍ مركزيّ تحت إشراف الكبار في المؤسسة الدينيّة، فما هو الحلّ؟! هل يبقى من طريقٍ غير زوال المؤسسة الدينيّة، أو تفرّغ العلماء والطلاب إلى العمل بأيديهم بأن يعملوا في الفلاحة والنجارة مثلاً أو الحصول على وظيفة في الدوائر الحكوميّة أو غير ذلك من الأشغال والأعمال والحرف، مع القيام بواجب تبليغ الدين ونشره! نريد هنا أن نرى هل يمكن تحقق هذا الأمر؟ وسؤالي لكاتب المقال في هذا الخصوص: هل يحتاج الدين إلى تخصّص أم لا؟ هناك احتمالان لا أكثر:

1 ـ فإن قلت بعدم حاجة الدين إلى تخصّص، فهذا يعني أنك تستهين بالدين ولا تعيرهُ أيّ اعتبارٍ أو قيمة، في حين أننا نعتقد بأنّ الدين يحتاج إلى تخصّصٍ وتفرّغ وبذلٍ للوسع كسائر العلوم والمعارف الأخرى.

2 ـ وإن ذهبت إلى حاجة الدين إلى تخصّص، فهناك احتمالان أيضاً؛ إمّا أن يتخصّص فيه جميع الناس أو بعضهم، وليس هناك عاقل يذهب إلى الاحتمال الأول؛ إذ لا يمكن لجميع الناس الاختصاص في فرعٍ واحد سواء أكان في الدين أم في غيره، فهذا أمر مستحيل التحقّق، إلا إذا تصوّرنا الدين في غاية البساطة ويمكن بلوغه بقراءة كتابٍ واحدٍ أو نزرٍ يسير من الكتب لساعة واحدة في اليوم والليلة إلى جانب الأعمال الأخرى والوصول إلى كنه حقيقة الدين وتبليغه إلى الناس. وإنْ قلت بتخصّص بعض الناس في الدين ـ كما هو موجود على أرض الواقع ـ فما هي المدّة التي يحتاجها هؤلاء في اليوم الواحد ليقضوها في الدراسة والبحث والتحقيق في الدين ونشره؟ وما هي المدّة التي يحتاجها من العمل الحرّ لتأمين معاشه بالمستوى المتوسّط؟ من الطبيعيّ أنه يحتاج في الأقل إلى سبع أو ثمان ساعات في اليوم، ومع ذلك قد لا يبلغ الحدّ المتوسط في تحصيل كفاف عيشه! فكيف تأمر بإعطاء أمر التحقيق في الدين للذين يأكلون من كدّ يمينهم من العمال والموظفين؟!

هل هناك فرق حقاً بين رجال الدين وسائر النخب والمتعلِّمين؟! ـــــــ

ويذهب صاحب المقال في الأساس إلى عدم ضرورة تولّي أمور الدين طبقة بعينها، ويقول: ليس من الصالح أن تتحوّل المؤسّسة الدينيّة إلى جهازٍ منظم، فالمعرفة الدينيّة بشريّة ولكنها بخلاف العلوم البشريّة الأخرى لا تغدو قويّة وأكثر دينيّة بتحويلها إلى منظومة واضحة الأبعاد أو تحويلها إلى نقابةٍ أو صنف محدّد المعالم.

أولاً: لماذا تختلف المعرفة الدينيّة عن سائر المعارف البشريّة؟ هذا ما يغفل توضيحه.

ثانياً: هل من الإنصاف أنْ نفهم الدين الإسلامي بهذه البساطة، ثمّ نعمل على تبليغه وإشاعته؟

الأمر الآخر أنّ الحقوق الشرعيّة إذا لم تنفق في الدين، فما هو مورد إنفاقها؟ أليس من الأفضل إنفاق الحقوق الشرعيّة التي يدفعها الناس ـ بوصفها من الواجبات ـ في تبليغ الدين نفسه؟ وهل هناك طريقٌ آخر لإنفاق هذه الحقوق في غير إعداد المبلّغين والعلماء والطلاب والمؤلفين؟ والعجيب أنه يُشير في هذا المقال إلى أنّ المؤسّسة الدينيّة تستفيد من الطرق التي يضمنها الدين! فإذا كان الدين نفسه ـ باعترافك ـ قد ضمن هذا الرزق للقائمين على خدمته، إذاً عاد اعتراضك على الدين نفسه!

ثمّ إنه يقولُ في موضعٍ آخر: بما أنّ المؤسّسة الدينيّة تعتمدُ في دخلها على الناس، لا يسعها الإخلاصُ في تبليغ الدين لهم.

نتساءل: وأيّ صنفٍ لا يعتمد في دخله على الأصناف الأخرى؟ فأساتذة الجامعة يدرّسون الجامعيين ويتقاضون أجورهم من الجامعيين أنفسهم أو من الدولة، فلا ينحصر إشكالك بالمؤسّسة الدينيّة هذا أولاً. وثانياً: سوف لا تكون الفيزياء والكيمياء والفلسفة وغيرها من العلوم التي يدرّسها هؤلاء الأساتذة خالصة لوجه الله على هذا الأساس. وهكذا يسري الإشكال على الذين يدرّسون مادّة الدين للصبية في وزارة التربية والتعليم ويتقاضون رواتبهم على أساس ذلك من الدولة التي تأخذ الأموال بدورها من الضرائب التي تفرضها على الناس، ومنهم أولياء هؤلاء الصبية، فيعود الإشكال عليهم أيضاً.

والعجيب أنه يشير إلى ذلك وينكر ورود الإشكال على الجامعيين دون أن يوضح ذلك! لأنه بنفسه ـ طبقاً للتعريف الذي يقدّمه ـ جزءٌ من المؤسّسة الدينيّة التي ترتزق على الدين! ففي مقاله هذا الذي يحمل عنوان (حرّية المؤسسة الدينيّة) يرتزق على الدين حينما يتقاضى أجره عليها! وكذلك الدروس التي يلقيها عن الدين والفلسفة الدينيّة ثمّ يتقاضى راتباً بإزائها، فلا تكون هذه الدروس خالصة لوجه الله، وعاد الإشكال عليه أيضاً!

ويذكر الأطباء مثلاً ويقول: إنهم كعلماء الدين يرتزقون بعلمهم؛ ولكنه يستدركُ قائلاً: لكن هناك فرقٌ بين الأطباء وعلماء الدين، إذ هناك حاجزان يقفان في طريق الأطبّاء؛ الأول: منظمة الصحّة الطبيّة، التي تعمل على ضبط ارتزاق الأطبّاء من داخل المؤسّسة الطبيّة. والثاني: السيطرة الخارجيّة المتمثلة بالناس أنفسهم، وذلك عندما يلاحظون تفاقم وضع المريض أو موته بعد وصف الدواء من قبل الطبيب، فلا يتعاملون بعدها معه ولا يراجعونه، فلا يستطيع عندها الارتزاق بعلمه. أمّا علماء الدين فإنه وإن كان هناك حاجز داخليّ من المراجع والفضلاء والمحكمة الخاصّة برجال الدين التي تشرف على أدائهم العلمي والعملي والتي تعمل على تأديبهم ومحاكمتهم إذا صدر منهم ما يخالفُ الدين بالقول أو الكتابة، لكن ليس هناك حاجز خارجيّ عليهم، حيث لا يتمكّن العامّة من تحديد خطأ العلماء أو صوابهم، إذ لا يمكن إخضاع أمور الدين للتجربة كسائر العلوم الدنيويّة، وإنما يؤجّل اختبارها إلى عالم الآخرة! فهل هذا صحيح أم لا؟

الجواب: أوّلاً: يمكن اختبار الكثير من المسائل الدينيّة في عالم الدنيا، وليس اختبار صحّتها مرهون بعالم الآخرة، تماماً كما في المسائل التربويّة والاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وغيرها من المسائل الدنيويّة.

ثانياً: يمكن لغالبيّة الناس معرفة ما إذا كان عالم الدين صالحاً أو طالحاً، فإذا توجّه إلى التبليغ طالبٌ دون المستوى العلمي المطلوب وتحدّث بأمور لا تليق بشأن العلماء، لا يوجّهون الدعوة إليه ثانية، كما يصنع ذلك مع الطبيب الذي ذكره كاتب المقال في مثاله السابق. وعليه هناك نوع من الرقابة الخارجيّة على أداء علماء الدين والمؤسّسة الدينيّة. وإذا قلت: يمكن تحديد خطأ الطبيب من قبل الناس بشكلٍ أسرع، قلنا: بل هناك من الأطباء من يستطيع إخفاء حقيقته على المرضى لسنوات طويلة، وذلك بأن يصف للناس علاجاً لا تظهر أعراضه الخطيرة إلا بعد عقدٍ أو عقدين من الزمن حيث يبدأ المريض بالشكوى من هذه العوارض الجانبية! وعليه فهذه ليست سوى أمثلة سطحيّة وهي مردودة ومنقوضة طرداً وعكساً.

والعجيب أنه يقول بأنّ العلوم الجامعيّة يمكن اختبارها في هذه الدنيا، ويمكن تحديد خطئها من صوابها، فيما الذي تقدّمه المؤسّسة الدينيّة للناس من علوم الدين لا يمكن تحديد الحقّ من الباطل منه! وهذه مجرّد ادّعاءات؛ فهناك الكثير من المؤلفات الجامعيّة التي لا يمكن في هذه الدنيا معرفة الحقّ من الباطل منها، من قبيل الكثير من النظريّات الدستوريّة والسياسيّة والاقتصاديّة، بل وحتى في العلوم التجريبيّة وعلوم الرياضيّات والفيزياء؛ وذلك لعدم إمكان إخضاعها للتجربة. والخلاصة هناك من العلوم الجامعيّة ما لا يمكن إثبات صحته من خلال التجربة، وهناك من العلوم الدينيّة ما يمكن اختبار الصحيح من الخطأ فيه في هذه الدنيا لكونه قابلاً للتجربة.

المعنى الحقيقي لحرية رجال الدين ـــــــ

لا بأس في الختام بالإشارة إلى أنّ العزة والحريّة من الأمور النفسيّة والمبادئ الأخلاقيّة. والقولُ بأنّ المؤسّسة الدينيّة تفقد حريّتها وعزتها إذا اعتمدت على الناس في معاشها، وأنها إن لم تعتمد في معاشها على الناس ـ وإن كان هذا الافتراض مستحيلَ التحقق باعتراف الكاتب نفسه ـ احتفظت بعزتها وحريّتها، كلام باطل بكلا شقيه؛ لأنّ العزة والحرّية من الأمور النفسيّة، فيمكن للإنسان أن يكون عالماً في الدين وأن يرتزق عن هذا الطريق، ومع ذلك يحتفظ بعزته وحريّته واستقلاله!

ويجدر بنا هنا أن نسوق هذا المثال؛ فقد نُقل أنه جاء وفدٌ من قِبل نظام الشاه إلى الإمام الخميني وعرض عليه مبالغ طائلة بإزاء سكوته عن جرائم الشاه! فقال لـه الإمام الخميني: عودوا إلى مليككم وقولوا لـه: إن السيّد الخميني يعطيك أضعاف هذا المال على أن تغادر البلاد. وهنا سأله أحدهم: ومن أين لك هذا المقدار الكبير من الأموال؟! فأجابه الإمام الخميني: سأدعو كلّ شخص من الإيرانيين كي يدفع توماناً واحداً، وبذلك سنحصل على هذا المقدار من المال لإخراج الشاه!

إذن، هناك من العلماء الكبار في المؤسّسة الدينيّة من يتمتع بعزة نفسٍ عالية، ومع ذلك يعتمد في معاشه على الناس، دون أن يكون لهم سلطان عليه. ومن ناحيةٍ أخرى هناك الكثير من خارج المؤسّسة الدينيّة من يضحّي بعلمه من أجل المال!

الحقوق الشرعيّة بين الأجرة والأداء الديني ـــــــ

المسألة الأخرى أن الناس لا يدفعون (الحقوق الشرعيّة) كأجرة لعلماء الدين، وإنما يدفعونها كدَينٍ في ذمتهم، أي أنّ الناس يرون من الواجب عليهم القيام بوظائفهم الدينيّة، وقد أجاز الدين الإنفاق من هذه الحقوق على القائمين على خدمته؛ إذاً فالناسُ يرونَ أنفسهم مسؤولين تجاه الدين، وليس تجاه الفرد المتخصّص في الدين. وعليه لا تعتمد المؤسّسة الدينيّة على الناس في معاشها، بل إنها تحصل على ميزانيتها من الدين نفسه، ولذلك تسعى إلى بذل كلّ ما بوسعها في خدمة الدين وبذلك يقدمونه خالصاً للناس. فإذا صادف وتمرّد الناس ولم يعملوا بما يمليه عليهم الدين من الواجبات فعندها ستبحث المؤسسة الدينية عن مخرجٍ لأزمتها، لكنّ الناس في الوقت الحاضر يعملون بواجباتهم الدينيّة. وإذا ذهب المبلّغ وأعطاه الناس شيئاً من المال، كان ذلك بمنزلة العطاء الذي يتقاضاه الأستاذ الجامعي من المال بإزاء تدريس الفيزياء والكيمياء.

وخلاصة القول: ليس الأمر كما يقال من أن تعليم الدين ليس خالصاً على الدوام. بل إن الناس يقدّرون عالم الدين الذي ينتقدهم ويهدي إليهم عيوبهم، ويقولون: لقد أحسنَ هذا العالم في موعظتنا، ولم يعمل على مداهنتنا؛ فإذاً لا يصحّ التعميم بأن يقال: إنّ كلّ من اعتلى المنبر وأخذ مالاً من الناس فقد تحدّث بما يُرضي الناس، فالناسُ إنما يدفعون نقودهم إلى الخطيب لكي يعرّفهم الدين على حقيقته، وإن أدّى ذلك إلى إزعاجهم أحياناً! فكيف توصّلتم إلى أنّ عالم الدين إذا تقاضى أجراً على علمه، لم يُقدّم للناسِ ديناً خالصاً؟! فالحقيقة خلاف ذلك! وطبعاً هناك بحثٌ في طريقة استلام الأموال من الناس لا يسع المجال لذكرها، ولكن ما يدّعيه صاحب المقال واهٍ وضعيف، ولا يمكن الالتزام به على عمومه.

وفي ختام هذا المقال أطرح سؤالاً شفوقاً على صاحب المقال:

العمالة للأجانب أم للناس؟ أيهما أفضل؟ ـــــــ

لنفترض أنّ هناك تبعية للناس من قبل المؤسّسة الدينيّة! ولكن أيهما أفضل؟ هل تبعيّة هؤلاء الناس أفضل أم تبعيّة الغرب والأجانب؟! هل التبعيّة للمسلمين أفضل أم التبعيّة للكفار؟! هل على المسلم المتديّن عندما يلقي كلمة في الناس أن يتكلّم بأسلوبٍ يعجب المسلمين والمؤمنين وأسر الشهداء؟ أم عليه التكلّم بأسلوب يعلو لـه هتاف وتصفيق الدول الغربيّة؟! فإذا كانت لنا تبعيّة وعمالة، فإنما هي تبعيّة لهؤلاء الناس، في حين أنه يتكلم ليُطرب الأبواق الإعلاميّة الغربيّة! لقد كانَ كلٌّ من الشهيد السيّد البهشتي وبني صدر عميلان، ولكنّ عمالة السيّد البهشتي عادت بالنفع على الناس، وعمالة بني صدر خدمت الاستعمار الغربي. وها أنتَ ترى المستنقع الذي آل إليه بني صدر، والمرتبة التي بلغها الشهيد البهشتي!

باعتراف كاتب المقال، هناك عمالة وتبعيّة بين جميع أبناء الإنسانيّة، لكن ينبغي للفرد أن يرى أيّ تبعيّة تأتي بالعزة والكرامة، وأيّ عمالة تأتي بالذلّ والهوان؟ وقد أثبت عمالته في مقاله هذا. وقال: إنّ المؤسّسة الدينيّة قد أصيبت بالجهل، لأنها أضحت تابعة للناس والناس في الغالب من الجهلاء! ونقول له: ليس هناك عالمٌ مطلق، ولا جاهل مطلق، بل العلم والجهل من الأمور النسبيّة، فليس هناك من يعلم شيئاً إلا ويجهل شيئاً آخر، وللأسف الشديد فإنّ كاتب المقال حينما يحاضر في حشدٍ من الناس فيهتفُ ويصفقُ لـه عددٌ من الأشخاص، يتصوّر أنهم بأجمعهم من العلماء، فيما يرى السوادَ الأعظم من الناس الذين يحضرون المساجد ويشهدون صلاة الجمعة والجماعة جهّالاً بأجمعهم!

ونحن نقول لـه: إذا أصيبت المؤسسة الدينيّة بداء الجهل، فاعلم أنك مصاب بالداء ذاته، بل أنت مصابٌ بداء التبعيّة والعمالة للغرب! حيث إنّ الكثير ممّن يستمع إلى كلامك لا يفقه شيئاً منه وجهله فيه جهلٌ مطبق!

الأمر الآخر أنه مدين بما ذكره في مقاله هذا إلى المؤسسة الدينيّة، حيثُ يستشهد في كلامه عن ضرورة أن يتمتع عالم الدين بالكرامة وعزة النفس بما ورد في كتاب (المحجّة البيضاء) و(آداب المتعلّمين) و(حاشية جامع المقدّمات) وهي بأجمعها مؤلفات صنفها علماء الدين. فلو لم يكن هناك علماء متخصّصون في الدين ليستخرجوا هذه النوادر والحكم من النصوص والمصادر الدينيّة، هل كان بإمكانه الوصولُ إليها؟! فها هو يقتات على تراث المؤسّسة الدينيّة في كتاباته، بل ويتقاضى أجوره منها! فما هو السبب الذي يدفعه إلى التحامل على علماء الدين؟ والحال أنّ الإمام الراحل الخميني قال: (لولا المؤسّسة الدينيّة لما كان هناك إسلامٌ ولا دين)، فلماذا يتفوّه بما يخالف كلام الإمام الخميني كلّ الاختلاف؟!

وفي الختام نقول لهؤلاء المثقفين والمستنيرين والكتّاب: لقد أثبت التاريخ أنّ الصنف الوحيد الذي قاوم الاستعمار بمختلف صولاته العسكريّة والثقافية وغيرهما، وصمد حتى النهاية وحفظ الأرض والدين والإسلام والوحي هو الصنف المتمثل بالمؤسّسة الدينيّة. فلماذا تسلكون الطريق الذي سلكه قبلكم أمثال (رضا خان) ولماذا تشدّون على مخالفة علماء الدين والمؤسّسة الدينيّة؟!

وطبعاً نحن لا ننكر وجود بعض المتلبّسين بزيّ العلماء في المؤسّسة الدينيّة، إلا أنّ هذه المؤسّسة بمجموعها قد أثبتت جدارتها في حفظ الدين. وإنّ هذه الثورة التي فتحت صفحة جديدة للإنسانيّة قد قادها رجلٌ من هذه المؤسّسة الدينيّة، وعليه هل من العدل والإنصاف أن تتعرّض هذه الثورة لمثل هذه الهجمة الشرسة والشعواء؟!

نضيف هنا أننا نتوقع في المستقبل تصعيداً أشدّ وقعاً من هؤلاء المتأثرين بالغرب، حيثُ قام أسيادهم بأكثر مما يقوم به هؤلاء، حتى وصل الأمر بأمثال (كسروي) إلى مهاجمة القرآن الكريم والنبي الأكرم والإمام الصادق، ولذلك نحن نتوقع ذات الشيء من هؤلاء، ولكننا مع ذلك ننصحهم بالكفّ عن هذا النهج.

وننوّه بهذا التحذير أيضاً: إننا سنقفُ بكلّ ثقلنا أمام هذه التحدّيات، وسنقاوم هذه الهجمات التي لا تهدف إلا إلى الترحيب بالاستعمار والإمبرياليّة ومن يرفع لواء الهجمة الثقافيّة ضدّنا، وليعلموا أننا لن نكفّ عن الكلام ما دامت حناجرنا، ولن نكفّ عن الكتابة ما دامت أقلامنا، وسنحدّث الناس ونفضح حقيقة هؤلاء العملاء، وإنْ هم صعّدوا من وتيرة هجمتهم، سنتقدّم بدورنا بما عندنا من الكلام الذي سنصدع به في حينه.

حفظ الله الإسلام وإيران من شرور الأجانب.

________________________________________________________

(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في الأصول والفلسفة، وأستاذ في مؤسسة الإمام الخميني التي يشرف عليها الشيخ مصباح اليزدي، كانت له مساهمات مشهودة في نقد الحركة الإصلاحية في إيران، لا سيما على صعيد الدراسات الفكرية السياسية والفلسفية الجديدة، له عدد كبير من المؤلفات.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً