أحدث المقالات


قرأت مقالة حول التداوي بالقرآن و الأحراز و الطب النبوي  لفضيلة الشيخ حسين الخشن  . و يظهر انه يهدف الى معالجة   ظاهرة استغراق بعض الناس في اللجوء الى ما بات يعرف بالتداوي بالقرآن الرقي  والطب النبوي و غيرها .  و قد  يزعم بعض ان فاعلية التداوي بهذه الطرق  أقوى و أبرك من الطب الحديث  . و ربما يشكل ذلك مدخلا لاستغلال عواطف الناس الدينية من قبل بعض الأشخاص و الفئات . و من جهة أخرى ربما يتخذ بعض الباحثين المنتمين لبعض الاتجاهات  الفكرية ذلك ذريعة للتهجم على الفكر الديني و القائمين عليه و على المتدينين ، بحسبانهم رجعيين متخلفين ، يرجعون الناس الى الوراء و يستغلون بساطتهم و حبهم للدين لأغراض مادية  . 
و قد تعرض الكاتب   لمناقشة بعض المستندات و المنطلقات التي يعتمدها دعاة   التداوي بالقرآن و الطب النبوي  .
و دعا إلى اتخاذ الوسائل و الأسباب الطبيعية في معالجة الأمراض و في  سائر مناشط الحياة  و هذا لا يتعارض مع قدرة الله تعالى و لا مع الدعاء لأن الله هو الشافي الحقيقي  .
كما ناقش  بعض الروايات الواردة في الطب النبوي  ، و انتقد بعض الآراء الداعمة لهذه التوجهات .
 و الواقع ان هذه الظاهرة آخذة  في الانتشار  ، و تحتاج الى و دراسات متنوعة  شرعية و  اجتماعية و نفسية و حتى صحية .  
 و  هذه الأسطر القليلة بمثابة مداخلة  متواضعة على بعض تأصيلات الكاتب ، لا سيما فيما يتعلق بقانون العلية و السببية و الدعاء . و إذا وردت إية إشارة في المداخلة  الى الأحراز و الرقي الشرعية فالمقصود منها تلك التي  تشتمل على الأدعية و أسماء الله تعالى و كلماته  .
 
 أولا –  الشفاء و قانون العلية الحاكم على الكون :
 دعا الكاتب الى اتخاذ الأسباب الطبيعية في مختلف مناشط الحياة  كالإستشفاء و طلب الرزق و تحقيق النصر ، لأن سنة  الله في الكون جرت على ربط المسببات بأسبابها طبقا لقانون العلية الحاكم في الكون . و ليس في ذلك المس بقدرة الله تعالى ، فالله هو الشافي الحقيقي و لكنه يشفي بتوسط  الأدوية التي أودع فيها خاصية الشفاء و هكذا بالنسبة للرزق و سائر الفعاليات الحياتية . و لا يعني ذلك أيضا إلغاء لدور الدعاء و طلب العافية من الله تعالى ، فإننا نطلب منه العافية من خلال استعمالنا للدواء و أخذنا بأسباب الشفاء .
 و هنا  قد يتسائل متسائل : صحيح ان حكمة الله اقتضت أن لا يجري الأمور إلا بأسبابها ، كما ورد في الحديث ، و لكن   هل بالضرورة ان تكون الاسباب حسب قانون العلية  طبيعية أو مادية ؟ و لم لا يعتبر الدعاء و الاستشفاء بالقرآن الكريم و بأسماء الله تعالى  – اذا صحت النصوص الداعية اليها –  من بين الأسباب و لكنها غير مادية و من ثم فهي لا تتعارض مع قاعدة العلية ؟
و في ضوئه ،  يحسن الجمع بين الوسيلتين ابتداء  لمن يمكنه ذلك ، لا لمجرد استكمال بعض الشكليات  ، بل لكون الدعاء و الاستغاثة  بالله تعالى و بأسمائه و صفاته   له آثار تكوينية حقيقية و ان لم تفطن اليها العلوم البحتة لطبيعتها التجريبية   . أما من لا تتوافر له الأسباب الطبيعية لأي سبب كان ، فانه أيضا يحسن له أن يتجه الى الله تعالى بالدعاء ليكشف عنه ضره و يدفع عنه ما ألم به  من بلاء . نعم ليس من الصواب الركون الى الدعاء و التضرع و الاستغاثة بالله تعالى و ترك الأسباب و الوسائل الطبيعية و إهمالها تحت دعاوي و أحجيات فاسدة لا يقرها عقل و لا شرع . لقد كنت أتمنى أن يجلي الكاتب هذه المسألة بوضوح أكثر لتفادي الإلتباس فيها .
من ناحية أخرى ، و حيث ان النظام الكوني قائم على قانون العلية  ، فإن قصر قانون العلية و السببية  على الأسباب الطبيعية و المادية و حذف الأسباب الغيبية منها أو حصر تأثيرها  فقط في دائرة الخوارق ،  يؤدي الى  إنحسار دور الدعاء و تضييق مساحته جدا إن لم يؤد إلى إلغائه بالفعل ،  حيث  تكاد تنحصر فاعلية الدعاء حينها في الحاجات الأخروية  . بل لا يبقى عندها ، أي معنى معقول للدعوة الى الجمع بين الأسباب المادية و بين الدعاء ، لأنه و الحال هذه سيغدو  دور الأخير ثانويا أو إجرائيا (طقوسيا )  فقط .  أما عند افتقاد المرء  للأسباب الطبيعية و انقطاعه عنها لضعف أو فقر أو عجز  ، في  أية قضية أو محنة أو معضلة تلم به  ، فانه في هذه الحالة  – و حسب  هذا الفهم  –  يكاد   ينتفي دور الدعاء نهائيا ! فلا يبقى معنى مفهوم  للدعاء و للإلتجاء إلى  الله تعالى  حينها .   فلا  يبقى أي تأثير للدعاء و الإستغاثة بالله تعالى  حينما يحاط  الإنسان و يحاصر  بالعجز أو الفقر أو المرض أو الكرب أو الضر أو الظلم   و سائر  النوازل و الكوارث الدنيوية فيما إذا افتقد الأسباب الطبيعية ! و بعبارات  أوضح ان المظلوم اذا لم تتوافر لديه وسيلة مادية يتشبث بها لرفع الظلم  و ان المريض بمرض عضال ، اذا لم يكن بوسعه  ان يدفع نفقات العلاج الباهضة ، و ان ركاب طائرة آيلة للسقوط  دون أن يمتلكوا وسيلة إنقاذ ، و ان ركاب  باخرة وسط بحر هائج مائج و  رياح عاتية مدمرة   و ماشاكل  ، فانهم في مثل هذه الأحوال  لا قيمة لتوجههم  الى الله تبارك و تعالى لكي يرفع عنهم تلكم الإبتلاءات الماحقة المهلكة  ، لأن الدعاء لا تأثير مباشر له و لا تأثير مستقل له  . فإن الدعاء بطلب العافية من الله تعالى يكون من خلال تناول الدواء  ، و هكذا الدعاء لدفع  كل كرب و كشف كل ضر لا يتم  إلا عبر اتخاذ الأسباب و الوسائل الطبيعية . و لأن قانون العلية (المادي ) هو الحاكم على الكون !
و بطبيعة الحال فإني لا أقصد ان الكاتب أراد توصيل هذه النتيجة في مقاله ، و لكن تمنيت لو ألقى ضو وافيا على تحديد مفهوم العلية و السببية و علاقتها بالدعاء .   
ان التأمل في آيات القرآن الكريم  يدل على نظرة مغايرة لما قد يبدو من الفهم السالف الذكر ، حيث نجد في القرآن  تنوع أغراض الدعاء و مناسباته ، سواء بالجمع بينه و بين الأسباب الطبيعية أو بالتعويل عليه وحده عند انقطاع الأسباب .
و على سبيل المثال نشير الى بعض الآيات القرآنية الكريمة :
 "  إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين " الأنفال/9
" فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين . فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آاتهما ". الأعراف /189-190
"و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " .يونس/12
" و قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون و ملأه زينة و أموالا في الحياة الدنيا ، ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم و اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " . يونس /88
" و إني خفت الموالي من ورائي و كانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا "  . مريم /5
"و إذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر فمنهم مقتصد ". لقمان /32
"قال رب اغفر لي و هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب". ص/25
"أمن يجيب المضطر إذا دعاه و يكشف السوء و يجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ". النمل /62
فاننا نجد في هذه النماذج القليلة من  الآيات المذكورة أعلاه ، تعدد أغراض الدعاء من طلب المدد الإلهي في المعركة و طلب الولد الصالح و كشف الضر بشكل عام  و طلب النبي موسى (ع) تدمير القوة المادية الفرعونية  و دعاء النبي زكريا (ع) أن يرزقه ولدا مع كون امرأته  عاقر  و الإستنجاد بالله من الغرق وسط بحر هائج   و دعاء النبي سليمان (ع) ليهبه ملكا استثنائيا و الدعاء بكشف السوء مطلقا . و نلاحظ  في بعضها ، الجمع  بين الدعاء و اتخاذ الوسائل المادية كما  يتبين من  استغاثة المؤمنين في معركة بدر في الآية 9 من سورة الأنفال ، حيث أعد المسلمون القوة المتاحة لديهم  ، و هناك من انقطع تماما عن الوسائل المادية و الطبيعية كما في حالة من أحيطوا في البحر  بموج كالظلل  ، حسب  الآية 32من سورة لقمان .
و في جميع ذلك لم يرد ردع أو توجيه إلهي  لهم بضرورة الإتجاه إليه و طلب حاجاتهم عبر الأسباب الطبيعية والمادية أو التربوية و الإجتماعية حسب مناسبة الحال.   طبعا مع  وضوح عدم وجود  تعارض أو تناف بين الإثنين لكون الله تعالى هو الذي أوجد الأسباب الطبيعية و الوسائل المادية  و أودع فيها خصائصها المتنوعة التي يستنفع بها الإنسان .
و ليس بالضرورة أن يرفع الله تعالى الضر عن عبده عبر الطرق الغيبية البحتة ، بل يمكن أن يهيئ له أسبابا مألوفة أو غير مألوفة و يفتح أمامه آفاق التفكير و يهديه سبل البحث و السعي لتحقيق مطالبه .
و قد أشار القرآن الكريم في عدة نماذج إلى ذلك ، منها فيما قصه عن معاناة عبده  أيوب مع المرض و دعائه لله تعالى " و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه اني مسني الشيطان بنصب و عذاب . أركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب . ص/41-42. و يرى السيد الطباطبائي بأن وقوع الآية الثانية : أركض برجلك ، عقيب نداء أيوب و مسألته  إيذان باستجابة الدعاء . و ذكر ان الله أظهر له عينا و أمره بأن يغتسل و يشرب منها حتى يبرأ تماما . ( الميزان 17/210 )  كما تحدث القرآن عن صاحب الحوت فقال : " فنبذناه في العراء و هو سقيم . و أنبتنا عليه شجرة من يقطين . الصافات /145-146
فبعد أن طرحه الحوت في العراء في مكان لا ظل فيه أنبت الله تعالى له هذه الشجرة ليستظل بورقها . ( الميزان 17/161) . (1)
و أيا كان ، فإن  من نافل القول ،ان  ترك  الكد و الكدح  و السعي لاكتشاف  أسرار الطبيعة   التي سخرها الله تعالى للإنسان لعمارة الأرض واستمرار الحياة ، بدعوى التوكل على الله تعالى و التضرع إليه لإنزال الرزق و المدد الغيبي  مفاهيم لا تتفق مع الفطرة السليمة و التفكير الصحيح .

ثانيا:   حول  مدى علاقة النبي (ص) كمعصوم بعلوم الطب و الصناعات و غيرها : 
ذكرالكاتب  في البند ثالثا من مقاله بأن هناك رأيان حول مدى معرفة النبي (ص) بالعلوم الطبية و الصناعات .  فاذا بنينا على ان معرفة ذلك من شرط النبوة  ، فعلينا ان تلتزم بان ما صدر عنه (ص) مصدره  الوحي و لا مجال للخطأ فيه  . و اذا بنينا على انه ليس شرطا للنبوة فانه يفتح باب الاحتمال بان ما صدر عنه (ص) منطلق من تجربته الخاصة و من واقع خبرته المجتمعية .
  و بصرف النظر عن صوابية هذا الرأي أو ذاك ،  يحسن التوضيح انه بناء على  الرأي القائل  بأن   المعرفة بهذه العلوم  ليست شرطا في النبوة  ومن ثم   لا يجب على الأنبياء معرفتها  ، لا يعني  ابتداء انهم يجهلونها  تماما  و ان الله تعالى لم يطلعهم عليها أبدا ، و لا يعني ذلك انهم اذا تحدثوا فيها فإن حديثهم يكون عرضة للصدق  و خلافه ،  تماما كما هو شأن من يتحدث فيما هو خارج عن اختصاصه و مجاله  .
 و  قد تطرح  عدة إشكاليات  على  هذا  الرأي   منها : اذا كانت هذه المجالات خارجة عن وظائف النبي (ص) و الأئمة (ع) و  شؤونهم  ، فلم يرشدون الناس و يوجهونهم فيها ؟ لا سيما مع العلم ان كثيرا من الناس قد يلتبس عليهم الأمر فيحسبوا انها من شؤونهم و انها من الوحي ؟  من جهة أخرى  و بناء على هذا الرأي  ، فهل يمكن للنبي ( ص) و الأئمة (ع) ان يوجهوا الناس و يرشدوهم فيها أصلا ،  و هل يمكن أن يكون  توجيههم و إرشادهم فيها مخالفا للواقع   أو مضرا بالصحة  بحيث يعطي نتائج عكسية تسبب أضرارا صحية أو مادية ، كما يروى  في قصة تأبير النخل ؟ ثم ألا يقود هذا الى إضعاف ثقة الناس بالنبي (ص) و تسرية  ذلك الى بقية توجيهاته  و تعاليمه و تشريعاته الدينية   ووقوع اللبس و الاشتباه عند الناس حولها ؟
و لا يقال في هذا السياق  ، بان ثقة الناس لن  تتأثر بهم ، كما نجد انها لا تتأثر بالمراجع و الفقهاء حين يخطأون و يغيرون بعض آرائهم و فتاويهم  ، لأن الناس في الثانية يعرفون سلفا بانهم ليسوا معصومين و ليسوا مرتبطين بالوحي و ان الخطأ متوقع منهم  منذ البداية . بل ان تصحيحهم لفتاويهم يؤكد على استقامتهم و أمانتهم العلمية . ثم  من المفترض ان  الفقهاء لا يتدخلون فيما هو خارج عن اختصاصهم ، و لو فعلوا ذلك و لوحظت عليهم الأخطاء لانعكس ذلك سلبا على ثقة الناس بهم . بل لو تكرر الخطأ من أحدهم حتى في مجال اختصاصه لأدى الى إضعاف ثقة الناس به ، على  انه لا مجال للمقايسة بين المقامين للفارق الواضح بينهما .
من جهة ثالثة  ،  ما معنى صدور مثل هذه الروايات  بهذه الكثافة  وورودها في مصادر المسلمين أجمع ؟ و حتى بناء على وقوع الكذب و الدس في الروايات ، فهل يمكن القول هكذا بجرة قلم و بالجملة بأنها نتاج حركة الوضع و الدس و الكذب على النبي (ص) و الأئمة (ع)   ؟ و مع  أخذ الفرق بين الروايات الموضوعة و الضعيفة بعين الإعتبار ، هل كل روايات الباب ضعيفة السند مثلا  ؟ و هل حسب كل  المباني ، بما فيها  الوثوق  و تراكم القرائن وغيرها ؟
لقد ذكرالكاتب  عند حديثه عن التداوي بالقرآن بأن  الروايات الواردة في الاستشفاء بآيات القرآن الكريم، حسب التتبع ضعيفة الإسناد ، فهل المقصود  إن التتبع التام أو الواسع فيها  كشف عن عدم وجود حتى بضع روايات  صحيحة فيها ؟    بينما  الظاهر من  عبارة الشيخ الصدوق في الاعتقادات ، عن الروايات الواردة في  التداوي بالقرآن و الأدعية  بأنها  وردت بالأسانيد القوية و الطرق الصحيحة . علما بأن الكاتب صرح  بانه لم  تتح له الفرصة للتحق من الروايات العلاجية  التي قد تبلغ الألف  ، كما ذكر . 
ثالثا : التداوي  بالأحراز  :
 ذكر ان الروايات الواردة حول التداوي  بالأحراز و الرقي و الأدعية  ،  لا ترمي إلى القول بارتباط الشفاء بشكل مباشر بها ، بل انها تؤكد على مبدأ الإرتباط بالله تعالى  في الشدائد ، لتأثيره غير المباشر في الشفاء .  لأنّ من الثابت علمياً والمشاهد بالعيان، وجود علاقة إيجابية بين الألم النفسي و نشأة الأمراض و شدة فتكها  بالإنسان ، و أفضل أسلوب للتغلب على المرض هو اللجوء الى الله تعالى و الركون الى حسن تدبيره وقضائه ، و يأتي دور الأدعية و الأحراز ، كغذاء روحي يبعث على الأمل لعدم السقوط أمام المرض .  أما أن يكون لها تأثير مباشر و مستقل في الشفاء بعيدا  عن قانون العلية و عن الأخذ بالأسباب الطبيعية فهذا أمرلا تساعد عليه الأدلة. 
 يظهر مما ذكره أعلاه ، بأن  النبي  (ص) التفت  الى هذه الحقائق العلمية النفسية العضوية في تلك الفترة المبكرة جدا بحسب خبرته  الثقافية  و تجربته  المجتمعية و جاء العلم الحديث فأثبتها !  والسؤال الذي يفرض نفسه  في المقام هو :   اذا كان النبي (ص)  لا علاقة له  و لا دراية بهذه العلوم و أمثالها و لا حجية لقوله  فيها ،  فلا داعي للاستشهاد  بها  حتى لو اتفق  مضمونها مع قناعة  الكاتب و اتجاهه في المقالة .
ثم هل التوجيه النبوي للدعاء واللجوء الى الله تعالى عند الشدائد  و  ما شاكل هو مجرد  لغرض ( الطبطبة ) و التسكين النفسي و منح الأمل للمريض للتسليم  لقضاء الله تعالى ، بحيث لو كان المريض مشركا أو عابدا للأوثان  و ما شابه ، لكان توجيهه باللجوء إلى أربابه و آلهته  ، يؤدي نفس النتيجة و يحقق نفس الغرض  ؟ أم ان للتوجه بالدعاء الى الله تعالى الشافي الحقيقي قد يكون له تأثير تكويني مختلف بحيث  قد يؤدي بالفعل الى الشفاء  ؟ و ما المانع من ان يكون لأسماء الله تعالى و كلماته – التي  ترد في العادة في الأدعية و الرقي الشرعية –  تأثير مستقل و مباشر  في الشفاء – فيما اذا صحت الروايات الواردة فيها –  بحيث تكون تماما كالدعاء و التوجه لله تعالى بكشف الضر و المكروه ، لا سيما عند انقطاع أي أمل لدى الإنسان بالأسباب الطبيعية ؟  
رابعا : الآداب الشرعية: 
ذكر الكاتب ان ما ورد من الروايات في الآداب الشرعية  ، هي من التعاليم الأخلاقية و العادات الإجتماعية الحسنة و السنن الإسلامية و يجدر بالمسلم مراعاتها .
و السؤال ، بناء على منطق الكاتب في غير مورد في المقالة ،   لماذا يجدر بالمسلم مراعاة هذه الآداب  ؟ فلربما كانت هي الأخرى  ، عادات ثقافية لذلك العصر ؟ و كانت جميلة في حينها ؟ و ربما جاء الحث عليها مجاراة للعادات المجتمعية السائدة في عصر النبي (ص) والأئمة  (ع)   كما التزم الكاتب في بعض الموارد الأخرى . فلم يبين لنا الكاتب سبب تسليمه بهذه العادات الاجتماعية و اعتبار مصدرها الوحي و ادراجه لها ضمن السنن الشرعية ،  و نفيه هذه الصفة الدينية عن غيرها  .  على  ان الحكمة تقتضي ان ينأى النبي (ص) عن وضع نفسه في هذا الموضع الذي قد ينعكس على مصداقيته سلبيا حين يكتشف الناس بأنه يقحم نفسه في مجالات يجهلها   و يرشدهم في أمور لا علم له و لا معرفة بها  و انه كثيرا ما يعرضهم للخسائر و الاضرار .  كما  ان هذه الأوضاع  سوف تفتح باب القيل و القال حول شخصية النبي (ص)  و مقامه ، و قد  تكون سببا لإثارة الشكوك حول تبليغه لرسالة الله تعالى .
خامسا : النصائح الطبية :
 ذكر ان الروايات الواردة عنه (ص) في مجال النصائح الطبية ، تندرج تحت النصائح الوقائية التي أثبت أهل الإختصاص صحتها و قد تشكل شاهد صدق لصالح الرسول و الرسالة .
يظهر لي ان الكاتب هنا اتبع نهجا ذرائعيا  ، خرج به على بعض ما  أسسه قبلا من ان النبي  (ص)  لا شأن له بذلك و لا معرفة له به ! فطالما لا علاقة له بشأن الطب و متعلقاته ، فلم لا تكون هذه كغيرها ثمرة  للثقافة السائدة و الخبرة المجتمعية ؟ و قد تصدق و قد لا تصدق  ؟ و لماذا تشكل شاهد صدق لصالح الرسول و الرسالة طالما هي خارجة عن اختصاصه و غرضه أصلا ؟ ترى هل هي من قبيل الإخبارات الغيبية مثلا ؟ فلماذا لا تعتبر غيرها كذلك ، لا سيما التي لا تتعارض مع المعطيات العلمية اليقينية . بل قد يقال ، ان بعضها مما لم يتوصل العلم إليها ، طبعا بخلاف  التي تتعارض بشكل جازم  مع حقائق العلم .
 سادسا :  يلاحظ ان الكاتب استشهد في المقالة بأكثر من عشرة روايات ، دون التحقق في أسنادها أو البحث في متونها ، و بنى عليها بعض النتائج ، و هي في الجملة ترتبط بشأن الطب و العلاج الطبي و متعلقاته من جهة الوقاية أو القواعد الصحية العامة ، مما قد يقال  : لم لا يكون الكلام فيها هو الكلام في غيرها ؟ أم انها تتفق مع توجهات المقالة العامة فتم قبولها سواء على نحو  البناء أو التأييد  ؟
و أخيرا ، كنت أتمنى لو ان الكاتب أفاض قليلا في بحث العلاقة بين الدين و العلم  ، فلا يكفي في المقام ما يردده  بعض الكتاب و المتحدثين عبر المنابر الدينية من كلام عام  يذكر على نحو القاعدة العامة  التي أصلها علماء المسلمين منذ القدم  ،  بأنه  لا تعارض بين العلم و الدين ، و ان النصوص الدينية الصادرة من مصادر الوحي  لو تعارضت مع معطيات العلم اليقينينة ، تؤول أو توجه ضمن القواعد اللغوية المقبولة بحيث تنسجم مع معطيات العلم  ، و ما الى ذلك .  فما هو المقصود بمعطيات العلم اليقينية ؟ و هل العلوم التجريبية تتعامل مع معطياتها بهذه المفاهيم  المطلقة للقطع و الحقيقة و اليقين ؟  و كم هي المعطيات العلمية التي تتمتع بالقطع  ؟ و كم هي المعطيات العلمية التي تتفق مع اليقين الرياضي مثلا و على نحو  1+1= 2  ؟
بل ثمة أمور كانت تعتبر في الأوساط العلمية في بعض المراحل بمثابة نظريات علمية  ثم بان خطؤها أو تعدلت النظرة حيالها في مراحل لاحقة.  و في الفترة الأخيرة ظهر اتجاه في فيزياء الكم يميل إلى إنكار قانون العلية أصلا في النظام الكوني برمته .  
و عليه ، فهل المطلوب من  الاجتهاد الديني الاسلامي ان يعيش التبعية لمعطيات العلوم التجريبية و غير التجريبية ، حسب بعض الدعوات  ، فيعدل و يبدل نتائجه و أفكاره و مفاهيمه وفقها دوما ، بدعوى عدم مخالفة العلم ؟  مع العلم بأن  المناهج  العلمية التجريبية لا تتعامل مع نتائجها على انها حقائق و مسلمات مطلقة  على مدى الأزمان ، بل تتعامل مع نتائجها في الغالب على انها معطيات تراكمية و نتائج نسبية .  و في ضوئه أليس الأجدر بالإجتهاد الديني الاسلامي ان يعمل في إطار أهدافه ومناهجه و قواعده و يسعى في نفس الوقت لتطويرها ، و دون ان ينكفئ على نفسه ، بل ينفتح على مختلف المعارف العلمية  لا سيما التي لها علاقة بمجاله ، و لكن يتعامل معها حسب مرتكزاته  و غاياته و رؤاه . 
و هنا قد يقال ، لا مانع من وقوع الاختلاف و التعديل و التبديل في الآراء و الأفكار ، طالما انها اجتهادية ، بل الواقع يشهد ان هذا الوضع قائم بالفعل في الاجتهادات الدينية الاسلامية .
و لكن المسألة ليست ناظرة الى وقوع الاختلاف و عدمه ، فهو واقع بالفعل ، و لكنها ناظرة الى الاحتفاظ بالغايات و الخصوصيات العقدية و الشرعية  للمناهج الاجتهادية الدينية الإسلامية . 
ثم اننا نثير هنا تساؤلا مشروعا مفاده ، ما هو المسوغ العقلائي و العقلي و الشرعي على ضرورة أن تتبع الاجتهادات الشرعية  ، بخلاف مناهجها و قواعدها ، للنتائج و المعطيات العلمية  طالما كانت الأخيرة  نسبية و قابلة للخطأ و الصواب و هي دائمة التعديل و التطوير ، بل  و في بعض الأحوال  هناك اتجاهات متعددة  و آراء  متنوعة في الفهم و التفسير و التنظير حيال بعض القضايا الكونية و الطبيعية ،  حتى في الأوساط العلمية البحتة .
 و في سياق متصل ، أشير على سبيل المثال  ان الكاتب   استشهد  بحديث الذبابة المروي في بعض الصحاح  ، و الذي مفاده   اذا سقط الذباب في إناء أحدكم ، فليغمسه  فان في جناحه  الأيمن داء و في أالأيسر دواء ، كمثل على انها  رواية معارضة لمعطيات علمية  . في حين هناك مقالات دينية تستشهد ببحوث أجريت من قبل  أطباء و مختصين مسلمين و غير مسلمين – كما تذكر-  تشير   الى تكون  بعض الفطريات و الانزيمات المفيدة في بعض أجزاء الذباب في بعض الأوضاع ،  و تذكره  كشاهد صدق لصالح الحديث و مصادره (2). بينما تتبنى مقالات دينية أخرى – لا ترى صدقية الرواية  – توجها مغايرا تماما  مفاده ان العلم أثبت وجود أضرار صحية في كلا الجناحين . و هكذا يحاول كلا الإتجاهين الوصل بالعلم لتعزيز رأيه عبر مفردات  جزئية متنقاة .
أخال ان المطلوب من الباحثين  طرح  نظرات و رؤى منهجية وصولا الى اجتهاد  لوضع منهج واضح المعالم بين الخطوط  للتعامل مع هذه القضية المهمة و ليس اقتناص مفردات و جزئيات من بعض الأبواب في التفسير أو الفقه  للتأكيد على التجانس و التوافق و عدم التنافر بين العلم و نتاجات الفكر الديني الإسلامي .إن هذا الأسلوب سيوقع البحث الفكري الإسلامي في إشكاليات و إرباكات  كما يسؤدي الى تشويش الفهم  و اضطراب  الوعي لدى عامة المسلمين المتلقين لنتائجها حين يلحظونها لا تلتزم بهذه الشعارات في جملة من المفاهيم و الأحكام . 
 اننا نتمنى على أهل الفكر و البحث الديني الإسلامي أن يقدموا إسهامات منهجية مؤصلة  في مثل هذه المسائل المطروحة على الصعيد الفكري في هذا العصر ، فلا يكتفوا بطرح شعارات جميلة و عبارات جاذبة   و عرض مفردات موزعة هنا و هناك  للتدليل عليها . نأمل منهم أن  يتناولوا بشيئ من التفصيل  بعض هذه التساؤلات و الاشكاليات المطروحة في هذا السياق  ،  متمنين لهم كل التقدم و التوفيق و التسديد .  
 
 —————————————————————–
1- السيد محمد حسين الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن ، ج17 .


2- االتفسير العلمي لحديث الذباب ، اسلام ويب ، مركز الفتوى ، مؤرخة في 28 /12/1433 للهجرة .


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً