أحدث المقالات

إن مبدأ الاعتراف بالآخر والقبول به؛ له مؤشر واضح لإخضاع (الأنا والذات) لعملية نقدية مستدامة، وإن مجرد التأسي العقلاني بالآخر هو بالضرورة أيضاً الاحتكام للحاضر والمستقبل باعتبارهما جزأين لا يتجزآن من تشكل الوعي للإنسان المعاصر، ولا تنحصر هذه الصورة في الأطر البينية ذات الطابع الفرداني فحسب، بقدر ما تكون تندغم مع مضامين العلاقة بين الحضارات والثقافات والأديان، آخذين بالاعتبار أن ثمة عناصر رئيسة تسهم بشكل كبير في تشكيل صورة هذه العلاقة، كالدين والتراث ونزعات القوة والغلبة والكثير من المصالح المشتركة رغم تباين القوة والضعف.
شئنا أم أبينا فما يزال الإنسان المعاصر أسير الكثير من تفاسير الماضي بخيره وشره، كذلك الحال بالنسبة للحضارات الإنسانية، فالأديان والحضارات والثقافات والمذاهب وغيرها على الرغم من تباين الخصائص والمنطلقات والأهداف بينها؛ يبقى اللاعب الأبرز وراء كل المعطيات الحيوية هو (الإنسان) نفسه، في قبال معطيين رئيسيين (الدين بمجموعه التاريخي والتراثي والحيوي) و(الواقع بكل تفاصيله وتساؤلاته المكثفة). إذن؛ ووفق كل ذلك؛ يظل الإنسان هو القيمة الحقيقية ليس لفهم الوجود فحسب، بل باعتباره المسؤول في تشخيص علاقته بنفسه وبالآخر أيضاً.
الثقافات البشرية اليوم بغض النظر عن تباين القوة من الضعف أو التقدم والتقهقر؛ لا تغادر مثل هذه المعطيات والوقائع، ليس ثمة حضارة ناجزة أو ثقافة سائدة بالرغم مما تخبئه في جوهرها من مضامين الحماية لحقوق الإنسان وترسيخ مبدأ العدالة وقيم الحوار والتسامح، فهي لا تستطيع التفلت من نزعة (القوة بشقيها الناعم والخشن) والقناعة القائمة على (البروغماتية) ومقتضيات الربح والخسارة، حتى لو تطلب الأمر وإلى أقصى حد من الممارسة؛ باتخاذ سلوكيات قهرية لأجل إقصاء وإزاحة الآخر عن طريقها، أو ممارسة الأسلوب الدبلوماسي والناعم وتذرعها بمعايير وضوابط، كاحترام كافة القوانين والمعاهدات الدولية والالتزام بها باعتبارها شرعة حقوقية ودولية.
وعلى سبيل المثال فالجوهر التنويري الذي تحمله الثقافة الغربية تحديداً؛ لم تحُلْ من الاستمرار في استخدام منطق القوة والهيمنة باتجاه الثقافات الأخرى لا بمنطق المعنى والتفاهم، إذ ليس بالضرورة أن تتجسد صورة القوة في الشكل العسكرتاري أو عبر قوانين إلزامية بفرض عقوبات مشددة إزاء بعض الدول المناهضة لسياساتها، وغير ذلك من التدابير المختلفة والتي غالباً ما تكون الشعوب هي الضحية جراء ذلك، وبالتالي فلا لوم إذا ما تشكلت لدى الثقافة المغلوبة على أمرها كل ما من شأنه أن يساهم في تظهير حالات من التنابذ والتحاقد والتحارب كبديل عن التحاور والتدافع. يأتي هذا في سياق ونحن نشهد خروقات وانتهاكات للعناوين الآخذة بمبدأ التعددية واحترام الآخر والقبول به.
ومؤخراً شهدت الساحة الإعلامية الأمريكية حالتي طرد لصحفيتين اثنتين من أصول لبنانية، الأولى (هيلين توماس) والثانية (أوكتافيا نصر) لا لشيء سوى أنهما قد عبرا عن وجهتي نظرهما حيال بعض المواقف؛ سواء التي تتعلق بقضية فلسطين والاحتلال الصهيوني، إضافة لذلك؛ الحال لا يختلف عما حصل في فرنسا بعد أن أقر قانون يُلزم بعدم ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية، على اعتبار أن ذلك لم يعد من الأمور الخاصة أو الشخصية!.
والحال إلى الأسوأ فيما ينعكس من ثقافة يغلب عليها طابع التشدد والأفكار المتخشبة والطبائع العنيفة، فكل ذلك فرز طبيعي لما يشهده واقع العالم العربي والإسلامي من تراجعات حادة على مختلف النواحي الإنسانية والتنموية والحقوقية، يساهم فيه وبشكل واضح تلك الصورة السياسية المحنطة، فضلاً عن الجمود والتكلس اللذين يشهدهما الخطاب الديني بالتحديد، فلا غرو إذا ما عاشت شعوب العالم هامش التقدم والحضارة وهي تفتقر إلى أقل ما تتمتع به الشعوب الأخرى من استحقاقات سياسية أو مدنية، فما يزال الإنسان العربي بعيداً كل البعد من أن ينخرط في عملية تنافسية ونزيهة ذات طابع ديمقراطي حقيقي للوصول إلى مواقع صنع القرار.
وعوداً على بدء ومحاولة إمعان التفكير إزاء النظرة للآخر المختلف، وبالرغم من تغاير المنطلقات والأهداف المعرفية البشرية، وتباين ثقافات الشعوب وخصائصها الأيدلوجية، وبعيداً عن معطيات التقدم والتخلف أو القوة والضعف بينها؛ إلا أن نزعة (الأنا المثالية) تظل طاغية وواضحة في سلوكياتها وممارساتها، سواء كان لدى ثقافة الغلبة أو ثقافة المغلوبة، مع فارق النسبة، فالأولى تأخذها العزة بالإثم، ومن منطلق نشوة الانتصار تجيز لنفسها أن تفعل ما تشاء وقت تشاء دون أن يردعها قانون أو يلزمها عهد أو ميثاق، والأخرى المغلوبة على أمرها تظل في غيها مكابرة، تلتقط من الماضي ما يدغدغ مواطن النشوة الوهمية لديها، بمعنى يكون انخراطها في الواقع وعلاقتها مع الثقافة الأخرى من باب التعويض والشعور بالنقص، وبكلام آخر، فإن منطق الغلبة يُولد لدى الآخر الشعور بالضعف، مما يؤدي به لأن يدخل في دائرة من الدفاع المستميت والدائم؛ فيصبح العنف وسيلة من وسائل ردة الفعل وبالتالي تغيب كل عناوين النقد الذاتي والفحص العقلاني المتكرر.
الغرب اليوم يتفوق بعد أن كان الشرقيون في لحظة ما من التاريخ هم المتقدمون، وقد تدور الدوائر ويصبح المتقدم متأخراً والعكس صحيح أيضاً، وقد تنهض شعوب وحضارات وتنتكس في المقابل أمثالها، هذه طبيعة الحياة البشرية، وسنن التدافع الإنسانية. فبقاء الحال من المحال كما يقول المثل. بيد أن الذي يبقى ويستمر تلك الطبيعة للعلاقة بين أبناء البشر؛ فرادى كانوا أم جماعات، أديان كانوا أو ثقافات، مذاهب كانوا أو أحزاب، أجناس كانوا أو أعراق. فمهما تعددت الأفهام والتوجهات تظل المحصلة واحدة، أي؛ تلك العلاقة بين بني البشر. بالتالي يتطلب الأمر شحذ التفكير في إعادة إنتاج العلاقة بصورة متجددة حسب طبيعة المواقف والظروف وما يقتضيه الواقع، وكل ذلك وفق منطلقات الإنسان ونظرته لذاته وللآخر معاً بحيث لا تغيب عنه متطلبات الحاضر وما يستشرفه المستقبل.
وفي نهاية المطاف كان لزاماً إذا ما أراد الإنسان نفسه أن يحظى بفلسفة الوجود، وأن يستثمر طاقاته المتعددة والمتنوعة، وأن يجد نفسه واثقاً ومطمئناً؛ عليه بالدرجة الأولى أن يذهب مع أخيه الآخر إلى معايير وآليات، تسهم بشكل ناجز في بناء منظومة علاقات متينة، تضمن الاختلاف الديني وخصوصياته، وتكفل طبيعة المحتوى الثقافي وخصائصه المتنوعة، وتدفع بهما معاً إلى ساحة الفعل الحضاري والتنموي، حسب رؤية العيش الواحد والمشترك، ومن خلال روافد المحبة والتسامح والإقرار بمبدأ تكافؤ الفرص بين بني البشر عامة، إذ لا يتأتى ذلك إلا عبر أسس ومرتكزات عديدة ومتنوعة، يتناغمون ويتوافقون عليها وإليها، فلا تأمثل للذات، ولا تشيطن للآخر، وليس لأي جهة كانت؛ الحق أن تنطلق في علاقتها مع الجهات الأخرى عن مبدأ امتلاكها للحقيقة المطلقة، أو أنها النموذج الطهراني الفريد، وبكلام أخير: إن الدين واحد والشرائع مختلفة، وأن المشكلة ليست في الأديان بقدر ما هي في المعارف والأفهام البشرية.

 


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً