أحدث المقالات

دور المعارف البشرية في الاجتهاد الفقهي بحث في منهج التحقيق

الشيخ صادق لاريجاني*

إن البحث عن دور العلوم، والمعارف البشرية في عملية الاجتهاد بحث نظري تترتب عليه فوائد جمة. ومن هنا، يمكن اعتباره من المسائل المهمة لعلم الأصول، أو فلسفة الفقه، إذا أردنا استعمال اصطلاح أكثر جدةً. وقد تعرضنا في كتابنا "معرفت ديني" (المعرفة الدينية) لكثير من المسائل ذات الصلة بهذا الموضوع. ولكن بما أن ذلك الكتاب كان ذا طابع نقدي – حيث إنه ألّف للرد على نظرية "القبض والبسط"- لم يمكن طرح كل التفاصيل ذات الصلة بشكل واضح. وآمل أن أتمكن من استعراض ما فاتني هناك في سلسلة من المباحث الأخرى.

توجد مسائل عدة، تستحق البحث والاهتمام، في مجال "دور العلوم في الاجتهاد الفقهي"، وكمقدمة أشير إلى مجموعة من هذه المسائل، لعل ذلك لا يخلو من فائدة:

1- ما هو منهج البحث في هذه المسألة؟

ومن هو المؤهل، للحكم بأن للعلوم دوراً وتأثيراً على الاجتهاد الفقهي؟ الدكتور سروش يؤكد أهمية النظرة العلم-معرفية إلى الموضوع. ويقصد بها النظر إلى العلم من زاوية تاريخية؛ أي إلى حركة هذا العلم ومسيرته من الخارج، مع تجنب الخوض في صوابية، أو خطأ الآراء المطروحة داخل العلم.(1) ولأجل عدم دخول هذه النظرة إلى قلب ميدان العلم تسمى نظرة من الدرجة الثانية. ومن أهم النقاط الجديرة بالبحث هنا هو إثبات صحة، أو بطلان هذه النظرة إلى العلوم، وسيثبت في ثنايا هذه المقالة عقم هذه الطريقة بوضوح كامل.

2- حدود علاقة الفقه بالعلوم الخارجية:

هل الارتباط والعلاقة الموجودة بين العلوم والفقه، شاملة، أم هي جزئية وموردية؟ وبعبارة أخرى، هل هذه العلاقة تمر عبر قنوات خاصة، أم أنها علاقة مستغرقة وكاملة؟  يعتقد الدكتور سروش في مقالاته (القبض والبسط) بأن هذه العلاقة شاملة وكلية، وقد ثبت بالبرهان عدم معقولية هذا النوع من الترابط.(2) والثابت أن كل العلوم سواء في ذلك الفقه و غيره من العلوم تنطلق من مجموعة من المبادئ التصورية، والتصديقية الخاصة، وارتباط العلوم ببعضها يتم عبر اشتراكها في بعض هذه المبادئ. إذاً لا بد أن تكون هذه العلاقة جزئية، "وقنواتية" ولا بد من إثبات ذلك من داخل العلوم، لا بالنظرة التاريخية إلى العلوم المدعى وجود علاقة بينها.

3- ما هي قنوات الترابط بين العلوم؟

في نظرية "القبض والبسط"، ذُكِرت قنوات متعددة للعلاقة بين المعرفة الدينية، وغيرها من المعارف. وهذه القنوات من قبيل العلاقة من جهة توقعاتنا من الدين، ومعرفة الدين والبيئة المحيطة بالمتكلم، وكذلك عن طريق تأثير النظريات المختلفة في فهم الكتاب والسنة وغير ذلك من القنوات. ورغم أن كل هذه القنوات المدعاة مشكوك في تأثيرها، إلا أن البحث عنها لا يخلو من الفائدة كما يبدو.(3)

ولا شك في أن الفقهاء، اعترفوا بتأثير العلوم الأخرى على الفقه، سواء في كتبهم الفقهية، أو الأصولية،(4) سوى أصحاب الاتجاه المتطرف، الذين أنكروا دور العقل في استنباط الحكم الشرعي(رغم أن البعض يشكك في نسبة هذا المسلك إلى الأخباريين). وعلى أي حال، فإن أصل هذه العلاقة مسلمة، ومعترف بها عند الفقهاء والأصوليين، غاية الأمر، أن النقاش وقع في حدود هذه العلاقة. ومن هنا، يتضح عدم صحة ما ذكره الدكتور سروش،(5) في رده على مقالتي "القلعة السلطانية" من قوله: "بيمن وبركة مقالات "القبض والبسط"، التفت الفقهاء وعلماء الدين إلى "دور العلم غير الديني في فهم الدين".

فإن الأصوليين اعترفوا بهذا الأمر منذ قرون في مباحث الاجتهاد والتقليد، وفي مواضع أخرى مثل بحثهم عن حجية القطع والخلاف مع الدكتور سروش ينحصر في دعاواه الجزافية مثل "ارتباط المعارف بشكل كامل" و "نسبية المعرفة الدينية"، و "منهجه في البحث".(6)

5- ما هو معيار لزوم البحث في العلوم  الدينية وخاصة الفقه؟

هذا المبحث من المباحث المهمة المرتبطة بـ"دور العلوم في الاجتهاد"، وواحدة من أهم المسائل التي تستحق الاهتمام، التفكيك بين أمرين:

الأمر الأول: هو أن العلوم الأخرى غير الدينية كالفلسفة، والعلوم الإنسانية، والعلوم التجريبية، والتاريخ، هل لها علاقة كلية أو جزئية بالفقه، أو ليس لها ربط به مطلقاً؟

والأمر الآخر هو: ما هو سر البحث ولزوم الفحص عن هذه العلاقة في الفقه؟

فهاتان المسألتان لا تلازم بينهما: فإنه من الممكن أن لا تكون علاقة الفقه بالعلوم قطعية، ولكن الفحص والتفتيش عنها في الفقه لازم وضروري. وقد بحثت هذا الموضوع في كتابي المعرفة الدينية،(7) ولكن مع ذلك ذلك لا تزال ضرورة البحث عنها قائمة، وقد خلط الكثيرون بين الأمرين كما سوف أشير إلى ذلك في هذه المقالة.

6- هل المعرفة نسبية؟ بمعنى أننا لا نستطيع الحديث عن أي حكم قطعي في العلوم الدينية؟

7- هل توجد ضرورات دينية لا يعرف التحول، والتبدل طريقاً إليها؟

وما هو معنى الضرورة الفقهية والدينية؟ وهذا الموضوع تعرضت له في كتابي "المعرفة الدينية" أيضاً.(8)

8- ما المراد من النص الديني وهل هناك نص؟

أحياناً قد يشكك بعض الأفراد في وجود "النص" في المتون الديني ويرون أنه لا وجود لكلام هو نص في معناه ومدلوله (أي لا يحتمل معنى آخر). وإنني أعتقد أن هذا الكلام يشتمل على مغالطات وأخطاء من ناحية منطقية، ومن ناحية فلسفة اللغة. وتظهر علاقة هذا البحث بموضوع "دور العلوم في الاجتهاد" في مسألة حمل النصوص والظواهر الدينية(9) على نتائج العلوم غير الدينية.

هذه بعض المسائل التي تستحق البحث في هذا المجال، وهناك غيرها نترك ذكرها خوف الإطالة. وكل عنوان من هذه العناوين يمثل موضوعاً مستقلاً للبحث، ولكن الاهتمام في هذه المقالة، سوف يتركز على النقطة الأولى، وهي أنه ما هو المنهج الذي ينبغي أن يُتَّبع؟ هل المنهج التاريخي والنظرة المعرفية تنفع أم لا؟ وسوف يلاحظ القارئ أن هذه المقالة تعارض الاعتماد على النظرة التاريخية. وقبل الدخول في البحث سوف أحاول استعراض دلائل هذا الموقف السلبي؛ لأن رفض الاعتماد على التاريخ في هذا المجال، سوف يكدر خاطر بعض الأشخاص المحبين للتاريخ العلمي. رغم أن هذا الأمر غير لازم؛ وذلك لأننا لا نريد نَفي أهمية البحث في تاريخ الأفكار، بل النزاع في أمر آخر.

فإنه لا شك في أن البحث التاريخي عن سيرة الفكر، يوجب نوعاً من الإحاطة به، ويؤمِّن نظرة جامعة شمولية إليه، وأحياناً يتوقف الفهم الصحيح لبعض المسائل على المعرفة الكاملة بتاريخها. وكمثال على ذلك، نشير إلى النزاع حول أصالة الوجود، وأصالة الماهية. فلا يعلم المراد من هذا البحث إلا بعد الاطلاع الكامل على تاريخ هذه المسألة. وأذكر أن الشهيد مطهري(قده) أكد هذا الأمر في بعض كتاباته.

مضافاً إلى كل ذلك، فإن الاطلاع على تاريخ العلم ربما يِّولد بعض الأفكار في ذهن العالم، وأحياناً يعطيه العبر من خلال المعرفة بسقطات العلماء الفكرية، أو بنجاحاتهم. ولا أعتقد أن منصفاً يمكنه الشك في هذه النقاط المثارة… وما تريد هذه المقالة بيانه هو، أن النظرة التاريخية إلى العلم لا تنفع في الحكم لصالح أحد الأقوال المطروحة داخل العلم؛ فالمعرفة بمنهج العلماء في بحثهم لا يشكل دليلاً على صحة ما أنتجوه، ولا مرجحاً لمنهج على منهج. وربما لا تؤثر النظرة التاريخية على فهمنا للمسألة ذات التاريخ، بمعنى أنه ماذا يحقق تحديد المسألة عند القدماء، للعالِم المعاصر؟ فإنه ربما لا تكون المسألة المطروحة قديماً عين المسألة المطروحة حالياً، وبدون الرجوع إلى التاريخ لا يمكن الجزم بالوحدة، أو التعدد، وأيّا كان الحال، فلا مانع من البحث العلمي، ولو كان في مسألة مغايرة لما كان مبحوثاً عند القدماء تحت العنوان. وبعبارة أخرى، نحن ندافع عن "محورية المسألة"؛ أي أن يكون ما يطرح للبحث أصيلاً ومعقولاً. سواء كان عين ما طرحه القدماء أو غيره. وأؤكد على هذا الموضوع. لأن بعض الأساتذة في الحوزة يبدأون بأبحاثهم من أزمان بعيدة؛ ويهتمون ببيان أن هذه المسألة أو تلك، طرحت عند الشيخ الطوسي، أو العلامة، أو المحقق، أو الشهيد، أو غيرهم بشكل آخر. فهل هذا النمط من الطرح التاريخي ضروري؟!… علينا أن نفتش عن المسائل والأبحاث النافعة والمعقولة، وأهمية الموضوع المبحوث لا تستمد من تاريخه.

ومن البديهي، أن هذا الكلام لا يتنافى مع الفحص، والتفتيش عن آراء كبار العلماء، إلا أن هذا ليس من ناحية البحث التاريخي، بل لأن آراء كبار العلماء في كل علم لها أهميتها في تكوين الرأي النهائي في المسألة المبحوثة.

نقطة أخيرة: إن نفي أهمية الأبحاث التاريخية يعود إلى العلوم التي لا ناحية تاريخية لها، وإلا فلا معنى لهذا النفي. فعلم التاريخ تاريخي بطبيعته، وكذلك علم الرجال، وكذلك في الفقه عندما نعتبر الإجماع حجة لا نستغني عن البحث التاريخي عن آراء القدماء لتحصيل إجماع على حكم أو نفيه، ولكن ما نرمي إليه في هذه المقالة أمر آخر غير هذه الأمور.

 

1- المعرفة من الدرجة الأولى والمعرفة من الدرجة الثانية:

يمكن تقسيم المعارف البشرية إلى قسمين: معارف من الدرجة الأولى، ومعارف من الدرجة الثانية. في المعارف من الدرجة الأولى، ينصب البحث على مسائل لا ربط لها بعلم آخر، كالبحث عن العدد، والتابع في الرياضيات…

أما في معارف الدرجة الثانية فالمسائل المبحوث عنها ليست من هذا النمط، بل تدور حول علم آخر، كالمسائل التي تبحث في فلسفة الرياضيات، أو في فلسفة العلم. فهذه المسائل تدور حول القضايا، والمفاهيم، والمناهج المتبعة في معارف الدرجة الأولى. وأحياناً يعبر عن معارف الدرجة الثانية بما بعد، أو ما وراء (Meta) فعندنا رياضيات (Mathematics)، وعندنا ما بعد الرياضيات (Metamathematics)، وعندنا منطق (Logic)، وعندنا ما بعد المنطق (Metalogic) وهكذا.

ومن أشهر التفكيكات في هذا المجال التفكيك، بين الأخلاق (Ethics)، وبين ما وراء الأخلاق (metaethics) فشخيص ما هو حسن، أو قبيح مربوط بالأخلاق. وأما تشخيص ماهية "الحسن" و "القبح"، أو مثلاً إثبات أن القضايا الأخلاقية واقعية، أو لا واقع لها، فهذا أمر مرتبط بما وراء الأخلاق، ومعرفةٌ من الدرجة الثانية. وكثير من فلاسفة الأخلاق كانوا يعتقدون بوجود اختلاف ماهوي بين العلمين. فقضايا النوع الأول قيَميَّة ومعيارية (Normative)، بينما قضايا النوع الأول توصيفية (descriptive). وصحة أو عدم صحة هذا التفكيك لا يضر بما قلناه آنفاً.

وهذا التفكيك بعينه جارٍ، في علم الفقه؛ فالحكم "بوجوب صلاة الجمعة أو عدم وجوبها" استنباط فقهي من داخل الفقه. وأما على أي شيء استند هذا الاستنباط، وما هي مقدماته، فأمر "ما وراء فقهي"، يمكن طرحه في الأصول، أو في أي علمٍ آخر، لكنه في النهاية غير فقهي.

 

2- النظرة التاريخية والنظرة العقلية (غير التاريخية)

نظرتنا إلى العلوم، وحتى إلى المسائل المطروحة في العلوم يمكن أن تأخذ صورتين:

أحيانا ننظر إلى العلم كمجموعة من المسائل والقضايا، تبتني على مبادئ تصورية وتصديقية متعددة. وما يربط العلم بما هو خارجه، هو هذه المبادئ التصورية والتصديقية. فعندما ننظر إلى الفقه من هذه الزاوية، نرى فيه مجموعة من الأحكام المتعلقة بأفعال المكلفين. وفي هذا العلم يبحث عن ثبوت، أو عدم ثبوت هذه الأحكام؛ فيبحث مثلاً عن وجوب الخمس في أرباح المكاسب، أو عدم وجوبه وهكذا…

ولكن أحياناً ننظر إلى العلم من زاوية أخرى، فنرى فيه مجموعة من الآراء الفقهية الصحيحة أو الباطلة. ونلاحظه بماله من امتداد عبر الزمان، فنبحث عن هذا الوجود الممتد. وهذه النظرة تختلف عن النظرة الأولى تماماً، فهى نظرة تاريخية بما للتاريخية من لوازم، بخلاف النظرة الأولى التي هي عقلية، ولا ربط لها بالتاريخ (سواء تاريخ المسألة، أو تاريخ العلم).

واختلاف هاتين النظرتين، يغير وجه سؤالنا الأصلي. فعندما نسأل "ما هي علاقة الفقه بالعلوم؟" علينا أن نحدد مرادنا من هذا السؤال، فهل نظرتنا هي تاريخية (Historical) وتوصيفية (descriptive)، أو هي عقلية (speculative) ومعيارية (normative)؟ وهل سؤالنا عن المبادئ التي كانت تستند إليها آراء الفقهاء عبر التاريخ، أو أن هذه الآراء التي ربما تكون صحيحة في نظرنا، وربما تكون فاسدة، لكن كيف كانت تتبدل وتتغير؟ وما هو دور العلوم في هذا التبدل؟

أو أن السؤال منصب على أمر آخر، وهو أن الحكم الفلاني "كوجوب صلاة الجمعة" ما هو دليله، وما هي المبادئ التي يستند إليها؟ في هذا النوع من التساؤل لا علاقة لنا بتاريخ الفقه، وأقوال الفقهاء، إلا بناء على حجية الإجماع بشرائطه الخاصة. ومن الواضح أن منهجنا في الإجابة على هذا السؤال، سوف تكون استدلالية وعقلية (Speculative).

والفرق بين نمطي التساؤل واضح جداً، سواء في المحتوى والمضمون، أم في منهج البحث. والأمر المهم الباقي، هو أن البحث التاريخي للإجابة عن السؤال الأول، هل تساعد في الإجابة على السؤال الثاني أم لا؟ سوف يتضح من الأبحاث الآتية أن الجواب هو النفي. فإن البحث التاريخي، لا يمكنه أن يأخذ دور الدليل في أيِّ بحث علمي، وعليه فإن الرجوع إلى أقوال العلماء لن يعود علينا بأيِّ فائدة في هذا المجال، إلا من باب الاطلاع على تاريخ المسألة والمساعدة على فهمها، والمعرفة بالحلول المحتملة التي طُرِحت عندهم، ولا علاقة لكل هذه الفوائد بترجيح رأي على آخر.

 

نقد النظرة التاريخية

إن سؤالنا الأساس، في هذا المجال هو: أنه في مقام البحث حول "العلاقة بين الفقه والعلوم الأخرى"، هل ينفع البحث التاريخي، وهو الرجوع إلى أقوال الفقهاء عبر التاريخ للعثور على نوع من العلاقة المدعاة، أو لا ينفع ذلك؟ وهل يستطيع البحث التاريخي إثبات هذه العلاقة، وأن التحول الذي يطرأ على العلوم عامة ينعكس على الفقه أيضاً؟ أو أن ذلك (أي البحث التاريخي) عاجز عن إثبات هذه الدعوى؟

سوف يثبت بأدنى تأمل أن الرجوع إلى أقوال الفقهاء لا يثبت وجود هذه العلاقة؛ وذلك لوضوح أن ربط الفقهاء، واستنادهم إلى العلوم في آرائهم الفقهية لا يثبت أن هذا الربط صحيح وواقعي. ولتوضيح هذه الفكرة نضرب هذا المثال: إذا وجدنا أن بعض الفقهاء يعتقدون بوجود الربط، بين بحث أصالة الوجود، أو أصالة الماهية، وبين المسألة الأصولية التي تبحث حول تعلق الأمر بالفرد، أو بالطبيعة، وهذا البحث على علاقة مباشرة بمسألة إمكان تعلق قصد القربة بالفرد. هذا الربط المدعى من قبل بعض الفقهاء، أو الأصوليين، لا ينتج أن العلاقة قائمة حقيقة، وفعلاً بين المسألة الفلسفية الأولى والمسألة الأخرى الأصولية.

وهذه النكتة، أثرتها للمرة الأولى في ردِّي على الدكتور سروش في نظريته: "القبض والبسط". فهو قد ادعى: أن سر التحول والتغير في المعارف الدينية (بل في كل معرفة بشرية)، أن هذه المعارف على ارتباط وثيق بالمعارف غير الدينية، وبأشكالٍ متعددةٍ. فكلما طرأ تحول على المعارف غير الدينية، انعكس على المعارف الدينية تلقائياً.

ومن هنا، تتولد "التوصيات المعرفية" (إيبستمولوجيك) والتي هي غير قَيِميَّة: "إذا أردتم معرفة دينية عصرية فعليكم بعصرنة معارفكم غير الدينية".(10)

وقد اعتمد لإثبات مدعاه على أدلة من جملتها استقراء آراء الفقهاء. وإشكالنا عليه، هو أن البحث المعرفي، أو التاريخي لا يستطيع إثبات هذا المدعى، (وهو الربط بين الفقه وسائر العلوم). فالبحث التاريخي مهما كانت له فوائده، لا يمكنه أن يغني عن الدليل. وكما قلنا من قبل: فإن ربط بعض الفقهاء، بل كلهم لفقههم بالعلوم غير الفقهية، لا يدل على وجود الربط حقيقة وواقعاً. وبالتالي، لا يثبت تلك التوصية المعرفية التي أطلقها الدكتور سروش.

وأجاب عن اعتراضنا: "بأن هذا الكلام في غاية الضعف"، فلنفرض أن جميع العلماء تصرفوا بهذه الطريقة، سوف يأتي الناقد المحترم، ويقول: بأن فهم جميع هؤلاء العلماء للشريعة غير صحيح، والفهم الصحيح للشريعة هو ما أقوله أنا. ولكن من الواضح أن قوله هذا، هو رأي من داخل المعرفة الدينية، وجزء منها، وليس من خارجها؛ ولذا سوف يتعرض لقراءة "علم-معرفيه"… وعلى أي حال هو نزاع في داخل المعرفة، وليس نزاعاً "معرفتياً"… وبالنسبة "لعالم المعرفة"، الفهم الصحيح للشريعة والفهم الخاطئ لها، كل منهما مسبوق بمعلومات خارجية. فهو يتكلم عن فهم الشريعة لا عن الفهم الصحيح لها، بل ليس من صلاحيته الحكم في هذا المجال. لذلك لا مجال(لقولك) لعل جميع العلماء أخطأوا في بنائهم لمعرفتهم الدينية على أساس خاص. فإن فهم الشريعة، هو مجموع هذه الأخطاء والإصابات… فلو كان العلماء مخطئين في فهمهم وربطهم لمعرفتهم الدينية بغيرها، فهو فهم أيضاً. وهذا الفهم الخاطئ هو محل بحثنا وليس البحث في اثبات خطأه أو صوابيته".(11)

يتضح من جوابه هذا، أن الإشكال والاعتراض عليه لم يتضح. فإنه لا شك في إمكان النظر إلى آراء الفقهاء من زاوية "علم-معرفية" والكلام في أن هذه المعلومات التي نحصل عليها من هذه النظرة، هل يمكن أن تؤسس لتوصية أم لا؟ إن اعتراضنا، هو أن النظرة "العلم-معرفية"، لا يمكنها أن تثبت أن فلسفة العلم مؤثرة في الفقه، لنحكم بأنه على كل فقيه أن يدرس فلسفة العلم أيضاً. فالنظرة "العلم-معرفية"، يمكنها إثبات أن بعض الفقهاء، بل كلهم(وهو فرض غير واقعي) بنوا فقههم على فلسفة الفقه مثلاً، وهذا الادعاء حتى لو كان صحيحاً لا ينتج توصية لأي فقيه. فالفقيه يمكنه القول: إن الفقهاء الذين اعتمدوا على فلسفة العلم في فهمهم، هم مخطئون. ولا يمكن أن يكون خطأ أحد الفقهاء حجة على غيره. إذاً، وبناءً، على ما مر كيف يعقل إلزام هذا الفقيه، وتوصيته بدراسة فلسفة العلم؛ لأن لها علاقة بالفقه، ولأن تغيرها سوف يؤثر تغيرها على الفقه.

وقول الدكتور سروش "ليس من صلاحية (العالم المعرفي) أن يحكم في هذا المجال" هو عين ما نقوله. ولكن نحن نقول طالما لا يحق لنا الحكم بالخطأ أو الصواب لا يحق لنا التوصية أيضاً. فحتى يتمكن المعرفي من التوصية والإرشاد، عليه أن ينزل من موقع المتفرج، ويدخل إلى الميدان، ليرينا أيَّ المسائل الفقهية بنيت على أمور غير فقهية. وهذا العمل مضافاً إلى اعتراف الدكتور سروش، بأنه ليس من صلاحيات عالِم المعرفة، فإنه يدخله إلى ساحة الفقه ومبانيه. ليس عجيباً أن يقول الفقيه وبناءً على أبحاث من الدرجة الأولى(أي من داخل الفقه) بأن المسائل الفقهية مرتبطة بمسائل غير فقهية. بل هو اجتهاد إلى جانب غيره من الاجتهادات، وهو الأمر الذي لم يفعله الدكتور سروش. ومدعانا هو أن القول بالترابط بين العلوم، ومن جملتها ارتباط الفقه بسائرالعلوم، ليس بالأمر السهل حتى ندعيه بهذه البساطة.

ومن هنا، يتضح أن الاستقراء حتى لو كان صححياً وحجة، يمكنه إثبات الربط بين المعارف، فقط، عندما يثبت وجود ذلك بين المعارف نفسها، لا بين رأي الفقهاء، وتلك العلوم المدعى تأثيرها في الفقه. فإذا استطعنا إثبات أن هذه المسألة الفقهية الفلانية مرتبطة بقضية فيزيائية، وهكذا تابعنا الفحص والتفتيش، وأثبتنا أيضاً حجية الاستقراء، عندها يمكن دعوى الترابط بين الفقه، وبين غيره من العلوم، ولكن لا علاقة لهذا العمل بآراء الفقهاء.

وصفوة الكلام المتقدم هي: أن البحث التاريخي العلم معرفي لا ينتج توصية للعلماء والفقهاء، ولا يمكنه كذلك إثبات الربط الواقعي بين العلوم.

 

4- الإشارة إلى كلام بعض المنتقدين

رأيت مؤخراً، في كتابات البعض انتقاداً للكلام المتقدم، وقولاً بعدم تماميته. والأدلة التي أقيمت لذلك لا ترجع إلى مُحَصَّل، وتدل على عدم درك مغزى الكلام الذي ذكرناه، رغم الجهد الصادق الذي بذله الكاتب المحترم. فقد ورد في كلامه.

أولاً: وعلى ضوء هذا الكلام، يكون علماؤنا قد جمعوا الرطب إلى اليابس، وخلطوا الحابل بالنابل، غافلين عن استفادتهم في معرفتهم الدينية من مقدمات لا ربط لها بالنتيجة المطلوبة. وهذا الكلام إن تم سوف يولد الشك في جهود العلماء والماضين، ويشكك في كل المعرفة الدينية.

ثانياً: لو كانت موارد الاستفادة من المعارف غير الدينية في فهم الدين قليلة، فلا تستحق العناية والاهتمام. ولكن عندما نرى أن هذه الموارد أكثر مما يتصور المرء بنظرة أولية، فسوف يقوى احتمال الربط الواقعي بين المعرفة الدينية وغيرها، ويضعف احتمال الخطأ في الربط، إلى أن يصل إلى درجة الصفر عندما يزداد عدد الموارد التي نرى فيها الترابط قائماً.

ثالثاً: بمجرد أن يستفيد أحد العلماء من مقدمة معينة، لإثبات مدعاه، سوف يأتي غيره ليرى، أن هذه المقدمة تدل على المدعى أو لا تدل، وهذا المقدار كاف في إثبات المدعى. فإن المدعى هو الترابط في مقام الإثبات لا في مقام الثبوت. والارتباط في مقام الإثبات هو أن يضطر العلماء لدراسة مقدمةٍ وما لإثبات مقصودهم، رغم أنهم ربما يصلون في نتيجة البحث إلى أن هذه المقدمة لا دخل لها في إثبات المطلوب…

رابعاً: إذا أردنا أن نعترض بهذه الطريقة، فعلينا أن نشكك في علاقة الفقه بعلم الأصول، والمنطق، والصرف، والنحو؛ وذلك لأن العلماء ربما كانوا مخطئين في استفادتهم من هذه العلوم".(12)

هذه الإشكالات كما قلت لا محصل لها، وناشئة عن الخلط في البحث وتضييع المدعى الأساسي. وفي رأيي لو أن الكاتب(المحترم) قرأ كتابي "المعرفة الدينية"، بدقة، لما ذكر هذه الإيرادات.

ولكن لأجل توضيح الفكرة سوف أقدم بعض الإجابات عن هذه الإشكالات.

جواب الإشكال الأول: عندما نحتمل أن بعض الفقهاء أخطأوا في استنادهم إلى معرفة بشرية، لا شك في أن لازم هذا الكلام أنهم ربطوا بين أمرين غير مرتبطين. ولكن ليس معنى ذلك أنهم "جمعوا رطباً إلى يابس، وخلطوا الحابل بالنابل". والناقد المذكور استند إلى تعابير شاعرية أكثر مما اعتمد على نكتة أصلية، وإلا فإن أدنى تأمل يثبت له أن أدق الاستدلالات الرياضية المعقدة، ربما تكون باطلة لعدم وجود الربط بين المقدمات والنتائج، ولا يكون ذلك خلطاً للحابل بالنابل. فمثلاً عندما يقول المحقق الأصفهاني(الشيخ محمد حسين) بعدم التضاد والتماثل بين الوجوب والحرمة، ويثبت ذلك ببرهان علمي دقيق، طبعاً نتيجة كلامه عدم الربط بين "التضاد والتماثل"، وبين "استحالة الجمع بين الوجوب والحرمة". ثم يأتي المحقق الخراساني بعده ويدعي وجود الربط بين الاثنين، يكون قد ربط بين أمرين لا ربط بينهما. وليس هذا خلطاً للحابل بالنابل، بل هو نوع من الخطأ، لا أكثر. والجمع بين "الرطب واليابس" يتصور عندما يكون عدم الربط واضحاً بيناً. وليس عندما ينتفي الربط الواقعي، وإلا فإن أكثر الاستدلالات الخاطئة، والدقيقة في آن، هي من هذا النوع.

وما نريد إثباته هو أن مجرد دعوى الفقهاء وجود الترابط بين أمرين، لا يثبت وجود الربط واقعاً بينهما. فربما كانوا مخطئين، وكل دعوى تحتاج إلى دليل، ومجرد قول الفقهاء ليس دليلاً.

وهذا الكلام من الوضوح بمكان بحيث لا يمكن أن يشكك فيه أحد، يتعجب الكاتب قائلاً: "الفقهاء غافلون عن استفادتهم في فقههم من مقدمات لا ربط لها بالمدعى…".

هذا التعجب عجيب. أو ليس المخطئون في كل الأخطاء الشائعة غافلين عن استنادهم إلى أدلة لا ربط واقعي لها بالمدعى، إذا كان المحقق الأصفهاني يعتقد بأن الحكم باستحالة الجمع بين وجوبين أو بين وجوب وحرمة، على أساس التضاد أو التماثل خطأ شائع، أليس معنى هذا أن كل من ادعى التضاد، أو التماثل بين الأحكام مخطئ، قد استفاد من مقدمة لا ربط واقعي لها بالمدعى؟!

والأعجب من هذا كله أن الكاتب يدعي أن: "هذا الكلام لو تم فسوف يولد الشك في جهود العلماء الماضين ويشكك في كل المعرفة الدينية". أنا لا أعلم صاحب معرفة يقبل كلام العلماء السابقين بلا دليل؛ فقد سمعنا أن الفقهاء والأصوليين اعتبروا الإجماع حجة في الأحكام الشرعية مع ألف قيد وتشكيك، ولكن لم نسمع بأن "آراء العلماء جميعاً" حجة عقلية في سائر العلوم. وما ندعيه ونريد إثباته لا يزيد عن هذا المدعى البديهي والضروري من ناحية معرفية، وهو أنه "لا يمكن التسليم بأي قول من دون دليل إلا إذا كان من البديهيات" فمجرد دعوى العلماء للربط بين نوعين من المسائل، لا يثبت وجود الربط الحقيقي الواقعي بينها.

وهذا الادعاء المنهجي المعرفي، ليس تشكيكاً في المعرفة الدينية. فهو شك واحتمال قبلي لا بعدي، شك قبل الدخول إلى ميدان البحث والتحقيق، وعلى كل محقق أن يجعله مصباحه الأصلي في عملية البحث، بحيث لا يقبل أي دعوى دون دليل. وهذا هو ما يقوم به العلماء عملياً. وأما بعد البحث والتحقيق فربما تبين صحة الكثير من دعاوى العلماء، وأقوالهم، بل الواقع خارجاً على هذا النحو… ومن الواضح أن كل من يتصدى للبحث في مسألة فهو مشكك في آراء العلماء السابقين له، وإلا لا يكون محققاً بل يكون مقلِّداً. نعم عندما يقوده البحث إلى جهة أو تبني رأي فنراه يخرج من دائرة الشك غالباً ويتبنى رأياً خاصاً به أو يختار أحد الآراء.

جواب الإشكال الثاني: الإشكال الثاني مبني على الاستفادة الخاطئة من حساب الاحتمالات. وقبل توضيح سر هذا الخلط، نذكر بالنتيجة الغريبة لهذا الكلام: وهي أنه لا يمكن رد أو رفض أي خطأ شائع (بناء على الكلام المذكور في ما تقدم)؛ وذلك لأنه وفقاً لحسابات الكاتب والناقد سوف يرتفع احتمال الصدق في هذا الرأي الخاطئ الذي شاع إلى أن يصل احتمال الخطأ فيه إلى الصفر،(13) وهذا الكلام لا يقبل به مبتدئ فضلاً عن محقق.

لنفترض أن كل الفيزيائيين والفلكيين إلى الآن يقبلون نظريات بطليموس في علم الهيئة، فهل هذا الاتفاق ينزل احتمال خطأ هذه النظريات إلى الصفر، وبناءً عليه لا يمكن لكوبرنيكوس أن يردها؟! ولنفترض أيضاً أن جميع الفقهاء والأصوليين يعتقدون حتى الآن بعدم إمكان الجمع بين الوجوب والحرمة في موضوع واحد؛ لأنه من الجمع بين الضدين، ألا يحق لعالم كالشيخ الأصفهاني أن يرد هذا الكلام لمجرد أن احتمال خطأه قد وصل إلى الصفر؟!

أظن أن التخبط في هذا الاستدلال، أوضح، من أن يتفوه به أي طالب علم.

ولكن ما سر هذا الخلط والخبط؟

 

أمور عدة، يمكن أن تكون وراء هذا الخلط:

الأول: أن بعض المحققين قد يبطل بعض الآراء الشائعة، بواسطة الدليل والبرهان. في مورد كهذا لا معنى للحديث عن: "تراكم الاحتمالات إلى أن تصل درجة احتمال الخطأ إلى الصفر". فلنفرض أن عدداً كبيراً من الفقهاء، ذهبوا إلى القول بالترابط بين الفقه، وبين غيره من العلوم. ثم يأتي فقيه ويتبين له بالدليل والبرهان، أن لا ترابط بين الاثنين. فهنا لا معنى للاحتجاج عليه بتراكم الاحتمالات. فعلم "المعرفة" الذي ينحصر عمله بالدراسة التاريخية للعلم لا يدخل إلى ميدان المعرفة. ولا يمكنه التمسك بتراكم الاحتمالات للوقوف إلى جانب أحد الرأيين…

الثاني: إن من شرائط تزايد قوة الاحتمال، أن لا يكون هناك ترابط بين الاحتمالات الموجودة في حادثة.. ففي مجال بحثنا، من الواضح أن استفادة العلماء من مقدمات غير دينية، ليس بالأمر النادر. ولكن هذه الاستفادات تقوي احتمال العلاقة بين الفقه وغيره من العلوم، فيما لو كانت النكتة التي دعتهم إلى الاعتماد على المقدمات غير الدينية متعددة. وأما عندما يكون الدافع إلى ذلك أمراً واحداً، فلا يمكن تقوية هذا الاحتمال. فعندما يرى أحد الأخباريين الذين لا يجوزون الاعتماد على العقل، أن الفقهاء اعتمدوا على العقل في اكتشاف الحكم الشرعي، فإنه سوف يحكم بأن جميع هؤلاء الفقهاء مخطئون في ذلك. ولا يقوى عنده احتمال العلاقة بين الفقه والعقل.

الثالث: أن الناقد المحترم، يظن بأن "الارتباط الواقعي"، أمر وحداني، تنصب عليه القيم، الاحتمالية المختلفة فيقوى، إلى أن نصل إلى درجة اليقين بوجوده، ولكن الواقع على خلاف ذلك تماماً. فإن الفقهاء ادعوا أنواعاً من العلاقة في موارد مختلفة، ولم تنصب دعاواهم على أمرٍ واحد: فأحدهم ادعى ذلك الربط في فرع من فروع باب الغصب، وآخر من ولاية الفقيه، وثالث في إمضاء البيع، ورابع في كذا.. وعندما نريد حساب الاحتمالات، علينا أن نعثر على مورد واحد، انصبت عليه دعاوى الفقهاء وتراكمت فيه، لا أن نخترع من عندنا عناوين انتزاعية، وجوامع بعيدة.

نعم، لو كان الفقهاء في مقام البحث عن الارتباط الكلي، لصح الكلام المذكور، ولكن البحث الآن في مقام استقراء أقوال الفقهاء في الفروع الفقهية المختلفة، وقد قلنا بأن تعدد الفروع الفقهية يمنع من تراكم الاحتمالات على النحو الذي ظنه الناقد.

هذه هي بعض النكات التي جعلت الاستدلال المتقدم مغالطة. وعلى أي حال، قلنا: إن بطلان هذا الدليل من الوضوح بمكان، بحيث لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه.

جواب الإشكال الثالث: هذا الإشكال تولد من الخلط بين مسألتين مختلفتين، فإننا تارةً نهدف إلى إثبات الترابط بين الفقه وبين غيره من العلوم، الأمر الذي يدعيه الدكتور في مقالاته "القبض والبسط" بل يعتبره سر التحول والتغير في المعارف الدينية بشكل عام. وقد أجبنا عن هذه النظرية، بأن البحث التاريخي والمعرفي قاصر عن إثبات هذا المدعى مضافاً إلى إمكان البرهان على عدم الترابط في بعض الموارد.

وأخرى نهدف إلى أمر آخر، وهو أنه ما السر الذي يقف خلف البحث الفقهي؟، وأيُّ شيء يدفع الفقيه إلى البحث والتنقيب الفقهي؟ هذه المسألة تختلف عن المسألة الأولى بوضوح. وناقدنا قد خلط بين الأمرين، حيث يقول:

"بمجرد أن يستفيد أحد العلماء من مقدمة معينة، لإثبات مدعاه سوف يأتي غيره، ليرى أن هذه المقدمة تدل على المدعى، أو لا تدل؟ وهذا المقدار كافٍ في إثبات المدعى". ثم يسمي هذا النوع من الترابط "الترابط في مقام الإثبات". فإذا تجاوزنا الاختراع البارد للمصطلحات، فإن غاية كلامه، أن احتمال صدق أي دعوى كافية لدفع الآخرين إلى البحث. هذا الكلام صحيح فيما إذا أدخلنا عليه بعض الإصلاحات وقد بحثته بالتفصيل في كتابي "المعرفة الدينية"(14) وأحد الإشكالات التي أوردتها على الدكتور سروش، هو غفلته عن أن المصحح للبحث الفقهي هو مجرد الاحتمال العقلائي لوجود الحكم، ولكن هذا أجنبي عن محل كلامنا، وهو أن "الباحث المعرفي" لا يمكنه إثبات وجود العلاقة بين الفقه، وبين غيره من العلوم بواسطة البحث التاريخي.

جواب الإشكال الرابع: يتضح رد هذا الإشكال بالرجوع إلى ما تقدّم؛ فإننا قبل الحديث عن ارتباط الفقه في كثير من تفصيلاته، نستثني بعض المسائل المحددة في الفقه نفسه. مثلاً: إن المجتهد الذي يريد استنباط حكم شرعي يمكنه الرجوع مباشرة إلى الأخبار، والآيات، نعم بعد رجوعه إلى الأخبار، سوف يواجه التعارض بينها، وسوف يواجه أخباراً عامة وأخرى خاصة، ومطلقاً ومقيداً، وعليه أن يتدبر حلاً ليتمكن على ضوئه من استنباط الحكم الشرعي. والمعرفة بوجود هذه الإشكاليات لا تتوقف على الرجوع إلى علم الأصول، بل يتبين وجودها بالرجوع إلى الفقه وحده. في مقابل هذه الأمثلة التي ذكرناها هناك مجموعة من المسائل لا يشعر الفقيه الخالي الذهن من أصول الفقه بوجودها، وهذه المسائل يمكن التشكيك في ارتباطها بالفقه وعلاقتها به. ولكنَّ هذا لا يؤثر على لزوم الفحص في علم الأصول؛ لأن الميعار في لزوم الفحص هو "احتمال الإرتباط عقلائياً لا القطع به".

بناءً على ذلك أقصى ما يمكن لناقدنا أن يقوله هو: إن هذا الاحتمال موجود في كل العلوم، وعلى الفقيه أن يطل على سائر العلوم أثناء بحثه.

لقد قلنا في كتاب "المعرفة الدينية" أثناء استعراضنا للرد على توصيات نظرية "القبض والبسط" أن الكبرى في هذا الاستدلال صحيحة بالكامل، وهذه الكبرى هي: إن الفقيه الذي يحتمل احتمالاً عقلائياً وجود مقدمة مّا في علم من العلوم يمكن أن تؤثر في نتيجة اجتهاده، فالعقل يحكم عليه، بلزوم البحث عن هذه المقدمة. إلا أن الكلام حول المصاديق المندرجة تحت هذه القاعدة الكلّية؛ فالدكتور سروش يدَّعي أن جميع العلوم والمعارف مترابطة ومتداخلة. وهذا الكلام في غاية الإجمال والإبهام، وقد وقع الناقد في الخطأ عينه، فإذا كان المراد من: "كلُّ العلومِ مترابطةٌ"، أن كل حقول المعرفة ترتبط ببعضها إجمالاً، ولو من طرف بعيد، فهو كلام صحيح [وهذه الموافقة مسبوقة بتحقيق]، ولكن هذا لا يثبت أكثر من كون بعض القضايا الدينية مرتبطة ببعض القضايا من خارج الدين، وكل مورد يحتمل فيه الارتباط ووجود العلاقة لا بد من التحقيق فيه والبحث عنه، وكثير من المسائل والمعارف غير الدينية تقع خارج حدود دائرة هذه العلاقة، ولا يحتمل وجود علاقة لها بقضايا الدين ومسائله. ومثال ذلك: البحث في الرياضات التحليلة للفقيه الذي يبحث عن حكم الشك في عدد الركعات، فإن هذا الفقيه لا يشعر بأدنى حاجة إلى هذا العلم في المجال المذكور، وهكذا غيره من العلوم.

وإذا كان المراد من هذه المقولة [كل العلوم مترابطة] أن كل قضايا ومسائل العلوم مترابطة ببعضها؛ بحيث تكون كل مفردة من هذه المسائل متعلقة بكل المفردات الأخرى من سائر العلوم؛ إذا كان هذا هو المراد، فهو كلام ضعيف غاية الضعف، ودعوى كبيرة يمكن ردها بكثير من الموارد التي يقطع بعدم الترابط فيها، أضف إلى ذلك، أن احتمال الارتباط في بعض الموارد ضعيف إلى حد لا يحرك رغبة بالبحث عند أي باحث وقد ذكرنا في كتاب "المعرفة الدينية"(15) أن البحث والتحقيق أمر عقلائي، ولايمكن لأي باحث أن يبدّد ذخيرة عمره وراء تفحص الاحتمالات البعيدة، وغير العقلائية، بل نجده يسعى خلف الاحتمالات العقلائية لإثباتها أو ردَّها.

والدكتور سروش أحياناً يدّعي الارتباط الإجمالي بين العلوم، وأحياناً أخرى يشير إلى الارتباط التفصيلي بين مفردات القضايا وهذا ما عالجناه بالتفصيل في كتابنا "المعرفة الدينية".(16)

 

5ـ بحث مشابه في فلسفة العلم

أفتُتِح في السنوات الأخيرة، بحث مشابه لبحثنا المنهجي هذا في فلسفة العلم، بل يمكن القول بأنه متحد معه بمعنى من المعاني.(17)

وهو ما يطرح في فلسفة العلم (Philosophy of Science) حول أن فلسفة العلم وتاريخه تمثلان مقولتين متحدتين أم أنهما مقولتان أجنبيتان؟ يبدو لي أن هناك مجموعة من الأصول والمبادئ النظرية تكمن وراء هذا النزاع الفكري، وتسببه، والنزاع حول المعيار في اختلاف العلوم وتمايزها أمر قديم، إلا أنه لم يجد جواباً واضحاً وصريحاً، وإن مسألة اتحاد تاريخ العلم وفسلفته مسألة أكثر عمقاً، ولا تختصر بالنزاع حول معيار تمايز العلوم. وتتركز الأسئلة المختلفة حول هدف العلم وغايته، ومنهجه لتحدد وحدة فلسفة العلم وتاريخه أو انفصالهما، والرأي المعروف في هذا المجال هو الحكم بالتغاير بين العلمين، رغم أنهما قد يتكاملان في مقام البحث والدراسة، فهدف المؤرخ يختلف تماماً عن هدف الفيلسوف وغايته، المؤرخ يشتغل على الحقائق التاريخية، فيبحث عن كيفية توصل كوبرنيكوس إلى نظريته، وكيف استطاع إثباتها، وما هي ردة فعل معاصريه على اكتشافاته، وكل هذه الاتجاهات توصيفية (Descriptive)، وليست نظريات علمية، فهي تتحدث عن حادثة تاريخية. أضف إلى ذلك، أن المؤرخ غالباً ما يسعى إلى تدوين المعطيات التاريخية بصورة قصة منظمة منسجمة تكشف عن سيرورة تكامل العلوم. وعلى أيّ حالٍ، إن هذه الأهداف والاشتغالات تختلف اختلافاً جوهرياً عن أهداف فيلسوف العلم، ومشاغله.

فإنه تشغله أسئلة أخرى من قبيل: كيف يمكن أن نتقدم بالعلم إلى الأمام؟ ما هو المنهج الصحيح للبحث العلمي؟ وهذه الأسئلة تأخذ بالفيلسوف إلى وادي التقييم (Evaluation)؛ ولذا فإن أكثر أبحاث الفيلسوف تحمل صبغة قبلية (Apriority) ومعيارية (normative)… من هنا يتبين إمكان طرح الفرق الجوهري بين عمل المؤرخ، وعمل الفيلسوف بصيغة أخرى هي: الفرق بين عالم الحقائق وعالم القيم والمعايير. وبناءً على هذا فإن الحديث عن تاريخ العلم لا يخدم هدف فيلسوف العلم؛ لأنه لا يريد أن يعرف كيف كان العلم، بل يريد أن يعرف كيف ينبغي أن يكون. وفي المقابل فإن فلسفة العلم لا تخدم هدف المؤرخ؛ لأنه لا يهدف إلى مقارنة النظريات وتقييمها بل إلى تنظيم الحقائق والإخبار عنها.

ولقد طرح "رونالد جير" (Ronald Giere) في إحدى مقالاته، تقريراً آخر لهذا الرأي التقليدي، فهو يعتقد أن فلسفة العلم معيارية (normative)، وبما أننا لا يمكننا استخراج معيار من الحقائق الصرفة، فلا يمكن أن يكون لتاريخ العلم أي أثر، أو فائدة في فلسفته، رغم أنه قد يولِّد بصيرة لدى الباحث، ولكنه لا يمكنه أن يصدِّق أو يدعم هذه البصائر؛ لأن هذه البصائر أو الأفكار قد تتولد من دون الرجوع إلى تاريخ العلم… ومن جهة أخرى لا يجوز لفلاسفة العلم أن يستعبدوا التاريخ؛ لأن نقد النظريات السابقة من أولى اهتماماتهم. ويعتقد "جير" أن هذا الرأي مقبول من قبل كثير من فلاسفة العلم.

هذه النظرية المطابقة للمواصفات (Standard) واجهت إشكالات من جهتين:

أولاً: يدعي جمع من فلاسفة العلم مثل: آغاسي وغرانبام، وغيرهما عدم إمكان تأريخ العلم دون الرجوع إلى الفلسفة، وإن أكثر الكتابات التاريخية من هذا النوع مليئة بالدعاوى الفلسفة المطوية وغير المصرح بها.

ثانياً: هناك فلاسفة آخرون أمثال: كون، وتالمن، ولاكاتوش، وفايرابند، يؤمنون بأن وظيفة الأبحاث الفلسفية هي تنقيح المعايير، ولكنهم في الوقت عينه يعتقدون بعدم إمكان القبول بأي طرح فلسفي يبتعد عن تاريخ العلم. فلو أن فيلسوفاً تبنّى في باب القبول العقلاني للنظريات (Rational Theory Acceptance) نظرية يترتب عليها أن تاريخ العلم من أوله إلى آخر غير عقلاني، فلا يمكن القبول بهذه النظرية في باب العقلانية، ويمكن الاستفادة من النتيجة المذكورة لإبطال تلك النظرية على طريقة برهان الخلف.

إذا صح ما يذكره هؤلاء الفلاسفة، سوف يكون تاريخ العلم وفلسفته متحدين، ولا يمكن النظر إليهما كمجالين لا يتداخلان.

وهذا الرأي تواجهه مجموعة من الصعوبات أهمها إشكال الدور الذي يخطر في الذهن لأول وهلة وحاصله: إذا كان تاريخ العلم موقوفاً على فلسفته، وكانت فلسفة العلم موقوفة على تاريخه؛ حيث إن عليها أن تطرح معايير قد تجلَّت عبر تاريخ العلم، ففي هذه الحالة سوف نبتلي بالدور الباطل، فلا الفلسفة تغدو ممكنة، ولا تاريخ العلم يكون ميسوراً.

ويمكن طرح المشكلة ببيان آخر: إذا كان أكثر تاريخ العلم قد كتب بقلم فلسفي غير دقيق وناقص، فما هو المبرر لاختبار الطروحات الفلسفية (Models) بواسطة محك هذا التاريخ. وكذلك إذا كانت المعايير الفلسفية لا تستطيع أداء حق تاريخ العلم، فلماذا يكون محتاجاً إليها؟

وتوجد بعض الإشكالات التي تحتاج إلى حل وهي باقية حتى لو قبلنا أن التاريخ مؤثر في فلسفة العلم، وهذه المسألة- هي إلى أي حد يجب أن يتطابق التاريخ مع إعادة بناء المعايير

(Normative reconstruction). وذلك لأن الكل متفقون على أن تاريخ العلم ليس عقلانياً دائماً.

وبناء عليه، فما المشكلة في أن يطرح فيلسوف مَّا العقلانية (Rationality) بشكل تجعل كثيراً من حقب تاريخ العلم غير عقلانية؟ ويعتقد لاري لودن أن هذه الأسئلة لم تجد، حتى الآن جواباً مناسباً.

 

6ـ حل لاري لودن:

بعد أن يستعرض لودن كلام طرفي النزاع، ويبين أن الأسئلة المطروحة أعلاه، لم يقدم التاريخانيون لها جواباً شافياً، يقدم هو بنفسه حلاً لهذه المعضلة، سوف نحاول تلخيصه فيما يأتي. ولا ينبغي إغفال أن لودن نفسه من المدافعين عن مقولة الارتباط بين فلسفة العلم، وتاريخه، إلا أنه ينظر إلى هذه العلاقة بشيء من التضييق. وهو يصرف جُلَّ اهتمامه إلى حل مشكلة الدور التي تقدمت الإشارة إليها، ويحاول دفعها بنحو من الأنحاء.

يميز لودن – بدايةً- بين التاريخ العيني، وبين حكاية المؤرخين عنه. وهذا التمييز واضح في حد ذاته إلا أنه كثيراً ما يُستعمَل لفظٌ واحدٌ للدلالة على المعنيين. وأما هو، فيميز بينهما في التسمية، ويسمي التاريخ العيني الواقعي بـ (التاريخ 1) والتاريخ التقريري أو المحكي بـ "التاريخ 2" وبعد ذلك يقدم طرحه لحل الإشكالية على النحو التالي:

في (التاريخ 1) نصادف رداً أو قبولاً لبعض النظريات، يدعي أكثر العلماء بداهة معيارية قوية (Strong Normative Intuition) تجاهها. ويمكن القول بأن كل أو أكثر الموارد الآتية من هذا النوع:

1- حوالي سنة 1800م، كان من المعقول تماماً رفض الميكانيك الأرسطي، واستبداله بالميكانيك النيوتوني.

2- حوالي سنة 1900، كان من المعقول جداً أن يترك الأطباء الطب النجانسي إلى الطب العقاقيري (Pharmacological).

3- حوالي سنة 1890، كان من المعقول رد نظرية سيلان الحرارة.

4- بعد سنة 1920، لم يعد مبرراً لأحد أن يعتقد ببساطة الذرات الكيميائية (وعدم كونها ذات أجزاء).

5-  بعد سنة 1750، لم يعد مقبولاً التصديق، بأن النور يسير بسرعة لا متناهية.

6- بعد سنة 1925، صار الإيمان بالنظرية النسبية العامة أمراً معقولاً.

7- بعد سنة 1830، لم يعد من الممكن القبول بالتقويم الإنجيلي، ككاشف حقيقي عن تاريخ الأرض.

ويرى لودن أن هناك قضايا أخرى متعددة تتضمن بنحو ارتكازي مجموعة من بديهياتنا حول قبولنا بأمرٍ أو ردُّنا له. وهو يسمي هذه البديهيات بـ "البديهيات الما قبل تحليلية" وبالتأكيد، فإن هذه المجموعة هي طائفة صغيرة من التاريخ العلمي (التاريخ-1). والارتكازات التي تعتمد عليها الأمثلة المتقدمة أكثر صراحةً ووضوحاً، من الإرتكازات التي تبتني عليها المعايير الكلية، والانتزاعية التي تطرح لعقلانية قبول، أو ردِّ النظريات التي تواجهنا.

يعتقد بأن مجموعة الأمثلة المتقدمة يمكن أن تكون نقطة انطلاق لأي نظرية تحاول تقديم معايير لتقييم كيفية قبول العلماء لنظرية معينة، أو ردهم لها.

 

ويبقى هنا سؤالان هما:

الأول: ما هي علاقة هذه النظرية بالتاريخ؟ أي ما هي دخالة التاريخ بفلسفة العلم وفق هذه النظرية؟

الثاني: قد يكون طرح لودن أهلاً لحل إشكال الدور، ولكن ما هو المبرر لقانون الرجوع إلى التاريخ؟ وما هو الذي دفع هؤلاء الفلاسفة نحو الرجوع إلى التاريخ؟

حاصل جواب لودن عن السؤال الأول: أن التاريخ يرتبط بفلسفة العلم من زاويتين مهمتين:

أولاً: تسعى فلسفة العلم عبر الرجوع إلى البديهيات الترجيحية المتعلقة بـ "التاريخ1" أن توضح وتضفي الصراحة على معيار العقلانية المضمر في هذه البديهيات.

ثانياً: تأييد أي طرح أو نموذج (Model) فلسفي للعقلانية ينبغي أن يتشكل بواسطة الرجوع إلى "التاريخ2" ليعلم إمكان انطباق هذا الطرح على بديهياتنا الترجيحية في الموارد الخاصة، أو عدم انطباقها.

وينبغي الالتفات إلى أن رجوعنا إلى التاريخ في هذه النظرية، لا يدل على أهمية آراء العلماء من ناحية أنهم علماء، بل للحصول على الموارد التي نملك تجاهها بديهيات ترجيحية

(Preferred Intimation).

وفي الحقيقة، إن الرجوع إلى التاريخ يمكنه تدعيم فلسفة العلم، من حيث كونه ينتهي بالبديهيات المعيارية، وليس لكوننا نعثر في التاريخ على مجموعة من الآراء، وهذه النكتة سوف تتضح أكثر في ما يأتي.

وأما حول السؤال الثاني الذي نعتقد أنه يشير إلى نكتة في غاية الأهمية. فإنه يمكن القول: إن منشأ هذا النوع من النظريات، هو نوع من النسبوية حول الواقع والإيمان به؛ لذا يقول لودن بصراحة، بما أننا لا نملك معياراً واضحاً في الفلسفة ذاتها؛ أي أن الفلسفة من هذه الناحية عقيمة وغير منتجة، فنحن مضطرون للرجوع إلى غير الفلسفة لاختيار الطرح الأنسب حول العقلانية، ولا نملك غير التاريخ العيني للعلم. لنفترض أننا واجهنا طرحين متعارضين للعقلانية (في ردِّ أو قبول النظريات) هما (MR1 وMR2) ولنفترض أن كل واحد منهما منسجم بلحاظ أجزائه، وعناصره الداخلية. فكيف يمكن أن نحاكمهما فلسفياً؟ وذلك لأن كلاّ من الطرحين يدَّعي الاشتمال على خصائص الاختيار العقلاني، ومن الواضح أيضاً أن انتخاب وترجيح أحد الطرحين متوقف على صحة أحدهما أو ثالث لهما. ومن هنا تواجهنا مشكلة من رتبة أعلى (Meta-Problem) لا تنحل إلا بالرجوع إلى أمر فوق نظريات العقلانية نفسها.

ومدعى لودن هو أن ذلك "الأمر الفوق" الذي بواسطته، وعلى أساسه نقارن بين نظريات العقلانية، نعثر عليه في "التاريخ 1"، وهو مجموعة بديهياتنا الترجيحية. وقد ذكر لودن هذه المسألة بشكل أكثر عموماً، وصراحة في فصل آخر من كتابه. فهو يبحث في هذا الفصل حول ضرورة تاريخ الفكر (History of Idea)، وحول الإشكالات الأساسية التي تطرح في هذا المجال، ويتعرض لعين الإشكالية المطروحة حول فائدة تاريخ العلم بالخصوص، ولكنه يطرحها بصورة عامة ويوسعها لتاريخ الفكر بشكل عام؛ ومفاد هذه الإشكالية أننا في تقييمنا لأي نظام من الأفكار، لا يمكننا التمسك بتاريخ التحول الذي يطرأ على هذه الأفكار، بل أن التاريخ يبدو، وكأنه أجنبي في هذا المقام. فالاستفادة من تاريخٍ متحولٍ، وتطور فكرةٍ مّا في تقييم هذه الفكرة، يستبطن مغالطة منطقية، وهي أننا نختبر صدق، أو كذب قضية من خلال منشأ ومسيرة تلك القضية عينها (Genetic Fallacy).

يرى لودن أن الحق يكمن في الجهة المقابلة لهذه النظرية تماماً، ويقول: لأجل الحصول على تقييم معقول لأي فكر، لا بد لنا من مراكمة معلوماتنا عن التحول التاريخي لهذا الفكر، وبدون هذا الغنى التاريخي لا يمكن الحصول على تقييم مقبول.

ولكن ما هي جذور ومنطلقات هذا الخلاف النظري؟ إن أساس هذا الاختلاف يرتد إلى النظرة حول ماهية وهدف التقييم العقلاني للفكر. فالشخص الذي يعتقد بأن التقييم العقلاني لابد أن يكون ناظراً إلى الصدق المضموني للفكر، ولو باعتبار درجات الصدق الاحتمالي، في هذه الحالة لا علاقة لتاريخ الفكر بتقييمه. فيمكن لأي فكرة مهما كان تاريخها أن تكون صادقة، ويعتقد لودن أن مشكلتنا تكمن في أننا لا نملك وسيلة للحكم بصحة، أو سقم أي نظرية، أو نظام فكري، حتى على مستوى الاحتمال (الاحتمال المرجح)؛ وعليه، فلا بد من الرجوع إلى عوامل أخرى، وأفضل العوامل المساعدة هو الرجوع إلى "التكامل بحسب حل المعضلات"، وهذا هو الحل الذي اقترحه لودن نفسه للترجيح بين النظريات (وقد اعتنى ببحثه بالتفصيل في الفصول الأولى من كتابه).(18)

والهدف من نقل آراء لودن – الذي هو من النسبويين- هو توضيح السر الكامن خلف تأكيد فلاسفة العلم هؤلاء على الرجوع إلى تاريخ العلم. وقد تبين أن فيلسوفاً نسبوياً كلودن، يقر بأنه عندما يكون معيار معقولية الأفكار هو صدقها، لما كان لتاريخ العلم أي ربط بالتقييم ولكان أجنبياً عن هذا المقام.

 

7- علاقة فلسفة الفقه بتاريخه

ما أوردناه حول رأي لودن في مسألة العلاقة بين فلسفة العلم وتاريخه، يرتبط أوثق الارتباط بما مر في صدر هذه المقالة. ونحن نصر في هذه المقالة وفي "المعرفة الدينية"، على أن النظر في تاريخ فكرةٍ ما لا علاقة له بتقييمها والحكم بصدقها، فإننا لو افترضنا أن كل الفقهاء عبر التاريخ استفادوا من المعارف البشرية غير الفقهية في فقههم، فإن هذا لا يثبت كون أحكام الفقه، وفهمهم بشكل صحيح مرتبط بسائر المعارف البشرية؛ فإن احتمال كون الفقهاء مخطئين في رجوعهم إلى المعارف البشرية، احتمال محفوظ وما لم يثبت الترابط بين الفقه وغيره من العلوم، ولا يمكن التوصية بتحصيل العلوم الأخرى اعتماداً على ملاحظة تاريخ الفقه. خاصّة عند من يرى خطأ الفقهاء عبر التاريخ، كما هو موقف الأخباريين من الأصوليين.

 

والهدف من إعادة البحث أمور:

أولاً: لنرى أن النكات التي طرحها لاري لودن حول لزوم الرجوع إلى تاريخ الفكر، هل تصدق في مورد تاريخ الفقه؟

ثانياً: لنرى كيفية رجوعه إلى التاريخ، وهل هي ملاحظة تاريخية صرفة، أم أنها مقترنة بمحاولة كشف البديهيات المعيارية؟

يمكن أن تشتمل فلسفة الفقه، كما فلسفة العلم على مسائل متعددة، ونحن ولأجل الدقة وتسهيل البحث، سوف نركز بحثنا حول الربط بين الاستنباط الفقهي وبين المعارف غير الفقهية. وقد اتضح في أواخر الفصل السابق أن الذي ألجأ لودن إلى الرجوع، إلى التاريخ هو نوع من الشك في إمكان الحصول على علم بصدق فكرةٍ ما، وحتى فقدان الاحتمال المرجح.

وإذا غضضنا الطرف عن خطأ هذا التشكيك في فلسفة العلم، فلا بد لنا من التساؤل حول صحة التشكيك المذكور في محل بحثنا.

ويبدو لي أن البحث عن الارتباط بين الفقه، وبين غيره من العلوم، يأخذ شكلاً آخر. إن ارتباط "استنباط الحكم" بالمعارف الخارجية شبيه باستنتاج الحكم من المقدمات التي ترتبط باستنباط ذلك الحكم إمّا عن طريق التصور، أو عن طريق التصديق. وفهم هذه العلاقة أحياناً يكون قطعياً وميسَّراً، ولا نجد داعياً للتشكيك في كشف هذا النوع من الارتباط بشكل كلي. وقد يدعي البعض أننا لا نملك وسيلة لترجيح إحدى النظريات على غيرها لإثبات صدقها، ولكن لا نعتقد أن أحداً حتى –النسبويين – يشكك في دخالة المقدمات في استنتاج الحكم؛ لأن هذا النوع من الشك من أكثر أنواع الشك "لامعقولية" حيث إنه يقفل باب الحوار. وأعتقد أننا نواجه مسألة من هذا النوع في مقامنا هذا؛ أي علاقة العلوم البشرية باستنباط الأحكام الشرعية. توضيح ذلك: أننا نؤمن بدخالة بعض العلوم والمعارف في تشكيل فهمنا الصحيح كدخالة المقدمات في الوصول إلى النتيجة، وكمثال على ذلك: لو افترضنا أن الدليل الوحيد على لزوم قصد المسافة في وجوب التقصير على المسافر هو رواية واحدة (مثلاً موثقة عمار)، في هذه الحالة يمكن القول بضرس قاطع: إن استنباط هذا الحكم مبني على العلم بمفردات الرواية، وقوانين التكلم، وحجية الظهور… إلخ، وهذا الارتباط ثابت منطقياً ولا مجال للشك فيه.

بناء على ذلك يمكن القول: إن علاقة بعض مسائل فلسفة الفقه بتاريخ الفقه، تختلف عن علاقة فلسفة العلم(الأبحاث العلم-منهجية Methodologique) بتاريخ العلم. ولو فرض صحة استدلال لودن حول الحاجة إلى تاريخ العلم، فلا يمكن تطبيقه حول العلاقة بين فلسفة الفقه وتاريخه.

وهنا لا بد من الانتباه إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أنه عندما نتحدث عن استنباط الحكم، وعلاقته بالعلوم الخارجية لا بد من ملاحظة الأدلة الدينية، مضافاً إلى الملاحظات العقلية والمنطقية؛ فربما كان للشارع موقف خاص، من دخالة بعض الأدلة غير الدينية، بحيث لا يضفي عليها الشرعية، ولا يمنحها الحجية. وتوجيه إمكان ذلك يُطلب من أبحاث الأدلة العقلية في علم الأصول في مقام مناقشة أدلة الأخباريين.

 

وننتقل الآن إلى الكلام حول السؤال الثاني:

تقدم في الفصل السادس (من هذه المقالة) أن طريقة رجوع لودن إلى تاريخ الفكر والعلم، ليست جمعاً محضاً لآراء العلماء ونظرياتهم، بل هو يشتمل على نوعٍ من المحاكمة المعيارية (Normative) من جانب فيلسوف العلم أيضاً. وبناءً عليه، فإنه حتى لو قبلنا بما ذكره لودن من لزوم الرجوع إلى التاريخ، فإن ذلك لا ينبغي أن يكون محض مراقبة، ومشاهدةٍ علم معرفية لأقوال العلماء، بل إننا دائماً بحاجة إلى نوع من المحاكمة الفلسفية والمعيارية. ولكن الفرق الموجود بين لودن، وبين فيلسوف مخالف له، يكمن في التمسك بالمعايير الكلية وغير الكلية. ففلاسفة العلم، وأكثر المفكرين في العلوم المختلفة لا يرون أن تقييم فكرةٍ مّا موقوف على الرجوع إلى تاريخ تلك الفكرة، بل يلجأون إلى معايير كلية للتقييم والمحاكمة، بينما يرى لودن أن أساس تقييم أي فكرة ينبغي أن يقوم على محاكمات معيارية وشهودية متعلقة بالجزئيات. وعلى أيّ حال، فقد اتضح أن المراقبة العلم معرفية، من قبل عالِم معرفة لا تؤدي إلى نتيجة تذكر ما لم تتضمن محاكمة لصحة وسقم النظريات المراقبة؛ ولذا لا تتضمن أي توصية أبداً. فالعالم المعرفي الذي يراقب آراء العلماء السابقين دون المحاكمة بينها، لا يحق له أن يوجّه أي توصية إلى علماء الدين، ليعلمهم كيف يعملون لتتكامل معرفتهم الدينية (سواء كان ذلك بالرجوع إلى المعارف البشرية أو غيرها…).

وتوجد نكتة مهمة أخرى حول السؤال الثاني لا بد من طرحها: حتى لو افترضنا أن آراء العلماء مهمة ومؤثرة في هذا النوع من المسائل، وبالتالي كان البحث التاريخي عن آراء العلماء الماضين مهمّاً، فإنه لاشك في اتفاق آراء العلماء، والفقهاء على أن إثبات وجود العلاقة بين استنباط الأحكام الفقهية، وبين العلوم الأخرى لا يكون بالرجوع إلى التاريخ؛ فالفقهاء والأصوليون صرحوا مراراً بأن الإجماع ليس حجة في المسائل الأصولية، حتى لو اعتبرناه حجة في الفقه، بشروط خاصة محددة.

وعليه يمكن القول، بأنه لو سلمنا بضرورة الرجوع إلى آراء الماضين من العلماء، فإن نتيجة هذا الرجوع هي "عدم فائدة ذلك في خصوص العلاقة بين الاجتهاد والمعارف الأخرى".

وصفوة القول: إن مسألة "علاقة الاجتهاد بالعلوم الأخرى"، مسألة مبنية على منهج عقلي ونقلي، بمعنى الرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة (بناءً على البحث الذي يطرح في علم الأصول حول حجية الأحكام العقلية، أو عدم حجيتها)، وليس المنهج الحاكم في هذه المسألة منهجاً تاريخياً، بمعنى الرجوع إلى طريقة عمل المفسرين والفقهاء. فلو أن كل الفقهاء استندوا في اجتهادهم إلى المعارف البشرية، لا يكون هذا دليلاً على لزوم بناء فقهنا، بمعنى معرفتنا الصحيحة للأحكام الشرعية على المعارف البشرية أيضاً.

وارتباط الفقه بغير هذا المعنى، بالمعارف البشرية الأخرى، سوف لن يترتب عليه أي توصية تذكر؛ وعندما يتوقف الفهم الصحيح للأحكام الشرعية على المعارف الخارجية، في هذه الحالة وحدها يمكن توصية الفقهاء بتطوير فقههم على ضوء تطور معارفهم الإنسانية، وهذا الأمر لا يحصل بنظرة معرفية صرف.

 

الهوامش:

* أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية – قم.

(1) عبد الكريم سروش، قبض وبسط تيوريك شريعت[القبض والبسط النظري للشريعة]، ط1،، ص 257، إلى 270.

(2) صادق لاريجاني، معرفت ديني [المعرفة الدينية]، ص 16 إلى 22.

(3) المصدر نفسه، 96 إلى 132.

(4) كنموذج ومثال على ذلك، أنظر: الفاضل التوني، الوافية في أصول الفقه، ص 250، طبعة مجمع الفكر الإسلامي(قم)؛ والوحيد البهبهاني، الفوائد الحائرية، طبع مكتبة الصدر، طهران، الفائدة 36، ص 212.

(5) عبد الكريم، سروش، دعوى درويشي ووعده خاموش (دعوى الدروشة والوعد بالسكوت)، مجلة كيان، عدد 9، سنة 1371هـ.ش.

(6)  صادق لاريجاني، قبض وبسط در قبض وبسط ديكر[قبض وبسط في القبض والبسط]، خصوصاً 18 إلى 24.

(7) صادق لاريجاني، المعرفة الدينية، ص 88.

(8) المصدر نفسه، ص 191 إلى 197.

(9) المقصود من الظاهر هو الكلام الذي يدل على معنى ويحتمل غيره احتمالاً ضعيفا-من المترجم.

(10) بد الكريم سروش، قبض وبسط تيوريك شريعت ص 228، 229.

(11) المصدر نفسه.

(12) أبو القاسم فنائي، مجلة نقد ونظر، السنة الأولى، العدد 3 و 4، ص 290-291.

(14) يوجد في الأصل الفارسي ما ترجمته "إن الاحتمال سوف يرتفع إلى أن يصل درجة الصفر"، ومن الواضح كونه غير مراد.(المعرب)

(15) صادق لاريجاني، معرفت ديني، ص 88، 310 و 311.

(16) المصدر نفسه

(17) المصدر نفسه ص 14 و 19.

(18) الأبحاث الآتية تعتمد على كتاب لاري لودن

Larry Laudan، Progress and its Problems، p 155-165.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً